الخميس، 16 يناير 2020

حق الطريق في الإسلام





الحمد لله رب العالمين .. جعل الأخلاق من الإيمان، وجعل سوءها من العصيان، فأمر بحسن الخلق فقال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(11)}[الحجرات].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ..جعل الخير كل الخير في التأدب بآداب الإسلام، وإن الهلاك والشقاء والخسران في الإعراض عن دين الله تعالى فقال تعالي {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ (7)}[الحشر].
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله () حدد الغاية الأولي من بعثته والمنهاج القويم في دعوته فقال صلي الله عليه وسلم {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}[صححه الألباني في السلسلة الصحيحة].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
أما بعـد: فيا أيها المؤمنون..
لقد تفرد الإسلام العظيم بتشريعات خاصة أحاطت بكل شيء، ولم تترك شيئًا (إنسانا أو حيوانا أو جمادا) إلا أنصفته وجعلت له حقوقا لا ينبغي لأحد أن يتعداها ، واعتبر الالتزام بهذه الحقوق دين يدين العبد به لله تعالي وعبادة وقربي يتقرب من خلالها الإنسان إلي الله عز وجل ، وبأدائها يحظى العبد بمرافقة النبي () في الآخرة .
أَلا وَإِنَّ مِنَ الحُقُوقِ والآدَابِ الَّتي أَولاهَا الإِسلامُ عِنَايَةً وَأَحَاطَهَا بِالرِّعَايَةِ، مَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ لِبَعضِهِم في طُرُقَاتِهِم وَأَسوَاقِهِم، مِمَّا أَهمَلَهُ كَثِيرٌ مِنهُمُ اليَومَ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَفَرَّطُوا فِيهِ وَتَجَاهَلُوهُ شَبَابًا وَشِيبًا.
وَلِتَأكِيدِ حق الطريق في الاسلام ، نَهَى النَّبيُّ () عَنِ الجُلُوسِ فِيهَا، وَأَمَرَ بِإِعطَائِهَا حَقَّهَا، فَقَالَ:{إِيَّاكُم وَالجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا لَنَا مِن مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا. قَالَ:
فَإِذَا أَبَيتُم إِلاَّ المَجلِسَ فَأَعطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ  قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: غَضُّ البَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ}[مُتَّفَقٌ عَلَيهِ]..
وحديثنا عن هذا الموضوع من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية :ـ
1ـ مفهوم الطريق في الإسلام .
2ـ علاقة احترام حق الطريق بالإيمان .
3ـ حق الطريق في الإسلام .
4ـ أثر احترام حق الطريق في المجتمع .
5ـ الخاتمة .
===================
العنصر الأول : مفهوم الطريق في الإسلام :ــ
الطريق مرفق عام وملك للناس جميعا . فالكل يمشي فيه ويستخدمه و لا غني لأحد عنه .
فلا يجوز الجلوس فيه علي نحو يعرقل المرور و يضيق علي الناس مصالحهم .ويخدش حياء المارة .
وبذلك نستنتج ان الشريعة الاسلامية تتسم بالشمولية و الرحمة في تشريعاتها ، و جاءت لإسعاد البشرية من خلال تحقيق مقاصد خمسة هي : حفظ الدين و النفس و المال و العقل و العرض .
إن الطريق يطلق على كل الممرات العمومية التي يسلكها الناس كالشوارع و الأزقة و غيرها …
العنصر الثاني : علاقة احترام حق الطريق بالإيمان :ــ
إن احترام حق الطريق والحفاظ علي المرافق العامة من الأخلاق العالية التي جاءت رسالة الإسلام تهذبها وتقويها كما قال النبي (){إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}(صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ).
فإن كمال الأخلاق من كمال الإيمان، ونقصها من نقص الإيمان؛ فالمؤمن حين يتحلى بحسن الخلق طاعة لله تعالى فإنما يدفعه لذلك إيمانه بأنه مأمور بحسن الخلق، مثاب عليه، معاقب على تركه، وارتباط الأخلاق بالإيمان وثيق جدا؛ ولذا نُفي كمال الإيمان عن جملة من الناس ساءت أخلاقهم.
ولم يعُدِ الإسلام الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان، ومجالاً للتنافس بين العباد؛ فقد جعله النبيُّ () أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال:{إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا، أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا، الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون}.
وكذلك جعَل أجر حُسن الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ () قَالَ: {مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ} [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد].
وجعَل كذلك أجرَ حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال:{إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم}.
بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الحنة؛ فقد سُئل () عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟ فقال: (تقوى اللهِ وحُسن الخُلق).
لذلك فإن هناك علاقة طردية بين الإيمان والأخلاق: فكلما كان الإيمان صحيحاً قوياً أثمر أخلاقاً حميدة ،والإيمان القوي يلد الخلق القوي حتما ،وأن انهيار الأخلاق مرده إلي ضعف الإيمان ، أو فقدانه بحسب تفاقم الشر أو تفاهته .
لذلك قال عليه الصلاة والسلام : {أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً} [رواه أبوداود والترمذي وصححه الألباني] .
وعلمنا النبي () أن إزالة الأذى عن الطريق، بل هي من الإيمان: قال صلى الله عليه وسلم:{الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان} (رواه البخاري).
وهي من الصدقات، وبسببها أدخل رجل الجنة، ففي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله (): {كل سلامى من الناس عليه صدقة… ثم قال: وتميط الأذى عن الطريق صدقة) (رواه البخاري ومسلم} .
وعنه أيضاً أن رسول الله () قال: {بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخره، فشكر الله له فغفرله } (رواه البخاري ومسلم) .
وَقَالَ () {لَقَد رَأَيتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِن ظَهرِ الطَّرِيقِ كَانَت تُؤذِي النَّاسَ }[رَوَاهُ مُسلِمٌ].
وعند أبي داود: قال رسول الله: (): {نزع رجلاً لم يعمل خيراً قط غصن شوك عن الطريق، إما كان في شجرة فقطعه وألقاه، وإما كان موضوعاً فأماطه، فشكر الله له بها فأدخله الجنة}.
