السبت، 15 يوليو 2023

الهجرة النبوية والأخذ بالأسباب




الحمد لله رب العالمين .. مدبر الملك والملكوت ،المنفرد بالعزة والجبروت ، صرف أعين ذوي القلوب والألباب عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب ، من توكل عليه كفاه ، ومن اعتمد عليه اجتباه ووقاه ، وجعله من أهل رضاه ، قال تعالى }وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3){ ]الطلاق[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. نصر نبيه (ﷺ) وأيده بالمعجزات ودافع عن أوليائه وجعل كلمة الكافرين السفلى وكلمة الله هي العليا فقال تعالي }إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40){ ]التوبة[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) علمنا الأخذ بالأسباب والاعتماد على خالق الأسباب فقال (ﷺ) لصاحبة في الغار }يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا { .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون .
لقد كانت الهجرة المباركة مرحلة فارقة في تاريخ الدعوة الإسلامية ،يتجلى فيها التعامل مع الأسباب ،إذ أن الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل، إن من تأمل الهجرة، ورأى دقة التخطيط فيها، و دقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، ولابد أن نعلم أن هذه العبقرية في التخطيط، ما كان بها وحدها يكون النجاح، لولا التوفيق الإلهي، والإمداد الرباني، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهي من خلال الأخذ بالأسباب البشرية.
لذلك كان موضوعنا } الهجرة والأخذ بالأسباب{وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية...
1ـ الهجرة من المعالم البارزة للأمة .
2ـ الهجرة وخوارق العادات .
3ـ التخطيط البشري في الهجرة ومراحله .
4ـ التأييد الرباني في الهجرة .
5ـ الخاتمة .
العنصر الأول : الهجرة من المعالم البارزة للأمة :
لأهمية الهجرة المباركة ومكانتها في التاريخ الإسلامي أرَّخ المسلمون بالهجرة كمعلمٍ بارز في تاريخ الدعوة ؛ وذلك لما للهجرة من آثار على انتصار الدعوة ، وظهورها ولأنه بالهجرة وُلِدت دولة الإسلام.
وذكروا في سبب عمل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه التأريخ بالهجرة  "أن أبا موسى كتب إلى عمر: أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم : أرِّخ بالمبعث (بعثة النبي (ﷺ)) ،
وبعضهم قال :أرِّخ بالهجرة، فقال عمر رضي الله عنه  : الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرَّخوا بها، و ذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم : ابدؤوا برمضان فقال عمر رضي الله عنه : بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه ".
ومما يروى أيضاً :أنهم أعرضوا عن التأريخ بمولده و مبعثه و ومماته (ﷺ) لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه (ﷺ).
لقد كان عمر رضي الله عنه ومن معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم، إذا لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم، بل كانوا مبدعين في كل شيء، ليسوا إمعات ولا ببغاوات، يستوردن فكرهم و ثقافتهم و تاريخهم من غيرهم.
لقد تجلى فقه الصحابة رضوان الله عليهم، في هذه الموازنة الفذة بين الأحداث، ثم اختيار الهجرة بذاتها لتكون عنواناً ، و رمزاً للتاريخ الإسلامي، إذ أنهم اعتبروا الهجرة بداية وجودهم الحقيقي في هذه الحياة، لقد كان هذا العمل منهم فهماً عميقاً لرسالتهم، لأن الهجرة كانت عملاً غيَّر الله به وجه التاريخ الإنساني بعد أن مال ميلاً عظيماَ، و دفع به إلى وجهته الصحيحة مستقيماً غير ذي عوج، لقد أذن الله تعالى بهذه الهجرة أن تقوم في المدينة دولة الإسلام، فحمت المؤمنين من عربدة الجاهلية ، وحققت حكم القرآن في واقع الحياة، وجعلت الإسلام حقيقة بارزة ترى و تسمع في الأرض، وأقامت المجتمع الإسلامي نموذجاً متفرداً بين الأمم جميعاً، وغدت قاعدة الإسلام وداره التي يأوي إليها المعذبون في الأرض، فيجدون الأمن والإيمان، ويتعلمون الدين و يتزودون بالفضائل والأخلاق، ثم يخرجون إلى أطراف الأرض دعاة وهداة.
العنصر الثاني : الهجرة وخوارق العادات :
قد يسأل سائل لماذا لم تقم الهجرة علي المعجزة الربانية مثلما حدث في رحلتي الإسراء والمعراج، يأتيه البراق ويذهب به إلي المكان الذي يريده ؟
لكي نستطيع الجواب على هذا السؤال، لابد أن نحدد الفرق بين الهجرة والإسراء والمعراج :
الإسراء والمعراج كانت معجزة الهدف منها التسرية والتسلية لقلب النبي (ﷺ) وخاصة بعد الأحداث العظيمة التي حدث في عام الحزن من شدة تعذيب وفقدان زوجه خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب .
أما الهجرة المباركة كان من الممكن أن يهاجر النبي (ﷺ) وأصحابه الكرام بكلمة كن ولكن لم يحدث لأن الهدف من الهجرة هو تأسيس دولة الإسلام والإبقاء علي الإسلام فتأسيس دولة الإسلام لا يقوم علي المعجزات، ولا خوارق العادات ، فلا بد من بذل الجهد البشري القائم علي التخطيط ، والأخذ بالأسباب ولكي يتعلم الناس هذه السنة الكونية التي لا ينصلح الكون إلا بها ولا يقوم الدين إلا بها .
العنصر الثالث : التخطيط البشري في الهجرة ومراحله :
 لم تكن الهجرة فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، كلا وإنما كانت إعداداً لأعبائه، ولم تكن خوفاً من الأذى ، و لكن توطيداً لدفعه ، ولم تكن جزعاً من المحنة، ولكن توطيناً للصبر عليها.
أجل لم تكن فراراً من القدر، ولكنها كانت فراراً إلى القدر، ولم تكن الهجرة فراراً من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، و تحويل مجرى التاريخ، و وضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، و ترتبت عليها، وبذلك كان يوم بدر، وفتح مكة ، وما تبعه، وتطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود والشرك، وإسلام العرب، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وتقويض ممالك الفرس والروم، و وصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة.
