الاثنين، 23 سبتمبر 2019

أمانة الكلمة في الإسلام




الحمد لله رب العالمين.. من علينا بنعمة البيان وهدى إلى الجنان أو إلى دركات الجحيم والنيران،فقال تعالى ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾ (الرحمن: 1 – 4)

فنحمده تعالى علي نعمة الإسلام والبيان ونشكره أن هدانا للقرآن الكريم ونتوب إليه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ضرب المثل بالكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة فقال تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ (إبراهيم: 24- 27)
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم حذر من خطر الكلمة وبين أننا مسئولون عنها يوم القيامة فقال صلي الله عليه وسلم ( (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً من رضوان الله يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم) (رواه البخاري ومسلم)
أما بعد.. فيا أيها المؤمنون.. 
إن الله تعالى عرض علينا الأمانة بعدما عرضها علي السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فقال تعالي ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ (الأحزاب: 72)
لذلك لا بد أن نعلم أن مفهوم الأمانة في الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله، مُؤتَمَنٌ عليها؛ فهو محاسب على الأقوال، ومُؤتَمَن عليها.
إذًا – أخي المسلم – فالكلمة أمانة ومسئولية، فإمَّا أن تؤدي كلمة صادقة نافعة مفيدة، فتكتسب بها أجرًا وثوابًا، وإما كلمة سيئة، وكلمة خبيثة، وكلمة تدعو إلى باطل، وتؤيد الشرَّ والفساد؛ فتلك كلمة تُحاسَب عليها.
فاسمع إذًا فضل الكَلِم الطيِّب، قال صلي الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) أخرجه البخاري)
أخي المسلم، كم تتكلّم في حياتك بكلمات؟ هذه الكلمات ستكون عليك في دنياك وآخرتك، وسيخفُّ بها ميزان أعمالك، فأنت محاسَب على الأقوال؛ كما أنت محاسب على الأعمال؛ بل الأقوال أشدّ، فكم من مُسيطِر على نفسه في أعمال جوارحه، لكنَّه أمام لفَظَات اللسان عاجز، يُطلِق للسانه العِنان ليقول ما يشاء؛ فتعظم الأوزار والآثام.
لذلك كان حديثنا عن أمانة الكلمة ومسئوليتها في الإسلام وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية..
1ـ الوقوف مع نعمة البيان.
2ـ قيمة الكلمة في الإسلام.
3ـ جهاد الكلمة
4ـ أمانة الكلمة في الإسلام.
5ـ خطورة الكلمة.
6ـ السبيل لحفظ اللسان.
7ـ الخاتمة.
===========================
العنصر الأول: الوقوف مع نعمة البيان:ــ
نقف أمام عضوٍ خلقه الله، فجعل خلقته دليلاً على وحدانيته.. عضوٌ صغيرٌ، ولكنه جليلٌ وخطيرٌ يقود إلى الروح والريحان وعظيم درجات الجنان.. عضوٌ صغير إذا لم يتق العبد فيه ربه هوى، وضل عن سبيل ربه وغوى، إنه اللسان الذي إذا نظرت إليه حارك صنعه، ووقفت أمام بديع صنع الله في خلقته، ولئن سمعت أصواته وأنصت إلى عباراته بهرتك تلك الأصوات وتلك العبارات.
خلق الله اللسان لكل ناطقٍ من الحيوان، وجعل لكل حيوانٍ لغته، ولكل حيوانٍ منطقه، فعلم جل جلاله وتقدست أسماؤه كلمات النمل في ظلمات الليل وضياء النهار، وسمع أصواتها، وعلم لغاتها، وقضى حوائجها جل جلاله وتقدست أسماؤه. تقف أمام هذا العضو الصغير، فيستهويك ما فيه من دلائل عظمة الله وشواهد وحدانيته، فلئن أصبحت وسمعت أصوات الطيور، فقل: سبحان الله! ولكل حيوانٍ لغته، ولكل مخلوقٍ عبارته ولهجته، ومع هذا كله لا يختلف عليه صوت من صوت، ولا تشكل عليه عبارة من عبارة، فكلها وسعها سمع الله، وكلها في علم الله عز وجل!
أيها الأحبة في الله: 
يقف الإنسان حائراً أمام هذا اللسان الذي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه المبين أنه دليلٌ على وحدانية الله رب العالمين، آية آية..
وما أكثرها! يقول جل جلاله في كتابه محركاً القلوب للتفكر والاعتبار بهذه الآية من آياته: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ (الروم: 22) وقال تعالى ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ (البلد: 8 – 10)
ومن آياته التي دلت على وحدانيته وعظمته وألوهيته وربوبيته اختلاف ألسنتكم وألوانكم، خلق الإنسان، وجعل له هذا اللسان لكي يعبر عما في القلب من أشجانٍ وأحزانٍ، لكي يعبر عما في الجنان من أفراح وأتراح..
خلق هذا اللسان وخلق صاحبه على صفاتٍ لا يعلمها إلا هو جل جلاله.
نثر الناس من بني آدم في مشارق الأرض ومغاربها، وجعل لكل قومٍ لسانهم، ولكل أمة لهجتهم، فوقف أمام تلك اللهجات وتلك اللغات علماء اللغات فحيرتهم، ووقفوا أمامها حيارى من عظيم صنع الله جل جلاله!
حتى إن اللغة الواحدة كلغة العرب – مثلاً- كم فيها من لهجات.. قد تفرقت قبائلهم، فأصبحت لكل قبيلةٍ لهجتها، يشب عليها الصغير ويشيب عليها الكبير، فلا إله إلا الله العليم الخبير!
هذا اللسان ما خلقه الله عبثاً.
هذا اللسان أمره عظيمٌ عند الله الواحد الديان! إنه طريقٌ إلى روح وريحان، أو إلى دركات الجحيم والنيران.
هذا اللسان الذي إذا استقام لله جل وعلا استقامت من بعده جوارح الإنسان.
هذا اللسان الذي إذا حركه قلبٌ يخاف الله ويخشاه لم تسمع منه إلا طيباً.
هذا اللسان الذي إذا أُطلق له العنان هوى صاحبه في دركات الجحيم والنيران.
ولقد وصَّى الله جل وعلا عباده المؤمنين بأن يتقوه -سبحانه وتعالى- في هذا العضو، وأن ينظر الإنسان إلى نعمة الله جل وعلا يوم أنطقه، فيستحي من الله أن يسمع منه كلمةً لا ترضيه، ويستحي يوم ينظر إلى الأخرس الذي لا يستطيع أن يعبر عن أشجانه وأحزانه، بينما تفضل الله عليه وأكرمه فأنطق لسانه وأفصح بيانه، فيستحي الإنسان من الله جل وعلا يتقي الله في اللسان.
ولذلك وصَّى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتقوه فيما تنطق به الألسنة فقال جل وعلا في كتابه المبين آمراً عباده المؤمنين، وواعداً لهم بعظيم ما يكون من الخير في الدنيا والآخرة إذا اتقوا الله في اللسان: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾(الأحزاب: 70، 71)
من اتقى الله في لسانه، فإن الله وعده أن يصلح حاله، وأن يحسن عاقبته ومآله، وأنه يفوز فوزاً عظيماً.
العنصر الثاني: قيمة الكلمة:ـ
الكلمة خفيفة على اللسان، سهلة النطق والجريان، ولكن لها قيمة في نظر العقلاء وفي نظر الشارع الحكيم.