وقال في ارشاد الضال فعن البَرَاء بْن عَازِبٍ رضى الله عنه :قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ () َقُولُ: {مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ} ( رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (أَوْ هَدَى زُقَاقًا): يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ وَهُوَ إِرْشَادُ السَّبِيلِ.
فإذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا فما قيمة دين بلا خلق ، وما معني الإفساد مع الانتساب لله تعالي ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين .
العنصر الثالث : حق الطريق في الإسلام :ـ
إن من فضل الله تعالى على هذه الأمة أن جعل لها الإسلام الحنيف منهجاً متكاملاً للحياة… يقودها إلى الصواب، ويشيع فيها الأمن والسلامة وكريم الأخلاق، وجميل السجايا، وطيب الفضائل، وأقوم سبل السلوك البشري في الحواضر والبوادي… في المزارع والمصانع… في المساكن والمدارس… في الحافلات والقطارات… في الأزقة والطرقات…
ولقد جعل الله تعالي الناس شركاء في طرقهم التي يسيرون فيها، فكان لهذه الطرق حقوق تحفظ على الناس أخلاقهم، وتديم الألفة والمودة بينهم، وهذه الحقوق جاء ذكرها في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ» متفق عليه.
فهذا الحديث أصل عظيم في أن للطرق حقوقا ولو لم يملكها أحد، وكانت مشاعا بين الناس. ولأجل هذه الحقوق كان الجلوس في الطرقات مظنة الوقوع في الإثم، فكان الأصل هو النهي عن الجلوس فيها احترازا من الإثم، لكن الصحابة رضي الله عنهم طمأنوا النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن مجالسهم فيها مجالس خير لا مجالس شر، يبين ذلك حديث آخر عن أَبي طَلْحَةَ رضي الله عنه قال: «كُنَّا قُعُودًا بِالْأَفْنِيَةِ نَتَحَدَّثُ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ () ، فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصُّعُدَاتِ، اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ، فَقُلْنَا إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَاسٍ قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ قَالَ: إِمَّا لَا فَأَدُّوا حَقَّهَا: غَضُّ الْبَصَرِ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ» رواه مسلم.
ونتناول الكلام حول هذا من خلال فهمنا لحديث النبي () وذلك من خلال هذه النقاط :ـ 
معني الجلوس في الطرقات :ــ
هو اللبث في الطرقات سواء اتخذ مجلسا في ناصيتها، أو دكة عند بيته، أو كرسيا خارج دكانه، أو كان في مقهى أو مطعم يجلس على حافة الطريق أو نحو ذلك، فكل ذلك جلوس في الطريق. وليس المعنى ذات الجلوس، وإنما اللبث في الطريق فلو جلس في سيارته، أو وقف يتحدث مع صديقه، أو ينتظر أحدا، فكل أولئك يتناولهم حق الطريق المنصوص عليه في الحديث.
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام جملة من الحقوق للطريق يجب على من كان في الطريق أن يراعيها، وهي :ـ
الحق الأول :غض البصر:ــ
لأن الطرق تسلكها نساء لحاجتهن، وقد تُفتح أبواب بيوت أو نوافذها فيكشفها الجالس في الطريق فوجب عليه أن يصرف بصره، ولا يطلقه في نساء الناس وبيوتهم وعوراتهم، ولا يؤذي مسلما يحمل في يده متاعا له فيرمقه ببصره لمعرفة ما معه؛ فإن هذا من سوء الأدب، ومن التطفل على حقوق الغير، ومن إطلاق البصر فيما لا ينبغي، مع ما يسببه من حرج وأذى لأخيه، ومما يعارض غض البصر في الطريق ما يفعله بعض الناس من الاطلاع على ما بداخل سيارات الناس من نساء وأطفال ومتاع في الطرقات وعند الإشارات وفي الزحام، وكل هذا مما ينافي الأخلاق، ويقدح في المروءات، ويسبب الأذى.
وغض البصر أمر به الله تعالي في قوله { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ(31)} [النور].
 قال ابن كثير رحمه الله : هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَنْظُرُوا إِلَّا إِلَى مَا أَبَاحَ لَهُمُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْمَحَارِمِ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى مُحرَّم مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَلْيَصْرِفْ بَصَرَهُ عَنْهُ سَرِيعًا. (تفسير ابن كثير) فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ () عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي))( رواه مسلم) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ () قَالَ لِعَلِيٍّ: {يَا عَلِيُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّمَا لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ}. (رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع )
والعبد مسئول يوم القيامة عما أبصر {إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)}[الإسراء].
وذلك لأن في هذا النظر انتهاك لحرمات الآخرين، كما أنه ذريعة للزنا، والأمر بغض البصر يشترك فيه الرجال والنساء على حدٍّ سواء، لما في ذلك من المفاسد العظيمة، فَإِنَّ النَّظْرَةَ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، وَمَنْ أَطْلَقَ لَحَظَاتِهِ دَامَتْ حَسَرَاتُهُ.
فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُفَرِّقُ الْقَلْبَ وَيُشَتِّتُهُ، وَيُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. (الداء والدواء) وأصلُ كلِّ شرٍّ ومبدؤه من النظر،
فلو أنه غض بصره لارتاحت نفسه وارتاح قلبه .
في أيامنا نجد الطرقات والأرصفة مليئة بالشباب يتصيدون النساء، وخاصة طالبات المدارس بعد خروجهن من المدرسة أو المعهد أو الجامعة ، فتجد الأرصفة ملأ بهؤلاء الشباب الذين لم يعطوا أي حق للطريق ، ولم يراعوا حرمة أعراض المسلمين ، فأطلقوا العنان للبصر بدلا عن أن يغضوه، وبذلوا الأذى بدلا من أن يكفوه ، وأمروا بالمنكر وكان المفترض أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فهؤلاء يحرم عليهم الجلوس على الطرقات، ويأثموا ببقائهم فيها؛ لأنهم لم يعطوا الطريق حقه .
