الجمعة، 15 سبتمبر 2023

مرض النفاق

حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه



الحمد لله رب العالمين .. أرسل نبيه محمد (ﷺ) رحمة للعالمين فأنار به القلوب وشرح به الصدور، فقال تعالى 
} لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ (128){ ] التوبة[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير ..خصنا بخير أنزل ، وأكرمنا بخير نبي أرسل وجعلنا بالإسلام خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله فقال تعالى } كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ (110){ ] آل عمران[.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) تعامل مع أصحابه بأخلاقه العظيمة ، فكان يقضي حوائجهم ، ويتواضع معهم ، ويجيب دعوتهم ، ويزور مرضاهم ، ويشهد جنائزهم ، ويدعو لهم ولأبنائهم ، ويشفق عليهم ، ويشعر بآلامهم ، وينهاهم عن المبالغة في مدحه .. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: سمعت النبي (ﷺ) يقول :}لا تطروني(تبالغوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله  ]البخاري[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما ...
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
ما زلنا مع جوانب العظمة في حياة الرسول (ﷺ) وهو حاله (ﷺ) مع أصحابه ، فتعالوا بنا نتعرف على هذا الجانب العظيم ليكون لنا نبراسا يضيء لنا الطريق ومنهاجاً نقتدي في حياتنا مع بعضنا البعض ، حتى تستقر حياتنا وتنصلح علاقتنا ببعضنا فهذا الموضوع بعنوان } حال النبي (ﷺ) مع أصحابه{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ محبة النبي (ﷺ) لأصحابه ومظاهرها.
2ـ  مشاركة النبيّ لأصحابه الآلام والآمال.
3ـ ترسيخ مبدأ الشورى مع أصحابه.
4ـ معرفة النبيّ لقدرات أصحابه ونفسيّاتهم.
5ـ حرصه النبي (ﷺ) على تعليم أصحابه ما ينفعهم وحسن التعامل مع أخطاءهم.
6ـ الخاتمة.
العنصر الأول: محبة النبي (ﷺ) لأصحابه :
لقد كانت محبّة النبيّ (ﷺ) لأصحابه عظيمة، فكان يتعامل معهم بلطف واهتمام شديد ، فكانت البشاشة تملأ وجهه نوراً وسروراً وهو يسأل عن حالهم ويُطيّب خاطرهم؛ ولقد وصفَه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال: }فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ (59){ [آل عمران] فكانت الألفة بينه وبين أصحابه من أقوى ما تكون، وهو ما جعل كثيرًا من المشركين يتعجَّبون لهذه الرابطة القويَّة التي جمعته بأصحابه، حتى لقد وصف ذلك أبو سفيان بن حرب قبل إسلامه فقال: }ما رأيتُ من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمدًا!!{ [السيرة النبوية لابن هشام].
ومن مظاهر محبته (ﷺ) لأصحابه تواضعه (ﷺ) معهم :
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه في وصفه للنبي (ﷺ) قال: كان النبيُّ (ﷺ) يكثرُ الذكرَ ويقلُّ اللغوَ ويطيلُ الصلاةَ ويقصرُ الخطبةَ ولا يأنفُ أنْ يمشيَ مع الأرملةِ والمسكينِ فيقضي له الحاجةَ. ]النسائي[.
وعن سهل بن حنيف  رضي الله عنه قال :}كان رسول الله (ﷺ) يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم{  ]الحاكم[ .
وعن أنس رضي الله عنه قال : }كان رسول الله (ﷺ) يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم ، ويمسح برؤوسهم ، ويدعو لهم  ]النسائي[.
قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه }ما حَجَبَنِي رَسولُ اللهِ (ﷺ) مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ في وَجْهِي{.[ صحيح الترمذي] .
قال أنس بن مالك رضي الله عنه ، كان رسول الله (ﷺ) "كان إذا لقيَهُ أحدٌ مِنْ أصحابِهِ فقام معه ، قام معه فلم ينصرِفْ حتى يكونَ الرجُلُ هو الذي ينصرِفُ عنه ، وإذا لقِيَهُ أحدٌ من أصحابِهِ فتناول يَدَهُ ناوَلَهُ إيَّاها فَلَمْ ينزِعْ يَدَهُ منه حتى يكونَ الرَّجُلُ هوَ الذي ينزِعُ يدَهُ منه ، وَإذا لقِيَ أحدًا مِنْ أصحابِهِ فتناول أُذُنَهُ ، ناولَهُ إيَّاها ، ثُمَّ لم ينزِعْها حتى يكونَ الرَّجُلُ هو الذي ينزِعُها عنه".[ صحيح الجامع حسن |أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى]
وكان دائم البِشر، سهل الخُلق، ليّن الجانب، يقول ﷺ: }رحم الله امرئ سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى{، ليس بعيّاب ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، لا يخيّب مؤمله، ترك نفسه من ثلاث: (المراء، ومما لا يعنيه، وذم الناس).
قال أبو هريرة رضي الله عنه كان رسولُ اللهِ (ﷺ) يَجْلِسُ بينَ ظهرَيْ أصحابِه، فيجيءُ الغريبُ، فلا يدري أيُّهم هو، حتى يسألَ{.[ صحيح أبي داود]
ومن مظاهر محبته(ﷺ) لأصحابه انصاف أصحابه من نفسه (ﷺ) ،ومن أجمل القصص ما حدث مع الصحابي الجليل سوادِ بن غَزِيَّةَ الأنصاريِّ يوم بدرٍ، حيث كان النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام يتفقَّد المُقاتلين ويُسوِّي الصُّفوف، وكان سوادُ مُتقدِّماً خطوةً عن باقي الجُند، ممّا جعل الصَّف غير مستوٍ، فأرجعه النَّبيُّ (ﷺ) إلى الوراء بواسطة سهمٍ بلا نصلٍ كان يحمله ويسوِّي به الصُّفوف، فقال سواد للرَّسول إنّه أوجعه ويريد أن يقتصَّ منه ، ولم تُغضب هذه الشَّكوى رسول الله (ﷺ) ، بل على العكس قَبِل القصاص وكشف عن بطنه وأمر سواداً بأن يأخذ حقّه فيضربه بالسَّهم كما فعل له، وإذا بسوادٍ يُقبِل على النَّبيِّ (ﷺ) ويُقبِّل بطنه الشَّريفة! فعجب النَّبيُّ من فعله وسأله لِم صنع ذلك، فأخبر سوادٌ رضي الله عنه رسول الله (ﷺ) أنّ
وقت الحرب والقتال قد حلَّ، فأراد أن يكون آخر عهدٍ له في هذه الدنيا هو أن يمسَّ جلدُه جلدَه (ﷺ) ، فدعا له رسول الله بالخير{.وقد وردت هذه الحادثة في السنة النبوية بإسنادٍ حسنٍ.
ومن مظاهر محبته لأصحابه مزاحه (ﷺ) مع أصحابه ،فكان النبيّ (ﷺ) بسّاماً يحبّ إدخال الفرح والضحك على قلوب من حوله، ومن ذلك  مزاحه (ﷺ) مع زاهر بن حرام رضي الله عنه، فقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه يروي قصّة هذا الصحابيّ فقال: "كان النَّبِيُّ (ﷺ) يُحِبُّه، وكان دَميمًا، فأَتاهُ النَّبِيُّ (ﷺ)  يَومًا، وهو يَبيعُ مَتاعَه، فاحْتَضَنَه مِن خَلفِه، وهو لا يُبصِرُه، فقال: أرسِلْني، مَن هذا؟ فالتَفَتَ، فعَرَفَ النَّبِيَّ (ﷺ) ، فجعَلَ لا يَأْلو ما ألزَقَ ظَهرَه بصَدرِ النَّبِيِّ (ﷺ)  حينَ عَرَفَه، وجعَلَ النَّبِيُّ (ﷺ) يَقولُ: مَن يَشْتَري العَبدَ؟ فقال: يا رَسولَ اللهِ، إذَنْ واللهِ تَجِدُني كاسِدًا. فقال النَّبِيُّ (ﷺ): لكِنْ عِندَ اللهِ لستَ بكاسِدٍ{.[صحيح ابن حجر العسقلاني]
وكان (ﷺ) يمزح معهم، ولا يقول إلا حقًّا.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ﷺ) أنه قال: }إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟!، فقال: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»{ ]رواه أحمد[.
