الحمد الذي بنعمته
تتم الصالحات وبفضله تتنزل الخيرات والبركات ، وبتوفيقه تتحقق المقاصد والغايات . أنعم
علينا بالنعم التي لا تعد ولا تحصى فقال تعالى{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}[إبراهيم].
وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. كرم
الإنسان أيما إكرام وفضله على سائر المخلوقين فقال تعالى {وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا
(70)} [الإسراء].
وأشهد أن سيدنا
محمد رسول الله (ﷺ) : كان يعلّم أصحابه الدعاء بالعافية؛ فعن أنس رضي الله
عنه قال: {أتى النبيَّ
(ﷺ) رجلٌ فقال: يا رسول الله، أي الدعاء أفضل؟ قال:
"سلِ اللهَ العفو والعافية في الدنيا والآخرة"
ثم أتاه
الغد، فقال: يا نبي الله، أي الدعاء أفضل؟
قال: "سلِ
اللهَ والعافية في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت العافية في الدنيا والآخرة، فقد أفلحت}
[رواه البخاري في الأدب المفرد].
فاللهم صل علي سيدنا
محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعــد ...
فيا أيها المؤمنون..
فإن نعمة العافية
مطلب ديني ، ومطلب دنيوي، ومطلب أخروي ؛ ولذلك كان لها بين المطالب الإنسانية أهمية
عظيمة، ومكانة سامية.
فالعافية حسنة من
حسنات الدنيا التي من وُهِبها نال خيراً كثيراً، وقد مثّل بعض المفسرين كقتادة وغيره
للحسنة في الدنيا بالعافية والصحة، في قوله تعالى{وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201)} [البقرة].
وقال النووي رحمه
الله في شرحه على مسلم:
"وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا:
أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة الجنة والمغفرة. وقيل: الحسنة تعم الدنيا والآخرة
".
وعن أنس رضي الله
عنه أن رسول الله (ﷺ) عاد رجلاً من المسلمين قد خفتَ فصار مثل الفرخ، فقال له
رسول الله (ﷺ) : "هل كنت تدعو بشيء أو تسأله
إياه؟" قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا،
فقال رسول الله (ﷺ)
:"سبحان الله لا تطيقه أولا تستطيعه أفلا
قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" قال: فدعا
الله له فشفاه}[رواه مسلم].
فنعمة العافية من
المطالب الهامة في حياة المسلم لذلك كان من أقوال النبي(ﷺ): {سلوا الله العفو والعافية؛ فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من
العافية} [رواه الترمذي وأحمد].
وقيل في الحِكَم:
إن "العافية هي الملك الخفي".
لذلك كان حديثنا
عن [نعمة العافية] وذلك من خلال هذه
العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ تعريف
العافية .
2ـ أهمية
العافية في حياة الإنسان.
3ـ أنواع
العافية.
4ـ
أسباب بقاء العافية.
5 ـ العافية
والابتلاء.
6ـ
الخاتمة.
===============
العنصر
الأول : تعريف العافية :ـ
هي العيشة الرضية
الهنية ، والسعادة الأبدية ، والراحة الروحانية ، لا عيش أهنأ منها ، ولا لباس أحسن
من لباسها، من أفضل النعم، وأهنأ العطاء والكرم.
إذا فُقدت عُرفَت،
وإذا دامت جُهلت .
العافية تاج الأصحاء،
وأنس السعداء، ومنة الصلحاء؛ العافية: السلامة الدائمة للأجسام والأديان من والأمراض
اللازمة والطارئة.
العنصر
الثاني : أهمية العافية في حياة الإنسان:ـ
إن العافية لما كانت
في هذه المنزلة السامية، ولها هذا الفضل العظيم؛ كانت من النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان
يوم القيامة ، ماذا عمل به؟
قال رسول الله (ﷺ) :{إن أول ما يسأل عنه العبد يوم
القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح لك جسمك، ونروك من الماء البارد؟}[رواه الترمذي
والحاكم].
ولهذا قال علي وابن
عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)}[التكاثر]. "عن الصحة"
والعافية من أعظم
المواهب، وأجل الرغائب، جاء رجل إلى رسول الله(ﷺ) وقال: "علمني دعاء أنتفع به"، قال: {قُلِ: اللَّهُمَّ عَافِنِي مِنْ شَرِّ سَمْعِي،
وَبَصَرِي، وَلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَشَرِّ مَنِيِّي} يَعْنِي ذَكَرَهُ. [رواه أبو داود والترمذي
والنسائي] .
فالعافية تذهب القلق
وهموم الحياة وتزيل الشقاء والعناء، فما سئل ربنا شيئا أحب إليه من سؤال العافية والمعافاة.