فهؤلاء الذين يتخوضون في أعراض المسلمين ، وهؤلاء الذين ينتهكون حرمات المؤمنين ، أما يتقون الله ، أما يخافون عقابه ، هل يرضون أن يفعل ذلك أحد مع أخواتهم أو زوجاتهم أو إحدى قريباتهم ؟ ألم يعلموا أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ولا يظلم ربك أحداً؟
وعن ابن عمر قال : صعد رسول الله () على المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : “ يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لاتؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ”
ومن أغرب القصص الواقعي :ـ يروى أن شابا أراد السفر لغرض التجارة، فأوصاه أبوه بالمحافظة على تقوى الله في السر والعلن، وحذره من اقتراف المعاصي والآثام؛ فسار هذا الشاب في سفره، وفي يوم من الأيام والشاب مسافر، كان عند الأب شاب سقا يجيء إليه بالماء ، وكانت عادته أن يطرق الباب، فتفتح له بنت ذلك الرجل ، وفي يوم من الأيام فوجئ الرجل بذلك السقا يقبّل ابنته ويهرب، فما كان منه إلا أن تحين رجوع ابنه من سفره ليسأله عن سفره وعن أخباره وماذا فعل في غيابه ، فأجابه الإبن بكل شيء ،من أمور التجارة من ربح وخلافه ،إلا أن الأب سأله مرة أخرى عن ماذا فعل في سفره من المعاصي؟
فأنكر الإبن، ولكن بعد إلحاح الأب عليه جعل يعترف، وكان مما اعترف به أنه رأى امرأة شابة فظفر منها بقبلة، فقال له أبوه دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقا، قال الشاعر:
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعـــــاً      سبل المودة عشت غير مكرمِ
لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ           ما كنت هتّاكاً لحرمة مسلمِ
إن الزنا دين فإن أقرضتــه         كان الوفاء من أهل بيتك فأعلمِ
من يَزنِّ يُزنَّ ولو بجداره               إن كنت يا هذا لبيباً فأفهمِ
فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، (ولا يظلم ربك أحداً)،و قال الله تعالى{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}
الحق الثاني: كف الأذى :ـ
وهي كلمة جامعة تتناول كل أذى بالقول أو الفعل أو الإشارة أو حتى مجرد النظر، ومنه أذى الناس بالسيارات بالسرينة العالية ، وترويعهم بها، والصخب و الصفير والضجيج بالغناء وإقامة الأفراح، أو رفع أصوات المذياع أو الكاسيت أو مكبر الصوت ، بحيث تزعج المارة ويصل إزعاجها إلى داخل البيوت، فتوقظ النائم، وتضجر المريض، ولا سيما إذا كان صوتا محرما من غناء وموسيقى صاخبة، وبعض الشباب يؤذي غيره بذلك وهو لا يشعر.
وكذلك السبّ والشتم والقذف وهذا مما لا يخفى على أحد: فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ () {لَيْسَ المُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الفَاحِشِ وَلَا البَذِيءِ}[رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد] .
ومنهم من يغلق الطريق بسيارته للحديث مع آخر أو لدلالته إن كان ضائعا؛ فيعمل خيرا ويكسب إثما؛ لأنه عطل من وراءه لدلالة من بجواره، وهذا لا يجوز.
وأقبح منه من يوقف سيارته بطريقة يغلق بها الطريق أو يضيقه على المارة، فكل من مرَّ وتأذى بفعله شتمه أو دعا عليه، وهو لا يدري مغبة ما فعل. وأيضا التعدي على الطريق بالبناء، واستخدامه استخدامًا خاصًّا، وذلك كثير..
وفي ذلك قال النبي () {من أخذ شبرا من أرض ظلما طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين }[رواه البخاري ومسلم] .
ومن الأذى في الطريق: إلقاء النفايات في الطريق ، ولا سيما ما فيه خطر كالزجاج والمسامير، أو ما فيه روائح خبيثة تؤذي المارة، وفاعل ذلك يجني من الأوزار بقدر ما آذى من المارة. وقد قال النبي () :«اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ، قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ» رواه مسلم.
وأيضا إلقاء القمامة والقاذورات في الطريق: عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ()  قَالَ: {مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ}. [رواه الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الجامع] .
وقد فتح الله تعالي أبواب الخير للانسان من أوسع الأبواب ،فقال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ {كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطلُعُ فِيهِ الشَّمسُ: يَعدِلُ بَينَ الاثنَينِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ على دَابَّتِهِ فَيَحمِلُهُ عَلَيهَا أَو يَرفَعُ عَلَيهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا إِلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ }[رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ]
وَقَالَ () {عُرِضَت عَلَيَّ أَعمَالُ أُمَّتي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدتُ في مَحَاسِنِ أَعمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدتُ في مَسَاوِئِ أَعمَالِهَا النُّخَامَةَ تَكُونُ في المَسجِدِ لا تُدفَنُ }[رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ].
وقد أهتم علماء الإسلام بالطريق اهتماما كبيرا ومما أُثرعن بعضهم مايلي :ـ
قال أبو طالب المكي رحمه الله تعالى: وكان الورعون لا يشترون شيئاً ممن قعد يبيعه على طريق، وكذلك إخراج الرواشن من البيوت وتقديم العضايد بين يدي الحوانيت إلى الطريق مكروه…
وعن أبي بكر المروزي أن شيخاً كان يجالس الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ذا هيبة، فكان أحمد يُقبل عليه ويكرمه، فبلغه عنه أنه طيَّن حائط داره من خارج قال: فأعرض عنه في المجلس، فاستنكر الشيخ ذلك، فقال: يا أباعبد الله، هل بلغك عني حدث أحدثته؟ قال: نعم، طيّنت حائطك من خارج، قال: ولا يجوز؟ قال: لا؛ لأنك قد أخذت من طريق المسلمين أنملة، قال: فكيف أصنع؟
قال: إما أن تكشط ما طينته، وإما أن تهدم الحائط وتؤخره إلى وراء مقدار أصبع ثم تطينه من خارج، قال: فهدم الرجل الحائط وأخّره أصبعاً ثم طينه من خارج، قال: فأقبل عليه أبو عبد الله كما كان. قال أبو طالب المكي: ومما كرهه السلف طرح السنّور والدابة على المزابل في الطرقات(والسِّنَّوْرُ : حيوانٌ أَليفٌ ، من الفصيلة السِّنَّوْريَّةِ ورتبة اللَّوَاحم) ، فيتأذى المسلمون بروائح ذلك. وكان شريح وغيره إذا مات لهم سنّور دفنوها في دورهم.