أما عند العقلاء: فيقول أكثم بن صيفي: (رب قول أشد من صول)
ويقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: «من كثر كلامه كثر سقطه» وحسبك به حاكماً ودليلاً – فإننا نجد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة نصوصاً كثيرة تُؤكّد على قيمة الكلمة وتُنوّه بشأنها وعظيم خطرها.
ومن ذلك قول الله عز وجل: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (ق: 18)
وقال تعالي: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ (النور: 24، 25)
والكلمة في الإسلام ليست حركات يؤديها المرء دون شعور يتبعها بل إن الانضباط في الكلمة سمة من سمات المؤمنين الصادقين، وصدق الله تعالى إذ يقول: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ﴾ (المؤمنون: 1 – 3)
ويظهر لنا قيمة الكلمة من خلال هذه النقاط:-
1ـ أن الكلمة وسيلة البيان.
2ـ إنها وسيلة للإثبات والاعتراف: فحينما يريد الإنسان أن يثبت شيئاً مادياً أو معنوياً فهو بحاجة إلى الكلمة.
3ـ أنها وسيلة للنفي والإنكار:

• فإذا نُسب إلى الإنسان شيء ولم يعترف به، فوسيلته للنفي الحقيقي هي الكلمة.
• وإذا أراد تغيير المنكر وإزالته، فوسيلته القريبة والميسرة هي الكلمة أو القول.
قال الله عز وجل: ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ (المائدة: 78، 79)
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ). رواه مسلم).
4ـ الكلمة هي البريد إلى القلب والعقل، وسبيل الوصول إلى الإقناع والتفاهم.
فالكلام أسيرك.. فإذا خرج من فيك صرت أنت أسيره..
وإذا أردت أن تستدل على مافي القلب فاستدل عليه بحركة اللسان فانه يطلعك على مافي القلب شاء صاحبه أم آبى..
قال يحي بن معاذ: ” القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها فانظر إلى الرجل حين يتكلم فان لسانه يغترف لك مما في قلبه حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك ويبين لك طعم قلبه اغتراف لسانه “…
5ـ الكلمة السبيل لإعلاء كلمة الحق وهي السبيل لرد الباطل.
6ـ الكلمة السبيل لكسب القلوب.
7ـ الكلمة هي السبيل للدفاع عن النفس.

العنصر الثالث: جهاد الكلمة:ــ
إن الحرب الآن حربٌ كلامية؛ مقروءة، ومسموعة، ومرئية، ومرسومة، فواجب على أهل الحق بعدما تحرك أهل الباطل لباطلهم أن يتحركوا جميعاً لدين الله جل وعلا، إن الكلمة الصادقة هي السيف الذي يُجاهد به المسلم، فبها تقوم الحجة، وبها يرتّد الباطل على أدباره منهزماً، وبها تنجذب القلوب، وبها يرضى العاقل.
ومتى أحيطت الكلمة بسياج العقل والشرع فإنها تفعل فعل السحر، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن من البيان لسحراً) (رواه البخاري في صحيحه)
ولكي تؤتي الكلمة ثمرتها لابد أن تكون سامية وصادقة تخرج من القلب، وتوضع من مكانها المناسب كما أن الطبيب يضع الدواء حيث يجد الداء، وأن تكون رقيقة قال الله عز وجل لنبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام حينما أرسلهما إلى فرعون: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ (طه: 43، 44)
وامتن الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم باللين، فجعله خلقاً فيه، قال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ (آل عمران: 159)
فإذا كانت الكلمة لينة رقيقة ورافقها لين في التعامل، فإنها تلامس الوجدان وتهزّ المشاعر، وتنفذ إلى القلب والعقل.
ومن ذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فانتهره الناس فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – دعوه، ثم دعا بذنوب من ماء وأهريق على بوله، ثم دعا الأعرابي فعلمه برفق، قال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليّ بأبي وأمي فلم يُؤنّب ولم يسبّ فقال: (إنَّ هذا المسجد لا يُبال فيه وإنما بني لذكر الله وللصلاة)
فلا حجْر على سعة رحمة الله، فكم من بلد فُتحت بالقرآن، وما فُتحت المدينة المنورة ودول جنوب شرق آسيا، وكثير من دول إفريقيا.. إلاَّ بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، وقد أسلم معظم أهل المدينة على يد مصعب بن عمير المقرئ رضي الله عنه، ثم كانت بيعة العقبة المباركة، وتبعها هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام للمدينة التي فتحت قلبها قبل أبوابها لدين الله.
وقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يربي الرجال الذين أسلموا تربية خاصة في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم في نشر دعوة التوحيد وتربية الناس على معاني الإيمان في مكة من أعلى صور الجهاد في سبيل الله، ونزل بشأنها: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ )العنكبوت: 69)
ولم يكن يومئذ جهاد بالسيف، وقد قام الأفاضل بهذا الجهاد خير قيام وصدعوا بكلمة الحق غير هيابين لما أصابهم في سبيل الله.
فبعد ما أسلم أبو ذر رضي الله عنه قام يُعلن إسلامه وينطق بالشهادتين، فانهال المشركون عليه ضربًا.
وكذلك قام ابن مسعود رضي الله عنه يتلو على المشركين آيات من كتاب الله، فكادوا يقتلونه، ولما تخوف عليه أصحابه، قال: لو شئتم لعاجلتهم بها من الغد.
وكان بلال رضي الله عنه يردد: «أحد أحد» وهم يخرجون به في رمضاء مكة ويضعون عليه كتل الصخر في حر الظهيرة.
وقُتلت سُميّة وزوجها ياسر وابنها عمار لنطقهم بهذه الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
وكان خباب بن الأرت من أوائل من أسلم، وكانت سيدته أم تميم تسخن كتل الحديد حتى تحمر، ثم تضعها على رأسه حتّى يتلوى من الألم رجاء أن يكفر، ولما ذهب يومًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ والنبي متوسد بردة في ظل الكعبة، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: (كان من منكم من قبل، كان يؤتى بالرجل ويُحفر له في الأرض، ويُؤتى بالمنشار، فيوضع فوق رأسه ما يصرفه ذلك عن دينه أبدًا، وكان يمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه أبدًا، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه)
كل هذا وغيره يدل دلالة قاطعة على أنّ جهاد الكلمة قد يكلف الكثير من التضحيات.
ومن صور الجهاد بالكلمة:ـ
• جهاد غلام أصحاب الأخدود مع الطاغية الظالم واستدراجه لأن يقول: بسم الله رب الغلام، ووقوع السهم في صدغ الغلام ونطق الناس جميعًا: (آمنّا بالله رب الغلام) ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ (البروج: 8)
• جهاد مؤمن آل فرعون: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ (غافر: 28، 29]، ومحاولتهم قتله ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ (غافر: 45)
• جهاد مؤمن آل يس ودعوته لقومه:ــ وهي من أروع صور جهاد الكلمة عندما قال لقومه: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ (يس: 20 – 27)، أخذوه فقتلوه، فنصحهم ميتًا كما نصحهم حيًا.
ومازال العلماء والدعاة إلى الله يُقتَلون ويُعَذَّبون ويُسجنون ويُشردون لنفس التهمة، وهي تهمة تعبيد الدنيا بدين الله، إنها نفس تهمة الأنبياء والمرسلين، حين قالوا لقومهم: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ (المؤمنون: 23). 