العافية حصانة من
الفتن، ووقاية من المحن، كما قال النبي (ﷺ): "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية".
ولا تَقتَصِرُ العافيةُ
على الأحياءِ ، بَلْ تَتَعدّاهُم إلى الأمواتِ .
فَفِي صحيحِ مُسلِمٍ
مِنْ حديثِ بُرَيْدَةَ بنِ الحصيبِ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ
اللهِ (ﷺ) يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ
: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ،
وَإِنَّا ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلاَحِقُونَ ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ}.
حتى في الصلاة على
الميت تسأل الله تعالى له العافية تقول: "اللهم عافه
واعفُ عنه".
إن المسلم إذا رُزِق
العافية في دينه ودنياه وآخرته؛ فقد رزق خيراً وفيراً، ففي الدنيا والدين يظهر أثر
ذلك الرزقِ الحسنِ في راحته واطمئنانه، وصلاح عيشه واستقامة أحواله، وحسن عبادة ربه،
وأداء حقوق خلقه، وفي الآخرة يظهر أثر ذلك في نجاته من سخط الله وعقابه، والفوز بدار
كرامته ، فمن أوتي ذلك فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولو الألباب.
لولا العافية لما
شعرت بلذة محبوب، وطعم موهوب.
لولا العافية لما
طلبت كل شهي ومرغوب.
لولا العافية لتكدرت
حالك وانشغل بالك.
لولا العافية لم يكن
لك قرار وثبات واستقرار.
لولا العافية لم تتزوج
وتطلب المال وترغب في الحياة والعيال.
لولا العافية لم يدم
لك مطعم وشراب ولا ما تشتهي مما لذ وطاب ، فما طاب شيء إلا بالعافية.
لذلك فهم السلف الصالح
هذا الأمر جيدا فأولوه اهتماما كبيرا..
كان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول " لأن
أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر "
بهذه الكلمات كان
الصديق رضي الله عنه يعلن بين صحابة النبي (ﷺ) رؤية الإسلام
الواضحة تجاه قضية العافية ..
لأنه لا يَتِمُّ صَلاحُ
الْعَبْدِ فِي الدَّارَيْنِ إِلا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ ، فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ
عَنْهُ عقوباتِ الآخِرَةِ ، والعافيةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ
وَبَدَنِهِ .
وقال عبد الأعلى التيمي
يقول: "أكثروا سؤال العافية؛ فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من
المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلَون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما
المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم، فما يأمن من أطال المقام على معصية الله
أن يكون قد بقي له في بقية عمره من البلاء ما يحذره في الدنيا، ويفضحه في الآخرة".
وكان الحَجاج على
ما فيه من صلف وتجبر جوادا كريما لا تخلو مائدته من آكل، فذات يوم كان خارجا للصيد
وكان معه أعوانه وحاشيته، ولما حضر غذاؤه قال: التمسوا من يأكل معنا، فتفرقوا كل جهة
فلم يجدوا إلا أعرابيا، فأتوا به، فقال له الحجاج: هلم فكل، فقال: لقد دعاني من هو
أكرم منك فأجبته، قال: من هو؟ قال الله دعاني إلى الصوم، قال: تصوم في مثل هذا اليوم
الحار؟!
قال: صمت ليوم هو
أشد حرا منه، قال: أفطر وصم غدا، فقال الأعرابي: أيضمن لي الأمير أن أعيش إلى غد!
فقال: إنه طعام طيب،
فقال الأعرابي: والله ما طيَّبه خبّازُك ولا طباخك؛ ولكن طيبته العافية.
فالعافية لا تصلح
الدنيا إلا بها، ولا العيش والأمن إلا في أجوائها؛ بالعافية ينال المرء كل مطلوب، ويسعد
في كل مرغوب.
فهل سيَشعر الإنسان
بالسَّعادة دون العافية؟
وهل سيتمتَّع بالمال
دون العافية؟
وهل سيفرَح بالمنصب
والجاه دون العافية؟
ولعظم منزلة
العافية وشرف مكانتها، كان النبي (ﷺ) لا يدع سؤالها
صباحا ومساء وفي جميع أحواله ومعاشه وآخرته ودنياه ، فمما ثبت عنه (ﷺ) ما يلي ...
عن ابن عمر رضي الله
عنهما، قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) يدع هؤلاء
الكلمات إذا أصبح وَإذا أَمْسَى: {اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ
وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي
وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ
يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ مِنْ أَنْ أُغْتَالَ
مِنْ تحتي}[رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم].