ومثله إخراج الميازيب علي السطوح وصبها إلى الطرقات.
وعقد أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى فصلا عنوانه (منكرات الشوارع) أطال فيه فكان مما قال: فمن المنكرات المعتادة فيها وضع الاسطوانات، وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة، وغرس الأشجار، وإخراج الرواشن والأجنحة، ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطرق، فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ إِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيقِ الطُّرُقِ وَاسْتِضْرَارِ الْمَارَّةِ…
وَكَذَلِكَ رَبْطُ الدَّوَابِّ عَلَى الطَّرِيقِ بِحَيْثُ يَضِيقُ الطَّرِيقُ، وَيُنَجِّسُ الْمُجْتَازِينَ مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَةِ النُّزُولِ وَالرُّكُوبِ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّوَارِعَ مُشْتَرَكَةُ الْمَنْفَعَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا إِلَّا بقدر الحاجة، والمَرْعَيُّ هو الحاجة التي تراد الشَّوَارِعُ لِأَجْلِهَا فِي الْعَادَةِ دُونَ سَائِرِ الْحَاجَاتِ، وَمِنْهَا سَوْقُ الدَّوَابِّ وَعَلَيْهَا الشَّوْكُ بِحَيْثُ يُمَزِّقُ ثِيَابَ النَّاسِ فَذَلِكَ مُنْكَرٌ…
وكذلك ذبح القصاب (الجزار) إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه…
وكذلك طرح القمامة على جوادّ الطرق، وَتَبْدِيدُ قُشُورِ الْفاكهة مثل الموز وغيره ، أَوْ رَشُّ الْمَاءِ بِحَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ التَّزَلُّقُ وَالتَّعَثُّرُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ المنكرات .
ومن أذي الطريق : إيذاء الناس في أبدانهم أو أعراضهم. فالمسلم الحقٌّ يكفُّ الأذى في الطريق فلا يؤذِي الناسَ بلسانه، لا كلامًا سيّئًا، ولا همزًا ولمزًا وعيبًا، ولا سخريّة واحتقارًا، هو كافٌّ الأذى عن الناسِ، لا يؤذيهم لا بالأقوالِ كما لا يؤذيهم بالأفعال. قال الله تعالى متوعداً من يتعرض للمؤمنين بأيِّ نوع من الأذى{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(58)} [الأحزاب].
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِنْ ضَعُفْتَ عَنْ ثَلَاثَةٍ فَعَلَيْكَ بِثَلَاثٍ: إِنْ ضَعُفْتَ عَنِ الْخَيْرِ فَامْسِكْ عَنِ الشَّرِّ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْفَعَ النَّاسَ فَامْسِكْ عَنْهُمْ ضُرَّكَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ فَلَا تَأْكُلْ لُحُومَ النَّاسِ. (تنبيه الغافلين للسمرقندي).
قال النووي: وَيَدْخُلُ فِي كَفِّ الْأَذَى اجْتِنَابُ الْغِيبَةِ وَظَنِّ السُّوءِ وَإِحْقَارِ بَعْضِ الْمَارِّينَ وَتَضْيِيقِ الطَّرِيقِ وَكَذَا إِذَا كَانَ الْقَاعِدُونَ مِمَّنْ يَهَابُهُمُ الْمَارُّونَ أَوْ يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْمُرُورِ فِي أَشْغَالِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لكونهم لا يجدون طريقا إلا ذلك الْمَوْضِعِ. (شرح النووي على مسلم).
ومن الأذي في الطريق:ـ التبرج السافر الذي تعجُّ به طرقات المسلمين: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ () {صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا}[رواه مسلم].
الحق الثالث : رد السلام:
رد السلام واجب فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (){خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز} .
أما إفشاء السلام ابتداءً ورداً؛ فأدب كريم يتخلق به أبناء الإسلام، وحقٌ يحفظونه لإخوانهم، يغرس المحبة، ويزرع الألفة، ويغسل الأحقاد، ويزيل الإحن، ويستجلب به رضا الله وغفرانه، وهو من حق المسلم على أخيه فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ () قَالَ: {حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ)) قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ، قَالَ: (إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ} (رواه مسلم).
وإلقاء السلام سببٌ لنشر روح المحبة بين المسلمين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ () {لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ} ( رواه مسلم).
وأمر الإسلام بإلقاء السلام علي تعرف ومن لا تعرف لأن إلقاء السلام علي من تعرف فقط خللٌ ومخالفة للسنة.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنهما أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ (): أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: {تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ} (رواه البخاري ومسلم).
الحق الرابع: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:ـ
هذا باب عظيم الشأن والقدر، به كانت هذه الأمة خير الأمم: كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ . وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فوائد عظيمة للأمة، منها:ـ
نجاة سفينة المجتمع من الهلاك والغرق، ومنها قمع الباطل وأهله، ومنها كثرة الخيرات والحد من الشرور، ومنها استتباب الأمن، ومنها نشر الفضيلة وقمع الرذيلة… إلخ هذا الفقه العظيم الدقيق، وهذا الأدب الجم الرفيع، هو لحفظ حق الطريق. ومن الواجبات على أهل الطريق: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الطرق يقع فيها ما يقع من التقصير، ومن ظهور بعض المنكرات، فالواجب على المؤمن إذا رأى شيئاً في الطريق ألا يسكت، بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل الأعمال وأجلِّ القربات لأنه قطب الدين العظيم، والمهمة التي بعث الله تعالى بها الأنبياء والمرسلين، وهو كذلك سبب خيرية هذه الأمة، وبه يحصل النجاة من الهلكة. قال تعالى{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)} [آل عمران].
وقال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} [التوبة].
وعن أبي سَعِيدٍ الخدري رضى الله عنه-قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ()  يَقُولُ: {مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ}. (رواه مسلم).
ثمَّ إنَّ التقاعس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمره خطير وشره مستطير، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في انتشار الموبقات في شوارع المسلمين ونواديهم، ويترتب على ذلك تعميم العقاب وعدم استجابة الدعاء. قال تعالى{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ *كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي() أنه قال : {ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده}[رواه الترمذي] .