رأى النبي (ﷺ) صهيبًا وهو يأكل تمرًا وبعينه رمد، فقال له النبي (ﷺ) ممازحًا: }أَتَأْكُلُ التَّمْرَ وَبِكَ رَمَدٌ؟!! فقال صهيب: إِنَّمَا آكُلُ عَلَى شِقِّي الصَّحِيحِ لَيْسَ بِهِ رَمَدٌ!! فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ) { (رواه الحاكم)
ومزاحه (ﷺ) مع العجوز التي جاءت تطلب منه الدعاء، فقد ورد عن الحسن البصري أنه قال: }أنَّ امرأةً عجوزًا جاءتْهُ تقولُ لَهُ: يا رسولَ اللهِ، ادع اللهَ لي أنْ يدْخِلَني الجنةَ، فقال لَها: يا أمَّ فلانٍ، إِنَّ الجنَّةَ لا يدخلُها عجوزٌ، وانزعجَتِ المرأةُ وبكَتْ ظنًّا منها أنها لن تدخلَ الجنةَ، فلما رأى ذلِكَ منها؛ بيَّنَ لها غرضَهُ أنَّ العجوزَ لَنْ تدخُلَ الجنَّةَ عجوزًا، بل يُنشِئُها اللهُ خلقًا آخرَ، فتدخلُها شابَّةً بكرًا، وتَلَا عليها قولَ اللهِ تعالى:} إِنَّآ أَنشَأۡنَٰهُنَّ إِنشَآءٗ (35) فَجَعَلۡنَٰهُنَّ أَبۡكَارًا (36)]{ الواقعة[
مزاحه مع أخي أنس بن مالك رضي الله عنه بسؤاله عن الطائر الصغير، فقد جاء عن أنس أنه قال: }كان لي أخٌ صغيرٌ، وكان له نُغَرٌ يَلعَبُ به، فمات، فدخَلَ النَّبيُّ (ﷺ) ذاتَ يَومٍ فرآه حزينًا، فقال: ما شأنُ أبي عُمَيرٍ حزينًا؟ فقالوا: مات نُغَرُه الذي كان يَلعَبُ به يا رسولَ اللهِ، فقال: يا أبا عُمَيْر، ما فَعَلَ النُّغَيْر؟ أبا عُمَيْر، ما فَعَلَ النُّغَيْر؟{.[البخاري].
ومن مظاهر حبه لأصحابه العدل بينهم ،فكان (ﷺ)عادلا بينهم لا يحابي أحدا بغير
حق .. لما كلمه حِبه أسامة بن زيد في العفو عن المرأة المخزومية التي سرقت ، تلون وجهه (ﷺ) وقال : }أتشفع في حد من حدود الله؟ ، ثم قام فاختطب ثم قال : إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها{  ]البخاري[
وكان  (ﷺ) يثني على أصحابه إظهاراً لفضلهم وعلو قدرهم ..فعن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال : قال رسول الله (ﷺ): }أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمة أمينا ، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح  ]الترمذي[ .
ومن مظاهر محبة النبي (ﷺ) لأصحابه ثقته بهم: لقد بلغت ثقة النبي  (ﷺ) مبلغاً عظيماً ،ولولا ذلك لما زجّ بهم إلى معارك ضاريةٍ يكون الأعداء فيها ثلاثةَ أضعافهم ، وتظهر محبّة النبيّ (ﷺ) لأصحابه ومحبّة أصحابه له في كُلّ وقت؛ سلمٍ وحربٍ.
العنصر الثاني : مشاركة النبيّ لأصحابه الآلام والآمال :
إنّ ممّا يعظّم شخصيّة هذا النبيّ الخاتم (ﷺ) هو مشاركته (ﷺ)لأصحابه رضي الله عنهم في كل شيء ولا يميز نفسه عنهم بل كان دائما يُساوي نفسه بأصحابه، بل أحياناً كان يستئثر نفسه دونهم بالوقوع في المشقّة والجهد، فها هو يحمل الحجارة لبناء المسجد وكأنّه فردٌ معهم، لا فرق بينه وبين أحدٍ من المسلمين، وفي يوم الخندق يحفر بيده ويتكلّف بعناءٍ حمل الأحجار على عاتقه الشريف، حيث قال البراء بن عازب
رضي الله عنه: "كانَ النبيُّ (ﷺ) يَنْقُلُ التُّرَابَ يَومَ الخَنْدَقِ، حتَّى أغْمَرَ بَطْنَهُ، أوِ اغْبَرَّ بَطْنُهُ{.] صحيح البخاري[
وما رواه أنس رضي الله عنه قال : خرج رسول الله (ﷺ) إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلما رأى ما بهم من النَصَب والجوع قال :}اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة .. فقالوا مجيبين له : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا{ ]البخاري[
وعن أنس بن مالك  رضي الله عنه قال : كان رسول الله (ﷺ) أحسن الناس ، وكان أجود الناس ، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قِبَل الصوت ، فتلقاهم رسول الله (ﷺ) راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا ،لم تراعوا{ ]البخاري[.
قال ابن حجر : " وقوله : لم تراعوا : هي كلمة تقال عند تسكين الروع تأنيساً ، وإظهاراً للرفق بالمخاطَب " ..
وكان يشاركهم الأحزان والآلام ، فعن قرة بن إياس رضي الله عنه: "كان نبي الله (ﷺ)إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه ، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ، فهلك (مات) ، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة ، لذكر ابنه ، فحزن عليه ، ففقده النبي (ﷺ) فقال : مالي لا أرى فلانا؟ ، قالوا : يا رسول الله ، بَنِيهِ الذي رأيته هلك . فلقيه النبي (ﷺ) فسأله عن بَنِيهِ ، فأخبره أنه هلك ، فعزاه عليه ، ثم قال «يَا فُلَانُ أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ: أَنْ تُمَتَّعَ بِهِ عُمُرَكَ، أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ ؟ قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ، قال: فَذَاكَ لَكَ، فقالوا: يا رسول الله أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ قال: بَلْ لِكُلِّكُمْ{ ]النسائي[ .
وقد لاقى النبيّ (ﷺ) أخطر المواقف والصّعاب ولم يدَع المكروه يُصيب أحداً من أصحابه، كما كان يشاركهم بحبٍّ في مأكلهم ومشربهم، وفي حزنهم وفرحهم.
وكان (ﷺ) يشارك أصحابه ما يعانونه من فقر وجوع ، فإذا حلَّ الجوع بهم يكون قد مر قبلهم به ، وإذا أرسل أحد إليه بصدقة ، جعلها في الفقراء من أصحابه ، وإن أُهْدِيت إليه هدية أصاب منها وأشركهم فيها ،وكان معهم أجود بالخير من الريح المرسلة ، كما وصفه بذلك عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .. عن محمد بن جبير قال: أخبرني جبير بن مطعم : }أنه بينما يسير هو مع رسول الله (ﷺ) ومعه الناس مقفلة من حنين ، فعلقه الناس يسألونه ، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه ، فوقف النبي (ﷺ) فقال : أعطوني ردائي ، لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا ]البخاري[
مقفلة : راجعة من حنين ، السَّمُر : شجر طويل قليل الظل صغير الورق قصيرالشوك ، الرداء: ما يوضع على أعالي البدن من الثياب ، العضاه : نوع من الشجر عظيم له شوك ، النعم : الإبل والشاء ، وقيل الإبل خاصة ..
وكان (ﷺ) يُغدق في العطاء لمن يتألفه ، قال أنس رضي الله عنه :ما سئل رسول الله (ﷺ) على الإسلام شيئاً إلا أعطاه ، قال فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء لا يخشى الفاقة (الفقر).. ]البخاري[.
العنصر الثالث: ترسيخ مبدأ الشورى مع أصحابه:
كان النبيّ لا يُبرم أمراً قبل أن يستشير أصحابه، فكثيراً ما كان يقول لهم:}أشيروا عليَّ أيها الناس { ]مسلم[
وقد كان النبي (ﷺ) حريصاً على مشورة أصحابه حتى في الأمور الصغيرة، ومن ذلك ما جاء عن النبيّ (ﷺ) في صحيح البخاري:}أُتِيَ النبيُّ (ﷺ) بثِيابٍ فيها خَمِيصَةٌ سَوْداءُ صَغِيرَةٌ، فقالَ: }مَن تَرَوْنَ أنْ نَكْسُوَ هذِه؟ فَسَكَتَ القَوْمُ، قالَ: ائْتُونِي بأُمِّ خالِدٍ، فَأُتِيَ بها تُحْمَلُ، فأخَذَ الخَمِيصَةَ بيَدِهِ فألْبَسَها، وقالَ: أبْلِي وأَخْلِقِي{.[ البخاري] ] أم خالد أمة بنت خالد بن سعيد بن العاص[
فقد استشار النبيّ (ﷺ) أصحابه وسألهم لمن يُعطي هذا الثوب.
فمواقفه في استشارة أصحابه في الأمور العسكريّة وغيرها لها الأثر البالغ في مصالح الإسلام والمسلمين، حيث استشار أصحابه في جميع غزواته .
وهذه بعص صور استشارة النبي (ﷺ) لأصحابه رضي الله عنهم ..
ما وقَع يوم بدر عِندما خرَج للقاء القافلة العائدة مِن الشام فأفلتَتْ منه، وعَلم بخروج مُشركي قريش لحرْبه، فاستشار المسلمين الذين كانوا معه، فأشار عليه أبو بكر وعمر والمِقداد  رضي الله عنهم  ولكنَّ النبيَّ (ﷺ) كان يُريد الأنصارَ بهذه الاستِشارة؛ رغبةً منه في مَعرفة ما في نفوسهم، هل يُحارِبون معه خارج المدينة أم يُحاربون معه داخل المدينة فقط؛ تطبيقًا لما بايَعوه عليه في العقَبة؟ فتبيَّن له  بعد أن فَطِنَ سيدُهم سعد بن معاذ مُرادَ النبي (ﷺ) أنهم معه في المدينة وخارجها، وأن روابط الإيمان الراسخ أقوى مِن روابط المعاهدات، وبذلك اتَّضح موقف الأنصار جليًّا للنبيِّ (ﷺ) وللمُهاجِرين الذين كانوا معه يومئذٍ، وكانت هذه الاستشارة للجَميع؛ ولكنَّها أُريد بها الأنصار.
وفي غَزوة الأحزاب، عَلِم النبيُّ (ﷺ) أن قريشًا وحلفاءها وقبائل غطفان قد خرجَتْ صَوب المدينة تُريد غزْوها واستِئصال مَن فيها، فعقد النبي (ﷺ) مَجلِسًا استِشاريًّا شاوَر فيه أصحابه حول خطَّة الدِّفاع التي يَدفعون بها هذه الجيوشَ الجرَّارة، فأشارسلمان الفارسي رضي الله عنه  بحفْر الخَندق للحَيلولة دون دخول تلك الأحزاب إلى المدينة، فوافَق النبيُّ (ﷺ) على هذا الرأيِ وباشَر تطبيقه.
ومنها ما كان في غزوة تبوك، فعِندما وصَل النبيُّ (ﷺ) إلى تبوكَ وأقام بها عِشرين ليلةً ولم يَلْقَ جيش الروم، استشار مَن معه من المسلمين في التقدُّم شمالاً من تبوك، فأشار عمر بن الخطاب بعدم التقدُّم؛ لإمكان الاصطِدام بحشود الروم وحلفائهم المتفوِّقة على المسلمين بعُدَّتها وعَتادها، وأنَّ دُنوَّ النبي إلى المكان الذي وصَل إليه قد حصَل به المقصود مِن إفزاع الروم، فقَبِل النبيُّ (ﷺ) مشورة عُمر ولم يتجاوزْ تبوك.
والسيرة النبوية المشرفة مليئة بصور رائعة من هذا الأمر.
العنصر الرابع: معرفة النبيّ لقدرات أصحابه ونفسيّاتهم :
كان النبيّ (ﷺ) على بصيرةٍ في معرفة نفسيّات أصحابه وقابليّتهم للأمور، فيعرف ما يحبّونه وما يكرهونه، ويحْرِص على علاجِ ما يواجههم في حياتهم، كُلٌّ بحسب استعداده وطاقتِه، وكثيراً ما تتفاوت إجاباته على أسئلتهم وفق حالهم وحاجتهم، وقد يُحذّر أحدهم من أمرٍ، في حين يقدّم غيره إليه؛ لِما يراه من قدرة واستعداد أحدهم، وضعف الآخر عن أدائه.
وما كان ذلك إلا لأنّه وُلد وكبُر معهم، وعاش في بيئتهم وحياتهم، فأدرك مزاياهم الشخصيّة والنفسيّة، فكان يُكلّف كُلّاً منهم حسب حاله، فحققّوا أسمى غايات البطولة في تلك التكاليف بإتقانٍ وكفاءةٍ فائقةٍ، فقد استمال النبيّ (ﷺ) المؤلفة قلوبهم في حُنَينٍ بالمال؛ إذ كانت المادّيّة تستولي على فكرهم، فلم يتشبّع الإيمان بحلاوته في قلوبهم بعد، ومنع الأنصار من الغنائم في حُنينٍ لعلمه بأنّ الحلاوة الإيمانيّة قد بلغت مبلغاً عظيماً في قلوبهم.
وفي يوم أُحدٍ سأل النبيّ (ﷺ) أصحابه من يأخذ السيف منه، فقام عدّة رجال، واختار نبيّ الله أبا دجانة الأنصاريّ رضي الله عنه ؛ لِما كان يعلمه من قوّته وشجاعته، حتّى فلقَ به هام المشركين، فواجبات الشجاعة يتولّاها من هو أهلٌ لها، ومن الصّحابة من لا يقوى على القتال فيُبقيه النبيّ (ﷺ) في المدينة عند النساء؛ كحسان بن ثابت مثلاً.
وذلك لأنه (ﷺ) لا يُحمّل أحداً فوق طاقته، ويراعي قدرات من حوله؛ لذلك كانت سياسته القيادية الحكيمة أن يضع الرجل المناسب في المكان المناسب، فكان يبني الرجال في أماكنهم التي يتقنون فيها أدوارهم، والأهمّ من ذلك أنّه كان يُثني عليهم في مواقعهم بأفضل صفاتهم، ولا يلتفت لِما يعانونه من النقص البشريٍّ.
نجده (ﷺ) يعتذر للصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عندما طلب منه أن يستعمله، بل حذره من خطر ذلك عليه مما عرفه عنه (ﷺ) ، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (ﷺ):}يا أبا ذرٍّ إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم{ [ رواه مسلم]، وعنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعمِلُني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: }يا أبا ذرٍّ إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ إلاَّ مَنْ أَخَذها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها{ ] رواه مسلم[
رأينا في جيل الصحابة نوابغ وقمم عالية في جميع المجالات وهذه بفضل الله تعالى ثم بفضل تربية النبي (ﷺ) لهم ،وقد وجدنا في الصّحابة الكرام من تفوّق في علمٍ على غيره من إخوانه، فقد كان أقرأهم للقرآن "أبيّ بن كعب"، وأكثرهم علماً بالقضاء "علي بن أبي طالب"، وأعلم خبرة بالمواريث "زيد بن ثابت"، وأعلمهم بالحرام والحلال "معاذ بن جبل"، وأقدرهم على الحفظ "أبو هريرة". وأبرعُهم في المجال العسكري "خالد بن الوليد" وهكذا الكثير..
العنصر الخامس: حرصه النبي (ﷺ) على تعليم أصحابه ما ينفعهم وحسن التعامل مع أخطاءهم:
كان (ﷺ) حريصاً على تعليم أصحابه .. حينما أساء رجل في صلاته فعلمه صفتها ، وسُمِّي حديثه بحديث المسيء صلاته ، وقال (ﷺ): }صلوا كما رأيتموني أصلي{ ]البخاري[ .
وفي حجة الوادع قال (ﷺ):}لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه { ]مسلم[
وقال أبو ذر رضي الله عنه  " تركنا رسول الله (ﷺ) وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما " ..
وكان (ﷺ) لا يرضى لأحد أن يحتقر أو يسب أحدا من أصحابه أو يحتقره، ولو كان صحابيا مثله ..
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنَّ رَجُلًا علَى عَهْدِ النبيِّ (ﷺ) كانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وكانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وكانَ يُضْحِكُ رَسولَ اللَّهِ (ﷺ) ، وكانَ النبيُّ (ﷺ) قدْ جَلَدَهُ في الشَّرَابِ، فَأُتِيَ به يَوْمًا فأمَرَ به فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: اللَّهُمَّ العنْه، ما أكْثَرَ ما يُؤْتَى بهِ؟ فَقَالَ النبيُّ (ﷺ): لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ {  ] البخاري[
ولقد اتبع النبي (ﷺ) أسلوباً تربوياًّ عالياً في توجيههم والتعامل مع أخطاءهم وهو كالآتي...
1ـ أسلوب الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه:
كان صلوات الله وسلامه عليه يقدر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم، ويتلطف في تصحيح أخطائهم، ويترفَّق في تعليمهم الصواب، ولاشك أن ذلك يملأ قلب المنصوح حباً للرسالة وصاحبها (ﷺ) ، مثلما فعل مع معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه يوم غزوة أوطاس، ولنتركه يحدثنا عن هذه القصة قال: }بينا أنا أصلي مع رسول الله (ﷺ) إذ عطس رجل من القوم، فقلت: "يرحمك الله"، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: "واثُكْلَ أُمِّيَاهْ! ما شأنكم تنظرون إلي؟" فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمِّتونني، لكني سكتُّ، فلما صلى رسول الله (ﷺ) فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فوا الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني قال: "إن هذه الصلاة لا يَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"{” [صحيح الجامع].
وجاء أعرابي إلى النبي ﷺ وهو جالس بين أصحابه فقال: يا محمد أعطني من مال الله الذي أعطاك، فإنكم يا قريش قوم تظلمون، فقام الصحابة يريدون به سوءا فأمرهم أنْ يدعوه ثم أعطاه فقال: هل أحسنت إليك؟ قال: لا، ولا أجملت، فأدخله رسول الله ﷺ بيته وزاده حتى أرضاه، فقال: رضيت وجزاك الله خيرًا من أخ عشيرة  فاستوقفه رسول الله ﷺ وقال معلّمًا أصحابه: }إنّ مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلاَّ نفورًا، فقال لهم صاحب الناقة: خلّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها وأعلم بها، فتوجّه إليها فأخذ لها من قتام -طعام- الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإنّي لو أطعتكم حيث قال ما قال، لدخل النار{.] رواه البزار[
2ـ أسلوب الإرشاد إلى الخطأ بالرفق والملاطفة
وكان(ﷺ)  يقابل الخطأ بنوع من الملاطفة والرفق بالمخطئ، كما صنع مع خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه حين أمره (ﷺ) أن يذهب في بعض حاجته، فانشغل عنها باللعب مع الصبيان، قال: }كان رسول الله (ﷺ) من أحسن الناس خلقا فأرسلني يوما لحاجة، فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله (ﷺ)، فخرجت حتى أمر على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله (ﷺ) قد قبض بقفاي من ورائي قال: فنظرت إليه وهو يضحك فقال:( يا أنيس أذهبت حيث أمرتك) قال: قلت نعم أنا أذهب يا رسول الله، قال أنس: والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا، أو لشيء تركته هلا فعلت كذا وكذا{[صحيح مسلم]
3ـ أسلوب التعريض فيما يذم دون التصريح 
كان النبي (ﷺ) يذم الخطأ ويشهر به، ولا يشهر بصاحبه، ولذلك لم يكن (ﷺ)  يواجه المخطئين بالخطأ أمام الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى تحطيم شخصية المخطئ وإذلال نفسيته، وهذا أسلوب ذكي يتعلم منه المخطئ دون أن ينظر له الآخرون نظرة ازدراء.
عن أنس بن مالك قال :}إن نفرا من أصحاب النبي (ﷺ) سألوا أزواج النبي (ﷺ)  عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: }ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"{ [صحيح ابن حبان]
4ـ أسلوب الإقناع بالخطأ :
ومن منهجه (ﷺ) مع المخطئين أنه كان ينتهج  معهم أسلوباً رفيعاً في تقويم أخطائهم من ذلك:  إقناعه (ﷺ) فبينما رسول الله (ﷺ) جالس بين أصحابه إذ جاءه شابّ من الأنصار فقال: يا رسول الله، أتأذن لي في الزنا؟، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن فتى شابا أتى النبيَّ (ﷺ) فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء){. ]رواه أحمد[ .
فهذا شاب عارم الشهوة، صريح في التعبير عن نزواته  دون حياء، فلقيه الرسول (ﷺ) بهذا الرفق الحسن والحوار الهادئ ، فقام ذلك الفتى مقتنعاً بخطئه عازماً على تركه وعدم الالتفات إليه .
5ـ أسلوب التلميح بالغضب :
من توجيه النبي (ﷺ) وإرشاده للمخطئين  أنه أحيانا لا يواجه المخطئ بفعله، وإنما يغضب لذلك فيُعرف في وجهه (ﷺ) ، فقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: كان النبي (ﷺ) }أشد حياء ً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه {[صحيح البخاري] .
وروت عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة [أي وسادة] فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله (ﷺ) قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية، فقالت : "يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله، فماذا أذنبت؟ فقال (ﷺ):"ما بال هذه النمرقة" قلت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله (ﷺ): "إن أصحاب هذه الصور يوم القيامة يعذبون فيقال لهم أحيوا ما خلقتم وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" [ متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه].
وقد يبتسم ابتسامة المغضب؛ هذه الابتسامة التي يعاتب فيها أحيانا المخطئ ويوجهه ويقوِّم خطأه مثلما فعل مع كعب بن مالك الذي تخلف عن غزوة تبوك دون عذر ولنترك كعب يحدثنا عن لقائه الأول بالرسول (ﷺ) حين رجوعه من الغزوة قال: "فجئته فلما سلمت عليه تَبسَّم تَبسُّم المغضب ثم قال: ( تعال)، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: }ما خلفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك، فقلت: بلى إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله (ﷺ): أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك…{[ صحيح البخاري]
ففي هذه القصة يتجلى الأثر العظيم في تهذيب نفوس المخطئين بهذا الأسلوب الحسن، عاقبه بابتسامة مغضبة من غير صراخ رغم عِظم هذا الموقف، فأين نحن اليوم من هذا الأسلوب النبوي الحكيم.
6ـ أسلوب العتاب والتأنيب :
على أن هذا العتاب يكون عتاباً توجيهياً، على قدر الحاجة من غير إسفافٍ ولا إسراف، ومن ذلك ما رواه البخاري عن أبي ذر قال :"سببت رجلاً فعيّـرته بأمه  قال له : يا ابن السوداء، فقال رسول الله (ﷺ): }يا أبا ذر، أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية{ ] البخاري[
فقد عالج النبي (ﷺ) خطأ أبي ذر حين عيَّر الرجل بسواده بالتوبيخ والتأنيب ثم وجهه لما يجب فعله .
وقد عاتب رسول الله (ﷺ) الشاب معاذ بن جبل عندما أطال بقومه الصلاة، حيث جاء رجل يشكو معاذاً  إلى الرسول (ﷺ)، فقال (ﷺ): }يا معاذ، أفتّان أنت ؟ …{ [البخاري]
7ـ التذكير وتكرار التخويف:
وذلك ما رواه جندب ابن عبد الله البجلي: "أن رسول الله (ﷺ) بعث بعثا من المسلمين إلى قوم من المشركين وإنهم التقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله وإن رجلا من المسلمين قصد غفلته قال: وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله  فقتله فجاء البشير إلى النبي  (ﷺ) فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله فقال: (لم قتلته) قال: يا رسول الله أوجع في المسلمين وقتل فلانا وفلانا وسمى له نفرا وإني حملت عليه  فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله . قال رسول الله (ﷺ): (أقتلته) قال: نعم قال:(فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) قال: يا رسول الله  استغفر لي. قال: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله  إذا جاءت يوم القيامة) قال: ( فجعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة{[ أخرجه مسلم].
8ـ أسلوب العفو والصفح  مهما كان الخطأ كبيرا :
يحتاج الإنسان أحيانا إلى مثل هذا الأسلوب مهما كانت درجة الخطأ، وقد كان (ﷺ)  يستعمل هذا الأسلوب في الوقت المناسب لإصلاح أخطاء بعض الصحابة.
ومن أروع الأمثلة على ذلك: ما فعله مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه عندما كتب كتابا إلى قريش يُخبرهم بمسير رسول الله (ﷺ) إليهم، ثم أعطاه لامرأة، وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش، فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة، ولكن الله تعالى أطلع نبيه (ﷺ) بما صنع حاطب، فقضى (ﷺ) على هذه المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهُّز المسلمين وسيرهم لفتح مكة.
فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه حاول أن يكشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ومع ذلك عامله معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل (ﷺ) من ماضي حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه سببًا في الصفح عنه، وهو أسلوب تربوي بليغ، وفيه درس تربوي حكيم.
الخاتمة..
لقد استطاع النبي (ﷺ) أن يصنع أعظم جيل عرفته البشرية وذلك بتوفيق الله تعالى،ثم بحسن إدارته (ﷺ) ، فما أحوجنا إلى التأسي بحضرته الشريفة (ﷺ) حتى نقيم علاقات قوية بيننا وبين بعضنا والله تعالى أمرنا بذلك فقال تعالى } لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا (21){ ] الأحزاب[
نسأل الله تعالى أن يأدبنا بأدب الإسلام ويخلقنا بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يجعلنا من أهل رضوانه وجناته إنه ولي ذلك والقادر عليه .
 
==================================================
 رابط doc

رابط pdf

وقفة مع الزلازل واالأعاصير

الخميس، 14 سبتمبر 2023

فقه المسلم مع الزلازل والأعاصير




الحمد لله رب العالمين ..جعل الأرض قراراً ومهاداً ،وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً فقال تعالى } أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَجَعَلَ خِلَٰلَهَآ أَنۡهَٰرٗا وَجَعَلَ لَهَا رَوَٰسِيَ وَجَعَلَ بَيۡنَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (61){ ] النمل[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الخلق والأمر، بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير.. فقال تعالى } أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) { ] الأعراف[
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) حذر من الذنوب وشؤمها ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ: }إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ{
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
إن الله تعالى جلت قدرته يرسل بالآيات لينذر عباده ويردهم إليه سبحانه وتعالى فقال تعالى } وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا (59){ ] الإسراء[
وقال تعالى } وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَدۡنَىٰ دُونَ ٱلۡعَذَابِ ٱلۡأَكۡبَرِ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ (21){ ] السجدة[
والزلازل من الآيات التي يُخَوِّفُ الله بها عباده، كما يُخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات, كل هذه الآيات تذكرنا بيوم القيامة والاستعداد له .
والزلازل آية باهرة تدل على قدرة الله تعالى ووحدانيته فالعباد تحت قبضته ، وتحت رحمته .
خلق الله تعالى لهم الأرض وأنعم بها عليهم وجعل فيها معايشهم وأرزاقهم ولكن انظر لحظة اضطرابها وزلزلتها بعد إن كانت ساكنة مطمئنة لترى بنفسك الدلائل الواضحات على قدرة الخالق سبحانه وإرادته وحكمته ووحدانيته .
ثم تأمل عظمته سبحانه وأن مقاليد الأمور بيده ، فيمن نجا كيف نجا ، وفيمن هلك كيف هلك لترى بنفسك مدى القدرة الإلهية . فعلينا أن ننظر ونتأمل في آيات الله تعالى ولا يكون حالنا كما أخبر الله تعالى:} وَكَأَيِّن مِّنۡ ءَايَةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ يَمُرُّونَ عَلَيۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ (105) {[يوسف].
وللمسم مع الآيات الكونية وقفات للعظة والاعتبار ومراجعة نفسه ومحاسبتها لذلك كان حديثنا عن }فقه المسلم مع الزلازل والأعاصير{ وذلك من خلال هذه العناصرالرئيسية التالية ..
1ـ الزلازل عظة واعتبار.
2ـ الزلازل ابتلاء من الله تعالى .
3ـ كيف يتعامل المسلم مع الزلازل وغيرها من الكوارث الطبيعية؟
4ـ الزلازل ويوم الحساب.
5ـ الخاتمة.
العنصر الأول : الزلازل عظة واعتبار:
اتفق علماء الفقه والسنة على أن الزلازل والبراكين والكوارث الطبيعية هي من آيات الله عز وجل العظام في هذا الكون، وأن الله عز وجل يبتلي بها عباده تذكيراً أو تخويفاً أوعقوبة، قال تعالى }وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡأٓيَٰتِ إِلَّا تَخۡوِيفٗا (59){ ] الإسراء[
ولما رجفت الأرض في الكوفة ، قال ابن مسعود }أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه {.أي يطلبكم الرجوع عن الإساءة واسترضائه فافعلوا، وقد كان رسول الله (ﷺ) إذا كانت الريح الشديدة عرف في وجه النبي (ﷺ)) رواه البخاري .
قال الحافظ ابن حجر لما كان هبوب الريح الشديدة يوجب التخويف المُفْضِي إلى الخشوع والإنابة كانت الزلزلة ونحوها من الآيات أولى بذلك ولاسيما وقد لقى الخبر أن أكثر الزلازل من أشراط الساعة .
والله عز وجل نادى الناس جميعا وحذرهم من عظم هذا اليوم فقال تعالى:} يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ (1) يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ (2){ ] الحج[ .
تزلزلت الأرض على عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال، }يا أيها الناس؛ ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدا{.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : دخلت على عائشة رضي الله عنها ورجل معه ، فقال الرجل : يا أم المؤمنين حدثينا حديثا عن الزلزلة ، فأعرضت عنه بوجهها ، قال أنس : فقلت لها : حدثينا يا أم المؤمنين عن الزلزلة ، فقالت : يا أنس إن حدثتك عنها عشت حزينا ، وبُعثت حين تبعث وذلك الحزن في قلبك فقلت : يا أماه حدثينا ، فقالت : إن المرأة إذا خلعت ثيابها في غير بيت زوجها هتكت ما بينها وبين الله عز وجل من حجاب ، وإن تطيبت لغير زوجها كان عليها نارا وشنارا ، فإذا استحلوا الزنا وشربوا الخمور بعد هذا وضربوا المعازف، غار الله في سمائه ، فقال للأرض : تزلزلي بهم ، فإن تابوا ونزعوا وإلا هدمها عليهم فقال أنس : عقوبة لهم ؟ قالت : رحمة وبركة وموعظة للمؤمنين ، ونكالا وسخطة وعذابا للكافرين،  قال أنس : فما سمعت بعد رسول الله (ﷺ) حديثا أنا أشد به فرحا مني بهذا الحديث ، بل أعيش فرحا وأبعث حين أبعث وذلك الفرح في قلبي أو قال : في نفسي { ] حديث صحيح على شرط مسلم[
وقال كعب: إنما زلزلت الأرض إذا عُمِل فيها بالمعاصي، فترعد فرقا من الرب جل جلاله أن يطلع عليها.
وجرت سنة الله تعالى أنه إذا كثر الخبث ولم تقم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن العذاب إذا نزل عم الجميع.
ففي الصحيحين عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِيَّ (ﷺ) ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ، وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ، وَبِالَّتِي تَلِيهَا» فَقَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ؛ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ»
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ﷺ) ( لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل وحتى يكثر فيكم المال فيفيض ) .
وقد يهلك في الزلازل الصالح والطالح ، فهلاكهم في الزلازل خيراً لهم وراحة من نصب الدنيا وأذاها، كما في الحديث: }وقد مر على رسول الله (ﷺ) بجنازة، فقال: مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله؛ ما المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب{]رواه البخاري ومسلم[.
والموت في الزلازل، ضرب من الموت بالهدم، الذي يكون صاحبه من شهداء الآخرة.
العنصر الثاني: الزلازل ابتلاء من الله تعالى:
الابتلاء سنة الله تعالى في خلقه كما شهدت بذلك آيات القرآن الكريم , وهو قدر على الإنسان مطلقا سواء أكان مسلما أم كافرا , كبيرا أم صغيرا كما هي دلالة الإطلاق في كلمة الإنسان من قوله تعالى: {إنا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً(2)} ]الإنسان[ .
وكما تتعدد فئات المبتلين يشير القرآن الكريم إلى أن أشكال البلاء تتعدد , فابتلاء بالخير وابتلاء بالشر {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)} ]الأنبياء[
وابتلاء بالكوارث }أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (99){ ]الأعراف[.
وقال الله تعالى: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) { ]الأنعام[ .
فهذه الابتلاءات ليست خاصة بعنصر أو أمة بل يتعرض لها البشر كافة.
فهذه الابتلاءات رحمة من الله تعالى وعذاب للكافرين ،فليس كلّ من هلكَ عاصياً، ولا كل من نجا تقيّاً!
لقد مات أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة في طاعون عمواس ، ومعه حشدٌ من الصحابة. ونجا الرومُ على مقربةٍ منهم وهم لا يساوون شِسَاع نعالهم!
من مات من المؤمنين فهو من الشهداء نحسبهم كذلك .
وفي الابتلاء على الإنسان أن يتأدب مع الله تعالى ولا يعترض على أمره وقضائه فلا أحد أرحم بالخلق من الله،! فما نحن إلا عبيد في ملكه، ومهما أوتينا من علمٍ وفهمٍ فلن ندركَ لا رحمته ولا حكمته، ولو اجتمعت عقول البشر جميعهم لتفهم الحكمة من قتل الغلام في سورة الكهف لما فهموها، ولكن لما كشَفَ لنا حُجب الغيب علمنا أنه سبحانه يُغلِّفُ خيراً كثيراً في قشرة رقيقة بما نحسبه شراً مستطيراً!
وفي هذه الابتلاءات فرصة لا لنتذكَّر قوة ربنا فحسب، وإنما لنتذكَّر ضعفنا أيضاً!
ونعلم أنه لا شيء مضمون في هذه الدنيا، وكل شيءٍ يمكن أن ينقلبَ رأساً على عقب في لحظةٍ، الصحة قد تنقلب عجزاً، والجمال قد يصيرُ تشوهاً، والغنى قد يصبحُ فقراً، وقد قيل لأحد الصالحين: كيف النجاة وربنا يرمينا بسهام القدر؟
فقال: كُنْ بجوار الرامي تنجُ! فدوام الحال من المحال !!
العنصر الثالث: كيف يتعامل المسلم مع الزلازل وغيرها من الكوارث الطبيعية؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "السنة في أسباب الخير والشر: أن يفعل العبد عند أسباب الخير الظاهرة والأعمال الصالحة ما يجلب الله به الخير، وعند أسباب الشر الظاهرة من العبادات ما يدفع الله به عنه الشر.. كما أمر النبي  (ﷺ) عند الخسوف بالصلاة والصدقة والدعاء والاستغفار والعتق" ا.هـ.
ولما كانت الزلازل من الآيات التي يُخوف الله بها عباده شأنها في ذلك شأن الكسوف والخسوف استحب عندها من الوعظ والصلاة والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر، فمن ذلك:
1ـ الفزع إلى الصلاة :
ولا عجب أن الله تعالي يدعونا في أحلك الظروف إلى إقامة الصلاة قال تعالي (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)؛ لأنها المخلص للإنسان في وقت الفتن، والشاحذ للهمم؛ فإليها المفزع عند الحاجة، وطلب الخير، فنجد عن اختلاف الظواهر الطبيعية مثل كسوف الشمس وخسوف القمر، يدعونا الله تعالي إلي صلاة الخسوف والكسوف ، وأيضا صلاة الخوف ، وصلاة الحاجة .... إلخ؛ ومن باب أولى في هذه الأيام العصيبة؛ أن نستعين بالصبر والصلاة  كما قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ(45)} [البقرة].
2ـ الذكر والدعاء والاستغفار:
قال القسطلاني: "ويستحب لكل أحد أن يتضرع بالدعاء عند الزلازل ونحوها كالصواعق والريح الشديدة والخسف"
ومما يؤكد ذلك: ما أمر به النبي (ﷺ) عند الكسوف والخسوف:
ففي حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال لما كسفت الشمس: "هذه الآيات التي يُرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته ولكن يُخوف الله بها عباده فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره{[ البخاري ومسلم " فافزعوا: أي التجئوا من عذاب الله إلى ذكره].
قال ابن مالك: "إنما أمر بالدعاء لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق تكون معرضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العليا فيكون أقرب إلى الإجابة" .
ولما كانت الزلازل موطنًا من مواطن الكرب والشدة والهم والفزع استحب للمسلم أن يدعو في هذه المواطن بما ورد في ذلك من أدعية ثابتة عن النبي (ﷺ) ومن ذلك ..
أ- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله (ﷺ) كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم"[ رواه البخاري ومسلم].
2ـ وعن أنس رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) أنه كان إذا أكربه أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"[ حديث حسن: رواه الترمذي وابن السني بإسناد ضعيف إلا أن له شاهدًا عند الحاكم  ولذا حسنه الألباني].
ب- وعن أبى بكرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال: "دعوات المكروب:
 اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" [ رواه أبو داود  والنسائي إسناده حسن].
ج ـ وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله (ﷺ): "ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب  أو في الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئًا"
[ حديث حسن: رواه أبو داود  وابن ماجة  وأحمد  وحسنه الألباني].
د - وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: "دعوة ذي النون إذ دعا ربه وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له"[ حديث
صحيح: رواه الترمذي وأحمد  والحاكم وصححه].
هـ ـ و كان رسولُ اللهِ (ﷺ) إذا سمِع الرَّعدَ والصواعِقَ قال }اللهمَّ لا تَقتُلْنا بغَضَبِكَ ولا تُهلِكْنا بعَذابِكَ وعافِنا قبلَ ذلك{ ]الترمذي[
و ـ من الأدعية المشهورة والمستحبة في وقت حدوث البلاء، ما ورد عن الرسول (ﷺ): }اللهم إنى أسألك العفو والعافية، في الدنيا والآخرة، اللهم إنى أسألك العفو والعافية، في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم أحفظني من بين يدى، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقى، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي{.] أخرجه أبو داود  واللفظ له، وابن ماجه وأحمد [
3ـ القنوت في الصلاة :
معنى النازلة : "النازلة الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس
 وهي ما ينزل بالناس من كوارث كوباء وطاعون وقحط وجراد وأعاصير ، ومطر يضر بالعمران أو زرع وخوف عدو، وكذلك الزلازل وما تسببه من دمار .
فيستحب القنوت في الصلوات عند النوازل والزلازل من أعظم النوازل وهذه سنة النبي(ﷺ)  
قال الشوكاني: "القنوت مختص بالنوازل وأنه ينبغي عند نزول النازلة أن لا تخص به صلاة دون صلاة" [نيل الأوطار].
وقال ابن القيم: "وكان من هديه (ﷺ) القنوت في النوازل خاصة وتركه عند عدمها" [زاد المعاد].
وقال الحافظ ابن حجر: "ويؤخذ من الأخبار أنه (ﷺ) كان لا يقنت إلا في النوازل"
والسنة في قنوت النوازل: أن يقتصر الداعي فيه على ما يناسب النازلة فقط.
4ـ الصدقة وبذل المال:
ومما يستحب عند الزلزلة التصدق وبذل المال فعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز في زلزلة كانت بالشام: إن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وقد كتبت إلى أهل الأمصار: أن يُخرجوا يوم كذا وكذا في شهر كذا وكذا في ساعة كذا وكذا فأخرجوا، ومن أراد منكم أن يتصدق فليفعل فإن الله قال: } قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى(15) { [الأعلى].
وقولوا كما قال أبوكم عليه السلام: }رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23) { [الأعراف].
وقولوا كما قال نوح عليه السلام: }وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47) { [هود].
وقولوا كما قال موسى عليه السلام:} رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي (16){[القصص].
وقولوا كما قال ذو النون: }لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87) {[الأنبياء].
وكذلك مما يؤكد المسارعة إلى بذل المال والتصدق في مثل هذه الأحوال وغيرها - لا سيما صدقة السر  قوله صلى الله عليه وسلم }صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب{ ]حديث حسن رواه الطبراني في الكبير[
5ـ التوبة والندم:
يستحب عند الزلازل المسارعة إلى التوبة إلى الله تعالى من الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها.
قال الإمام النووي: "قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط:
أحدها: الإقلاع عن المعصية.
والثاني: الندم على فعل المعصية.
والثالث: العزم على عدم العود إلى الذنب أبدًا.
فإن فُقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.
وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالًا أو نحوه رده، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها"
قال تعالى: } وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31){[النور].
ولا شك أن الله تعالى أراد من وراء هذه الآيات التي يخوف بها عباده أن يرجعوا إليه ويتضرعوا وينيبوا ويندموا ويقلعوا عن الذنوب.
كما قال بعض السلف وقد زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه"؛ أي: يطلبكم للرجوع عن الإساءة واسترضائه.
فالمفلح: من استجاب وتاب وندم ورجع وأناب.
والخاسر: من أعرض وارتاب فحق عليه الغضب والعذاب.
قال تعالى: }وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(81) { [طه].
6ـ الاحساس بآلام وأحزان المكلومين:
الأمة المسلمة أمة واحدة مثل الجسد الواحد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) }مثل الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى{. ]أخرجه مسلم[ ، على المسلم أن يتخلى عن الأثرة والأنانية ويشعر بإخوانه المنكوبين ويساعدهم إن لم يملك شيئا ماديا فعليه بالشعور المعنوي بالدعاء لهم في كل صلواته ، ويعلم أن الأيام دول بين الناس ،يوم لك ويوم عليك ، وعلينا أن نترك التقاطع والتنابذ فأيام الإنسان في هذه الدنيا قليلة لا تضيعها في التخاصم والتناحر بينك وبين الناس.
العنصر الرابع : الزلازل ويوم الحساب:
الحساب !! ما الحساب؟ وما هي صفته؟ وعلى ماذا يحاسب الله تعالى العباد؟
يوم الحساب: هو محكمة العدل الإلهية التي يقضي فيها رب العزة سبحانه بين خلقه وعباده وينبغي أن تعلم أن يوم القيامة: يوم يجمع الله فيه الأولين، والآخرين للحساب:} قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَوَّلِينَ وَٱلۡأٓخِرِينَ (49) لَمَجۡمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَٰتِ يَوۡمٖ مَّعۡلُومٖ(50) {[الواقعة].
يوم تتكشف فيه الحقائق والأستار، فالكل مكشوف النفس والعمل والمصير:}يَوۡمَئِذٖ تُعۡرَضُونَ لَا تَخۡفَىٰ مِنكُمۡ خَافِيَةٞ (18){[الحاقة].
يوم يشيب من هوله الوليد، وتذهل الأم الحنون عن طفلها، وتسقط فيه الحامل حملها قال تعالى }يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ (1) يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ (2){ [الحج].
وأما صفة الحساب: فلا بد لكل محكمة من حاكم يحكم ويقضي، وشهود يشهدون، ومتهم وأرض يقام عليها الحكم.
1- أما الحاكم: فهو الله جل جلاله، جبار الأرض والسماء، تباركت أسماؤه وعظمت صفاته الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى ويبدأ الأمر:
أ- بنفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتصعق الخلائق كلها وتموت: قال تعالى }وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ (68){[ الزمر].
 ب- إحداث تغير عام في الكون فتنشق السماء وتتناثر النجوم وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض:} إِذَا ٱلشَّمۡسُ كُوِّرَتۡ (1) وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتۡ (2) وَإِذَا ٱلۡجِبَالُ سُيِّرَتۡ (3) {[التكوير]. كورت أي ظلمت، انكدرت: أي تناثرت، وسيرت: أي حركت وصارت كالهباء.
ج- ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتقوم الخلائق للحشر: }ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ (68){ [ الزمر].
د- نزول عرش الرحمن جل جلاله: قال تعالى : }وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوۡمَئِذٖ وَاهِيَةٞ (16) وَٱلۡمَلَكُ عَلَىٰٓ أَرۡجَآئِهَاۚ وَيَحۡمِلُ عَرۡشَ رَبِّكَ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ ثَمَٰنِيَةٞ (17){[الحاقة]،
 أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة.
هـ- ثم يشرق على الأرض نور الحق جل جلاله: }وَأَشۡرَقَتِ ٱلۡأَرۡضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ وَجِاْيٓءَ بِٱلنَّبِيِّـۧنَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (69){[الزمر]. أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء.  
و- ثم مجي الحق سبحانه مجيئا يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه الكبير المتعال: }كَلَّآۖ إِذَا دُكَّتِ ٱلۡأَرۡضُ دَكّٗا دَكّٗا (21) وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلۡمَلَكُ صَفّٗا صَفّٗا (22){[الفجر].
وأما صفة حكمه جل جلاله سبحانه:
- العدل المطلق: }فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ (7) وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ (8){ [الزلزلة].
أ- فلا ظلم: }وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا (49){[الكهف].
ب- ولا أنساب:}فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلَآ أَنسَابَ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ وَلَا يَتَسَآءَلُونَ (101){[المؤمنون]. أي لا تنفع الإنسان يومئذ قرابة ولا نسب
ج- ولا رشوة لتغير صورة الحكم، فالحاكم هو الغني المتعال والكل مفتقر إليه سبحانه: } يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ (15)[فاطر].
د- ولا تهديد ولا ضغوط: فالحاكم هو القوي سبحانه: }أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ (165){[البقرة]
2- الشهود:
وأما الشهود فهم كثير فلا مكان للإنكار والكذب والمراوغة .
أ- وأعظمهم شهادة هو الله سبحانه الله جل جلاله }أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجۡوَىٰ ثَلَٰثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمۡ وَلَا خَمۡسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمۡ وَلَآ أَدۡنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمۡ أَيۡنَ مَا كَانُواْۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٌ (7){[المجادلة].
ب- الرسل عليهم الصلاة والسلام ويشهد للرسل سيدنا وحبيبنا رسول الله (ﷺ)  كما ورد في الحديث (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ 
فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من أحد. فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، ثم أشهد لكم).
 ج- الملائكة: }إِذۡ يَتَلَقَّى ٱلۡمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٞ (17) مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ (18){[ق].
يقول الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا وقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك).
د- الجوارح: }وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمۡ لِمَ شَهِدتُّمۡ عَلَيۡنَاۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِيٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيۡءٖۚ وَهُوَ خَلَقَكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (21){[فصلت]. 
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي (ﷺ) فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم  قال: من مخاطبة العبد ربه  فيقول: يا رب ألم تجرني (تحفظني) من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، والكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل) .
هـ- الأرض:}يَوۡمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا (4){[الزلزلة4]. 
قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الآية: (يومئذ تحدث أخبارها ) قال: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمةٍ بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها).
و- التسجيل الكامل كما ذكر بعض العلماء: لقوله تعالى:}يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ (6) فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ (7) وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖ شَرّٗا يَرَهُۥ (8){ [الزلزلة[.
وتعرض الأعمال عرضا حيا ناطقا، فسيرى المرء عمله وهو يباشره إن خيراً فخيراً، وإن شراًّ فشراًًّ
3- المتهم:
هو الإنسان الذي خلقه الله بيده، وأسجد له الملائكة، وكرّمه على كثير ممن خلق، سخر الكون له، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وجعل له واعظا من عند نفسه بالفطرة التي فطر الله الناس عليها على معرفته سبحانه وحذره من الشيطان وطاعته ثم يستقبل الإنسان ذلك كله بالسخرية: }يَٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا يَأۡتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (30){ [يس]. 
4- وأما أرض المحكمة: 
قال تعالى :} يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ (48){ [إبراهيم].
فهي أرض أخرى غير أرضنا لم تطأها قدم من قبل، ولم تعمل عليها خطيئة، ولم يسفك عليها دم، أرض طاهرة من ذنوب بني آدم وظلمهم، طهر يتناسب مع طهر القضاء.
وأما على ماذا يحاسب الله تعالى العباد: 
فاعلم أن الحساب سوف يكون مشافهة: فكل عبد يعرض على ربه، ويتولى سبحانه حسابه بنفسه ، فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال :قال رسول الله (ﷺ) :} ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه اللهُ يومَ القيامةِ ، ليس بينه وبينه تَرجمانُ ، فينظرُ أيْمنَ منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظرُ أشأَمَ منه ، فلا يرى إلا ما قدَّم ، وينظرُ بين يدَيه ، فلا يرى إلا النَّارَ تِلقاءَ وجهِه ، فاتَّقوا النَّارَ ، ولو بشِقِّ تمرةٍ ، ولو بكلمةٍ طيِّبةٍ{ ] أخرجه البخاري ومسلم [
والحساب إما أن يكون يسيرا: وذلك بأن يعرض على العبد عمله بحيث لا يطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة فعن ابن عمر رضي الله عنهما :} أنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ، كيفَ سَمِعْتَ رَسولَ اللَّهِ (ﷺ) يقولُ في النَّجْوَى؟ قالَ: يَدْنُو أحَدُكُمْ مِن رَبِّهِ حتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عليه، فيَقولُ: أعَمِلْتَ كَذَا وكَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ، ويقولُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ، فيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يقولُ: إنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليومَ{ .
وأما أن يكون الحساب عسيرا وذلك لمن كثرت معاصيه فذلك الذي يناقش الحساب ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة ،فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: }ليسَ أحَدٌ يُحاسَبُ إلَّا هَلَكَ قالَتْ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِداءَكَ، أليسَ يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فَأَمَّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا} قالَ: ذاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ ومَن نُوقِشَ الحِسابَ هَلَكَ{ ]البخاري[.
والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة. 
والحساب يتناول كل شيء:
1ـ العمر والمال والجسم والعلم لقول النبي (ﷺ): }لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه{.
2ــ عن النعم وشكرها:}ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ (8){[التكاثر]. 
قال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا). ولقوله (ﷺ): (إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال: له ألم نصح لك بدنك، ونروك من الماء البارد).
3- عن الحواس واستعمالها: }إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا (36){ [الإسراء].
قال ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم .
4- عن الفرائض من صلاة وزكاة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول (ﷺ):} إنَّ أوَّلَ ما افتَرضَ اللَّهُ على النَّاسِ من دينِهِمُ الصَّلاةُ ، وآخرَ ما يبقى الصَّلاةُ ، وأوَّلَ ما يحاسبُ بِهِ الصَّلاةُ ، ويقولُ اللَّهُ انظُروا في صلاةِ عبدي . فإن كانت تامَّةً كُتِبت تامَّةً ، وإن كانت ناقصةً يقولُ : انظُروا هل لعبدي تطوُّعٍ ؟ فإن وُجِدَ لَهُ تطوُّعٌ تمَّتِ الفريضةُ منَ التَّطوُّعِ ، ثمَّ قالَ : انظُروا هل زَكاتُهُ تامَّةٌ ؟ فإن كانت تامَّةً كُتِبت تامَّةً ، وإن كانت ناقِصةً قالَ : انظروا هل لَهُ صدقةٌ ؟ فإن كانت لَهُ صدقة تمَّت له زَكاتُهُ{] المنذري الترغيب والترهيب[
5- عن الدماء والقتل: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله (ﷺ): }أول ما يقضى بين بالناس يوم القيامة في الدماء{ ] مسلم[
6- السؤال عن المسؤولية والأمانة: قال تعالى}وَقِفُوهُمۡۖ إِنَّهُم مَّسۡـُٔولُونَ(24) {[الصافات].
وقول النبي (ﷺ):}كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والأمير راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده{.
7- عن الكلمة لقوله (ﷺ): }إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب{
ولقول النبي (ﷺ): (وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم).
و ما من كاتب إلا ستبقى                 كتابتـه وإن فنيـت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء                 يسرك في القيامة أن تراه
8- عن الحقوق والمظالم للحديث القدسي : يقول الله تعالى: }أنا الديان، أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة{.    
الخاتمة ..
النظر والاعتبار في آيات الله تعالى الكونية  يزيد الإيمان في قلب الإنسان ، ولا بد من محاسبة النفس على كل صغيرة وكبيرة فمن حاسب نفسه في الدنيا خف عليه الحساب يوم القيامة ، والزلازل والأعاصير من آيات الله الكونية التي يبتلي بها عباده ليمحصهم ويرفع درجاتهم ، فهي عقوبة إلهية للمتجبرين.، وتأديب للمذنبين، وتنبيه للغافلين، واختبار للمؤمنين.

نسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يحفظنا من الزلازل والمحن ، اللهم الطف بنا فيما جرت به الأقدار، واجعلنا راضين بقضائك، صابرين على بلائك، شاكرين لنعمائك.

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...