فقامت الدنيا ولم تقعد، واستمر دعاة الحق في ممارسة جهاد الكلمة غير وجلين ولا مبالين بما يصيبهم من أذى في سبيل هذه المهمة العظيمة، ولسان حالهم ينطق تهمة لا ننفيها وشرف لا ندّعيه، فالمهم أن يرضى عنهم ربهم، وأن يدخلهم سبحانه برحمته في عباده الصالحين، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ *وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ (إبراهيم: 13 – 15)
والكلمة في موطنها ومكانها قد تكون أوقع وأمضى من ضربات السيوف، ففي الحديث (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام فأمره ونهاهُ في ذات الله فقتله)) رواه الحاكم وصححه).
وقال صلي الله عليه وسلم «ما من نبيّ بعثه الله إلاَّ كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بهديه، ثم إنه يتخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يُؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان» رواه مسلم.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) رواه أحمد والنسائي.
فسمى النّبيُّ صلى الله عليه وسلم الدعوة وبيان الحق جهادًا.
عباد الله:ــ لقد عزّت وندرت الكلمات الطيبة التي تبنى، وكثرت الكلمات القبيحة والخبيثة التي تهدم، كلمات من سخط الله تراها في الإعلام والتعليم، في الثقافة والفن.. هي أشبه بالطوفان الذي يدمر البلاد والعباد، فلا أقل من غِيرَةٍ إذا انتهكت محارم الله، وشفقة ورحمة من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله، لابد من جهاد كبير في إبلاغ الحق للخلق لِيَهْلَكَ من هَلَكَ عن بينة ويَحْيَى من حيَّي عن بيّنة، لا تبخل بكلمة تبصر بها بتوحيد الله جل وعلا ومتابعة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، كلمة تزكو بها النفوس عساها يُنادى بها على أبواب الجنة وتقول الملائكة لأصحابها﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ (الزمر: 73)
العنصر الرابع: أمانة الكلمة:ــ
فالكلمة إذن ليست شيئاً يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا.
فالكلمة أمانة ضخمة في دين الله تعالى وأننا مسئولون بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، فليتق الله كل منا ولنعلم أن كل كلمة نتلفظ بها قد سُطِّرت علينا ﴿ عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ (طه: 52)
يقول الله جل وعلا ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ (ق: 16 – 18)
وقال جل وعلا: ﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً ﴾ الإسراء. وقال تعالى ﴿ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾ (الانفطار: 10، 11)
وقال جل وعلا: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً ﴾ (الإسراء: 36)
ولعظم الأمانة أوصي النبي صلي الله عليه بالحفاظ عليها فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله عليه وسلم يا معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ: أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!).رواه الترمذي.
وقال صلي الله عليه وسلم (إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة -مِنْ رضوان الله- لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم) [أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح، والترمذي في سننه، ومالك في الموطأ)
وعن سهل بن سعد الساعدي (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة ) )رواه البخاري.)
ولعظم أمانة الكلمة بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها من صفات المسلم الحق فقال صلي الله عليه وسلم “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” متفق عليه.
ولمجرد إشارة من أمنا السيدة عائشة أم المؤمنين، ذكرت فيها أختها صفية ضرتها، قالت: (قصيرة فقط، ما قالت فوق ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة، لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته) رواه أبو داود.
واعتبر الإسلام الكلمة الزور من أكبر الكبائر لأن خطرها عظيم فقال صلي الله عليه وسلم”ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله وعقوق الوالدين، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور) رواه البخاري.
ويأتي الإنسان مفلس يوم القيامة بسبب كلامه فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم (أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المفلس الذي لا درهم له ولا دينار، قال: لا، المفلس من أتى بصلاة، وصيام –ونحن في الصيام- وصدقة، يأتي وقد شتم هذا، وسب هذا، وأخذ مال هذا، وضرب هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، طرحوا عليه سيئاتهم، حتى يُطرح في النار)) رواه مسلم والترمذي).
ولقد حاسب الله تعالى المؤمنين حنين لمجرد كلمة قيلت ماذا قالوا؟. كلمة قالوا؛ صحابة كرام، وفيهم النبي العظيم، وجاهدوا معه في بدر، وأحد، والخندق، وبذلوا أموالهم، ودماءهم في سبيل الله، وجاهدوا في الله حق جهاده، وهم نخبة المجتمعات البشرية، ومع كل هذه الميزات، قالوا كلمة. قال: لن نغلب من قلة. نحن كثر. قال: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾(التوبة: 25)
ونهي عن الثرثرة في الكلام والتكلم فيما لا يعني فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال).رواه البخاري).
وقال تعالى ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ ( الإسراء:35)
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الزور ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعا فرب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فأعنته.
وقال الإِمامُ الشافعيُّ رحمه اللّه لصاحبه الرَّبِيع: يا ربيعُ! لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلَّمتَ بالكلمة ملكتكَ ولم تملكها. ودخلوا على أبي دجانة رضي الله عنه وهو مريض فكان وجهه يتهلل فقيل له: ما بال وجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وكان قلبي للمسلمين سليما ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ (فصلت: 35)
فبكلمة تُشْعَل نار الفتن والحروب فالحرب أولها كلام! وبكلمة خُرِّبت البيوت، وتألمت القلوب، وبكت العيون!
بكلمة سُطِّرت في تقريرٍ أسود مِن رجل لا يتقي الله ولا يعبد إلا كرسياً زائلاً ولا يعبد إلا منصباً فانياً خُرِّبت البيوت، وجُرِّحت القلوب، وبكت العيون، وتألمت النفوس!
وبكلمة فُرِّق بين زوجين، وبكلمة فُرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الوالد وولده، وبين الولد ووالده!
كل ذلك بسبب كلمة أيها الكرام.
ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه؟!!
العنصر الخامس: خطورة الكلمة:-
فالكلمة سلاح خطير، وهي سلاحٌ ذو حدَّين، إما أن يؤدي إلى البناء والإعمار، وإما أن يؤدي إلى الهدم والخراب؛ ذلك لأن الكلمة هي التي تشكِّل التصوُّر، وتوجِّه الفكر، وتحرِّك الوجدان، ومن ثمَّ تحدِّد الموقفَ وتدفع إلى السلوك، فإن كانت الكلمة صادقةً أمينةً صالحةً أدَّت إلى الخير والبناء، وإن كانت كاذبةً باطلةً فاسدةً قادت إلى الشرِّ والدمار.
فهذه بعض الأمثلة علي خطورة الكلمة من القرآن الكريم:
* حديث الإفك:ـ
إذا أردتَ أن تتعرف على خطورة الكلمة بحق فاعلم أنه بسبب كلمات قليلة كاذبة طيَّرها رأس النفاق (ابن سلول)، وتلقفتها أبواق الدعاية، وعصابات الإرجاف والنفاق، تطايرت هذه الكلمات لتنال من أشرف وأطهر عرض، ألا وهو عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ففي الصحيحين من حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يخرج في سفر أقرع بين نسائه، فأيتهن وقع سهمها خرجت معه)، وفي غزوة بني المصطلق ضرب النبي القرعة بين نسائه فوقع السهم على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فخرجت عائشة مع الحبيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
تقول عائشة: (وكنت أُحْمَل في هودجي، وأُنْزَل فيه، وكان هذا بعد نزول آية الحجاب ). والهودج هو: محملٌ أو رحلٌ يوضع على ظهر البعير لتركب فيه المرأة؛ ليكون ستراً لها، فكانت عائشة بعد نزول الحجاب تركب في هذا الهودج، ويُنْزَل هذا الهودج وهي فيه.