ولكن إذا أدى تغيير المنكر إلى منكر أشدّ، فإنه لا يجوز تغييره. وهذه قاعدة من قواعد الشرع المعتبرة كما قال الله تعالى { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ (108)} [الأنعام].
فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لِآلِهَتِهِمْ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ اللَّهَ تَعَالَى، وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ. (إعلام الموقعين).
العنصر الرابع : أثر احترام حق الطريق في المجتمع:ـ
كلما ازداد تمسك المسلم بمكارم الاخلاق وفضائلها زادت قيمته وزاد رضا الله عنه وأحبه الناس وتعلقوا به وأصبح موضع ثقتهم واحترامهم . ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة ، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة .
1- نشر الأمن والأمان بين الأفراد والمجتمع :ــ
إن أي مجتمع لا يمكن أن يعيش أفراده بأمان وانسجام ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة. فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ لأن بها يتم إصلاح الفرد الذي هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع كله.
وصدق القائل:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
إذ كيف يكون هناك ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع لولا فضيلة الصدق التي أساس الإسلام، وعقد الحياة في حياة الإسلام الاجتماعية. وكيف يكون تعايش بين الناس في أمن وسلام لولا احترام الحقوق والواجبات . وكيف نتصور مجتمعا مثاليا، قادرا على قيادة العالم نحو الأفضل بدون مكارم الأخلاق؟
إذا فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية في كل عصر من العصور حتى تصير أفراد المجتمع أفرادا مسئولا وواعيا.
2ـ المساهمة في خدمة المجتمع، ورفع معاناته، وتقديم ما يفيد للأمة والبشرية:ـ
فالمؤمن مثل الغيثِ أينما حلَّ نفَع، أنه لا نجاة ولا سعادة إلا التمسك بحقائق الإسلام التي تتمثل في التحلي بمكارم الأخلاق واتباع شريعته، يقول أحد العلماء: “…
لا سعادة للمجتمع إلا بتحقيق حقائق الإسلام وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا أو تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلا فلا عدالة قطعا ولا أمان مطلقا إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقا بيد الكذابين والمرائين “.
كما أن التزام الناس بمكارم الأخلاق يؤدي إلى تقدم المجتمع وسعادته، وأن الغرب ما تفوقوا علينا إلا باتخاذهم ببعض المكارم التي يأمر به ديننا الحنيف.
3- وجود الأُلفة والمحبة بين الناس..
4- الإيجابية في المجتمع، وتفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشتملاً على أسسه وقواعده دون تنفير للناس، أو تغييب للشريعة وتعاليمها. وقتل البطالة والقضاء علي الكسل والخمول .
5- بذل الخير للناس بحب وسعادة غامرة، وتفعيل الإنتاج، وثقافة البذل والعطاء بين المجتمع، و خلق مجتمع متكافل و متحضر .
الخاتمة :
أيها المسلمون ..
ألا فلنتق الله ربنا، ولنتأدب بآداب ديننا، ولنجتنب ما نهينا عنه؛ فإن الخير كل الخير في التأدب بآداب الإسلام، وإن الهلاك والشقاء والخسران في الإعراض عن دين الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ (7)} [الحشر].
ولنعلم أن الإسلام الحنيف ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبينها وما ترك خيرا إلا وأرشدنا إلي فعله وما ترك شرا إلا وحذرنا من فعله ، قال تعالي {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (38)}[ الأنعام] .
أقول ما تسمعون وأستغر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه , وصلوا وسلموا على نبيكم محمد وعلي أله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
انتهت بفضل الله ورحمته
=========
رابط doc
رابط pdf

الاثنين، 13 يناير 2020

الأدب مع الجار




الحمد لله رب العالمين .. اهتم بالعلاقات الإنسانية وقرنها بعبادته تعالي فقال تعالي {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (35)}[ النساء]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك والحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ربط بين المؤمنين جميعا برباط الإيمان والمحبة فقال تعالي{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (10)} [الحجرات]
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله ().. بين لنا أساس التفاضل في العلاقات فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ () خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ[ [رواه الترمذي].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
 أما بعد .. فيا أيها المؤمنون .. 
إن ما يميز شريعة الإسلام عن سواها من الشرائع والأديان هو شمولها لكافة مناحي الحياة وعمومها لكافة الخلق إنسهم وجنهم، ذلك أن الشريعة الإسلامية جاءت لتصحح مسار الحياة الإنسانية وترسم لها الطريق القويم والمنهج الواضح السليم في التعامل وفق تعاليم واضحة مفهومة سهلة التطبيق.
لهذا نهض أصحاب النبي () وسلفنا الصالح بتلك الرسالة مطبقين تعاليمها عمليا فيما بينهم وبين خالقهم وفازوا بسعادة العاجل والآجل، بل إن في التزام أولئك النفر بتطبيق معايير الإسلام وتعاليمه عليهم وعلى غيرهم ما يدعو إلى الاعتبار والانبهار، ومن تلك القواعد التي أرستها الشريعة الإسلامية في التعامل ما بين الناس حقوق الجار.
لذلك كان لزاما علينا لكي نحقق السعادة لأنفسنا ولأمتنا كما سعد أسلافنا أن نتحدث عن أدب الإسلام في التعامل مع الجار ، وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية :ــ 
============
أولاً: تعريف الجار.
ثانيًا: حدّ الجوار.
ثالثًا: مراتب الجيران.
رابعًا: منزلة الجار في الإسلام.
خامسًا: حقوق الجار في الإسلام.
سادسًا: أثر الاهتمام بحقوق الجار على المجتمع المسلم.
سابعًا: نماذج مضيئة من حياة السلف في معاملة الجيران .
ثامنا :ـ الخاتمة .
===========================
العنصر الأول : تعريف الجار:ـ
الجار :ـ هومن جاورك جوارًا شرعيًا، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، برًا أو فاجرًا، صديقًا أو عدوًا، محسنًا أو مسيئًا، نافعًا أو ضارًا، قريبًا أو أجنبيًا، بلديًا أو غريبًا. في المنزل والمسكن أوالحقل .