ومن أهميتها أن تنام
على سؤالها وتستيقظ على سؤالها، فعند مسلم أن ابن عمر أمر رجلاً إذا أخذ مضجعه أن يقول:
{اللهم خلقت نفسي وأنت توفاها، لك مماتها
ومحياها
، إن أحييتها فاحفظها، وإن أمتّها فاغفر لها، اللهم إني أسألك العافية}.
وعندما تستيقظ تقول:
"الحمد لله الذي رد عليّ روحي، وعافاني في جسدي، وأذن
لي بذكره".
ومما يدل على أهميتها
أنك تسألها ممن يملكها في صلاتك بين السجدتين فتقول: {رب اغفر
لي وارحمي واهدني وارزقني وعافني}.
وبين النبي (ﷺ) أن من حازها فقد حاز الدنيا بما فيها ،قال رسول الله (ﷺ): {مَن أصبح منكم آمنا في سربه،
معافى في جسده، عنده طعام يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها}[ سنن الترمذي بسند حسن]
ولأهمية العافية كانت
سؤال النبي (ﷺ) في ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فعن عائشة رضي الله
عنها قالت: قلت يارسول الله:{ أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة
القدر ما أقول فيها، قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني}. [رواه
الترمذي وابن ماجه وغيرهما وصححه الشيخ الألباني].
العنصر
الثالث : أنواع العافية :ـ
العافية كلمة جامعة
، تشمل كل ما يتنعم به المرء في حياته ،وهي تعني السلامة من كل مكروه في الدين ، والدنيا
، والآخرة.
1ـ
العافية في الدين :
بعض الناس يظن
العافية في بدنه وأمنه وأكله وشربه، ونسى أن العافية سلامة دينه ومعتقده، وصلاحه هو
عبادته واستقامته.
فهي فوق كل عافية
، وهي سلامة المؤمن من فتن الشبهات المضلة، وفتن الشهوات المحرمة، وهي العافية في الإيمان
،والعافية في الثبات على دين الله عزّ وجلّ ،والعافية في اليقين ، والعافية في السلامة
من الوسواس ،وأن يستقيم دين العبد ، فيوفقه الله تعالى ليتدين بدينه الاسلام على المنهج
النبوي بفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم ، فيقيمه في نفسه وولده وأهله وبلده وأرضه.
والعافية في الدين
غنيمة كبرى وعطية جزلى سألها رسول الله ربه عز وجل لنفسه وولده وأهله وماله فقال :
اللهم إني أسألك العافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم
إني أسألك العافية في الدين والدنيا والأخرة .
قدم السؤال بعافية
الدين لأهميتها وكبير مقامها ولأنها أصل لكل نعمة وعافية .
تكون العافية في الدين
عندما تهتم بتعاليم الإسلام فتعرف الحلال فتأكله وتعرف الحرام فتتجنبه فلا تأكل الربا
والسحت ولا تأكل أموال الناس بالباطل ، ويذكرك دينك بالعمل الصالح ويحذرك من الغفلة
عن الاستعداد للموت وما بعده .
وهذا سيدنا يوسف
عليه السلام وقد عافاه الله في دينه عندما راودته امرأة العزيز عن نفسه قال تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ
مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)}[يوسف]. لذلك لما خير سيدنا يوسف عليه
السلام بين أن يصاب في دينه أو يصاب في دنياه أختار أن يصاب في دنياه ويعافى في
دينه فقال تعالى { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا
مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)}[يوسف]
فالعافيةُ في العِصْمَةِ
مِنَ الذُّنُوبِ ، وسلامة الدين ، لذلك كان من دعاء النبي (ﷺ) أن لا يجعل مصيبته في الدين ، فعن ابن عمر رضي الله
عنه قال: قلما كان رسول الله (ﷺ) يقوم من مجلس حتى
يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: {اللهم اقسم لنا من خشيتك ما
يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا
مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل
ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا
أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا}[هذا حديث حسن غريب، وحسنه
الألباني].
فقد سُئلَ حَكِيمٌ
: مَا العَافِيةُ ؟ قَالَ : أنْ يَمُرَّ بِكَ اليَومُ بِلا ذَنْبٍ ..
