الحمد لله رب العالمين، حذَّر من النفاق وخطر المنافقين، فقال الله سبحانه في وصفهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 8 - 10].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير، حذَّرنا من المنافقين، فقال تعالى: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن علامات النفاق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافِق ثلاث: إذا حدَّثَ كذب، وإذا وَعَدَ أخلَف، وإذا اؤتمنَ خان))؛ رواه مسلم.
فاللهم صلِّ على سينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ:
فيا أيها المؤمنون، إن الله تعالى حذَّرنا من أمراض القلوب؛ لأنَّ أخطرَ الأمراض في عالم الطب هي الأمراضُ التي لا أعراضَ لها، وهناك أمراضٌ لها آلامٌ لا تُحتمل، ليست خطيرة؛ لأنها في وقتٍ مبكر تكشِفُها، ولكنَّ أخطرَ الأمراض هي الأمراض التي لا يُصاحِبها ارتفاع حرارة، ولا آلام مُبرحة، إنما هي أمراضٌ تتسلَّل تسلُّلاً بطيئًا إلى أن تستفحلَ فجأةً، وعندئذٍ يستحيلُ الدواء.
فمن أمراض القلوب مرض النفاق، وهو مرض خطير وشر مستطير إذا استولى على القلب أماته، وصار صاحبه حيًّا كميت، وصحيح البدن مريض الرُّوح؛ قال الله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10].
لذلك كان حديثنا عن النفاق من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية:
1- تعريف النفاق.
2- أنواع النفاق وصفات المنافقين.
3- أسباب النفاق.
4- خطر النفاق والمنافقين.
5- عقوبة المنافقين.
6- خوف السلف من النفاق.
7- السبيل إلى الخلاص من النفاق.
العنصر الأول: تعريف النفاق:
النفاق: كلمة قبيحة بلا شك، ولِقُبحها هرب الناس منها كلفظٍ، واستبدلوها بكلمات جذابة؛ مثل: المجاملة، والتعامل الدبلوماسي، والمرونة، وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها كل يوم، وهي في الحقيقة ليست سوى أغلفة برَّاقة للنفاق تستر عورته، وتُبرِّر للناس التعامل به، لكنها في الوقت ذاته تحمل دلالات عدة عن مدى استشراء النفاق في تعامُلاتنا، وتَغلغُله في مجتمعاتنا.
والنفاق: هو إظهارُ الإسلام والخير، وإبطانُ الكفر والشر، سُمِّي بذلك؛ لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبَّه الله تعالى بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67]؛ أي: الخارجون من الشرع.
العنصرالثاني: أنواع النفاق:
النفاق نوعان: النوع الأول: النفاق الاعتقادي (الأكبر):
وهو النفاق الأكبر الذي يُظهر صاحبه الإسلام، ويُبطن الكفر، وهذا النوع مُخرج من الدين بالكلية، ويُوجب لصاحبه الخلود في النار، بل في الدَّرك الأسفل من النار، ولهذا النوع من المنافقين صفات خاصة بهم، بيَّنها الله جلَّ وعلا في كتابه، ونبيُّه -صلى الله عليه وسلم- في سُنَّته، وقد جعَل الله - جلَّ وعلا - هذه الصفات دليلاً على نِفاق المرء، فمَن اتَّصف بها كان منافقًا خالصًا، لا تَنفعه شفاعةُ الشافعين، وفي نار جهنَّمَ من المخلَّدين.
وصعوبة أمْر المنافِق تكمُنُ في سَريرته التي لا يعلمها إلا الله وحْده لا شريك له، وقد أعْلَم نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بعضَهم؛ حيث قال جلَّ وعلا: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30].