العنصر الثاني : حد الجوار :ـ
 ذهب العلماء إلي أنه أربعون دارًا من كلّ ناحية، وهو قول عائشة رضي الله عنها والحسن والزهري والأوزاعي.
قال الإمام الشوكاني: روى القرطبي أن رجلا أتى النبي () فجعل يشكو جاره، فأمر النبي () أن ينادي على باب المسجد ” ألا إن أربعين دارا جارا ” ألا إنّ أربعين دارًا جارًا، أربعون جارًا من أربع جِهات، وهناك عشرة نحو الأعلى، أو أقلّ من ذلك، هؤلاء كلّهم جيرانك.

العنصر الثالث : مراتب الجيرانـ 
الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك، له حقّ الجوار.
وجار له حقان وهو المسلم، له حقّ الجوار وحق الإسلام.
وجارله ثلاثة حقوق مسلم له رحم، له حق الجوار والإسلام والرحم .
وأخرج البزار في مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي () قال: ” الجيران ثلاثة: جار له حق واحد وهو أدنى الجيران، وجار له حقان، جار له ثلاثة حقوق ..”.
العنصر الرابع : منزلة الجار في الإسلام:ـ 
قرن الله تعالى حقّ الجار بعبادته وحده والإحسان إلى الوالدين والأقارب واليتامى والمساكين.
قال تعالي{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (36)} [ النساء] الجار ذي القربى، والجار الجنب.
2ـ تكرّرت الوصية من جبريل عليه السلام بالجار حتى ظنّ النبي () أنه سيورّثه
قال (): (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)
3ـ جعل النبي () إكرام الجار والإحسان إليه وعدم إيذائه من علامات الإيمان
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ () {مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ } [متفق عليه ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (){اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما ،ولا تكثر الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب }
4ـ نفي النبي () الإيمان عمّن لا يأمن جاره بوائقه ،وعمن لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه. قال () {وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ}[البخاري]
وعن أنس رضي الله عنه، قال قال رسول الله (): {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه ، وهو يعلم به} [رواه البزار]
وهذا الحديث ينفي عن المسلم الإيمان إذا لم يساعد جاره فكيف إذا أوقع فيه الأذى، وإذا قلتَ لا أعلم أقول لك: من لم يتفقَّد شؤون من حوله فليس مؤمناً .
5 ـ ترتيب الخيريّة عند الله على الخيريّة للجار وسبب في رفع منزلته عند الله عز وجل :ـ 
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ () {خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ} [رواه الترمذي صححه الألباني]
صاحبان، صديقان، شريكان، جاران، خيرُ الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه إذا فقْتَهُ بالإحسان فأنت أفضلُ منه، إذا فقْتَهُ في الانضباط فأنت أفضلُ منه، إذا فقْتَهُ في العفو فأنت خير منه،{ خَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ}
6ـ جعل النبي () حسن الجوار سببًا لعمران الديار وزيادة الأعمار
قال النبي () {إنه من أعطي حظَّه من الرِّفق، فقد أعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحُسن الخلق وحُسن الجوار يَعمُران الديار، ويزيدان في الأعمار}[صحَّحه الألباني]
7ـ سوء الجوار من القاصمات للظهر :ـ
 أخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال:{ألا أخبركم بالثلاث الفواقر؟ قيل: وما هن؟
قال: إمام جائر، إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء، إن رأى حسنة غطاها، وإن رأى سيئة أفشاها وامرأة السوء إن شهدتها غاظتك، وإن غبت عنها خانتك } [رواه ابن أبي شيبة ] .
الفاقرة هي عظم الظهر.الفواقر جمع فاقرة، أو فِقْرة عَظْمة الظّهر، أيْ ثلاثة يحطِّمْن عظيمات الظّهر أيْ يقصِمن الظّهر .

8ـ إساءة الجوار من عادات الجاهلية التي بعث الله نبيه لتغييرها:ـ
يتضح هذا من جواب جعفر بن أبي طالب للنجاشي حين سأله عن هذا الدين الجديد، فقال له جعفر: {أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام -فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام- فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا} [رواه أحمد].
9 ـ الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب لمغفرة الذنوب:ـ 
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ () يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عز وجل: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ» [رواه أحمد وحسنه الألباني]
10ـ أن الجار الصالح من أسباب سعادة العبد، وعكسه من أسباب شقائه:ـ 
فعن سلمان قال رسول الله (): {أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق} [أخرجه الألباني في الصحيحة]
11ـ يقبل الله عز وجل شهادة جيرانه في حقه بالخير، ويغفر له ما لا يعلمون :ـ 
روى أنس رضي الله عنه عن النبي () قال: {ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة أبيات من جيرانه الأدنين، إلاَّ قال: قد قبِلت فيه عِلمكم فيه، وغفَرت له ما لا تعلمون}[ قال الألباني: حسن لغيره]. . 
ويعرف الإنسان نفسه بأنه أحسن إلى الجار أو أساء إليه بتطبيق الميزان النبوي في ذلك،
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رجل لرسول الله (): كيف لي أن أعلم إذا أحسنتُ وإذا أسأت؟ قال النبي ():{إذا سمعت جيرانك يقولون أن قد أحسنتَ فقد أحسنتَ، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ فقد أسأت}
12ـ تعظيم الخطيئة في حق الجار:ـ
عن الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ يَقُولُ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ () لِأَصْحَابِهِ : مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟ قَالُوا : حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ () ؛فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ () لِأَصْحَابِهِ : لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ !
فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ قَالُوا :حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ () ؛فَهِيَ حَرَامٌ .
قَالَ : لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ }. رواه أحمد وصححه الألباني.