لذا كان يُقال : من
عُوفِي فليحمد الله
2ـ
العافية في الدنيا :ـ
وهي السلامة من كل
ما يكدر العيش الدنيوي من الآلام والأسقام والأوجاع والأحزان ، وهي تشمل كل ما
يتمتع به في الدنيا من عافية في الجسد والولد والمال
عافية
الجسد :ـ
تشعر بعافية الجسد
، وأنت تنظر للبعيد ، وأنت تسمع للهمس ، وأنت تنام ملء عينيك، وأنت تقوم وتقعد ، وأنت
تتنفّس، وأنت تنطق وتتكلّم وتُعبِّر عما تُريد
قال بعض السلف: "العالم
لا يخرف"، وقال بعضهم: "من جمع القرآن متَّع بعقله"،
فهذا العبد الصالح
أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة، و هو ممتع بعقله و قوته و كافة حواسه حتى أنه
سافر ذات مرة مع رفقة له فلما اقتربت السفينة من الشاطئ وثب منها وثبة شديدة، عجز عنها
بقية الذين كانوا معه على السفينة فاستغرب بعضهم هذه القوة الجسدية التي منحها الله
إياه، مع كبر سنة و شيخوخته
فقال لهم الطبري
: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر !!. [البداية
والنهاية لابن كثير].
عافية
الأولاد :ـ
وعافية الأولاد في
صلاح قلوبِهم وقوالبهم وفي استقامتهم وهدايتهم ، لذلك أخبرنا القرآن الكريم بأن
عافية الأولاد وحفظهم من الضياع والانحراف مرتبط بتقوى الله عز وجل {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا(9)}
[النساء].
روي أنه دخل
"مقاتل بن سليمان" رحمه الله على الخليفة أبو جعفر المنصور رحمه الله يوم بُويعَ بالخلافة، فقال له "المنصور"
عِظني يا "مقاتل" !
فقال : أعظُك بما
رأيت أم بما سمعت؟
قال : بل بما رأيت.
قال : يا أمير المؤمنين
إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدا وترك ثمانية عشر دينارا ، كُفّنَ بخمسة دنانير
، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه.
وهشام بن عبد الملك
أنجب أحد عشر ولدا ، وكان نصيب كلّ ولد من التركة الف الف دينار.(اي مليون)
والله يا أمير المؤمنين
: لقد رأيت في يوم واحد أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمائة فرس للجهاد في سبيل
الله ،وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق.
وقد سأل الناس عمر
بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت : ماذا تركت لأبنائك يا عمر ؟
قال : تركت لهم تقوى
الله ، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك
لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى .
عافية
المال :ـ
العافية في المال
تتمثل في بركته وحفظه وفي نمائه ، وفي أن يكون مصدره حلالاً ،ومصرفه حلالاً ،وأن
يُحفَظ من كل آفـة ..
ويحدثنا القرآن الكريم
في سورة الكهف عن الجدار الذي وقف حارسًا يحمي أموال طفلين صغيرين يتيمين، وينتظر أن
يكبرا ويستخرجا كنزهما، حتى الجدار، حتى الجدار لما أوشك على السقوط، جنَّد الله نبيه
موسى عليه السلام والعبد الصالح أن يأتيا من أقصى الأرض ليعيدا لهذا الجدار حيويته
كي يقوم بدوره الذي كفله الله به، والقرآن يحكي لنا هذا الدور فيقول تعالي: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ
رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ(82)}
[الكهف].
عافية
الآخرة:
أما عافية الآخرة
فهي السلامة من غضب الله وناره، ونيلُ رضوانه وجنته، وفي الخلاصِ مِنْ حُقوقِ العِبَادِ
، ومِنْ مُناقشَةِ الْـحِسَابِ وفي عُبورِ الصِّراطِ ، والنُّورِ التامِّ يومَ القيامةِ
..
العافية يوم
القيامة عندما ينادي المنادي سَعِد فلان ابن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا.
العافية يوم
القيامة عندما ينظر الله تعالى إلى العبد ويقول له اذهب يا عبدي فإني عنك راضٍ
فإذا اجتمعا للإنسان
عافية الأديان، وعافية الأبدان فذاك توفيق الرحمن، وعافية الدين أعظم الامتنان، فقد
تصاب بالآلام والأسقام ولكنك في صلاح واستقامة.
العنصر
الرابع : أسباب بقاء العافية :ـ
إن للعافية
أسبابا لبقائها منها ...
1ـ
التقوى
إن نعمة العافية تبقى
للإنسان ما دام من أهل التقوى الذين يتقون الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى، وقد قيل:
"من اتقى الله لبس العافية، وحمد العاقبة".
وكان شيخ من الأعراب
يدور على المجالس ويقول : "من سره أن تدوم له العافية فليتقِ الله".
فصلاح الآباء سبب
من أسباب عافية الأولاد ، لذا قال سعيد بن المسيب رحمه الله لابنه: لأزيدن في صلاتي
من أجلك رجاء أن أحفظ فيك.
وقالوا: إن الله ليحفظ
بالرجل الصالح ولده وولد ولده.
وقال عمرُ بن عبد
العزيز: ما من مؤمن يموتُ إلاَّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه.