ولَمَّا كان شرُّ المنافقين مستطيرًا، أتينا على بعض صفاتهم، والتي منها:
1- تركُ الاهتداء بالوحي:
المنافقون جميعًا متفقون على هذا الأمر، وهو عدم الاهتداء بالوحي، أنت إنسان تحتاج إلى منهج، تحتاج إلى دستور، تحتاج إلى قانون، ما المنهج الذي تسيرُ عليه؟ ما القانون الذي يُقنِّن تصرُّفاتك؟ ما الدستور الذي تهتدي به؟
المنافقون جميعًا أنكروا الوحي ورفضوه، وأنت كمسلم تعلم حُكمَ الله في الربا، وحُكم الله في العلاقة مع النساء، وحُكم الله في الغيبة، وحُكم الله في الزواج، فإذا رفضتَ حُكمًا من هذه الأحكام - ولو كان الرفض داخليًّا - فأنتَ شئتَ أم أبيت وقعتَ في خندق المنافقين الذين اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وجعلوه كتابًا لا يَصلُح لهذا الزمن، وكتابًا نتبرَّك به فحسبُ، ولا نتَّخذه دستورًا لنا، ولا قانونًا، كتابًا نتلوه على الأموات، كتابًا نقرؤه لنتقوَّى به، كتابًا فصيحًا جدًّا إذا قرأناه استقامت ألسِنتُنا، ومن هنا فمعنى اتخاذ المنافقين القرآن مهجورًا عدم النظر إليه على أنه دستور كامل، والدليل قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ﴾ [النساء: 60، 61].
فالمنافق لا يقبل حُكمَ الله عز وجل؛ لأنَّ شهواته تغلبُه، وقال تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾ [النور: 47 - 49].
المنافق يكره حُكمَ الله؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 9].
وهذه العَيِّنة من المنافقين ما أكثرَها اليوم! فهي في أحضان الغرْب تربَّت، وفي منابت الزندقة أُنْبِتَت، فأنتَجت أقوامًا أضلَّ من الأنعام، ينادون بإلغاء شرْع الله، وعلى أرضه يمشون! يُنادون بإلْغاء القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومِن نعم الله يأكلون، فسبحان الله الحليم! ما أحلمه على هؤلاء؟
2- يدور مع مصالحه:
المنافق إذا اتَّفقت قضيته مع الشرع، صار مع الشرع، وإذا اتَّفقت مع القانون، صار مع القانون؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].
وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 141].
3- الإفساد في الأرض:
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].
وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].
4- الاستهزاء بالمؤمنين والطعن فيهم وتجريحهم:
فالمنافق دائمًا يسخر من المؤمنين، ويَصِفهم بكل نقيصة، ويَعيب أعمالهم، ولا يرى لهم حسنة أبدًا، وإن رأى فعلاً صالحًا شكَّك فيه وفي نية المؤمنين؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].
وقال تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 64، 65].
وقال تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ [التوبة: 58].
وقال أيضًا: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 79].
وأيضًا يَصِف المؤمنين أصحاب الرسالات الحقة بأنهم مخدوعون، ومضحوكٌ عليهم، ومُغيَّبون؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 49].
5- الحَلِف كذبًا سترًا لجرائمهم:
قال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 2].
6- الفَرَح والشماتة في مصائب المؤمنين:
قال تعالى: ﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴾ [التوبة: 50].
7- الأمرُ بالمنكر والنهي عن المعروف:
قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].
فَهُمْ يأمرون بالإباحية، ويَنهَوْن عن الحِجاب، ويأمرون بالفُجور، وينهون عن التقوى، يأمرون بالرِّبا، وينهون عمَّا أحلَّ الله مِن البيوع، يأمرون بالخُمور، وينهون عمَّا أحلَّ الله مِن الطيبات، فعليهم لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين.
8- التغرير بالمؤمنين:
قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [الحشر: 11، 12].
وهذه الآيات ترسم صورةً واضحةً ومتكاملة لأخلاقهم الدنيئة؛ حيث قال تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ﴾ [المنافقون: 1- 5].