13 ـ عدم مصاحبة المسيئ للجار في الغزو مع النبي ():ـ 
أخرج الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: خرج رسول اللّه () في غزاة فقال : (لا يصحبنا اليوم من آذى جاره) [ رواه الطبراني]
العنصر الخامس : حقوق الجار في الإسلام:ـ 
لقد تعبدنا الله تعالي بالإحسان إلي الجار وأي تقصير في هذا الحق يؤدي إلي غضب الله تعالي وحتي نتمكن من أداء هذه العبادة فيجب أن نتعرف علي حقوق الجار في الإسلام وهي كما يلي :ـ 
أولًا: كف الأذى عنه:ــ 
وهذا الحق واجب على المسلمين، فلا يجوز لهم بحال إيذاء أحد من الناس ما دام مسالما، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ:{مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ}[رواه البخاري]
وعَنْه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: {هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ} [أخرجه أحمد وصححه الألباني]
وأنت حينما تؤذي الجار أنت تُسْقِطُ عباداتك كلّها، وتؤكّد للناس أنّ الدِّين كلامٌ فارغ، وأنّ الدّين رابطةٌ واهيَة، الدِّينُ معاملة، الدِّين تَضْحيَة، الدِّين أمانة .
ومن صور إيذاء الجار :ــ 
حسده وتمني زوال النعمة عنه، أو السخرية به واحتقاره، أو إشاعة أخباره وأسراره بين الناس،أو الكذب عليه وتنفير الناس منه، أو تتبّع عثراته والفرح بزلاته، أو مضايقته في المسكن أو موقف السيارة، أو إلقاء الأذى عند بابه، أو التطلّع إلى عوراته ومحارمه، أو إزعاجه بالصراخ والأصوات المنكرة، أو إيذائه في أبنائه
ثانيا: الإهداء إليه وبذل المعروف :ـ 
فكم من هدية أوقعت في قلب المهدى إليه أثرا عظيما، فهي تقرب النفوس وتزيل الأحقاد وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة، 
فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ () فَقَالَ:{مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ} [رواه البخاريٍ]
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ():{يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ}[رواه مسلم]
فكان فيما بعد إذا طبخ لحما أكثر ماءه وأهدى إلى جيرانه ويقول: إِنَّ خَلِيلِي أَوْصَانِي: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» (رواه مسلم)
 وذُبح لعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو شَاةٌ فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ () يَقُولُ:{مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» (رواه الترمذي). وسألت عائشة رضي الله عنها رَسُولَ اللَّهِ فقالت: إِنَّ لِي جَارَتيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: {إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا} [رواه البخاري]
واعلم أخي المسلم : إن الهدية ليست فقط للجار الفقير المحتاج، بل الهدية أشمل من هذا، فقد أهدي للنبي () مع أنه لو أراد المزيد من الرزق لدعا الله فأعطاه ما شاء من متاع الدنيا، بل كان يهدي للناس ويقبل الهدية
فهذه هي السنة في العطية للجار، وعدم منع المعروف عنه، وإلا صار خصما له يوم القيامة عند الملك العدل سبحانه.
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد أتى علينا زمان وما أحد أحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثم الآن الدنيا والدرهم أحبّ إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله () يقول: {كم من جارمتعلّق بجاره يوم القيامة يقول: ياربّ، هذا أغلق بابه دوني، فمنع معروفه} [أخرجه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني] 
ثالثا: محبّة الخير له كما يحبها العبد لنفسه وعدم حسده:ــ
 فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ () قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ قَالَ: لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» [أخرجه مسلم]
 رابعا: مساعدته ماديًا فيما يحتاج إليه :ــ
 فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ () قَالَ: {لا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ»، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ للناس لما رأى من تقصيرهم في حقوق جيرانهم: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ؟!وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ} [رواه مسلم]
ولقد ضرب أصحاب رسول الله () أروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم، حتى استحقوا إطراء النبي لهم وثناءه عليهم، فقَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» (متفق عليه)
خامسا: الحفاظ على عوراته وعدم خيانته في أهله :ــ
 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ () قَالَ: {لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ} [رواه مسلم]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر قَالَ: سألت رَسُولُ اللَّهِ (): أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَر؟ قَالَ: {أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ. قُلْت: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ» قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [رواه البخاري]
فلقد كان العرب في الجاهلية يعظمون حق الجار، ويحترمون الجوار، ويعتزون بثناء الجار عليهم، ويفخرون بذلك، وكان منهم من يحفظ عورات جاره ولا ينتهكها.
وقد قال عنترة بن شداد في ذلك شعراً:

وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها

سادسا: تفقد أحواله، ومواساته عند حاجته:ـ 
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال (): (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): {أوّل خصمين يوم القيامة جاران}
سابعا: حق الشفعة :ــ 
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ () أَنَّهُ قَالَ :{مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي حَائِطٍ فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ عَلَيْهِ} [رواه أحمد].
أي لا يَبِعْ حقّه في الشِّرْكة أو حقّه في البيت إذا كان له جارٌ حتى يستأذن جارهُ أو شريكه وهذا لَعَمْري لَمِن أدقّ الحقوق التي بيّنها النبي ()
ثامنا: احتمال أذاه:ــ 
من ابتلي بجار يؤذيه فعليه بالصبر، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ()  يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: «اذْهَبْ فَاصْبِر، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا فَقَالَ: اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ، فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ» [رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح]
معنى ذلك أنّ الإنسان يعيشُ بِسُمعته، ويعيشُ بِكَرامته، يعيشُ بِثَناء الناس عليه فحينما بالغ هذا الجار بالإساءة إلى جاره، 
فالنبي عليه () أهْدَرَ كرامته، لأن هذا لا كرامة له، ولا غيبة له، فاُذْكر ما يفعلهُ لِيَحذر الناس منه
يقول الإمام الغزَّالي رحمه الله كما في "الإحياء" واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى، فإن الجار أيضًا قد كف أذاه، فليس في ذلك قضاء حقه، ولا يكفي احتمال الأذى، بل لا بد من الرِّفق، وإسداء الخير والمعروف
يُروى أن رجلاً جاء إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فقال له: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني، ويُضيِّق علي، فقال: اذهب، فإن هو عصى الله فيك، فأطِع الله فيه.
وهناك فضل آخر، وهو أن يغضي عن هَفواته، ويتلقى بالصفح كثيرًا من زَلاَّته وإساءاته، ولا سيما إساءة صدرت عن غير قصد، أو إساءة ندِم عليها وجاء معتذرًا منها. فاحتمال أذى الجار وترك مقابلته بالمثل من أرفع الأخلاق وأعلى الشِّيم.