وقال ابن المنكدرِ:
إنَّ الله ليحفظُ بالرجل الصالح ولدَه وولدَ ولده والدويرات التي حوله فما يزالونَ
في عافية من الله وستر.
2ـ
العبادات :ـ
كم لطاعة الله تعالى
من آثار صحية على الروح والبدن في الدنيا والآخرة، فكم تحدث الأطباء والعلماء عن الفوائد
الصحية للعبادات ومنها: الصلاة والصيام.
قال ابن القيم رحمه
الله: "ولا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن، وإذابة أخلاطه وفضلاته،
ما هو من أنفع شيء له، سوى ما فيها من حفظ صحة الإيمان، وسعادة الدنيا والآخرة، وكذلك
قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة، ومن أمنع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن
أنشط شيء للبدن والروح والقلب، كما في الصحيحين عن النبي (ﷺ) أنه قال:{يعقد الشيطان على قافية
رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر
الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس،
وإلا أصبح خبيث النفس كسلان}.
3ـ
إدراك قيمة العافية وشكرها:ـ
من أسباب بقاء العافية:
معرفة عِظم قدرها، وشكر معطيها سبحانه وتعالى، فمن عرف قدر النعمة حفظها، وأدى حق من
منحه إياها، وجعله يسعى في استغلالها فيما ينفع، قال رسول الله (ﷺ) لرجل وهو يعظه: {اغتنم خمسًا قبل
خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل
موتك}[رواه الحاكم].
وفي البخاري أن ابن
عمر رضي الله عنهما كان (ﷺ) يقول:{وخذ من صحتك لمرضك،
ومن حياتك لموتك}.
4ـ
الرحمة بأهل البلاء :ـ
من أسباب بقاء العافية:
النظر بعين الرحمة والإحسان لمن ذهبت عنهم هذه النعمة، فزيارة أهل البلاء، وقراءة أخبارهم،
والإشفاق عليهم؛ تدفع من فعل ذلك إلى حراسة عافيته من أسباب الزوال، ورفدها بوسائل
البقاء, روي عن عيسى عليه السلام كما في كتاب الزهد لأحمد بن حنبل أنه أوصى الحواريين
بوصية منها قوله: "والناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء في بليتهم،
واحمدوا الله على العافية".
وأوصى (ﷺ) عند رؤية أهل البلاء أن نحمد الله تعالى على نعمة
العافية فقالعليه الصلاة والسلام:
{من رأى مبتلى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به،
وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً؛ لم يصبه ذلك البلاء}[رواه الترمذي] .
سواء كان البلاء في
الدنيا أو الدين ، لكن لا ينبغي إسماع المبتلى ذلك؛ مراعاة لمشاعره.
قال إبراهيم النَّخعي:
"كانوا يكرهون أن يسألوا الله العافية بحضرة المبتلى".
5ـ
الإكثار من الدعاء والتضرع :ـ
من أسباب بقاء العافية:
الإكثار من الدعاء بالعافية، فعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قلت: يا
رسول الله، علمني شيئاً أسأل الله به، فقال:{يا عباس! سل الله
العافية، ثم مكثت ثلاثاً، ثم جئت فقلت: علمني شيئاً أسأل الله به يا رسول الله، فقال:
يا عباس، يا عم رسول الله! سل الله العافية في الدنيا والآخرة}[الترمذي وأحمد].
وأتى رجلٌ النبي (ﷺ) فقال: يا رسول الله! كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال:{قل: اللهم
اغفر لي وارحمني، وعافني وارزقني ويجمع أصابعه إلا الإبهام فإن هؤلاء تجمع لك دنياك
وآخرتك}[رواه مسلم].
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي (ﷺ) مر بقوم مبتلَين فقال: {أما كان
هؤلاء يسألون العافية؟}[رواه البزار].
وقد بين النبي (ﷺ) أن الدعاء بالعافية سبيل الفلاح والنجاح، والفوز بالجنة
والنجاة من النار، ولذلك فهو أحب الدعاء إلى الله عز وجل.
فعَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ
قَالَ:{سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ».
ثُمَّ أَتَاهُ
فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ
لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ
« فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَأُعْطِيتَهَا فِي الآخِرَةِ فَقَدْ
أَفْلَحْتَ }[رواه الترمذي]
وعن معاذ قال : قال
رسول الله (ﷺ):{ما من دعوة أحب إلى الله أن يدعو
بها أحد من أن يقول : اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة }[رواه الطبراني]
فالدعاء بالعافية
من أفضل الدعاء ، وذلك لاشتماله على كل نفع، ودفع كل ضر.