النوع الثاني: النفاق العملي (النفاق الأصغر):
وهو عمل شيء من أعمال المنافقين مع بقاء الإيمان في القلب، وهذا لا يُخرج من المِلة، لكنه وسيلة إلى ذلك، وصاحبه يكون فيه إيمان ونفاق، وإذا كثُر صارَ بسببه منافقًا خالصًا، والنِّفاق الأصغر خطَرُه جسيم؛ لأنَّه وسيلةٌ للأكبر، حتى إذا استمرأَه الإنسان استدرجَه إلى الأكبر.
ومن أهم صفات هؤلاء:
1- خيانة الأمانة، والكذب والغدر، والفُجور عند المخاصمة:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: (أربع مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خَصْلة منهنَّ، كانت فيه خَصْلة من النفاق حتى يَدَعَها - إذا اؤتُمِن خان، وإذا حدَّث كذَب، وإذا عاهَد غَدَر، وإذا خاصَم فَجَر))؛ أخرجه البخاري ومسلم.
2- التخلُّف عن الصلاة، وخصوصًا صلاة الفجر والعشاء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأَتَوْهما ولو حَبوًا)؛ أخرجه البخاري.
3- التكاسل في أداء الصلاة والرياء في الأعمال:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 142، 143].
4- متلوِّن بأكثر من لون:
ظاهره يختلف عن باطنه، ربما يعطي الله تعالى له هيئة وطولاً، فخامة ولونًا، عيونًا واسعة، جبهة عريضة مثلاً، وأن يكون طليق اللسان، أنيقًا جدًّا،فما قيمةُ هذا؟!
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].
وقال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171].
ومن شواهده قول الشاعر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة = ويروغ منك كما يروغ الثّعلب
وقال تعالى: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55].
ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8، 9].
وقال تعالى عنهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((تَجِدون الناسَ معادنَ، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فقِهوا، وتجدون خيرَ الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهيةً، وتجدون شرَّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه)).
وقال تعالى: ﴿ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ [النساء: 143].
5- نَقْر الصلاة وإخراجها عن وقتها:
من حديث العلاء بن عبدالرحمن أنه دخَل على أنس بن مالك في دار بالبصرة، حين انصرَف من الظهر، وداره بجَنْب المسجد، فلمَّا دخلنا عليه، قال: أصليتُم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلُّوا العصر، فقُمنا فصلَّيْنا، فلمَّا انصرفنا، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُب الشمس حتى إذا كانت بين قَرْنَي الشيطان، قام فنَقَرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلاَّ قليلاً))؛ رواه مسلم.
فالمنافق إما أن يكون إنسانًا مؤمنًا بالله، لكنَّ إيمانه ضعيف، وغَلبته نفسُه، فانساقَ مع شهواته، وهذا هو النفاق الأصغر الذي نرجو لصاحبه الهداية والتوبة منه؛ قال تعالى: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ* يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 19، 20].
لكنهُ لم يذهب بسمعهم وأبصارهم؛ لأنه ينتظر أن يَهتدوا وأن يؤمنوا.
وأما النفاق الأكبر، فهو أن يتنكَّر لكل ما جاء في الكتاب والسنة، ولكنه يفعل أفعال المسلمين تمشيًا مع مصالحه الخاصة؛ قال تعالى: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 17، 18].
العنصر الثالث: أسباب النفاق:
النفاق مرض خطير وشر مستطير، وكل مرض له أسباب تؤدي إليه، ومن أهمِّ أسباب النِّفاق:
1- ضَعْف الإيمان واليقين في الله عزَّ وجلَّ وما عندَه:
فآثَر المنافِقُ الدنيا العاجلة؛ لأنها ملموسةٌ، وترَك الآخرة، فصار قلبُه خَرِبًا خاليًا من الإيمان بالله، وأصبح بيئةً خصبة للنفاق.
2- الحقد الشديد على الإسلام والمسلمين:
ولأن الإسلام حرَمَه من الامتيازات التي كان يَحصُل عليها بطريق غير مشروع وبغير وجه حقٍّ، ولأن الإسلام ساوَى بينه وبين الجميع، وحَفِظ حقوقَ البشر كلهم، وأنه ليس في موقف القوة، فإنه آثرَ العمل في الخَفاء؛ كعبدالله بن أُبيِّ ابن سلول.