لهذا معاشر المسلمين فإننا مأمورون بتحرّي حقوق جيراننا والقيام بها؛ لننال الفضل في الدنيا، وننجو من المؤاخذة في الآخرة.

العنصر السادس : أثر الاهتمام بحقوق الجار على المجتمع المسلم:ـ
لا شك أن لأداء حقوق الجار وحسن الجيرة أثر بالغ في المجتمع وحياة الناس، فهو يزيد التراحم والتعاطف، و سبيل للتآلف والتواد ، به يحصل تبادل المنافع وقضاء المصالح واستقرار الأمن، واطمئنان النفوس، وسلامة الصدور، فتطيب الحياة ويهنأ المرء بالعيش فيها. فلو أحسن كل جار إلى جاره لظللت المجتمعات السعادة ولعاشت كأنها أسرة واحدة فتنصرف الهمم إلى الإصلاح والبناء والسعي نحو الرقى والتقدم..
ويتضح مما سبق البعد الإنساني للدين الإسلامي الذي يحرص على تحقيق روح المودة بين المسلمين بسبل شتى بالترغيب في مرضاة الله عزوجل والترهيب عن سوء العاقبة لمن يتجرأ على عصيان الخالق والإفساد في الأرض وهو مأمور بعمارتها، هذه العمارة التي لا تتصور مع وجود النفور بين الناس عامة وبين الجيران خاصة، فالمسلم إذا صان حقوق جاره وترفق به كسب ثواب الدنيا والآخرة .
العنصر السابع : نماذج مضيئة من حياة السلف في معاملة الجيران :ـ 
ما أحوجنا لأن نري القدوة العملية أمامنا في معاملة الجار حتي نتأسي بها في حياتنا وهذه بعض النماذج المضيئة في الإحسان إلي الجار والصبرعليه منها:ـ 
جوار الإمام مالك ابن دينار :
 يُروى أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى كان له جار يهودي، فحول اليهودي مستحمه إلى جدار البيت الذي فيه مالك، وكان الجدار متهدِّمًا، فكانت تدخل منه النجاسة، ومالك ينظف البيت كلَّ يوم، ولم يقل شيئًا، وأقام على ذلك مدة وهو صابر على الأذى، فضاق صدر اليهودي من كثرة صبره على هذه المشقة، فقال له: يا مالك، آذيتك كثيرًا وأنت صابر، ولم تُخبرني، فقال مالك: قال رسول الله () : (ما زال جبريل يوصيني بالجار؛ حتى ظننت أنه سيُورِّثه)، فندِم اليهودي وأسلم. 
جوار الإمام عبدالله ابن المبارك :ـ 
كان للإمام عبد الله بن المبارك جارٌ يهودي؛ فأراد أن يبيعَ داره, فقيل له: بكم تبيع ؟ قال بألفين؛ فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفاً؛ قال: صدقتم؛ ولكنْ ألفٌ للدار, وألفٌ لجوار عبد الله بن المبارك؛ فأُخبر ابنُ المبارك بذلك, فدعاهُ فأعطاه ثمن داره وقال: لا تبعها .
جوار الإمام أبو حنيفة :ـ
كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دبّ الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول:ـ
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ليوم كريهـةٍ وسـداد ثغـر

فلا يزال يشرب ويردّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، وأبو حنيفة كان يصلّي الليل كلّه، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس، فصلّى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبًا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففُعل، ولم يزل الأمير يوسّع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار إسكاف، أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم وكلّ من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبو حنيفة، والإسكافي يمشي وراءه، فلمّا نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحقّ، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان.
جوار أحد الصالحين :ـ 
شكا بعضهم كثرة الفأر في داره، فقيل له: لو اقتنيت هرًّا، فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوتَ الهر، فيهرب إلى دور الجيران، فأكون قد أحببت لهم ما لا أحبّ لنفسي.
الخاتمة :ـ 
عباد الله : إن الديارَ لا تقاس على الحقيقة بجميلِ بنيانها, وإنما تغلو وترخص بجيرانها، فعلى المسلم إن أراد أن يسكن بيتاً أنْ يجتهدَ وسعه في اختيار جيرانه, فإنَّ بهم صلاحَ السكنى وفسادَها ؛ وقد قيل :اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم لا تصلح الدارُ حتى يصلحَ الجارُ
وإذا ابتُليتَ بجارٍ مؤذٍ  فاصبر على ما بُليت به حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فإنَّ من حسن الجوار الصبر على أذى الجار، حتى قال الحسن البصري:« ليس حسنُ الجوار كفّ الأذى, حسن الجوار الصبر على الأذى ».
وقال الحسن البصري أيضا: « إلى جنْبِ كلِّ مؤمنٍ منافقٌ يؤذيه » فلا تقابل الإساءةَ بالإساءة, بل اصبر على ذلك؛ فإن الله ناصرُك .
قال (): "واعلم أن النصر مع الصبر "
أيها المسلمون :ــ 
إن من أعظمِ التوفيق وأسبابِ السعادة أن يُحسَن المرء إلى جيرانه ويُحسنوا إليه؛ وأن يبذلَ جهده في ذلك، وأن يبسطَ إليهم معروفه ويحفظَ جوارهم غاية الحفظ وبما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ فإن حفْظَ الجوار من كمال الإيمان؛ والموفق من وفقه الله تعالى
ومن أجل ذلك فقد قال النبي (): « تعوذوا بالله من جار السوء في دار المقام فإنَّ جار البادية يتحول عنك ».
 وقال () أيضا (أعوذ بك من يوم السوء ، ومن ليلة السوء ، ومن ساعة السوء ، ومن صاحب السوء ، ومن جار السوء)
وكان يستعيذ بالله من جار السوء ، الذي إن رأى خيراً كتمه ، وإن رأى شراً أذاعه .؛ فليتق اللهَ كل منا بكف أذاه عن جيرانه؛ ؛ وليكن كفُّ الأذى قولاً وفعلاً, ولا يستغلُّ حياءَ بعض جيرانه أو ضعفهم, وليحذرأنْ يسلِّط اللهُ عليه من لا يرحمُه, جزاءً وفاقاً بعمله السيئ
قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}[الأحزاب ].
نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين؛ وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
=======
رابط doc
رابط pdf


المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...