وكان (ﷺ) دائم السؤال والتضرع بثبات العافية والاستعاذة من
زوالها،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَال : كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ (ﷺ) :{اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ ، وَفُجَاءَةِ
نِقْمَتِكَ ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ
} [رواه مسلم] .
ودعا رجل عقب صلاته
فقال: "اللهم عافني في نفسي؛ فإنها أعز الأنفس إلي، وفي أولادي؛ فإنهم لحمي ودمي،
وفي عشيرتي؛ فإنهم ناصري وعزي، وفي جماعة المسلمين؛ فإن صلاحي لا يتم إلا بصلاحهم،
اللهم استودعك ما أحاطت به شفقتي وعجزت عنه قوتي".
ذكر الإمام أحمد في
الزهد عن أبي العالية قال :"أكثر ما كنت أسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
اللهم عافنا واعف عنا".
6ـ
الأخذ بالأسباب الوقائية :ـ
من أسباب بقاء العافية:
استعمال الأسباب المادية الواقية، واستعمال الكفاية من الطعام والشراب والكساء والدواء.
قال ابن القيم رحمه
الله : "ولما كانت الصحة والعافية من أجلِّ نعم الله على عبده، وأجزل عطاياه،
وأوفر منحه، بل العافية المطلقة أجلّ النعم على الإطلاق، فحقيقٌ لمن رزق حظًا من التوفيق
مراعاتها وحفظها، وحمايتها عما يضادها".
وسمع بعض أهل العلم
رجلاً يدعو بالعافية فقال له: "يا هذا! استعمل الأدوية، وادع بالعافية؛ فإن الله
تعالى إذا كان قد جعل إلى العافية طريقًا وهو التداوي ودعوتَه بالعافية ربما كان جوابه:
قد عافيتك بما جعلته ووضعته سببًا للعافية".
العنصر
الخامس : العافية والابتلاء:ـ
إن عافية الدنيا قد
لا تستمر ولا تدوم؛ لأن تمام تلك النعمة بلا منغصات لا يكون في هذه الدار، بل في جنة
الله في دار القرار ، لأن الدنيا دار بلاء، وهم وعناء ،
قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)}[الملك].
وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ
وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ(165)}[الأنعام] .
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ
مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}[البقرة].
وقال سبحانه وتعالى{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا
وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3) }[العنكبوت].
وطالما أن الدنيا
دار امتحان وابتلاء فإن المرء فيها لا يسلم من المصائب والمعائب .
روي عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أنه قال: "لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين
: العافية والغنى، بينا تراه معافى إذ سقم، وبينا تراه غنياً إذ افتقر".
ولعل في ذهاب بعض
عافية الدنيا خير للإنسان كما قال تعالى { وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ (216)}[البقرة].
ولعل في ذهاب بعض
العافية خيراً للعبد، فمن ذلك ...
1ـ
التذكير بقيمة النعمة وعظمة المنعم سبحانه وتعالى :ـ
الابتلاء يذكر الإنسان بقيمة العافية فيشكر الله
تعالى عليها، فكم من إنسان لا يعلم فضل الشمس إلا حين تشرق وحين تغيب، وقد كان يقال:
"لا خير في بدن لا يُنكأ، ولا في مال لا يُرزأ".
وقيل: "لا يعرِف
طعمَ النعمة إلا من نالته يد العلة والبلاء".
وقيل: " شيئان
لا يعرِف فضلَهما إلا مَن فقدهما: الغنى والعافية".
إن نعمة العافية من
أكثر النعم التي لا يقدرها كثير من الناس قدرها، ولا يشكرون الله تعالى عليها، ويظهر
هذا التغافل والكفران في أقوالهم وأحوالهم، فكم من إنسان يرفل في ثوب العافية، ولكنه
ينسى من كساه إياه!، ويتنعم بالنعمة فينسى المنعم بها عليه، فإذا ذهبت عافيته تذكر
أنه كان في نعمة؛ ولذلك قيل:
والحادثات وإن أصابك بؤسها *** فهو الذي أنباك
كيف نعيمها
قال النبي (ﷺ) {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:
الصحة والفرا}[رواه البخاري].
روي عن جعفر بن محمد
أنه قال: "العافية موجودة مجهولة، والعافية معدومة معروفة".
وأراد بقوله: "العافية
موجودة معدومة" أن الناس عرفوا العافية ولم يعرفوا قدرها حتى يبتلوا، و"العافية
معدومة معروفة" يعني أن المبتلى ببلية يعدم معها العافية فحينئذ يعرف قدرها.
فالعافية لذة عظيمة
قد لا يتذوق الإنسان حلاوتها إلا حين ذهابها، خلافًا لحاله في اللذات الأخرى التي يلتذ
بها عند حضورها، وينساها عند غيابها.