3- حب الشهوات والجاه والرياسة والزعامة، والخوف من ضياعها:
قد يكون لبعض المنافقين جاه ورياسة يخاف إن أظهَر كفره أن يتفرق عنه أتباعه وأعوانه، فيُخفيه ويُظهر الإسلام؛ كما فعل عبدالله بن أُبَي ابن سلول، فإنه كان قاب قوسين أو أدنى من الرياسة في قومه، ثم تفاجَأ بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سيدًا فيها وحاكمًا لها، فكان هذا ما حمله على النفاق في مبدأ الأمر.
4- حب الدنيا رأس كل خطيئة:
قال تعال: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10].
هذا المرض حُب الدنيا؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: (حبك الشيءَ يُعمِي ويُصِم)؛ أخرجه أبو داود.
حُب الدنيا هو الذي يَحمل على معصية الله، وهو الذي يحمل على أن تأخذَ ما ليس لك، وهو الذي يحمل على أن تطغى وأن تبغي؛ لذلك قال تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾، فلما أصرُّوا على هذه الشهوات وتشبَّثوا بها، ﴿ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا ﴾، أطلقهم إليها لعلَّهم يتخلصون منها، ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون على الله عز وجل.
إذًا أساس النفاق حُب الدنيا، وحب الدنيا عبَّرَ الله عنه بكلمة: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾.
من المنافقين من يكون سبب نفاقه حب الدنيا والطمع في الغنائم؛ ولهذا نراهم يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقاتلون، ومنهم من لا يخرج، وإذا رجع رسول الله جاء معتذرًا طمعًا في عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه عنه، فهم لحبِّهم الدنيا يُؤمِّلون الغنائم، وقد ذكر الله سبحانه صفتهم هذه في قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42].
وقد كان هذا في غزوة تبوك، لَمَّا رأى المنافقون شِدة الحر وبُعد المسافة، تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية مُوبِّخًا لهم، ومبينًا أن السفر لو كان قريبًا سهلاً، والغنيمة قريبة المتناوَل حاضرة - لخرجوا معك، أما قولهم لما جاؤوا يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مجرد كذب؛ لأنهم كانوا مستطيعين.
5- الابتلاءات والمحن:
سُنة الله في عباده أن يَمتحنهم؛ ليعرف الصادق من الكاذب، فإذا جاءت الفتنة كانت سببًا في نفاق مَن كان إيمانه ضعيفًا، ومن أمثلة ذلك حادثة تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، فقد كانت اختبارًا وابتلاءً من الله، ومِحنة امتحَن الله بها الناسَ، وبعدها ارتدَّت طائفة عن الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143].
ومن هذه الفتن ما حدث للمسلمين يوم أُحد، فإنه لَمَّا حصل ذلك، ارتدَّت طائفة ونافَقوا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴾ [آل عمران: 166، 167].
قال ابن تيمية: "قوله: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ ظاهر فيمَن أحدَث نفاقًا، وهو يتناول مَن لم ينافق من قبلُ، ومَن نافَق، ثم جدَّد نفاقًا ثانيًا".
ثم ذكر أن الذين انخَذلوا يوم أُحد مع عبدالله بن أُبَي رأس المنافقين كانوا ثلاثمائة، لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين.
وهذا حال الناس اليوم، إذا ابتُلوا بالمِحن يَنقص إيمانهم كثيرًا، ويُنافق كثيرٌ منهم، وإذا انتصر الأعداء على المسلمين، ارتدُّوا عن الإسلام والعياذ بالله.
العنصر الرابع: خطورة النفاق والمنافقين:
لخطور النفاق والمنافقين، جعل الله ثلاث عشرة آية في صدر سورة البقرة، بينما ذكر المؤمنين في أربع آيات، والكافرين في آيتين؛ لذلك يقول الإمام الحسن البصري رحمه الله - يقول عن زمنه -: "لو كان للمنافقين أذناب، لضاقت بهم الطرقُ"، فكيف لو رأى زماننا؟!