فلما انتهى رسول الله من غزوِه وقَفَل أي: عاد، وقرب من المدينة، وقف الجيش في مكان، وأرادت هذه الزهرة التي نشأت في بستان الحياء أن تقضي حاجتها، فانطلقت عائشة بعيداً عن أعين الجيش لقضاء حاجتها، فلما عادت إلى هودجها ومكانها التمست صدرها فلم تجد عقدها، فعادت لتبحث عن عقدها في موضع قضاء شأنها، فأخرها البحث، فعادت مرة أخرى فلم تجد بموضع الجيش من داعٍ ولا مجيب! فجلست عائشة رضي الله عنها في موضعها، فغلبتها عينها فنامت، وهي تعتقد أن القوم إذا فقدوها سيرجعون إليها مرةً أخرى، وكان من وراء الجيش صفوان بن المعطل السلمي رضوان الله عليه، فاقترب صفوان فرأى سواد إنسان نائم، فعرفها فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون)؛ عائشة وقد كان يراها قبل نزول آية الحجاب.
تقول عائشة: (فاستيقظتُ من نومي على استرجاعه -أي: على قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ راحلته فركبتُها، ووالله! ما سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، ثم انطلق يقود بي الراحلة، فأدركنا الجيش وقد نزلوا موغلين في نحر الظهيرة أي: في وقت شدة الحر فهلك في شأني مَن هلك، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول.
وفي بعض الروايات في غير الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: عائشة. قال: ومن هذا؟ قالوا: صفوان. فقال الخبيث المجرم وما أكثرهم اليوم زوج نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقودها؟!
والله! ما نجت منه، وما نجا منها! فقال قولة عفنة خبيثة شريرة، وتلقفت هذه الكلمات أبواق الدعاية وعصابات الإرجاف والنفاق، وانطلق المنافقون والمرجفون يرددون هذه الكلمات؛ لتنال من عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. رُحماك.. رحماك يا ألله! رسول الله يُتَّهم في عرضه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين؟! رسول الله يُتَّهم في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته؟!
وهاهي عائشة رضوان الله عليها تلكم الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام، وسُقيت بمداد الوحي على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تُرمى في أشرف وأعز ما تعتز به كل فتاة شريفة..
وهذا هو صديق الأمة الأكبر، ذلكم الرجل الرقيق الوديع الحليم الذي بذل ماله وروحه، بل وبذل أولاده لدين الله؛ يُتَّهم بهذا الاتهام الخطير المريب إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه..
وهذا هو صفوان بن المعطل يُتَّهم في عقيدته وفي دينه يوم أن يُرمى بخيانة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم!
تقول عائشة رضوان الله عليها: (فلما عدنا إلى المدينة مرضت شهراً كاملاً، وأنا لا أعلم شيئاً عن قول أهل الإفك، إلا أنه يريبني أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنتُ أرى حينما أشتكي، بل كان يدخل رسول الله عليّ ويقول: (كيف تيكم؟! ثم ينصرف) فخرجت ذات يوم لقضاء حاجتها مع أم مسطح، فأخبرتها بقول أهل الإفك، فازدادت مرضاً على مرضها، فعاد إليها الرسول يوماً فقالت: أتأذن لي يا رسول الله أن أذهب إلى أبَوَي؟ تقول: وأنا أريد أن أتحقق الخبر من قبلهما، فأذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد ذلك ذهب رسول الله صلي الله عليه وسلم يوماً لزيارة عائشة، فسلم وجلس إلى جوارها، وكانت امرأةٌ من الأنصار قد جلست إلى جوارها تبكي لبكائها، فتشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم نظر إلى عائشة وقال: (يا عائشة! إنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله عزَّ وجل، وإن كنتِ قد ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله تاب الله عليه)
لا إله إلا الله! كلمات تهدهد الحجارة، وتفتت الكبد! عائشة تسمع هذا من رسولها ومن حبيبها وزوجها صلى الله عليه وآله وسلم!
فلما سمعت عائشة هذه الكلمات جف الدمع في مقلتيها، ونظرت إلى أبيها صديق الأمة الأكبر وهي تريد أن يرد أبوها عنها هذا الاتهام، وهذه الكلمات المزلزلة فقالت: (يا أبت! أجب عني رسول الله، فنظر إليها الصديق الذي هدهد الألم قلبه، وعصر الإفك فؤاده- نظر إليها نظرة استعطاف وهو يقول: (والله! يا ابنتي! ما أجد ما أقوله لرسول الله) فنظرت البنت المسكينة إلى أمها وقالت: (يا أماه! أجيبي عني رسول الله) فقالت الأم المسكينة -التي عصر الألم كبدها وفؤادها (والله! يا بنيتي! ما أجد ما أقول لرسول الله) فبكت عائشة رضي الله عنها، وقالت: والله! ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ (يوسف: 18)
واضطجعت في فراشها وهي تقول: والله! إني لَبريئة، وإن الله مبرئي ببراءة؛ ولكني ما ظننتُ أن يُنزل الله في شأني وحياً يُتلى، فلَشأني في نفسي كان أحقر من أن يُنزل الله فيَّ قرآناً يُتلى؛ ولكني كنتُ أرجو أن يرى رسول الله رؤيا في نومه يبرِّئني الله فيها، فوالله! ما رام رسول الله مجلسه؛ وإذا بالوحي يتنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الوحي إذا نزل عليه عرف الناس منه ذلك من شدة ما يتنزَّل عليه، وصمتت الألسنة، وتوقفت الكلمات، وتعلقت الأبصار برسول الله، وانتهى الوحي، وسُرِّي عن الحبيب، فسُرِّي عنه وهو يضحك، فالتفت إلى عائشة وهو يقول: (يا عائشة! أبشري، فلقد برأك الله من فوق سبع سماوات، فقامت أمها في فرح وسعادة وسرور وقالت لابنتها: (قومي يا عائشة! أي: قومي إلى رسول الله فاحمدي، واشكري رسول الله، فقالت عائشة: لا، والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد رسول الله، بل لا أحمد إلا الله عزَّ وجل الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات..)
وتلا النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ (النور: 11 – 20)
وهذا مثال آخر من القرآن الكريم يبين مدي خطورة الكلمة حديث شاس ابن قيس مع الأوس والخزرج:ـ
مر شاس بن قيس اليهودي وكان شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعتهم، وألفتهم، وصلاح ذات بينهم، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم بعاث وما كان فيه، وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، ففعل فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا وغضب الفريقان جميعا وقالوا موعدكم الظاهرة، فخرجوا إليها فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال: “يا معشر المسلمين، أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا الله الله ” فعرف القوم أنه كيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا. بسبب كلمة أوشكت أن تنشب الحرب بينهم. فنزل قول الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ (آل عمران: 100-101)
العنصر السادس: السبيل لحفظ اللسان:ــ
1ـ تذكر الآخرة كان السلف رحمهم الله يحفظون الألسنة بكثرة ذكر الموت والآخرة، وكان الواحد منهم يعد كلماته خلال الأسبوع كله من الجمعة إلى الجمعة- ليعرف عدد الكلمات التي تكلم بها؛ من خوف الله جل وعلا، وكثرة الاستشعار لهيبة الموقف بين يدي الله الواحد القهار.