إذن كيف تم تخطيط النبي (ﷺ) للهجرة المباركة ؟
لقد وضع النبي (ﷺ) الخطوات الأساسية للخطة وهي كما يلي :
الخطوة الأولي : وضوح الرؤية :
وضوح الرؤية لدي النبي (ﷺ) منذ أول يوم في الرسالة أنه مبعوث للعالمين ، وأن التحديات له من أول يوم وأنه سيتحول من بلد إلي بلد وسيكون البلد الجديد مأوي جديد للدعوة وذلك من خلال حديثه مع ورقة ابن نوفل لما رجع (ﷺ) من غار حراء وبعد حوار طويل تقول له زوجته خديجة بعد أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (ﷺ) خبر ما رأى، فقال ورقة: (هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا).
وإدراكه أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم فتهيأ (ﷺ) لتلك المرحلة فربي أصحابه تربية صلبة قوية تربية رجل الدولة فكرا وعقلا وممارسة ، فكان يبعث فيهم الأمل والنظرة المستقبلية يتضح من حديثه مع خباب رضي الله عنه }شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في الكعبة، فقلنا له ألا تستنصر لنا؟ ألا تدع الله لنا؟ قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون{.
الخطوة الثانية : تحديد الأهداف من الهجرة :
1ـ  إقامة دين الله :
ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله، ولذلك هاجر رسول الله (ﷺ) من أجله ، وضحي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعا من أجله فعلي سبيل المثال :
يقول أهل السير: كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه ، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
2- حماية الفئة التي آمنت بدين الله عزَّ وجلَّ، وبرسوله محمد (ﷺ) من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.
3- نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل:}إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40){ ]التوبة[
4- تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب.
فالدولة إحدى ضرورات إقامة الدين في الأرض فهي حارسة له حامية لمبادئه كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي "الدين والسلطان توأمان الدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وملا حارس له فضائع" .
ولقد قرر علماء السياسة الشرعية أن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية أن تقوم "دار الإسلام" أو دولة الإسلام" التي تتبنى رسالة الإسلام عقيدة وشريعة عبادة وأخلاقا, هذه الدولة ضرورة إسلامية وهي أيضا ضرورة إنسانية دولة توحد الأمة تحت راية واحدة وتنطلق بالإسلام إلى العالمية، هذه الدولة جزء من نظام الإسلام، وإذا كانت الأفكار والمعتقدات والمبادئ تحتاج إلى كيان قوي لحمايتها فهذا الكيان هو الدولة التي سعى إليها رسول الله (ﷺ) من أول يوم.
5- الانطلاق بالإسلام إلى العالم لتكون له العالمية باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله (ﷺ) قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله عز وجل : }وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28){ ]سبأ[.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف العامة كانت الهجرة التي أُذِنَ للرسول بها.
الخطوة الثالثة : الوسائل والأساليب:
 رغم ثقة النبي (ﷺ) بحماية ربه له فهذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري الذي يملكه ، وما أحوجنا إلي أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير علي الله تعالي ، لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا علي القدر ، ونتوجع علي عدم نصر الله تعالي لنا ،ونحن المسئولون عن ذلك. لذلك قام النبي (ﷺ) بوضع الوسائل للهجرة المباركة علي النحو التالي :
1ـ التهيئة للهجرة واختيار المكان المناسب :ـ
 البحث عن مراكز داعمة للحركة نحو الدولة وذلك من خلال ترتيب الهجرة إلى الحبشة قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} ] العنكبوت [ .
قال ابن كثير رحمه الله-: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة الدين إلى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، (رحمه الله تعالى) قال (ﷺ) لأصحابه: }لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه { فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (ﷺ) إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام).
ولكن كان النبي (ﷺ) يعلم من خلال خبرته للواقع أن الحبشة لا تصلح لأن تكون مقراًّ للدولة الإسلامية لأنها كانت في منفي واعتماد الدولة علي الملك العادل الذي إن مات ماتت الدعوة هناك ، ولكن ظل النبي (ﷺ) يعرض نفسه علي القبائل والأسواق ، حتي قابل أولئك النفر من يثرب حتي كانت بيعتي العقبة الأولى والثانية، ولقد سجَّل القرآن ذلك، يقول الله تبارك وتعالى:}لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحا قَرِيبا(18){ ]الفتح[.
وكان من أهداف الرسول (ﷺ) من تلك البيعتين هو تأسيس وطن جديد لاستقبال هذه الدعوة والانطلاق بها ، وحماية الفئة المؤمنة، وتلي ذلك هجرة المسلمين إلى المدينة، كما أرسل رسول الله (ﷺ) سفراء يسبقونه، ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه؛ للتمهيد لاستقباله ومن آمنوا معه.
2ـ التوقيت المناسب للهجرة:
لقد أَوْحَى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيه (ﷺ) وأخبره بمؤامرة قريش، وَأَذِنَ له في الخروج، وحدَّد له وقت الظهيرة، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في ذلك الوقت، في ساعة لا يظن أحد أن يخرج فيها رسول الله (ﷺ)، وَمَكَثَ في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الأمور ويأمن الطريق، لقد اختار الله عزَّ وجلَّ لنبيه التوقيت المناسب في إطار خطة محكمة وترتيب دقيق.
 3ـ اختيار الطريق المناسب:
 خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من الغار نحو الجنوب إلى اليمن، ثم اتجه غربًا إلى الساحل حتى سارا في طريق لم يألفه الناس إلا نادرًا بهدف تجنب شر الأعداء.
4- كتمان الأمر :
سياسة كتم الأسرار، حتى لا يعلم المشركين والكفار أي معلومات عن الهجرة، حتى وأنه قد أخفاها لمرحلة معينة عن صاحبه المخلص الأمين أبو بكر الصديق، وعن الذين سوف يكلفون بمهام خاصة فيها.