فكم من مَعقلٍ للإسلام قد هدَموه! وكم من حِصنٍ للإسلام قد خرَّبوه! وكم من عَلَمٍ للإسلام قد وضعوه! وكم من لواءٍ للإسلام قد طمَسوه! فما أخطرهم!
والكافرين أقل منهم خطورة؛ لأن الكافر تَعرفه الأمة، وتستعد له على قدر خطورته، أمَّا المنافق فهو مُندسٌّ بين الصفوف؛ يصلي مع المصلين، ويذكر الله مع الذاكرين، ويرفع الراية مع الرافعين، وهو سائر على الدرب مع السائرين، ولا يظهر إلا عند التمحيص بالمحن والابتلاءات؛ يقول تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، ويقول تعالى: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ [المنافقون: 4]، فحصَر العداوةَ فيهم كأن لا عدوَّ غيرهم؛ لأنهم شرُّ الأعداء.
فلا شكَّ إذًا أن الله تعالى قد أكثر من ذكر النفاق؛ لنكون على بيِّنة منه؛ قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55].
ولمَّا كان خطرُهم عظيمًا، فقد حذَّرنا نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم قائلاً: ((أخوفُ ما أخاف على أمَّتي كلُّ منافِق عليم اللسان))؛ رواه أحمد.
ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: "إنَّ أخوفَ ما أخاف عليكم المنافِق العليم"، قالوا: كيف يكون المنافِق عليمًا؟ قال: يتكلَّم بالحِكمة، ويعمل بالجَوْر، أو قال: المنكر"؛ جامع العلوم والحكم.
فالمنافق عليم اللسان، يُقبِّح الحق ويُجمِّل الباطل ببيانه، وقد يستدل في مسعاه الخبيث هذا بقال الله وقال رسوله، حاملاً النصوص على غير محملها، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "إنَّ المنافقين اليوم شرٌّ منهم على عهْد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، كانوا يومئذٍ يُسِرُّون، واليوم يَجهرون"؛ رواه البخاري.
ومِن أخطارهم:
1- مُوالاتهم للكافرين وغدرهم بالمؤمنين:
قال تعالى: ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 138 - 140].
2- شقُّ صفوف المؤمنين وتخذيلهم، والسعي إلى فرقة الأمة:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12]، وقال تعالى: ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الأحزاب: 18].
ويتجلَّى خطرُهم في كونهم يتزيَّون بزِي الإسلام وهم أعتى أعدائه، ويتدثَّرون بدِثار الإسلام وهم مَعقِل الكفر، فيَحسَبهم العوام مُسلمين، فيتَّبعون كلامَهم، وما هم إلاَّ زنادقة يَقذِفون مَن أجابهم في النار، وما مسجد الضرار الذي بنَوه في المدينة عنا ببعيد، فكان الهدف منه تفريق كلمة الأمة.
لَمَّا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ومرت الأيام، وعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، فأسرع إليه المنافقون؛ ليقوموا بدعوته إلى الصلاة في المسجد الذي بَنَوه، ولكن نزل جبريل في ذلك الوقت بالتحذير الإلهي من ذلك المسجد الضار بالمسلمين، وذلك بمجموعة من آيات سورة التوبة: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التوبة: 107، 108].
3- إفساد عقيدة العامة:
فقد أفسدوا عقائد كثير من الناس، والمتتبِّع لجذور الانحراف العقَدي في تاريخ المسلمين، يجد المنافقين وراءه، ومن أبرز الأمثلة على ذلك فرقة السبئية التي وضع أُسسها المنافق اليهودي عبدالله بن سبأ، الذي أظهر الإسلام في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأخذ يطوف البلاد الإسلامية ينشر معتقده، وقد لبَّس على العامة في زمن كان فيه كثير من الصحابة، حتى إن بعض أتباعه هدَّدهم علي رضي الله عنه بالموت حرقًا إن لم يرجعوا عن هذه العقيدة الضالة، فأصرُّوا وفضَّلوا الموت على الرجوع عن ضلالهم، وقد كان من نتيجة فتنة عبدالله بن سبأ مقتل الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما زالوا إلى الآن يبثون سمومَهم وأفكارهم الضالة عن طريق وسائلهم المخرِّبة للعقول.
4- التعاون مع أعداء الأمة:
كان سقوط بغداد مركز الخلافة الإسلامية العباسية عام (656 هـ) على يد المنافق الخبيث ابن العلقمي الرافضي الذي تعاوَن مع التتار الذين قتَلوا جميع مَن يَقدِرون عليه من الرجال والنساء والوِلدان، والمشايخ والشبان، حتى بلغوا مليون قتيل، وقد كان ابن العلقمي وزيرًا عند الخليفة المستعصم يُظهر الولاء والنُّصرة، له فضل في الإنشاء والأدب، لكنه كان منافقًا يُضمر الحقد على الإسلام وأهله، كاتَب التتار وزيَّن لهم اجتياح بغداد، وكان ذلك بعد أن سرَّح الجند وصرَف الجيوش عن بغداد، حتى لم يبقَ منهم إلا عشرة آلاف، ثم أرسل إلى التتار يُسهِّل عليهم أمر اجتياح المدينة، فقدِموا وحدَث ما حدث.
وما استطاع أعداء الإسلام أن يدخلوا بلاد الإسلام في أي عهد من العهود، إلا عن طريق المنافقين، فهم يسمون في التاريخ بالطابور الخامس، نعوذ بالله منهم.
ولخطورتهم أمرَنا الله تعالى أن نتَّخذ منهم موقفًا واضحًا حازمًا، فلم يرضَ من المؤمنين أن يَنقسموا في شأنهم فئتين، فقال في شأنهم: ﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾ [النساء: 88].
وإنما أحبَّ للمؤمنين أن يَجتمعوا على جهاد المنافقين والغِلظة عليهم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73].
ونهى الله تعالى نبيَّه والمسلمين عن طاعة المنافقين: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [الأحزاب: 1].
العنصر الخامس: عقوبة المنافقين:
جعَل الله عقابَهم مِن جنس فِعْلهم، فهذا بعض ما توعَّدهم الله به:
1- لن يغفر الله لهم ذنوبَهم ولهم عذاب أليم:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 137 - 139].
2- يجمعهم ومَن على شاكِلتهم في جهنَّم:
قال الله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ﴾ [النساء 140 ،141].
وقال الله تعالى: ﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [الفتح: 6].
3- في الدَّرك الأسفل من النار:
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145].
4- يستغيثون بالمؤمنين يوم القيامة، فيستهزئ بهم المؤمنون:
فكما دلَّسوا على المؤمنين، فهُمْ يومَ القيامة تائهون ليس لهم نورٌ يهديهم سبيلَ النجاة؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 12 - 15].
5- اللعن في الدنيا وحَبْط الأعمال والخلود في جهنم:
قال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [التوبة: 67- 69].
العنصر السادس: خوف السلف من النفاق:
كان الصحابة رضوان عليهم يتخوَّفون من الوقوع في النفاق؛ قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كُلُّهم يَخاف النفاق على نفسه".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجَلِّهم: عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة، وعقبة بن الحارث، والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرَك بالسن جماعة أجل من هؤلاء؛ كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزَم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكأنه إجماع؛ وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يَشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعُه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورَع والتقوى رضي الله عنهم".
وقال ابن علية: "أدركت سبعين من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه".