2ـ الابتعاد عن مجالس السوء والانشغال بالطاعة فالنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
3ـ محاسبة النفس والوقوف معها كان سيدنا أبو بكر يؤدب لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد.
الخاتمة :ــ
أيها المسلمون: إن الكلمة سلاح ذو حدين.. فاجعلها كلمة طيبة تنال بها الأجر العظيم في الدنيا والآخرة.
إن الكلمة الطيبة تؤلف القلوب وتصلح النفوس وتذهب الحزن وتزيل الغضب وتشعر بالرضا والسعادة لا سيما إذا رافقتها ابتسامة صادقة (تبسمك في وجه أخيك صدقة(
• بالكلمة الطيبة نصلح بين الناس ونعدل بينهم بشهادة الحق وندفع الظلم بالعدل والسوء بالإحسان قال تعالى: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾) فصلت:34-35(
• بالكلمة الطيبة نفسد مخططات الشيطان في التحريش بيننا وبين إخوتنا امتثالا لأمر الحق عز وجل: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ (الإسراء: 53)
• بالكلمة الطيبة نقدم النصح للآخرين، فنهدي بإذن الله ضالاً، ونعلم جاهلاً، ونرشد تائهاً، ونذكر غافلاً (الدين النصيحة)
• بالكلمة الطيبة نتصدق على أنفسنا (الكلمة الطيبة صدقة ) ونحسن للفقراء والمساكين ﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ﴾ (البقرة: 263)
• بالكلمة الطيبة نبذل شفاعة حسنة ونبلغ أمانة وننفس كربة ونواسي مكلوما ونخفف عن مريض..
• بالكلمة الطيبة نقدم رأياً صائبا ونقترح فكرة حسنة تنهض بأمتنا وترقى بمستوى شبابنا.
فاللهم احفظ ألسنتنا من الكذب والنفاق والرياء وسوء الأخلاق وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن . آمين يا رب العالمين

تمت بفضل الله وتوفيقه
=============

الشائعات وخطرها علي الفرد والمجتمع




الحمد لله رب العالمين .. ضرب المثل بالكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة فقال تعالي (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)) إبراهيم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير…جعل صلاح الحال والبال في صلاح اللسان فقال تعالي }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71) { الأحزاب .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ……حذر من خطر الكلمة وبين أننا مسئولون عنها يوم القيامة ، فقال صلي الله عليه وسلم }إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً من رضوان الله يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوى بها في جهنم{(رواه البخاري ومسلم).
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعــــد .. فيا أيها المؤمنون ..
منذ أن خلق الله الخليقة وُجد الصراع بين الحق والباطل ، والخير والشر ، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حرباً سافرة مستترة تتوالد وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة وأقوى فتكا؛ لأنها تستهدف الإنسان من حيث دينه وقيمه ونمائه، أتدرون ما هي هذه الحرب القذرة؟!”إنها حرب الشائعات”.
لذلك كان حديثنا عن} الشائعات وخطرها علي الفرد والمجتمع وموقف المسلم منها{وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1 ـ أمانة الكلمة . 
2ـ حقيقة 
الشائعات والهدف منها . 
3ـ أسباب انتشار الشائعات وداوفعها.
4ـ خطر الشائعات علي الفرد والمجتمع. 
5ـ موقف المسلم من الشائعات .
6ـ حكم الإسلام في الشائعة ومروّجها.
7ـ الخاتمة.
العنصر الأول :ـ أمانة الكلمة:ـ
إن الله تعالي عرض علينا الأمانة بعدما عرضها علي السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها فقال تعالي{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً(72)}الأحزاب. 
لذلك لابد أن نعلم أن مفهوم الأمانة في الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله، مُؤتَمَنٌ عليها؛ فهو محاسب على الأقوال، ومُؤتَمَن عليها.
والمتأمل في آيات القرآن الكريم، وأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، يلحظ تركيزاً واضحاً واهتماماً بالغاً بمسؤولية الكلمة وأمانة النطق، فالرقابة دقيقة:} وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18){ ق .
وقال جل وعلا: }وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً(14){ الإسراء.
فالمسؤولية شاملة حيث قال تعالي }إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(36){[الإسراء].
فالكلمة في حس المسلم ليست عبثاً فارغاً، ولا لغواً آثماً حيث جعل الله تعالي مراعاة الكلمة والحفاظ عليها من أخص خصائص المجتمع الإيماني الذين يرثون الفردوس في الجنة حيث قال تعالي }قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)………………………. أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11){[المؤمنون]
ولعظم الكلمة أوصي النبي صلي الله عليه بالحفاظ عليها فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال رسول الله عليه وسلم يا معاذ: (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ : أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!).رواه الترمذي .
وقال صلي الله عليه وسلم (إِنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة مِنْ رضوان الله لا يُلْقِي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة, وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً، يهوي بها في جهنم)) [أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح, والترمذي في سننه, ومالك في الموطأ] 
فالكلمة إذن ليست شيئاً يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا. فالكلمة أمانة ضخمة في دين الله تعالي وأننا مسئولون بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، فليتق الله كل منا ولنعلم أن كل كلمة نتلفظ بها قد سُطِّرت علينا }عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ۖ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52){ [طه]. 
وقال تعالي }إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10) كِرَامًا كَاتِبِينَ(11){ [الانفطار].
العنصر الثاني : حقيقة الشائعات والهدف منها :ـ 
الإشاعات : جمع إشاعة, والإشاعة في اللغة: أصلها من الشيوع والانتشار, ثم استعملت فى الأخبار التى تنتشر من غير تثبت (المعجم الوسيط). 
وفي الاصطلاح: النبأ الهادف الذي يكون مصدره مجهولاً. 
والشائعة هي: الأفكار التي يتناقلها الناس دون أن تكون مستندة إلى مصدر موثوق به يشهد بصحتها. 
والشائعة : هي الترويج لخبر مختلق لا أساس له من الواقع، أو هي المبالغة في سرد خبر يحتوي على جزء ضئيل من الحقيقة. 
وهي سريعة الانتشار ذات طابع استفزازي أو هادئ حسب طبيعة ذلك النبأ”.
والمقصود من الإشاعات فى الغالب الأعم: التأثير السلبى فى النفوس, والعمل على نشر الاضطراب, وعدم الثقة فى قلوب الأفراد والمجتمعات ، وخلق حالةٍ من الفوضي والبلبلة والحيرة والتشتت والقلق .
العنصر الثالث :أسباب انتشار الشائعات وداوفعها:ـ
إن انتشار الشائعة بين أفراد المجتمع له دوافع كثيرة، وهذه الدوافع قد تكون دوافع نفسية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وتتعرض الشائعة في أثناء التداول إلى التحريف والتبديل والتغيير والزيادة والنقص.
ولنذكر أهم أسباب انتشار الشائعة وهذا على سبيل المثال لا الحصر من تلك الأسباب….
السبب الأول: اتباع الهوى الهوى.
والمقصود بالهوى هوى النفس الأَمَّارة بالسوء إلا ما رحم ربي، فصاحب الهوى يعمل على نشر ما يوافق هَوَى نفسِه، ولو كان على حساب إلحاق الضرر بغيره، فهو لا يهمه إلا مصلحة نفسه فقط، وإشباع غريزته السيئة، ولا يهمه ما يحصل بعد ذلك من خطر على البشر، ولهذا أنكر الله جل وعلا على من هذا صنيعه، فقال تبارك وتعالى: } أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ (23){الجاثية].