تقول كتب السيرة: "لقد استعد أبو بكر للهجرة إلى المدينة؛ ليلحق بمن هاجر من قبل، فقال له رسول الله (ﷺ): "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله (ﷺ) ليصحبه.."، ولكن لم يُعْلِم رسول الله (ﷺ)أبا بكر بميعاد الهجرة،
والنموذج الثاني من كتمان أسرار الهجرة عندما ذهب النبي (ﷺ) إلى أبي بكر؛ ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: "بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله (ﷺ) متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلاَّ أمر؛ قالت: فجاء رسول الله (ﷺ) فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي (ﷺ) لأبي بكر: "أخرِج مَنْ عِنْدك"، فقال أبو بكر: إنما هم أَهْلُكْ، بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله (ﷺ): "نعم" ]رواه البخاري[.
ويستنبط من ذلك الموقف كتمان ميعاد الهجرة عن أهل رسول الله (ﷺ) وعن أبي بكر حتى ساعة التنفيذ، وهذه سياسة رشيدة عند التعامل مع الأعداء.
5ـ توزيع الأدوار والاختصاصات وتوفير الأدوات:
إن سياسة تحديد وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات من الأشياء المهمة في أي خطة، فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات علي هذا النحو:ـ
رفيق الرحلة :
أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول (ﷺ) ويعاونه ويساعده ويشتري راحلتين.
رد الودائع والأمانات والتعمية علي الكفار :
يقوم به علي رضي الله عنه ، ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم للتمويه ويرد الأمانات والودائع لأصحابها.
نقل المعلومات وأخبار العدو:
يقوم به عبد الله بن أبي بكر، فلا يكفي أن يقوم النبي (ﷺ) في الغار مدة معينة ثم ينطلق إلي المدينة حسب تقديره وظنه فلا بد من التعرف مباشرة علي كل أسرار العدو مخططاته وتوقعاته يحيث تصل أول بأول إليه (ﷺ) فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائما علي خبرة الواقع لا علي الظن يخطئ ويصيب فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم ، ثم يأتي بالليل إلي النبي (ﷺ) في الغار يبيت معهم ، وقبل الفجر يذهب إلي مكة ، وكأنه نائم في مكة ، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدري بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته ، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها.
تأمين الزاد :
 تقوم به أسماء بنت أبي طالب رضي الله عنها وكانت حامل في شهورها الأخيرة وكانت تصعد في الجبل الوعر الشامخ  ذو الأحجار الكثيرة .
إخفاء أثر الأقدام :
 يقوم به عامر ابن فهيرة ، يقوم برعي الأغنام ليعفي أثر الأقدام ،ونجحت هذه السياسة في إخفاء محاولة المشركين في العثور على رسول الله (ﷺ) وصحبه .
 الاستعانة بالخبراء:
لقد اتبع النبي (ﷺ) سياسة الاستعانة بالخبراء حتى ولو كانوا من غير المسلمين، لقد استعان رسول الله (ﷺ) بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره من الخبراء في ذلك.
 تقول كتب السيرة: "لقد استأجر رسول الله (ﷺ) وصاحبه أبو بكر عبد الله بن أريقط الليثي الكافر، وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وَأَمِنَاهُ على ذلك، وسلما إليه الراحلتين، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وجاءهما عبد الله في المكان والميعاد المتفق عليه، ولقد استنبط فقهاء الإسلام أنه يجوز الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة متى كان خبيرًا وأمينًا.
لقد كان توزيع دقيق للمسئوليات في إطار سياسة رشيدة وخطة محكمة، ولذلك تحققت المقاصد والأهداف بدون ارتباك أو خلل، وهذا ما يجب الاستفادة منه في إدارة شئون حياتنا كلها وفي دعوتنا الإسلامية.
6 ـ التمويه والسرية والكتمان :
 حرص النبي (ﷺ) علي كتمان الأمر وأخذ السرية التامة تقول أمنا عائشة رضي الله عنها " بينما نحن جلوس في بيتنا بمكة في حر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله (ﷺ) مقيلا مغطيا رأسه في ساعة لم يأتينا فيها ..)
وقد أوصي النبي (ﷺ) بالاستعانة بالسرية فقال (ﷺ) "استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود "
لقد مَوَّه رسول (ﷺ) خروجه من البيت، ثم غادر هو وأبو بكر من بيت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، وسلك طريقًا غير طريق المدينة المعتاد، وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، وكان النبي (ﷺ)  يسير على أطراف قدميه كي يخفي الآثار، وظل في الغار مدة ثلاثة أيام حسب التخطيط ، وهنا تبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة ، وليس علي طريق المدينة حيث احتمالات الرصد ، ولما كان النبي (ﷺ) يعلم أن قريشا ستجد في الطلب ، وإن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا ، فقد سلك الطريق المعاكس تماما وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أمثال حتي بلغ إلي جبل يعرف بجبل ثور وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقي ذو أحجار كثيرة فخفيت قدما رسول الله ، وأقام النبي (ﷺ) ثلاثة أيام لأن الخروج إلي أي مكان في الأيام الأولي يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو كما أن المدة الزمنية كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبدالله ابن أبي بكر عن خفة الطلب عليهما كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبدالله كل يوم .
العنصر الرابع : التأييد الرباني في الهجرة :
 بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله (ﷺ) ، فإنه لم يرتكن إليها مطلقا وإنما كان كامل الثقة في الله تعالي ، عظيم الرجاء في نصره وتأييده ، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالي }وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80){ ]الإسراء[ . ويظهر التأييد الإلهي في أكثر من موقف في الهجرة :
1ـ إخبار جبريل عليه السلام للنبي (ﷺ) بمكيدة قريش لقتله ، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة، قائلاً له : " لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه ".
وقد قال الله تعالي }وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(30)}[الأنفال].
وقد فسرها ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بما قاله عبد الله بن عباس فيها، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال: بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي (ﷺ) ، وقال: بعضهم بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي (ﷺ) تلك الليلة وخرج النبي (ﷺ) حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي (ﷺ) فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله مكرهم فقالوا أين صاحبك هذا، قال لا أدري
2ـ خروجه (ﷺ) من بين أيديهم ويضع علي رؤوسهم التراب، فألقى الله عليهم النعاس فسقطت من أيديهم السيوف وما قاموا إلا عندما طلعت الشمس كل يحتحت التراب من على رأسه، وهو يتلوا قول الله تعالي }وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9){ ]يس[.