ولقد أودعَ النبي صلى الله عليه وسلم سِرًّا لسيدنا حُذيفة بن اليمان، وأعطاه أسماءَ سبعة عشر مُنافقًا، أمره إذا توفَّاه اللهُ عز وجل ألا يُصلي عليهم، فجاء عمر بن الخطاب عملاق الإسلام والخليفة الراشد - الذي كان فذًّا عبقريًّا - يسألُ حذيفةَ بن اليمان، ويقول له: أُنشِدكَ الله: هل ذكرَ النبي صلى الله عليه وسلم اسمي مع المنافقين؟ هذا لِعِظَمِ حقِّ الله عليه؛ قال إبراهيم التَّيمي:"ما عَرَضْتُ قولي على عملي إلا خَشِيتُ أن أكونَ مُكذبًا".
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة: حذيفة، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري، وأما التابعون فكثير.
قال ابن سيرين: ما عليّ شيءٌ أخوفُ من هذه الآية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].
وقال أيوب: كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق أخافها على نفسي.
وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟
وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدًّا، وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم.
إن هؤلاء الكبار كانوا أبرَّ الناس قلوبًا، وأشدَّهم تعظيمًا للحُرُمات، وأبعدهم عن انتهاك حدوده، لكن الواحد منهم لكمال علمه بربه، وخوفه من مقامه، يرى الذنب الصغير - إن وقع فيه - كبيرًا، بل كان بعضهم يخاف من الرياء، وآخر يخاف أن يكون مُقصِّرًا في العمل، فيكون قوله مخالفًا لفعله، وآخرون ظنُّوا أن اشتغالهم بالمباح في بيوتهم مع زوجاتهم، وأولادهم مع وجود الخشوع والرقة في مجالس الذكر، ظنُّوا ذلك من النفاق؛ فعَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيدي قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْي عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَات، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَا ذَاكَ؟))، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، ونَسِينَا كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي - وَفِي الذِّكْرِ- لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ))؛ رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّه قيل له: "إنا نَدخُلُ على سُلطاننا، فنقول لهم بخِلاف ما نتكلَّمُ إذا خرجْنا من عندهم، قال: كُنَّا نعدُّ هذا نِفاقًا"؛ رواه البخاري.
وسَمِعَ رجلٌ أبا الدرداء يتعوَّذُ من النِّفاق في صلاته، فلمَّا سلَّم، قال له: ما شأنك وشأن النِّفاق؟ فقال: اللهمَّ غُفرًا ثلاثًا، لا تَأْمَن البلاءَ، واللهِ إنَّ الرجل ليُفتَنُ في ساعةٍ واحدة، فيَنقلِبُ عن دِينه.
العنصر السابع: السبيل إلى الخلاص من النفاق:
اعلم أخي المسلم الكريم أن الإيمان يزيد وينقص، وإذا نقص الإيمان زاد النفاق، وإذا زاد النفاق ضعُف القلب، وصار قاسيًا والعياذ بالله؛ فعلينا أن نسلك السبيل للتخلص من النفاق وعلاج نقص الإيمان، ومنها:
1- التوبة ومحاسبة النفس والنظر في يوم القيامة.
2- الاستعانة بالله تعالى أن يُجنِّبنا النفاق والرياء وسوء الأخلاق.
3- الإيمان بالقضاء والقدر، والنظر إلى الدنيا بعَيْن الزوال، وأنَّها فانيةٌ لا محالة، فيذوب الجليدُ القاسي الذي تجمَّع فوق القلْب.
4- الخوف من الموت وسوء الخاتمة، وعاقبة المنافقين؛ فقد جاء في الأثر عن ابن علية قال: "من خاف النفاق أمِنه، وما أمِنه أحد إلا وقَع فيه".
وقال الحسن البصري عن النفاق -: "مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ".
حب المؤمنين الصالحين ومخالطتهم، فمَن أحبَّ قومًا صار منهم.
5- النظر في سِيَر الصالحين المؤمنين.
6- معرفة صفات المنافقين والتحلي بضدها من أخلاق الإسلام.
نسأل الله العظيم أن يُجنِّبنا النفاق وشرَّ المنافقين إنه وَلِيُّ ذلك والقادر عليه