وقال جل وعلا: } وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)26) { [ص].
فمَن يعمل على نشر الشائعة دون النظر في العواقب إنما يعمل ذلك لموافقة هوى نفسه، ولا يخفى علينا خبر هوى النفس الأَمَّارة بالسوء.
السبب الثاني: الجهل.
ونعني الجهل بعواقب الأمور، فمن أراد أن يقدم على عمل لا بد أن يكون عنده بُعْدُ نظرٍ ليعلم ما يمكن أن يُؤدِّيَ إليه هذا العمل من المفاسد؛ إذ لا يليق به أن يقتصر على فهمه القاصر، فقد يظن الإنسان أن ما ينشره من الأكاذيب والأقاويل حقائق مُسَلَّمة لا تقبل الجدل، لكن في الحقيقة هي أكاذيب مُلَفَّقة، فالجهل بعواقب الأمور من أهم دوافع انتشار الشائعات في المجتمع، وأحيانا قد يؤدي به جهله إلى أن يطلق الشائعة من باب الْمُزاح والدعابة، إن أولئك الذين يطلقون الشائعات على سبيل المزاح والدعابة لا تلبس شائعاتهم أن تتلقفها الآذان الصاغية المحبة للفساد والإفساد بين الناس، ثم سرعان ما تنتشر انتشار النار في الهشيم، تسابق الريح من هنا وهناك حتى تعم الآفاق، ومَن كانت هذه حاله وهذه مهنته ولا يتمعر وجهه من الخوض في الباطل يكون من الذين خلعوا ربقة الحياء من أعناقهم؛ لأن كل همه إثارة المشاكل وخلق القلاقل بين الناس.
السبب الثالث: النفاق:
إن النفاق سبب من أسباب الإرجاف، قال جل وعلا في الآية} لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا (60){ [الأحزاب].
والنفاق مرض القلب، وهو سبب الويلات والنكبات، فما من فتنة إلا وكان للمنافقين يد فيها، وما حادثة الإفك من ذلك ببعيد، وهي خير شاهد على ذلك، وقد وصف الله المنافقين بالعداوة للمؤمنين، ومن يرد إلحاق الأذى ونشر الفوضى فهو عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، كما قال جل وعلا عن حالهم:} هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(4){ ﴾ [المنافقون] فهم أهل إرجاف وكذب وبهتان، يُخْفُون ما لا يُبْدُون، والحقيقة أن هذه الشائعات المغرضة إنما تصدر ممن لا خلاق له.
السبب الرابع: الفراغ.
إنَّ الفراغ القاتل يؤدي بلا شك إلى ترويج الشائعات بطرق ووسائل مختلفة، ومن هذه الطرق وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت والجوال ويكون ذلك بغرض التسلية والتهكم، ولذلك شواهد كثيرة من الشائعات تنقل عن طريق البلوتوث، وتنقل عن طريق مواقع الدردشة في الإنترنت وهذه المواقع ما هي إلا ويلات على البشر، وخاصة الشباب منهم الذين جعلوها مسرحًا لآرائهم وأفكارهم الهدامة، فهم يتناقلون فيها القيل والقال، والزور والبهتان، وخدش الحياء، لا شك أن هذا سوء استخدام للفراغ الذي هو نعمة من الله جل وعلا ومِنَّة مَنَّ اللَّهُ بها على الإنسان، وكما جاء في الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:}نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ {
ولا يخفى علينا أن تجريح الآخرين ونشر معايبهم في تلك الوسائل يُعَدُّ أيضًا من الغيبة المحرمة؛ لأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، فمن ينقل هذه الأقاويل الملفقة عن طريق تلك الوسائل ويذكر معايب أخيه فهذا من الغيبة المحرمة، والله جل وعلا يقول: } وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا(12){ ﴾ [الحجرات] ويزداد خطرها وإثمها إذا تحولت هذه الغيبة إلى شائعة وانتشرت بين الناس على وجه التشهير والفضيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
السبب الخامس: الرغبة في حب الظهور.
إن حب الظهور مرض نفسي، وهو من الحيل العقلية التي يلجأ إليها ضعاف النفوس من أجل إبراز أنفسهم على حساب الآخرين، يعني يعمل الواحد منهم على إبراز نفسه بنشر هذه الشائعات وإن كان فيها ضرر على غيره نتيجة لِمَا يعانيه من الفشل في حياته العامة، مُعْتَقِدًا أن ذلك يُعوِّض ما يشعر به من نقص، ولا شك أن هذا اعتقاد غير صحيح، ومسلك باطل، فرحم الله امْرَءًا عرَف قَدْر نفسه.
السبب السادس: الشعور بالكراهية للآخرين.
إن الشعور بالكراهية للآخرين وخاصة مَن لهم نفوذ ومكانة في المجتمع سبب في زرع الشائعات ، فيعمل مُرَوِّج الشائعة على نشرها من باب الكراهية والبغضاء لذلك الإنسان ذي النفوذ حتى يسيء إلى سمعته بين الناس، وذلك لِمَا يَرَى عليه من نِعَم الله من المكانة والمنزلة، وهذا يعد من باب الحسد على هذه النعمة، فيأخذ في ترويجع الشائعات الكاذبات عنه حتى يسيء إلى سمعته، ويكون هذا أحيانا من باب الانتقام لنفسه بإلحاق الضرر بأخيه.
وخلاصة القول أن هذه الأسباب يجمعها سبب واحد، وهو ضعف الوازع الديني، فإن الإيمان متى وَقَر في قلب العبد فإنه لا يرضى بأذية لأخيه المسلم، فالإيمان يُرَبِّي صاحبه على الأخلاق الفاضلة، أما إذا خف ميزان الإيمان في قلب العبد ،فعندئذ يصبح العبد عرضة لكل ما مِن شأنه الإساءة والإفساد، ومن ذلك الإفساد والإساءة تلقف الشائعات ونشرها، فلا شك أنَّ ضعف الوازع الديني هو رأس الأمر كله في نشر هذه الشائعات الكاذبة.
العنصر الثالث : خطر الشائعات علي الفرد والمجتمع:ـ
الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرةً اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنه يجب الوقوف ضدها ، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عِماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء الشعوب والحضارات.
الإشائعات خطرها عظيم ولها آثارها السلبية على الفرد والمجتمع والأمة فكم أشعلت من حروب، وكم أهلكت من قرى، وكم أبادت من جيوش وكم أوغرت من غل وحقد في الصدور، وكم خربت من بيوت ، وكم دمرت من مجتمعات ، و هدمت من أسر، و فرقت بين أحبة. 
وكم أهدرت من أموال، و ضيعت من أوقات. 
وكم أحزنت من قلوب، و أولعت من أفئدة، و أورثت من حسرة.
و كم أقلقت من أبرياء، وكم حطمت من عظماء وأشعلت نار الفتنة بين الأصفياء. 
و كم نالت من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟! 
وكم أثارت فتناً وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، ، وإن الحرب أوّلها كلام، ورب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.
الشائعات ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في عرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس.
فالشائعات والأراجيف تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص بل قد تكون مِعْوَل هدم للدين من الداخل أو الخارج، والضرر بالإسلام والمسلمين
فما بالكم الآن وقد تطورت وسائل الإتصال المباشر ستصبح الإشاعة أكثر رواجًا وأبلغ تأثيرا. 
وإن الصراع بين الحق والباطل مستمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها, والباطل لا يفتر أبدا فى استخدام كل وسيلة تعوق الحق عن مواصلة طريقه, وتحقيق أهدافه لتعبيد الأرض لله رب العالمين, ومن ثم فإنه يستخدم الإشاعات ويحسن صناعتها ليصد الناس عن الحق وأهله, أو ليفرق جمعه, أو ليغير صدورهم تجاه بعضهم, أو ليشيع الفاحشة فى مجتمعة.
ومن خطر الإشاعات ما يلى:
1- تعمي عن الحق وعن الصراط المستقيم.
قال تعالي }فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(50){ (القصص).
2- أن ضررها أشد من ضرر القتل.
فالإشاعات من أهم الوسائل المؤدية إلى الفتنة والوقيعة بين الناس ويقول الله تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ)، (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لأن القتل يقع على نفس واحدة لها حرمة مصانة أما بالفتنة فيهدم بنيان الحرمة ليس لفرد وإنما لمجتمع بأسره.
فالشائعة يطلقها الجبناء ،ويصدقها الأغبياء الذين لا يستخدمون عقولهم ، ويستفيد منها الأذكياء .
3-أنها تعمل على شق الصف المسلم. 
إن نشر الإشاعات سلاح خطير يفتك بالأمة ويفرّق أهلها، ويسيء ظن بعضهم ببعض، ويفضي إلى عدم الثقة بينهم قال تعالي }لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ(47){ (التوبة).
يقول ابن كثير في تفسيره : بين الله تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا) أي: لأنهم جبناء مخذولون، (وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. 
وقال مجاهد، وزيد بن أسلم، وابن جرير: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي: عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم. وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم، بل هذا عام في جميع الأحوال، والمعنى الأول أظهر في المناسبة.
4- سبيل الفاسدين والمفسدين. 
قال تعالي }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19){ (النور) 
وقال تعالي }وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ(205){ (البقرة) فالمفسدون يحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين وذلك عن طريق إفشاء الإشاعات الهدامة للقيم والأخلاق الحميدة داخل المجتمع..
5- إهدار الدماء وتضيع الحدود ، واشعال الحروب، وانتشار البدع والخرافات. 
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ فَقِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ الْهَرْجُ الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ) (فالإشاعات الكاذبة التي صنعت ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ما كانت آثارها السيئة على المجتمع في ذلك الوقت فحسب، بل على الأمة حتى وقتنا هذا، تجمع أخلاط من المنافقين ودهماء الناس وجهلتهم، وأصبحت لهم شوكة وقتل على إثرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته, وقطع الماء عنه، بل كانت آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام، كمعركة الجمل, وصفين، من كان يتصور أن الإشاعة تفعل كل هذا، بل خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة, والقدرية الأولى، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وبدع وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم..
6ـ الشائعات سلاح خطير يستهدف أهل الإيمان :ـ
سلاح الشائعات لم يوجه إلا لأهل الإيمان وعلي رأسهم الأنبياء والصالحون ، 
لم يسلم من الشائعات الأنبياء والصالحون منذ فجر التأريخ والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: قال تعالي} يٰأُ أخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً(28){ [مريم].
وهذا سيدنا نوح عليه السلام يقال له مجنون ” قال تعالى: }كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ(9){ [القمر]
وأما عن سيدنا هود عليه السلام اتَّهَمه قومُه بالسفاهة والكذب قال الله تعالى حكاية عنهم: }إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ(66){ [الأعراف] حتى وصل بهم الأمر إلى أن اتهموه في عقله عياذا بالله يقول الله جل وعلا حكاية عنهم أيضًا:}إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ(54){ [هود].
وسيدنا يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، قال تعالى:}كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَٱلْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24){ [يوسف].
ولقد كان أعظم وأخطر سلاح يستخدمه فرعون في حربه ضد سيدنا موسي عليه السلام كان الشائعة حيث قال عن موسى عليه السلام” }﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35){ [الشعراء.
ولازال أعداء الإسلام إلى اليوم يستخدمون هذا السلاح لحرب الإسلام والمسلمين .
أما النبي صلى الله عليه وسلم ،فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرُمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته ، ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهرة، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله ، وعرض الصديق والصديقة رضي الله عنهم أجمعين .
وتشغل هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً حتى انزل الله براءة الصديقة بنت الصديق ،قال تعالى: } إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23){ [النور]. 
ولهذا حكم العلماء على سابّ الصحابة بالفسوق وسابّ عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالكفر لأنه ينكر آية البراءة لها في القرآن .
وأيضا استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله ، حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى، ولن تقوم له قائمة حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى:}وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ(144){[آل عمران].
العنصر الرابع : موقف المسلم من الشائعات :ـ
إذا أردت أن تعرف مقدار الوعي فى أمة من الأمم, فتأمل أثر الإشاعات فيها, فإذا رأيتها تصدق كل ما يقال لها, فإنها أمة مازالت الغفلة متفشية فيها؛ ذلك لأن أسرع الأمم استجابة للإشاعات والأراجيف هى الأمم الساذجة التى لا قدرة لها على نقد الأخبار وتمحيص الأنباء, وأما إذا رأيت أمة من الأمم تتثبت من الأخبار التى تصل إليها, ولا تصدق منها إلا ما تأكدت صحته, فاعلم أنها أمة رشيدة يكثر فيها العقلاء ويقل فيها السفهاء, يكثر فيها الذين طهرت نفوسهم, واستقامت أفكارهم, واتسعت عقولهم؛ لأنهم يعملون بقول الله تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6){ (الحجرات) 
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)، 
لذلك يجب علي المسلم أن يتعامل مع الشائعات والأخبار التي ترد إلي سمعه بأمانة ومسئولية وعليه ما يلي :ــ 
1 – وجوب التثبت من الأخبار والإشاعات عند انتشارها في المجتمع: 
قال تعالي}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(6){ (الحجرات).
جاء في التفسير المنير للزحيلي أي يا أيها الذين صدقوا باللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، إن أتاكم فاجر لا يبالي بالكذب بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في الأمر والخبر لتتضح الحقيقة وتظهر، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك، مغتمين له، متمنين عدم وقوعه. 
وفي تنكير كلمتي (فاسِقٌ) و(بِنَبَإٍ) دلالة على العموم في الفساق والأنباء، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ، فتوقفوا وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. 
ويقول ابن كثير في تفسيره يأمر الله تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليُحتَاطَ له، لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الأمركاذبًا أو مخطئًا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عن اتباع سبيل المفسدين.
وقدقالها سيدنا سليمان عليه السلام لحامل الأخبار إليه وهو الهدهد رغم أنه من الحاشية عندما جاء بنبإ ملكة سبأ قال تعالي } أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩(26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28){ النمل .
لم يسلم نبي الله سليمان بكلام الهدهد ولكن تثبت من الخبر بكل دقة وأمانة . فما أحوجنا بأن نربي أنفسنا وأولادنا علي هذا مبدأ التثبت .
2- عدم ترديد الإشاعة وعدم الخوض مع الخائضين: 
وذلك لأن ترديدها هو انتشار لها ومساهمة في ترويحها من حيث ندري أو لا ندري وفي ذلك مساعدة المغرضين بقصد أو يغير قصد وإن ترديد الإشاعة هو أشد إفكا وإثما من الكذب، والمعلوم أن الكلام السيئ كالنار فإنه يزداد بالانتقال والانتشار، فان الإشاعة تروج وتكبر إذا وُجِدَتْ ألسنة وشفاه ترددها، وآذان تصغي إليها، ونفوس مريضة حاقدة تتقبلها وتصدقها!!