2ـ
التدريب على عبادة الصبر:ـ
فكم لأهل الصبر على
البلاء من الأجور العظيمة عند الله تعالى، ثم إن عِظَم الجزاء والثواب مع عِظَم البلاء
، ولو يعلم الإنسان ما له من ثواب وجزاء في حال صبره على البلاء لم يجزع.
عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): {يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ
رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ
يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ
بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ
مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ}[ رواه مسلم].
وقال رسول
الله (ﷺ): {يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل
البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قُرِضتْ في
الدنيا بالمقاريض}[رواه الترمذي].
نظر إبراهيم بن آدهم
إلى رجل قد أصيب بمال ومتاع كثير وقع الحريق
في دكانه، فاشتد جزعه حتى خولط في عقله، فقال له: "يا عبد الله إن المال مال الله،
متعك به إذ شاء، وأخذه منك حين شاء، فاصبر لأمره ولا تجزع؛ فإن من تمام شكر الله على
العافية الصبرَ له على المصيبة، ومن قدّم وجد،
ومن آخر فقد وندم".
فيا من ابتُلي فصبر،
أبشر ولا تحزن؛ فالله تعالى يقول :{إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}[الزمر].
وقال النبي (ﷺ):{إذا أراد الله بعبده الخير عجل
له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم
القيامة}[رواه الترمذي].
وهذا إذا صبر العبد
يثاب على ذلك بالأجر العظيم ، فقال النبي (ﷺ):{ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى
الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}[رواه البخاري]
قال النبي (ﷺ): {إن العبد إذا سبقت له من الله
منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبره على ذلك
حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى}[حديث صحيح رواه أبو داود وغيره].
وأخبر النبي (ﷺ) عن الطاعون بأنه رحمة لعباده المؤمنين وعذاب يصيب به
من يشاء من عباده ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألتُ رسول الله (ﷺ) عن الطاعون فأخبرني أنه: {عذاب
يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكث
في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر
شهيد}[رواه البخاري].
لكن هذه الفضيلة لأهل
البلاء لا تدعو إلى طلب البلاء وتمنيه؛ فإن الخير في العافية مع الشكر، قال رسول الله
(ﷺ) : "أيها الناس لا تتمنوا
لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال
السيوف"[متفق عليه].
وقال عليه الصلاة
والسلام: {إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن، إن السعيد لَمن جنب
الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولَمن ابتلي فصبر فواهاً}[رواه أبو داود].
قال مطرف بن عبد الله:
"نظرت في العافية والشكر فوجدت فيهما خير الدنيا والآخرة، ولأن أُعافى فأشكر؛
أحب إلى من أن أُبتلى فأصبر".
3ـ
كسر كبرياء النفس وبطرها وعلاج مرض الغافلة:ـ
كم من إنسان يجاوز
حدودَ النسيان إلى ركوب العصيان بعافيته؛ فيستثمر نعمة العافية في جسده وأحواله بترك
الواجبات، وفعل المحظورات، فالصلاة إذا ذُكرت لم يكن من أهلها، وإذا دُعي إلى الواجبات
الأخرى لم يُجب داعيَها، ولكنه حينما تُذكر المعاصي التي تعتمد على العافية فإنه من
روّادها والمسرعين إليها!.
إن الابتلاء يكسر
كبرياء النفس وبطرها، ويجعلها ترحم أهل البلاء، وتحسن إليهم.
فكم من الناس من يتربى
في حضن العافية فلا تخطر بباله الآلام والبلايا؛ فلذلك يعيش ساخراً من أهل البلاء،
غليظًا عليهم، غير راحم لهم، وكأن قطار البلاء لن يمر به فيركب عليه كما ركب غيره.
قال تعالى { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ (6)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ (7) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ (8)}[العلق]
فكم من أمةٍ كانت
آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ،
لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ
عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.
وكم حكَى القرآن
الكريم عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو
أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ، وكلُّ أحدٍ من البشر له مدفعٌ
ومنه حِيلة، ولا ملجأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِر، والعزيزُ
القادِر، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.
ولله مع خلقهِ أيامٌ
وسُنن، فأين ثمود وعاد؟!
وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟!
أين من قدُّوا الأرضَ
ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟!
لما نسُوا اللهَ أوقعَ
بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا
عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا
بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن
كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون(40)} [العنكبوت].
إن سنةَ الله لا تُحابِي
أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في حق الله عز
وجل، فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ
بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت
للذنبِ أبوابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة،
وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه
وأمرِه، فقال عز وجل: { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ
بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ (47) }[النحل] .