3ـ حماية الله و حفظه لنبيه (ﷺ) في الغار.
عندما خرجوا مغضبين لما رأوا عليا في فراشه (ﷺ) فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال". ساعتها أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول (ﷺ) الصديق رضي الله عنه بمعية الله تعالي لهما ، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قلت للنبي (ﷺ) وأنا في الغار لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .فقال : ما ظنك يا أبا بكرباثنين الله ثالثهما ؟) وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالي }إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40){ ]التوبة[.
ورحم الله القائل :ـ
عناية الله أغنت عن مضاعفة   من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ورحم الله أحمد شوقي حين قال ..
فَأَدبَروا وَوُجوهُ الأَرضِ تَلعَنُهُمْ     كَباطِلٍ مِن جَلالِ الحَقِّ مُنهَزِمِ
لَولا يَدُ اللهِ بِالجارَينِ ما سَلِما   وَعَينُهُ حَولَ رُكنِ الدينِ لَم يَقُمِ

ويلاحظ أنها جاءت بعد أن أخذ الرسول (ﷺ) بكافة الأسباب المتاحة، و هذا شأن المؤمن مع الأسباب، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح ثم يتوكل بعد ذلك على الله ؛ لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله، فالنبي (ﷺ) خطط و دبر للهجرة و أخذ بكل أسبابها الممكنة للبشر، كل ذلك مع توكله المطلق على ربه و مولاه الذي كان يجرى له الخوارق بعد استفراغ غاية الجهد ؛ و لذلك قال لصاحبه : "لا تحزن إن الله معنا" و لم يقل : لا تحزن إن خطتنا محكمة، و هي بالفعل محكمة، لكن الأمر كله لله من قبل و من بعد.
4 ـ مشهد آخر من مشاهد ذلك التأييد الرباني، والحفظ الإلهي تجلى واضحاً، في خبر سراقة بن مالك وهو يلحق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه وهو طامع في المائة ناقة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنبي (ﷺ) حيا أو ميتا، فحينما اقترب منهما، ورآه أبو بكر وقع في نفسه الخوف والحزن، فأخبر الرسول بذلك، لندع الصديق يقص علينا طرفاً من خبره ذاك، يقول أبو بكر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم " واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض (صلبة)، فقلت يا رسول الله أُتينا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله (ﷺ) فارتطمت فرسه إلى بطنها، فقال: إني قد علمت أنكما قد دعوتما علي فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتكم ما ههنا فلا يلقى أحدا إلا رده قال ووفى لنا"، وأعطاه النبي (ﷺ) كتاب أمان، ثم تبسم عليه الصلاة والسلام تبسم الواثق من نصرالله له، وقال: يا سراقة ! كيف بك إذا طوقت بسواري كسرى؟ قال كسري ابن هرمز ملك الفرس قال النبي (ﷺ) نعم . يتعجب سراقة من حال النبي صلي الله عليه وسلم وهو المطارد هو وصاحبه يبن الجبال يعد بكنوز كسري ملك الفرس وكأن النبي صلي الله عليه وسلم ينظر نظرة أمل إلي المستقبل الكبير للإسلام الذي يعم الدنيا كلها ، وفعلا تم الفتح للمسلمين في خلافة سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وأخذ سراقة سواري كسري من أمير المؤمنين سيدنا عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها      نم فالمخاوف كلهن أمان
وصدق الله العظيم إذ يقول :} وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48){  ]الطور[
في هذا المعلم من معالم هجرته (ﷺ) ، يقترن المادي بالغيبي، ويتزاوج الإعداد البشري بالتأييد الإلهي، وفي ذلك عبرة ودرس للمسلمين من بعد، بأنهم مكلفون بأن يتخذوا من الأسباب ما يستطيعونه ويقدرون عليه، دون تقصير أو تكاسل، أما الركون إلى ما عند الله من أسباب النصرة الغيبية، دون إتعاب النفوس، وإنفاق الأموال في نصرة الدين، فهو من إفرازات التفكير الخوارقي، الذي لا يقدم ولا يؤخر ولا يسمن ولا يغني .
وفي الختام: 
الأخذ بالأسباب فرض وترك الأسباب معصية ،والاعتماد علي الأسباب شرك .
فاللهم إنا نسألك أن توفقنا للأخذ بالأسباب ولا تكلنا إلي أنفسنا طرفة عين أو أقل من ذلك فنضل ضلالا بعيداً .

وصل اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

=================================
 رابط pdf
رابط doc

الخميس، 13 يوليو 2023

الاستغفار وأثره في حياة المسلم

 



الحمد لله رب العالمين . ذل كل شيء لعزته ،وتواضع كل شيء لعظمته ، واستسلم كل شيء لقدرته ، وخضع كل شيء لملكه . لا يعذب عباده ما داموا يستغفرونه فقال تعالى } وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (33){ ] الأنفال[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .أمر عبادة بالاستغفار والتوبة فقال تعالى }وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ (3){ ] هود[.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) سيد المستغفرين التائبين، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله (ﷺ) يقول: }والله إنِّي لأستغفرُ الله وأتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ من سبعينَ مرَّةً{ ]البخاري[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا . 
أما بعد: فيا أيها المؤمنون
فإن كثيراً من الناس يقع في الفتن والمعاصي ، وهذه طبيعة ابن آدم فإذا لم يرجع ويستغفر ويتوب يعرض نفسه لعذاب الله تعالى وعقابه في الدنيا والآخرة وقد جعل الله تعالى الأمان من العذاب ، واحد منهم ذهب إلى ربه وبقي الآخر فقال تعالى } وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (33){ ] الأنفال[ .
قال أبو موسى رضي الله عنه :"كان لنا أمانان، ذهب أحدهما وهو كون الرسول (ﷺ) فينا، وبقي الاستغفار معنا، فإذا ذهب هلكنا".
فمن أعظم وسائل الأمن في حياة المسلم الاستغفار ، فبالاستغفار تغفر الخطايا والذنوب ، وبالاستغفار تكون البركة في الأرزاق لذلك كان حديثنا عن }الاستغفار وأثره  في حياة المسلم { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ معنى الاستغفار .
2ـ الفرق بين الاستغفار والتوبة.
3ـ أهمية الاستغفار .
4ـ الاستغفار في حياة الأنبياء والصالحين.
5ـ أثر الاستغفار في حياة المسلم.
6ـ أوقات الاستغفار وصيغ الاستغفار.
7ـ  الخاتمة .
============
العنصر الأول : معنى الاستغفار :
الاستغفار معناه: طلب المغفرة من الله؛ قال الله عز وجل في الحديث القدسي: }يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشـرِك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة{ ]رواه الترمذي[
والمراد بالاستغفارِ هنا الاستغفارُ الْمَقرون بعدم الإصرار على الذنب؛ لما رُوِي في الأثر: عنْ أبي بكْرٍ الصديق  رضي الله عنْه قال: قال رسول الله  (ﷺ) }ما أصرَّ مَن استغفر، وإنْ عاد في اليوم سبعين مرةً{.
العنصر الثاني : الفرق بين الاستغفار والتوبة:
قال ابن القيم في مدارج السالكين: الاستغفار نوعان: مفرد, ومقرون بالتوبة، فالمفرد: كقول نوح عليه السلام  لقومه: {استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا} [نوح: 10] وكقول صالح لقومه: {لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون} [النمل: 46] ..
والمقرون كقوله تعالى: {استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله} [هود: 3]
فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها، مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب, وإزالة أثره, ووقاية شره، فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب في قوله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] فإن الله لا يعذب مستغفرًا، وأما من أصر على الذنب، وطلب من الله مغفرته، فهذا ليس باستغفار مطلق؛ ولهذا لا يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة.
والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق, وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى،
فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى،
والتوبة: الرجوع, وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله". اهـ.
العنصر الثالث : أهمية الاستغفار:
الاستغفار أمر الله تعالى قال تعالى :{وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(199) } [البقرة] ، وقوله تعالى :{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ(3){ [هود]
الاستغفار صفة لازمة للمتقين فقال تعالى } إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ (15) ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَبۡلَ ذَٰلِكَ مُحۡسِنِينَ (16) كَانُواْ قَلِيلٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ (17) وَبِٱلۡأَسۡحَارِ هُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ (18){ ] الذاريات[
وقال تعالى } وَٱلۡمُسۡتَغۡفِرِينَ بِٱلۡأَسۡحَارِ (17){ ] آل عمران[
إن الاستغفار عبادة عظيمة، تُقرِّبُ العبدَ مِن مولاه تعالى، وترفعه درجات يوم القيامة، وتكون سبباً في كشف الكروب ودفع العذاب، فحريٌّ بكلِّ مُؤمنٍ أن يلزم الاستغفار، ويَستكثر منه، ويُربِّي نفسه ومَن تحتَ يده عليه، فطُوبى لمن وَجَدَ في صحيفتهِ استغفاراً كثيراً.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الاستغفار يُخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العبد في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة يزداد علمًا بالله وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشـرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقَّها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار؛ بل هو مضطرٌّ إليه دائمًا في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد؛ لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضـرَّات، وطلب زيادة القوة في الأعمال القلبية والبدنية"
وعن بكر المُزَني رحمه الله قال: إن أعمال بني آدم تُرفَع، فإذا رفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفِعَت بيضاء، وإذا رُفِعَت ليس فيها استغفارٌ رُفِعَت سوداءَ.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "العبدُ دائمًا بين نعمةٍ من الله يَحتاجُ فيها إلى شُكرٍ، وذنبٍ منه يَحتاجُ فيه إلى استغفارٍ، وكلٌّ من هذين من الأمورِ اللازمةِ للعبدِ دائمًا؛ فإنَّه لا يزالُ يتقلَّبُ في نعمِ الله وآلائِه، ولا يَزالُ محتاجًا إلى التوبةِ والاستغفارِ، ولهذا كانَ سيدُ ولدِ آدم وإمامُ المتقينَ يَستغفِرُ في جميعِ الأحوالِ".
فالاستغفار منهج حياة باللسان والقلب والجوارح ، أما المستغفر بلسانه فقط فهو متشبِّثٌ بذنبه، مقيمٌ عليه مُصِـرٌّ عليه بقلبه، فهو لم يصدق في استغفاره.
لذلك كان الاستغفار شعار الأنبياء والصالحين لم يتركوه  في أي حال من الأحوال .
العنصر الرابع: الاستغفار في حياة الأنبياء والصالحين:
1ـ سيدنا آدم وأمنا حواء عليهما السلام : لما خالفا أمر الله عز وجل وأزلهما الشيطان، وأوقعهما في الخطأ، بادرا بالاستغفار والتوبة والندم } قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23){[الأعراف].
2ـ سيدنا نوح عليه السلام حين سأل الله أن يُنجي ابنَه، عدَّ هذا السؤال ذنبًا يُوجِب الاستغفار؛ بل خشـي من الخسـران بقوله تعالى:}قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(47){[هود].
3- وقال سيدنا نوح عليه السلام: }رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28){ [نوح].
4- سيدنا موسى عليه السلام لما وكز الرجل المصري: }قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16){ [القصص].
وقوله تعالى: } قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151){ [الأعراف].
5- سيدنا إبراهيم عليه السلام يقول راجيًا مغفرة مولاه مُعَدِّدًا أفضالَه عليه: }الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82){[الشعراء].
6ـ سيدنا يونس عليه السلام يُنادي في الظلمات بقوله تعالى: }لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87){ [الأنبياء].
7ـ سيدنا داود عليه السلام يقول الله عز وجل في شأنه:}وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24){[ص].
8ـ سيدنا سليمان عليه السلام: }قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35){[ص].
9ـ سيدنا يعقوب عليه السلام عندما أتى أبناؤه يطلبون المغفرة: } قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(98) { [يوسف].
10ـ سيدنا شعيب عليه السلام: قال لقومه: { وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ(25)} [هود].
11ـ سيدنا صالح عليه السلام: قال سيدنا صالح لقومه بعد أن أمرهم بعبادة الله: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ(26){ [هود]
12ـ سيدنا محمد نبينا (ﷺ) يقول: }والله، إني لأستغفرُ اللهَ، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة{ [رواه البخاري].
وعن الأغَرِّ المُزني، أنَّ رسول الله (ﷺ) قال: }إنِّي لأستغفرُ الله في اليومِ مائةَ مرَّةٍ{. وفي لفظٍ: }يا أيها الناسُ توبُوا إلى الله، فإنِّي أتوبُ في اليومِ إليه مائةَ مرَّةٍ{]أخرجه مسلم[.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قالَ: إنْ كنَّا لنَعُدُّ لرسولِ الله (ﷺ) في المجلسِ الواحدِ مائةَ مرَّةٍ: }ربِّ اغفِرْ لي وتُبْ عليَّ، إنَّك أنت التَّوَّابُ الرَّحيمُ{. ]إسناده صحيح: أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة[.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله (ﷺ) يُكثِرُ أن يقولَ قبلَ أن يموتَ: }سبحانَك وبحمدِك، أستغفِرُك وأتوبُ إليكَ{، قالت: قلتُ يا رسولَ الله، ما هذه الكلماتُ التي أرَاك أحدثتَها تقولُهَا؟ قال: "جُعِلتْ لي علامةٌ في أمتِي إذا رأيتُها قلتُها": } إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ(1) { [النصر] إِلى آخرِ السُّورةِ.] أخرجه مسلم[
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبيِّ (ﷺ)أنَّه كان يدعو بهذا الدعاءِ: }اللهم اغفِرْ لي خَطيئتِي وجَهلِي، وإسرافِي في أمرِي، وما أنت أعلمُ به مني، اللهم اغفِرْ لي جِدِّي وهَزلِي، وخَطئِي وعمْدِي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسرَرْتُ وما أعلَنْتُ، وما أنت أعلمُ به مِنِّي، أنت المُقدِّمُ وأنت المُؤخِّرُ، وأنت على كلِّ شيءٍ قديرٌ{.] الصحيحين[
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله (ﷺ) كان يقولُ في سجودِه: }اللهمَّ اغفِرْ لي ذنبِي كلَّه دِقَّه، وجِلَّه، وأولَه وآخرَه وعلانيتَه وسِرَّه{.] ]أخرجه مسلم[
وعند خِتامِ المجلسِ؛ أخرج أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي بَرزة الأسْلَميِّ رضي الله عنه قال: كانَ رسولُ الله (ﷺ) يقول بآخرَةٍ إذا أرادَ أن يقومَ من المجلس: "}سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك". فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله، إنَّك لتَقُولُ قولًا ما كنتَ تقولُه فيما مضَى. فقال: "كفَّارَةٌ لِمَا يكونُ في المَجلسِ"{.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسولُ الله (ﷺ) يُكثِرُ أن يقولَ قبلَ أن يموتَ: }سبحانَك وبحمدِك، أستغفِرُك وأتوبُ إليكَ{.
11ـ سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للرسول (ﷺ): يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فيُعلِّمه رسول الله (ﷺ) أن يقول: }اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم{[متفق].
12ـ سيدنا عمر رضي الله عنه يطلب من الرسول (ﷺ) أن يستغفر له، فيقول: يا رسول الله، استغفر لي{ [متفق عليه].
وكان يطلب من الصبيان الاستغفار ويقول: "إنكم لم تذنبوا".
13ـ سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "إني لأستغفرُ الله، وأتوب إليه، كل يوم ألف مرة، وذلك على قدر ديتي، وكان يقول لغلمان الكتَّاب قولوا: اللهم اغفر لأبي هريرة، فيؤمِّن على دعائهم".
14ـ وعن الحسن البصري قال: " أكثروا من الاستغفار في بيوتكم ، وعلى موائدكم ،وفي طرقكم ،وفي أسواقكم ،وفي مجالسكم ،أينما كنتم فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة.
15ـ عن ابن المبارك عن الأوزاعي قال: قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ فقالوا: هيهات ذاك شيء قُرِنَ بالتوحيد. قال: لأبُثَّنَّ فيهم شيئًا لا يستغفرون الله منه. قال: فبث فيهم الأهواء.
العنصر الخامس : أثر الاستغفار في حياة المسلم:
1ـ الاستغفار دواء الأمة :
الإنسان بطبيعته التي خلَقَه الله عليها يَمِيل إلى ما يُوافق هواه، وكثيرًا ما يُخْطِئ في حقِّ الله  تبارك وتعالى  إمَّا بالتقصير في طاعته سبحانه، وإمَّا بفِعْل ما نَهى الله عنه.
ومن رَحْمة الله تعالى وفضْلِه أنْ جعل للمُذْنِب بابًا مفتوحًا، وهو باب الاستغفار والتَّوبة إلى الله تعالى.
وكما نعلم جميعًا أنَّه لا معصومَ مِن الْخَطأ غيْرُ أنبياء الله ورسُلِه؛ كما في الحديث الذي أخرجه ابنُ ماجه عن أنس رضي الله عنه  قال: قال رسول الله (ﷺ):} كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون{، فكل الناس يُخْطِئون ما عدا أنبياء الله ورسله عليهم الصَّلاة والسَّلام جميعًا فالإنسان لا بُدَّ له من أن يقع في الذَّنب، ولكن ما الحلُّ لذلك؟ وماذا يصنع؟
"يجب عليه إذا أذنب ذنبًا أن يرجع إلى الله، ويتوب إليه، ويندم، ويستغفر حتَّى يَنْمحي عنه ذلك الذنب"؛
فالذُّنوب داء، وعلاجُها: التَّوبة والاستِغفار، قال ابن رجب  رحمه الله: "وبالْجُملة فدَواء الذُّنوب الاستغفار...
قال قتادة: إنَّ هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم؛ فأمَّا داؤكم فالذُّنوب، وأمَّا دواؤكم فالاستغفار".
وقال بعضهم: "إنَّما معول الْمُذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهَمَّتْه ذنوبه أكثر لَها من الاستغفار.
 قال رباح القيسيُّ: لي نيِّف وأربعون ذنبًا قد استغفرتُ الله لكلِّ ذنب مائة ألف مرة
إن داء الأمم والشعوب هو الذنوب ودوائها الاستغفار فلا نغفل عن دوائنا وعلاجنا
وعن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال: قال رسول الله (ﷺ)}والَّذي نفسي بيده، لو لَم
تُذْنِبوا فتستغفروا لذَهَب الله بكم، ولَجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغفر الله لَهم{ ] رواه مسلم في صحيحه[
وليس في الحديث التَّساهلُ في الوُقُوع في الذنب، ثُمَّ الاستغفار بعد ذلك؛ وإنَّما فيه بيانٌ لِحالة العبد بعد توبته واستغفارِه من الذنب، وأنه إذا أذنب فقد جعل الله له مَخرجًا من ذلك بالتوبة والاستغفار فالاستغفار علاج ودواء لمرض الذنوب.
فها هو [دينار العيَّار]، كان مسرفًا على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة ، فتذكر مصيره ،
 وتذكر نهايته ، وتذكر أنه على الله قادم ، أخذ عظْمًا نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفسي، كأني بك غدًا قد صار عظمك رفاتًا، وجسمك ترابًا، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ألك قوة على النار؟
 يا دينار ألك قوة على النار؟  كيف تعرضت لغضب الجبار؟
وظل على ذلك أيامًا يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها،
فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلا، فقال: يا أماه دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي موقفًا بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: بنياه أكثرت من إتعاب نفسك؟، قال: راحتها أريد، يا أماه ليتك كنت بي عقيمًا، إن لابنك في القبر حبسًا طويلا، وإن له من بعد ذلك وقوفًا بين يديْ الرحمن طويلا، وتمر ليالٍ وهو يقرأ قول الله، ويقوم ليله، بقول الله } فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93){ ]الحجر[ فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشيًا عليه. 
2ـ  تكفير السيئات ورفع الدرجات:
 قال الله سبحانه وتعالى: }وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110){[النساء]
قال تعالى في الحديث القدسي:}يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم{ [رواه مسلم]
بل إن الله تعالى ينادي عباده في الثلث الأخير من الليل قائلًا: }من يستغفرني فأغفر له{ [متفق عليه].
ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى المقام الأعلى، ومن الناقص إلى التام، ومن المكروه إلى المحبوب؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه، عن النبي (ﷺ) قال:}إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذه؟! فيقول: باستغفار ولدك لك{ [رواه أحمد].
فمَن لزم الاستغفار سرَّته صحيفتُه يوم القيامة: هنيئًا لِمَن داوم على الاستغفار، فجاء يوم القيامة قد ذهبت سيئاتُه هباءً، وتضاعَفَتْ حسناتُه وعظُمَت، فعن عبدِالله بن بُسْر رضي الله عنه قال: قال النبيُّ (ﷺ): }طُوبَى لِمَن وَجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا{ ]أخرجه ابن ماجه بسند حسن[.
وعن الزُّبَير بن العوَّام رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله (ﷺ): }مَن أحبَّ أن تَسُرَّه صحيفتُه، فليُكثِر فيها مِن الاستغفار{[أخرجة الطبراني].
3ـ الاستغفار سبب لدخول الجنة:
قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(136)} [آل عمران] فالصالحون يخطئون، لكنهم يبادرون بالاستغفار والتوبة، فأعقَبَهم الله بكثرة استغفارهم جنات النعيم. لقد كان الصالحون مِن كلِّ أمة على هذا الدرب، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ(17)}  [آل عمران].
4ـ سبب لجلب الرزق وسعته والإمداد بالأموال والبنين:
قال عز وجل عن سيدنا نوح عليه السلام أنه قال لقومه:} فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا (10) يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا (11) وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا (12){ [نوح]
وقال تعالى:}وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ(3){ [هود].
وشكا رجل إلى الحسن البصـري رضي الله عنه الجدب، فقال له: "استغفر الله"، وشكا رجل آخر الفقر، فقال له: "استغفر الله"، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: "استغفر الله"، فقالوا له في ذلك: أتاك رجالٌ يشكون، فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟! فقال: ما قلت من عندي شيئًا؛ إن الله تعالى يقول في سورة نوح عليه السلام: :} فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا (10) يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا (11) وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا (12){ [نوح]
والمدد ليس بالمال فقط وإنما بالفهم والعلم يقول الإمام ابن القيِّم  رحمه الله : "وشَهِدتُ شيخَ الإسلام ابنَ تيميَّة رحمه الله  إذا أعيَته المسائل واستعصَتْ عليه، فَرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه، واستِنزال الصوابِ من عنده، والاستفتاح من خَزائن رحمته، فقلَّما يلبَثُ المددُ الإلهي أنْ يَتتابَع عليه مَدًّا، وتَزدلِف الفتوحات الإلهيَّة إليه، بأيَّتهنَّ يبدأ"؛ "إعلام الموقعين"
5ـ سبب لجلاء القلب وبياضه وصفائه ونقائه:
فالذنوب تترك آثارًا سيئة وسوادًا على القلب، والاستغفار يمحو الذنب وأثره، ويزيل ما علق بالقلب من سواد، وما قد رَانَ عليه من ذنوب ومعاصٍ، وقد صوَّر النبي (ﷺ)هذه الحالة فقال:}إنَّ المؤمن إذا أذنب نُكت في قلبه نُكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب، صقل قلبه، وأن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه؛ وهو الران الذي ذكر الله تعالى:}كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14){[المطففين] [رواه أحمد والترمذي].
وقال رسول الله (ﷺ):}إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة{ [رواه مسلم].
6ـ سبب لحصول القوة في البدن:
قال تعالى على لسان هود عليه السلام لقومه: }وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ(52) { [هود].
7ـ يجلب رضا الله تعالى ومحبته، وكفى بذلك نعمة:
قال تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(22){[البقرة].
8ـ سبب في تفريج الهموم والراحة النفسية:
عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضِي اللَّه عنْهُما قَال: قالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }منْ لَزِم الاسْتِغْفَار، جَعَلَ اللَّه لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مخْرجًا، ومنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ{ ]رواه أبو داود[.
وحكي ابن قدامة في كتاب التوابين ... روي أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى عليه السلام فاجتمع الناس إليه فقالوا يا كليم الله ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفا أو يزيدون فقال موسى عليه السلام إلهي اسقنا غيثك وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع فما زادت السماء إلا تقشعا  والشمس إلا حرارة ، فقال يارب دعوناك كما فلم تستجب لنا كما وعدتنا ، فقال يا موسي : إن فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم فقال موسى إلهي وسيدي أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يبلغ وهم سبعون ألفا أو يزيدون فأوحى الله إليه منك النداء ومني البلاغ فقام مناديا وقال يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدا خرج فعلم أنه المطلوب فقال في نفسه إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل وإن قعدت معهم منعوا لأجلي فأدخل رأسه في ثيابه نادما على فعاله وقال إلهي وسيدي عصيتك أربعين سنة وأمهلتني) وقد أتيتك طائعا فاقبلني فلم يستتم الكلام حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأفواه القرب فقال موسى إلهي وسيدي بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد فقال يا موسى سقيتكم بالذي به منعتكم فقال موسى إلهي أرني هذا العبد الطائع فقال يا موسى إني لم أفضحه وهو يعصيني أفضحه وهو يطيعني.
9ـ إحلالُ الأمنِ والأمان في المجتمع:
فللاستغفارِ والتوبة أهميةٌ كبيرةٌ في أمنِ الأوطان، والتقليل من الجريمة، فعندما ينحرف شخصٌ، فيقوم بارتكاب الجرائم، ويَسعى في زعزعة الأمن، فإنَّ الاستغفار يكون عاملاً مُهمَّاً في رُجوعهِ للصواب ،وانتمائه لأمته، وإقلاعه عن جرائمهِ، ولو أُغلِقَ أمامه باب المغفرة والتوبة، فإنه سيستمرُّ في جرائمهِ، وشاهدُ ذلك ما رواه مسلم في قصَّة الذي قتلَ تسعةً وتسعينَ نفْسَاً، قال (ﷺ): }كانَ فيمَنْ كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَسَأَلَ عن أعلَمِ أهلِ الأرْضِ، فَدُلَّ على رَاهِبٍ، فأَتَاهُ فقالَ: إنهُ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسَاً، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بهِ مِائَةً... { الحديث.
10ـ سببٌ في هلاك الشيطان:
قال ابن القيم  رحمه الله: إنَّ إبليس قال: "أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبـ"لا إله إلا الله"، فلمَّا رأيتُ ذلك بثَثْت فيهم الأهواء، فهم يُذنِبون ولا
يتوبون؛ لأنَّهم يحسَبُون أنهم يُحسِنون صنعًا"؛ "مفتاح دار السعادة"
وعن أبي سعيد الخدري رضِي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول: }إنَّ إبليس قال لربِّه: بعِزَّتك وجَلالك لا أبرح أغوي بني آدم ما دامَت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزَّتي وجَلالي لا أبرَحُ أغفر لهم ما استغفَرُوني{.] أخرَجَه أحمد وحسَّنه شعيب الأرناؤوط[
وعن ن جعفر بن برقان، قال: قلت لرجل من أهل البصرة: كيف لا يشتهي أحدنا أنه لا يزال متبركًا إلى ربه يستغفر من ذنب، ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود، قال: قد ذكر للحسن، فقال: «ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه فلا تملوا من الاستغفار»
11ـ الاستغفار سبب للنصر على الأعداء:
قال الله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ  (148)} [آل عمران148].
العنصر السادس: أوقات الاستغفار وصيغ الاستغفار:
هناك أوقات ومواضع أخرى يستحبُّ الاستغفار فيها، ومن ذلك:
1- وقت السَّحر؛ قال تعالى: }وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ(17){[آل عمران]، وقال: }وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18){ [الذاريات].
2- عند الخسوف والكسوف؛ فقد قال (ﷺ):}إذا رأيتم شيئًا من ذلك  يعني (الخسوف أو الكسوف) فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره{[متفق عليه].
3- وعند التقلُّب على الفراش ليلًا؛ فعن عبادة بن الصامت، عن النبي (ﷺ) قال: }من تعارَّ من الليل وفي آخرة قال: اللهم اغفر لي، أو دعا؛ استجيب له، فإن توضَّأ؛ قُبِلت صلاتُه{[رواه البخاري].
4- وعند القيام من الليل للتهجُّد؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي (ﷺ) إذا قام من الليل يتهجَّد قال:}...وفيه: فاغفر لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْـرَرْتُ وما أعلنْتُ، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت{[متفق عليه].
سيد الاستغفار :
عن شداد بن أوس عن النبي (ﷺ) قال:}سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت{[أخرجه البخاري]
إذا قال حين يمسي فمات، دخل الجنة - أو: كان من أهل الجنة  وإذا قال حين يصبح فمات من يومه مثله. 
ومن الصيغ الواردة في السنة النبوية عنِ ابنِ عمرَ، قالَ: إن كنَّا لنعدُّ لرسولِ اللَّهِ (ﷺ) في المَجلِسِ الواحدِ مائةَ مرَّةٍ: }ربِّ اغفر لي، وتُب عليَّ، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحيمُ{ ] رواه أبو داود[
وما ورد عن رسول الله (ﷺ) كان يقول دائماً : }رب اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسـرافي في أمري كله، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي وجهلي وهزلي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسْـرَرْتُ وما أعلنْتُ، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير{[ رواه البخاري].
الخاتمة :
إن التوبة والاستغفار يمحو الذنوب والأوزار، فلا تقطع أملك في الله مهما كانت ذنوبك ومهما انقطعت بك الأسباب فالله تعالى ينادينا في قوله تعالى } قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَأَسۡلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَكُمُ ٱلۡعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54){ ] الزمر[
فأكثروا من الاستغفار فإن الاستغفار يأكل الذنوب كما تأكل النار الحطب ، وطوبى لعبد وُجِد في صحيفته استغفار كثير ، وهو علاجنا من الذنوب والمعاصي وفيه تفرج لهمومنا وحل لجميع مشاكلنا .
اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظُلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لنا مغفرةً من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم.
اللهم آمين

==============

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=258125

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=258112

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...