هذا وقد نهى ديننا الإسلامي العظيم عن نقل الكلام من غير بينة ولا دليل، فإذا لم تتمكن من معرفة صحة الخبر أو كذبه فإنه يتوجب علينا طرحه جانبا، ولا نعيره أي اهتمام ولا نتحدث به قال تعالى: }وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(68){)(الأنعام)، 
وقال تعالي }إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15){ (النور) وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم } من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت{ متفق عليه .
وإن القاعدة الفقهية تقول (ما يحرم قوله يحرم سماعه).
3ـ رد الأمر إلى أهل الاختصاص:ـ
وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار التي لها أثرها الواقعي، كما قال تعالى: }وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلاً(83){ (النساء). 
جاء في التفسير المنير للزحيلي قد يبلغ الخبر عن أحوال الأمن (السلم) والخوف (الحرب) من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته ونشره وترويجه بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة. 
لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة إلى قائد المسلمين وهو الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، أو إلى أولي الأمر وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها، فهم الذين يتمكنون من استنباط الأخبار الصحيحة، واستخراج ما يلزم تدبيره وقوله بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها.
4ـ التماسك الاجتماعي بين أفراد المجتمع:ـ
هذا التماسك الذي يقوم على الإيمان والتقوى وغرس الثقة المتبادلة وحسن الظن فيما بين الجماهير لقوله عز وجل }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(10){(الحجرات).
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :} المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ثم شبك أصابعه {. متفق عليه.
فحينما يكون المجتمع متماسكا فلا مجال لتسريب الإشاعات بين الناس، لأنها لا تنتشر، كما هو ملاحظ إلا في المجتمعات المتفككة والمتنازعة والمتخلفة.
5ـ أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم:ـ
قال الله تعالى: }لَّوْلاۤ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ (12){[النور]. والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ(12){ )[الحجرات].
وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا”.
العنصر الخامس: حكم الإسلام في الشائعة ومروّجها:ـ
الإشاعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه، مثيرٌ للاضطراب والفوضى، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.
فالإسلام يحرم إشاعة أسرار المسلمين وأمورهم الداخلية مما يمس أمنهم واستقرارهم، حتى لا يعلم الأعداء مواضع الضعف فيهم فيستغلوها، أو قوتهم فيتحصنوا منهم.
والإسلام أيضا يحرم إشاعة ما يمس أعراض الناس وأسرارهم الخاصة، قال الله تعالى:}إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ(19){ [النور]. 
هذا هو الحكم الأخروي، وبالنسبة للحكم المترتب على الشائعة الكاذبة فهو حد القذف إن توفرت شروطه، وإلا فالتعزير. قال تعالى:}وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (4){ [النور]..
وقال تعالى: }وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً(58){[الأحزاب]
فمروج الشائعة يستحق من الله تعالي العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالي }إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(19){(النور).
جاء في التفسير المنير للزحيلي هذا أدب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيء، معناه: إن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة ومحبة لها، وإن الذين يرغبون في إشاعة الفواحش وانتشار أخبار الزنى في أوساط المؤمنين، لهم عذاب مؤلم في الدنيا وهو حد القذف، وفي الآخرة بعذاب النار، واللّه يعلم حقائق الأمور، ولا يخفى عليه شيء، ويعلم ما في القلوب من الأسرار، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص العلم والإحاطة بالأشياء والاعتماد على القرائن والأمارات لا تعملون تلك الحقائق. 
وأخرج الإمام أحمد عن ثوبان عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «لا تؤذوا عباد اللّه ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم، طلب اللّه عورته حتى يفضحه في بيته». 
وقال صلي الله عليه وسلم «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَموا» رواه أبو داود .
فهو يسمع أيَّ خبر خيرًا كان أو شَرًّا، أو فيه مصلحة للمسلمين أو للأفراد أو فيه مضرة، وينقل هذا الخبر بدون التأكد، وبدون التريث، وبدون أن ينظر هل في نشر هذا الخبر مصلحة للمسلمين أم فيه مضرة؟
فإذا كان فيه مصلحة نسعى إلى نشره، وإذا كان فيه مضرة ويجر إلى فتنة وفساد فيتوقف الإنسان، ولقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتحدث ويكذب في حديثه بأن فيه خصلة من خصال النفاق قال صلى الله عليه وسلم: }آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَااؤْتُمِنَ خَانَ{ أخرجه البخاري، ومسلم.
ولقد ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن أبي وحسان ابن ثابت ومسطح ابن أثاثة، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. 
وهذا التأديب التربوي له مغزاه العميق، فإن شيوع الفاحشة في مجتمع يجرئ الناس على الإقدام عليها، ويجعلهم يستسهلون الوقوع فيها. والآية تدل على أن مجرد حب إشاعة الفاحشة كاف في إلحاق العذاب، فالذين يشيعونها فعلا أشد جرما وإثما وتعرضا للعقاب.
ولقد أطلق القرآن الكريم علي مروجوا الشائعات بالمرجفين …
والإرجاف في اللغة: الاضطراب الشديد، ويطلق أيضا على الخوض في الأخبار السيئة وذكر الفتن؛ لأنه ينشأ عنه اضطراب بين الناس. 
والإرجاف حرام، وتركه واجب؛ لما فيه من الإضرار بالمسلمين، وفاعله يستحق التعزير. قال تعالى:} لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إلا قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61){) [الأحزاب]. 
قال القرطبي: ” لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ : لسلطناك عليهم فتستأصلهم بالقتل”.وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناساً من المنافقين يثبطون الناس عنه في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمرهم أن يحرقوا عليهم البيت، ففعل طلحة ذلك.
فمروّج الشائعة عضو مسموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز
ومروّج الشائعة لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يزبد ويُرغي، ويفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، للبلاد والعباد.
الخاتمة :ـ
أيها المسلم الحبيب …اعلم أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل: } مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18){ [ق]، وقال تعالى: }إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15){ [النور].
فاحذر أن تكون مروجاً لأي شائعة، فإذا ما سمعت ـ بخبر ما سواءً سمعته في مجلس عام أو خاص، أو قرأته في مجلة أو جريدة،أو انترنت أو شاهده في قناة فضائية أو سمعته في إذاعة، وكان ما سمعته يتعلق بأي جهة أو شخص، وكان الذي سمعته لا يسُرّ، أو فيه تنقص أو تهمة، فلا تستعجل في تقبل الإشاعة دون استفهام أو اعتراض .
واحذر ترديد الإشاعة لأن في ترديدها زيادة انتشار لها مع إضفاء بعض بل كثير من الكذب عليها وكما قيل في المثل الروسي :(الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها).
واحتفظ بالخبر لنفسك لا تنقله لغيرك، مع أن الذي ينبغي أن يبقى في نفسك هو عدم تصديق الخبر؛ لأن الأصل هو إحسان الظن بالمسلمين حتى يثبت بالبرهان والدليل والأدلة صدق هذا الاتهام؛ لأن القضية قضية دين والمسألة مسألة حسنات وسيئات.
فليحافظ كل منا على دينه ووطنه وأمته ، وليحافظ كل منا على حسناته، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين…
رابط pdf

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...