وقال عز وجل: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً
وَهُمْ نَائِمُون (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى
وَهُمْ يَلْعَبُون(98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ
الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ
أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون(100)} [الأعراف].
فما أحوجَ هؤلاء الغافلين
تحت ظلال العافية إلى اليقظة؛ ليحرسوا هذه النعمة من هجوم البلاء الوشيك، بسبب غفلتهم
عما يجب عليهم فعله وهم مطمئنون في حصنالعافية.
ولله در
القائل...
إذا كنـت في نعمـة فارعـها فإن الذنـوب تـزيل النعـم
وحطهـا بطاعة رب العبـاد فرب العـباد سريـع النـقـم
وإياك والظلـم مهما استطعت فظلـم العباد
شديد الوخـم
وسـافر بقلـبك بين الـورى لـتبصـر آثار من قد ظلـم
فتـلك مساكنـهم بعدهـم
شهـود عـليهم , ولا تتهـم
وما كـان شـئ أضـر من الظلـم
وهو الذي قد قصـم
فكـم تركوا من جنان ومن
قصـور, وأخرى عليهم أطـم
صلوا بالجحيم وفات النعيـم وكان الذي نالهم كالـحـلم
4ـ
التدريب على التضرع إلى الله تعالى والإنابة إليه عز وجل :ـ
أنه يرد العبد إلى
ربه، ويذكره بمعصيته، ويوقظه من غفلته ويقيمه من سباته،
فإن كثيراً من الناس
شارد عن الله، غافل عن الله، منهمك في المعاصي، ما دام العبد
صحيحاً فإنه يعمل
في الملذات والشهوات ويقبل على الدنيا فينسى مولاه، ويوقعه الشيطان في أنواع من الكبائر
والصغائر، فيبتلي الله هذا العبد ، فإذا بهذا العبد يعود ضعيفاً بعد قوته، ومريضاً
بعد صحته فيجأر إلى الله وينيب إليه، ويندم على ما فرط في حق الله.
ولذلك الله عز وجل
يبتلي بالأمراض والمصائب والأوبئة ، لعل الناس يتضرعون كما قال الله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ
فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42) فَلَوْلَا
إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)}[الأنعام].
وقال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ
إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ
(94)}[الأعراف]
ولا شك أن من البأساء
والضراء الأمراض، كما قال المفسرون: لعلهم يتضرعون لعلهم يخلصون لله بالعبادة ويرجعون
إلى الله بالطاعة والإنابة والتوبة، { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}[الأعراف]
وكثير من الناس يتوب
إلى الله في مرضه، ويرجع إلى ربه في ضعفه.
وقال عبد الرحمن بن
سعيد عن أبيه: {كنت مع سلمان رضي الله عنه وعاد مريضاً، فلما
دخل عليه قال: أبشر فإن مرض المؤمن يجعله الله له كفارة ومستعتباً، وإن مرض الفاجر
كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم عقل ولم أرسل}. [أخرجه البخاري في
الأدب المفرد].
ومعنى أن المرض يكون
مستعتباً للمؤمن يعني سبباً في محاسبة نفسه ورجوعه عن الإساءة، ويقظته من غفلته بخلاف
الفاجر والكافر، فإن مرضه لا ينفعه، وهو لا يزال مصراً على المعصية، ولذلك هو كالبعير
الذي أمسكه وربطه أهله ثم أرسلوه فلا يدري لم أمسك ولم أرسل، الكافر إذا مرض لا يدري
لماذا مرض وما هي الحكمة من المرض ولا يحتسب أجراً ولا يرجع إلى الله.
الخاتمة
:ـ
أخي المسلم ....
العافية سلم الأمان،
وتاج الأبدان، ومطلب فطري، فلا يحب البلاء والوجع، إلا مصاب بالخلل والهلع، ولا يدرك
المرء قدر العافية إلا بعد فقدها، فإذا فقدت بانت، وإذا ضعفت ظهرت ، فالعافية أكرم
لباس، وأعظم إحساس.
وترى وتحس بنعمة العافية
حينما تدخل قسم الإسعاف والطوارئ بأحد المستشفيات
فهذا يئنّ .. وذاك
يصرخ من شِدّة الألـم ، وثالث في غيبوبة ، ورابع قد شُجّ وجهه ، وخامس ينـزف جُرحـه
، فالعافية والسلامة لا يَعدِلهما شيء ..
فأعظم العطايا.. هي
العافية. وأوسع النِّعَم.. هي العافية. ألا فأكثِرْ من سؤال العافية.
نسأل الله سبحانه
وتعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إنا نسألك العافية في دنينا ودنيانا
وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا
وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
=================
رابط pdf
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق