السبت، 4 يناير 2020

الإعجاز القرآني



الفرق بين رسم ( يأيّها ) ورسم ( يأيّه ) فى القرآن الكريم
========
✍️⁩وردت لفظة (يأيها) في القرآن الكريم 142 مرة، نودي بها 17 صنفاً من المنادى كما يلي:
▪️⁩يأيها الناس
▪️⁩يأيها الذين ءامنوا
▪️⁩يأيها الذين أوتوا الكتب
▪️⁩يأيها الرسول
▪️⁩يأيها النبي
▪️⁩يأيها الملأ
▪️⁩يأيها الملؤا
▪️⁩يأيها العزيز
▪️⁩يأيها الذي نزل عليه الذكر
▪️⁩يأيها الرسل
▪️⁩يأيها النمل
▪️⁩يأيها الذين هادوا
▪️⁩يأيها الذين كفروا
▪️⁩يأيها المزمل
▪️⁩يأيها المدثر
▪️⁩يأيها الإنسن
▪️⁩يأيها الكفرون
👈ووردت مرة واحدة فقط برسم ( يأيه )، وذلك في قوله تعالى:
📌⁦(وقالوا يأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) الزخرف: 49.
وذلك في سياق قصة موسى في سورة الزخرف حيث نقرأ:
▪️⁩(ولقد أرسلنا موسى بأيتنا الى فرعون وملائه فقال إني رسول رب العلمين، فلما جاءهم بأيتنا إذا هم منها يضحكون، وما نريهم من ءاية إلا هي أكبر من أختها وأخذنهم بالعذاب لعلهم يرجعون، وقالوا يأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون، فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) الزخرف: 46 – 50.
✍️⁩كذلك وردت لفظة (أيها) بغير يا النداء 9 مرات، جاءت سبع منها برسم (أيها) بإثبات الألف، وذلك في:
▪️⁩(إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بأخرين) النساء: 133.
▪️⁩(يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرت) يوسف: 46.
▪️⁩(قال فما خطبكم أيها المرسلون) الحجر: 57.
▪️⁩(وامتزوا اليوم أيها المجرمون) يس: 59.
▪️⁩(قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجهلون) الزمر: 64.
▪️⁩(قال فما خطبكم أيها المرسلون) الذاريات: 31.
▪️⁩(ثم إنكم أيها الضالون المكذبون) الواقعة: 51.
واثنتان بغير الألف برسم (أيه) في:
📌 (وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) النور: 31.
📌(سنفرغ لكم أيه الثقلان) الرحمن: 31.

وإن الباحث ليعجب أشد العجب من اختلاف رسم كلمة ( يأيه ) عن باقي المرات جميعاً في القرآن الكريم حيث رسمت جميعاً (يأيها). وعن اختلاف رسم (أيه) عن باقي المرات التي رسمت فيها (أيها)، ولكن ما إن يكتشف السبب حتى يسجد تعظيماً لمن أنزل هذا القرآن وحفظه من أن يزول منه حرف واحد.
💥إن جميع المرات التي رسمت فيها (يأيها، أيها) منتهية بحرف الألف، قد وصف المنادى فيها بوصفه الحقيقي، فالناس هم الناس، والذين ءامنوا هم الذين ءامنوا، والرسول هو رسول حقاً، والنمل هو نمل حقاً، والصدّيق هو صديق حقاً، والمرسلون هم مرسلون حقاً، والمجرمون مجرمون، والجاهلون جاهلون... وهكذا.
📌ولكن المرة الوحيدة التي اختلف فيها الرسم فجاءت (يأيه) منتهية بالهاء، والمرتين اللتين رسمت فيهما (أيه) منتهية بالهاء، قد جاء فيها المنادى على غير صفته الحقيقية، أو على صفة غير كاملة، حيث المنادى (يأيه) هو موسى عليه السلام وهو رسول كريم ونبي كريم وليس ساحراً كما وصفه المنادون بقولهم: يأيه الساحر.
💧كذلك الحال في مناداة المؤمنين بقوله تعالى (وتوبوا الى الله جميعاً أيه المؤمنون)، ذلك أنهم ليسوا جميعاً مؤمنين، فمنهم المنافقون المندسون بينهم، وحين نتدبر الآية والآية التي سبقتها نجد أن الخطاب هو للرسول صلى الله عليه وسلم حيث يأمره الله تعالى بأن يقول للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويقول للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، وليس من المتصور أن يقول الرسول عليه السلام للمؤمنين وللمؤمنات الخلّص فقط ويستثني منهم المنافقين والمنافقات، فهو سوف يقول للجميع المؤمن منهم والمنافق على سواء، وحيث أن الآية خاطبت المجتمع المسلم جميعه بقوله تعالى:
▪️⁩(قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم.....وتوبوا الى الله جميعاً أيه المؤمنون)
فإن الله تعالى يعلم أن في المجتمع المسلم منافقين ومنافقات، فقد اختلفت أداة النداء فجاءت على شكل مختلف (أيه)، لأن المنادى بها وهم المؤمنون ليسوا جميعاً على صفة الإيمان الحقيقية الكاملة لوجود منافقين بينهم، ويؤيد ذلك قوله (وتوبوا الى الله جميعاً)، فقوله👈 (جميعاً) لن يكون له معنى لو كان المخاطبون مؤمنين جميعهم، ولكان يكفي أن يقول (وتوبوا الى الله أيها المؤمنون).
كذلك الحال أيضاً في قوله تعالى:
▪️⁩(سنفرغ لكم أيه الثقلان)
فإن صفة الثقل ليست هي الصفة الأبرز التي يوصف بها الإنس والجن، بخاصة وأن في السموات والأرض مخلوقات أثقل منهما. ولذلك اقتضى النداء أن يأتي بأداة مختلفة (أيه) عن الأداة (أيها) التي ينادى بها أصحاب الصفة الأبرز أو الصفة الأكثر مطابقة للحقيقة.
أرأيتم كيف أن القرآن الكريم يراعي المعنى حتى في الحرف الواحد؟
فسبحان من أنزل هذا القرآن ورسمه!

الخميس، 2 يناير 2020

وقفة مع النفس في بداية العام



الحمد لله رب العالمين .. الحَمْدُ للهِ مُصَرِّفِ الأَحْوَالِ وَالأَوقَاتِ ، وَمُقَدِّرِ الأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ ، خَالِقِ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، وَجَاعِلِ النُّورِ وَالظُّلُمَاتِ، خلق الليل والنهار وجعلهما دائبين فقال تعالي (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) الإسراء 
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. حَثَّنَا عَلَى اغتِنَامِ الأَوقَاتِ ، وَالاعتِبَارِ بِالأَيَّامِ المَاضِيَاتِ ، وَنَهَانَا عَنِ الأَسَى عَلَى مَا فَاتَ ، أقسم بالزمن  في كتابه الكريم  فقال الله تعالى (والعصر إن الإنسان لفي خسر ), وقال تعالى (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ), كما قال الله تعالى ( والفجر وليال عشر ).
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. حرص علي الوقت واعتبر بالزمان.. فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به ؟ " رواه ابن حبان والترمذي.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما بعـد ... فيا أيها المؤمنون  .....
في مطلع العام الجديد تبرُز الحاجةُ الفرديّة والجماعية إلى المراجعة والمحاسبة ليقوَّم كل منا الماضي ويُصلَح الحاضر ويُخطَّط للمستقبل، وَفقَ منهج سليمٍ يقود للمنافع الخيِّرة ويوصِل للمقاصد المنشودة.
فالموفَّق من يسعى لإصلاح حاله وإدراك ما تبقَّى من حياته؛ بحيث يكون غدُه خيرًا من يومه، ويومُه أفضلَ من أمسِه، وعامُه الجديدُ أفضلَ من عامه المنصرِم، (الكيِّس هو من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني علي الله الأماني  ).
فالعاقل من راجع حساباته، وتزوَّد من الأعمالِ الصالحة وحقَّق توبةً نصوحًا إلى ربّه مما مضى منه من الذنوب وما حصل منه من الهفوات، فربّنا جلّ وعلا يذكِّرنا بقاعدة الإصلاح وأصلِ الخير بقوله جل وعلا: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ  وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
ونبيُّنا  فيما يحكيه عن ربِّه في الحديث القدسي الطويل، ويُوجز  فيما يرويه عن ربّه قولَ ربّه جلّ وعلا في الحديث القدسي:(يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أحصيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه) رواه مسلم. 
في استقبال العام الجديد ، لنا وقفة حساب وذلك من خلال هذه العناصر :ـ
1ـ وقفة اعتبار مع نهاية العام.
2ـ  وقفة مع يوم الحساب وأهواله.
 3ـ وقفة مع محاسبة النفس.
4ـ  نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم.
======================
العنصر الأول : وقفة اعتبار مع نهاية العام :ــ
ها نحن نودع عاماً كاملاً من أعوام العمر، فما أسرع ما مضى وانقضى، وما أعظم ما حوى، فكم من حبيب فيه فارقنا، وكم من اختبار وبلاء فيه واجهنا،  وكم من سيئات فيه اجترحنا، وكم من عزيز أمسى فيه ذليلاً، وكم من غني أضحى فيه فقيراً، وكم من حوادث عظام مرت بنا ولكن أين المعتبرون المبصرون، وأين الناظرون إلى قول النبي :(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) [أخرجه البخاري].  
أيها المسلمون: إن الليالي والأيام خزائن للأعمال ومراحل للأعمار، تبلي الجديد وتقرب البعيد، أيام تمر وأعوام تتكرر، وأجيال تتعاقب على درب الآخرة، فهذا مقبل وهذا مدبر، وهذا صحيح، وهذا سقيم، والكل إلى الله يسير.
فانظر أيها الحبيب في صحائف أيامك التي خلت، ماذا ادخرت فيها لآخرتك، واخل بنفسك وخاطبها: ماذا تكلم هذا اللسان، وماذا رأت العين، وماذا سمعت هذه الأذن، وأين مشت هذه القدم، وماذا بطشت هذه اليد، وأنت مطلوب منك أن تأخذ بزمام نفسك وأن تحاسبها، يقول ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون مع نفسه أشد من الشريك مع شريكه".
فلنحاسب أنفسنا على الفرائض، ولنحاسب أنفسنا على المنهيات، ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام تحث بنا السير إلى الآخرة. 
سمع أبو الدرداء رجلاً يسأل عن جنازة مرّت: فسُئل من هذا؟
فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: هذا أنت.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله، قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الليل والنهار مطيتان يباعدانك من الدنيا ويقربانك من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره. يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار تتجدد الأعوام فنقول: إن أمامنا عاماً جديداً نراه طويلاً لكن سرعان ما ينقضي. قال عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله  بمنكبي فقال:(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) [ أخرجه البخاري]، فلا يركن المؤمن إلى الدنيا ولا يطمئن إليها، فهو على جناح سفر يهيئ نفسه للرحيل.
أيها الأحبة:
إن مضي الليل والنهار يباعدان من الدنيا ويقربان من الآخرة، فطوبى لعبد انتفع بعمره فاستقبل عامه الجديد بمحاسبة نفسه على ما مضى وتاب إلى الله عز وجل، وعزم على ألا يضيع ساعات عمره إلا في خير، لأنه يذكر دائماً قول نبيه  صلي الله عليه وسلم : (خيركم من طال عمره وحسن عمله) ، وهو يلهج دائما بدعاء النبي : (اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر) [أخرجه مسلم]. 
بكى يزيد الرقاشي عند موته فقيل له لم تبكِ، قال: أبكي على قيام الليل وصيام النهار ثم أجهش بالبكاء وهو يردد: من يصلي لك يا يزيد؟ من يصوم لك؟ من يتوب عنك من الذنوب؟
العنصر الثاني: وقفة مع يوم الحساب وأهواله :ــ
الناس يعيشون في الدنيا وينسون يوما لا بد منه هذا اليوم لو عشناه بقلوبنا لحلت كل مشاكلنا وما رأينا مظلوما علي وجه الأرض ،يوم أن يفصل الله عز وجل بين الخلائق ويعطي لكل ذي حق حقه ،هذا اليوم هو يوم الحساب .
قال تعالي (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ،اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب )[غافر:16].
يوم الحساب يوم جليل خطبه، عظيم خطره، بل هو اليوم الذي ليس قبله مثله ولا بعده مثله، والكل ظاهر ومكشوف فلا زيف ولا خداع ولا كذب ولا رتوش.
وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده، ثم يقول: أنا المالك، أنا الجبار، أنا المتكبر، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجيب نفسه لله الواحد القهار).
يوم عبوس قمطرير شره……. وتشيب منه مفارق الولدان
هذا بلا ذنبُ يخاف مصيره…… كيف المصرُ على الذنوبِ دهورُ
قال اللهُ عز وجل ( فكيفَ تتقونَ إن كفرتم يوماً يجعلُ الولدانَ شيبا) .
وذلك هو يوم الحساب ويوم الجزاء.
فما الحساب؟ وما هي صفته؟ وعلى ماذا يحاسب الله تعالى العباد؟
يوم الحساب: هو محكمة العدل الإلهية التي يقضي فيها رب العزة سبحانه بين خلقه وعباده وينبغي أن تعلم أن يوم القيامة: يوم يجمع الله فيه الأولين، والآخرين للحساب:(قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ) [الواقعة:50].(ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه )[آل عمران:9]. 
يوم تتكشف فيه الحقائق والأستار، فالكل مكشوف النفس والعمل والمصير: (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)[الحاقة:18].
يوم يشيب من هوله الوليد، وتذهل الأم الحنون عن طفلها، وتسقط فيه الحامل حملها (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) [الحج:2].
وللحديث: (ذلك يوم يقول الله لآدم: أخرج بعث النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة) فأنشأ المسلمون يبكون .
وأما صفة الحساب: فلا بد لكل محكمة من حاكم يحكم ويقضي، وشهود يشهدون، ومتهم وأرض يقام عليها الحكم.
1- أما الحاكم: فهو الله جل جلاله، جبارالأرض والسماء، تباركت أسماؤه وعظمت صفاته الذي يعلم السر وأخفى، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الخالق لكل شيء سبحانه وتعالى ويبدأ الأمر:
أ- بنفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتصعق الخلائق كلها وتموت: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض )[سورة الزمر:68].
 ب- إحداث تغير عام في الكون فتنشق السماء وتتناثر النجوم وتتصادم الكواكب وتتفتت الأرض:( إذا الشمس كورت ،وإذا النجوم انكدرت ،وإذا الجبال سيرت )[التكوير:1-3]. كورت أي ظلمت، انكدرت: أي تناثرت، وسيرت: أي حركت وصارت كالهباء.
ج- ينفخ إسرافيل في الصور بأمر الله سبحانه فتقوم الخلائق للحشر: (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون )[الزمر:68].
د- نزول عرش الرحمن جل جلاله: (وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ،والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية )[الحاقة:16-17]، أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة، وللحديث: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام). 
هـ- ثم يشرق على الأرض نور الحق جل جلاله: (وأشرقت الأرض بنور ربها )[الزمر:69]. أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء.  
و- ثم مجي الحق سبحانه مجيئا يليق بجلاله وكماله وعظمته سبحانه الكبير المتعال: (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ،وجاء ربك والملك صفا صفا )[الفجر:21-22].
وأما صفة حكمه جل جلاله سبحانه:
- العدل المطلق: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ،ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [الزلزلة: 807].
أ- فلا ظلم: (ولا يظلم ربك أحدا )[الكهف:49].
ب- ولا أنساب:( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون )[المؤمنون:101]. أي لا تنفع الإنسان يومئذ قرابة ولا يرثي والد لولده يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ ليأخذ حقه، قال: فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا).
ج- ولا رشوة لتغير صورة الحكم، فالحاكم هو الغني المتعال والكل مفتقر إليه سبحانه: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد )[فاطر:15].
د- ولا تهديد ولا ضغوط: فالحاكم هو القوي سبحانه: (إن القوة لله جميعا )[البقرة:165]،( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا )[مريم :93]. فالكل ضعيف وعبد.
2- الشهود:ــ 
وأما الشهود فهم كثير فلا مكان للإنكار والكذب والمراوغة .
أ- وأعظمهم شهادة هو الله سبحانه الله جل جلاله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا )[المجادلة:7].
ب- الرسل عليهم الصلاة والسلام ويشهد للرسل سيدنا وحبيبنا رسول الله صلي الله عليه وسلم للحديث: (يدعى نوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ 
فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من أحد. فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، ثم أشهد لكم). ج- الملائكة: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد )[ق:17].
يقول الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا وقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك).
د- الجوارح: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء )[فصلت:21]. 
وعن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلي الله عليه وسلم فضحك فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم  قال: من مخاطبة العبد ربه  فيقول: يا رب ألم تجرني (تحفظني) من الظلم؟ يقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدا إلا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، والكرام الكاتبين شهودا، قال: فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بعداً لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل) .
هـ- الأرض: (يومئذ تحدث أخبارها )[الزلزلة:4]. 
قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الآية: (يومئذ تحدث أخبارها ) قال: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمةٍ بما عمل على ظهرها أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا فهذه أخبارها).
و- التسجيل الكامل كما ذكر بعض العلماء: لقوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ،فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ،ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [الزلزلة:7-8].
وتعرض الأعمال عرضا حيا ناطقا، فسيرى المرء عمله وهو يباشره ويا للفضيحة). اللهم إنا نسألك ستر الدارين، اللهم إنا نعوذ بك من خزي الدنيا والآخرة، يا رب العالمين.
3- المتهم:ــ 
هو الإنسان الذي خلقه الله بيده، وأسجد له الملائكة، وكرّمه على كثير ممن خلق، سخر الكون له، وأرسل له الرسل، وأنزل له الكتب، وجعل له واعظا من عند نفسه بالفطرة التي فطر الله الناس عليها على معرفته سبحانه وحذره من الشيطان وطاعته ثم يستقبل الإنسان ذلك كله بالسخرية: (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) [يس:30]. 
ويجعل من الشيطان ربا يعبده من دون الله: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين ،وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا (أي خلفا) كثيرا أفلم تكونوا تعقلون ) [يس :60-62].
ويمر بآيات الله الدالة عليه سبحانه معرضا: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون )  [يوسف:105].
يمن الله عليه بالنعم فيزداد طغيانا: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى )[الأعلى:6-7].
الإنسان الذي إذا أحاطت به الخطوب تذكر ربه وإذا كان في نعمة غفل وكفر (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون )[النحل:53–54].
4- وأما أرض المحكمة: 
(يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) [إبراهيم:48].
وللحديث(يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد) .
وللحديث: (أرض بيضاء لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة).
فهي أرض أخرى غير أرضنا لم تطأها قدم من قبل، ولم تعمل عليها خطيئة، ولم يسفك عليها دم، أرض طاهرة من ذنوب بني آدم وظلمهم، طهر يتناسب وطهر القضاء.
وأما على ماذا يحاسب الله تعالى العباد: 
فاعلم أن الحساب سوف يكون مشافهة: فكل عبد يعرض على ربه، ويتولى سبحانه حسابه بنفسه للحديث:(ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، ثم ينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمره).
والحساب إما أن يكون يسيرا: وذلك بأن يعرض على العبد عمله بحيث لا يطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة للحديث: (يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه (أي يستره ولا يفضحه) فيقول: أعملت كذا وكذا؟ 
فيقول: نعم، ويقول: أعملت كذا وكذا فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته). 
وأما أن يكون الحساب عسيرا وذلك لمن كثرت معاصيه فذلك الذي يناقش الحساب ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة للحديث: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أليس قد قال الله : (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا  يسيرا)؟
فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب). والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة. 
والحساب يتناول كل شيء:ــ
1ـ العمر والمال والجسم والعلم لقول النبي صلي الله عليه وسلم : (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه ما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه).
2ــ عن النعم وشكرها: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم )[التكاثر:8]. 
قال مجاهد: عن كل لذة من لذات الدنيا). ولقوله صلي الله عليه وسلم: (إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال: له ألم نصح لك بدنك، ونروك من الماء البارد).
3- عن الحواس واستعمالها: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) [الإسراء:36].
قال ابن عباس: يسأل الله العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم .
4- عن الفرائض من صلاة وزكاة: لقوله صلي الله عليه وسلم:(إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة وآخر ما يبقى الصلاة، وأول ما يحاسب به الصلاة ويقول الله: انظروا في صلاة عبدي، قال: فإن كانت تامة كتب تامة، وإن كانت ناقصة يقول: انظروا هل لعبدي من تطوع؟
فإن وجد له تطوع تمت الفريضة من التطوع، ثم قال: انظروا: هل زكاته تامة؟ فإن كانت تامة كتبت تامة، وإن كانت ناقصة قال: انظروا هل له صدقة فإن كانت له صدقة تمت له زكاته). 
5- عن الدماء والقتل: لقول النبي صلي الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين بالناس يوم القيامة في الدماء) وللحديث: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركا أو يقتل مؤمنا متعمدا). 
6- السؤال عن المسؤولية والأمانة: (وقفوهم إنهم مسؤولون )[الصافات:24].
لقوله صلي الله عليه وسلم:(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والأمير راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده).
7- عن الكلمة:لقوله صلي الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) ،ولقول النبي صلي الله عليه وسلم: (وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم).
و ما من كاتب إلا ستبقى                 كتابتـه وإن فنيـت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء                 يسرك في القيامة أن تراه
8- عن الحقوق والمظالم للحديث: (يقول الله تعالى: أنا الديان، أنا الملك لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة).    
إن النجاةَ والمخرجَ في محاسبة النفس والوقوف معها وقفة جادة .....
العنصر الثالث : وقفة مع محاسبة النفس :ــ
المسلم الصالح تكون له وقفات دائمة مع نفسه ليحاسبها ويصحح مسيرته ويتدارك خطأه، لاسيما عند انقضاء مرحلة من مراحل عمره.
إن النفس سريعة التقلب، ميالة في كثير من الأحيان إلى الشر، كما قال الله تعالى عنها:  إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى [يوسف:53].
ومـن هنــا كـان لزاماً على كل عبدٍ يرجو لقاء ربّه أن يطيل محاسبته لنفسه، وأن يجلس معها جلسات طـِــوالاً؛ فينظر في كل صفحة من عمره مضت: ماذا أودع فيها.
قال أبو حامد الغزالي: "اعلم أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم، حرصاً منهم على الدنيا، وخوفاً من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيـرة لهم في فواته... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟!
ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك"[ الإحياء].
 أولاً: معنى المحاسبة:ـ
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله ـ: "المحاسبة أن يميز العبد بين ماله وما عليه فيستصحب ما له ، ويؤدي ما عليه؛ لأنه مسافرٌ سَفَرَ من لا يعود"  [ مدارج السالكين]. 
يقول الله تبارك وتعالى (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
قال الحسن البصري في تفسير قول الله عز وجل: وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ [القيامة:2]. "لا يُلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قُدُماً لا يعاتب نفسه"[ تفسير البغوي، والزهد للإمام أحمد].
ويقول الله عزّ وجلّ في وصف المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عند الذلّة والتقصير ويرجعون عمّا كانوا عليه ( إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) [الأعراف:201].
قال الفاروق عمر رضي الله عنه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزيّنوا للعرض الأكبر  يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيةٌ [الحاقة:18]).
ويصف الحسن البصري المؤمن بقوله: "المؤمن قوّام على نفسه يحاسبها لله، وإنّما خفّ الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".
ويقول ميمون بن مهران: "إنه لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه".
ثانياً: أهمية محاسبة النفس:ــ
1- في المحاسبة نجاة للأمة :ـ
إن غياب المحاسبة نذير غرق الأمة في لجج من بحار الفساد والتيه المنتهية بنار وقودها الناس والحجارة،  وأن الفساد في الدنيا إنما يكون ظاهراً جلياً حينما لا يتوقع المجتمع أو الفرد حساباً، لا يتوقع حساباً من رب قاهر أو من ولي حاكم أو من مجتمع محكوم أو من نفس لوامة، وحينما لا يتوقع المجتمع و الفرد حساباً على تصرفاتهم فإنهم ينطلقون في حركاتهم كما يحبون ويموجون كما يشتهون وكما تهوى أنفسهم فيتقلبون على الحياة ودروبها بلا زمام ولا خطام فيتشبهون بأهل النار من حيث يشعرون أو لا يشعرون  إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً  وَكَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا كِذَّاباً [النبأ:27-28].
2ـ الاطلاع على عيوب النفس :ــ
من اطلع على عيوب نفسه، أنزل نفسه المنزلة الحقيقة لا سيما إن جنحت إلى الكبر والتغطـرس.وما من شك أنّ معرفـة العبد قدر نفسه يورثه تذلّلاً لله وعبودية عظيمة لله عز وجل، فلا يمنّ بعمله مهمـا عظم، ولا يحتقر ذنبه مهما صغر. 
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا يفقه الرجل كلّ الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدَّ  مقتاً)[ الزهد للإمام أحمد].
3- التعرف علي حق الله تعالي وعظيم فضله :ـ
أن يتعرّف على حق الله تعالى عليه وعظيم فضله ومنّه؛ وذلك عندما يقارن نعمة الله عليه وتفريطه في جنب الله، فيكـون ذلك رادعاً له عـن فعل كل مشين وقبيح؛ وعنـد ذلك يعلـم أن النجـاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، ويتيقّن أنه من حقّه ـ سبحانه ـ أن يطاع فلا يعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. 
4- تزكية النفس وتطهيرها :ــ 
من فوائد المحاسبة أنها تزكي النفس وتطهرها وتلزمها أمْر الله تعالى، 
قال تعالى:  قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس:9-10].
وقال مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله ـ عز وجل ـ فكان لها قائداً"[إغاثة اللهفان لابن القيم].
5- تربية الضمير الحي :ــ
المحاسبة تربّي عند الإنسان الضمير الحي داخل النفس، وتنمّي في الذات الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرّفات بميزان دقيق هـو ميزان الـشرع)[ التربية الذاتية].
6- ترك المحاسبة يؤدي إلي الهلاك :ـ
استمعوا إلى ابـن الـقـيـم رحمـه الله وهو يحذر من إهمال محاسبة النفس فيقول: "أضرّ ما على
المكلّف الإهمال وترك المحاسبة، والاسـتـرسال، وتسهيل الأمور وتمشيتُها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور: يغمض عينيه عن العواقب، ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، فيهمل محاسبة نفسه والنظر في العاقبة، وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب وأنسَ بها وعسر عليه فطامها"[ إغاثة اللهفان].
والنفس كالطفل إن تهمله شب على       حب الرضـاع وإن تفطمه ينفطـم
فاحـذر هواها وحـاذر أن توليـه         إن إلهـوى ما تولى يعم أو يصـم
وراعها وهي في الأعمـال سائمة          وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كـم حسـنت لـذة للمـرء قاتلـة         من حيث لم يدر  أن السم في الدسم
وخالف النفس والشيطان واعصهما         وإن هما محضـاك النصـح فاتهم
فيا أيها المؤمنون .. إذا كان أرباب الأعمال وأرباب الدنيا يجعلون المحاسبة والتدقيق والمراجعة من أهم مراحل العملية الإدارية، فبدون هذه المراحل تكون المنشأة عرضة لفشل محقق، فما بالكم بهذا الإنسان المسكين الضعيف الذي يقطع مراحل حياته ليلقى ربه، فإما فوز ونجاة، وإما خسارة وعذاب.
عباد الله: يا من تعيشون في هذه الديار التي علا فيها صوت الشيطان، وأجلب على أهلها بخيله ورجله، نحن في حاجة أكبر لمحاسبة النفس، فالمعاصي تغزونا حتى في دورنا وبين أهلينا، والغفلة رانت على قلوبنا، وطاعة الله بعيدة عنا .
العنصر الرابع : نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم:ــ 
لقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثلة في محاسبة النفس، مما لو حاولنا أن نستقصيه لطال بنا المقام، ولعجزنا عن ذلك، لأن أولئك القوم ارتبطت قلوبهم بالله؛ فكانوا أجساداً في الأرض وقلوباً في السماء، وما إن يحصل من أحدهم تقصير أو زلّة إلا ويسارع في معالجة خطئه، ومعاقبة نفسه على ذلك؛ حتى لا تكاد تأمره نفسه إلا بخير.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه  قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يوماً وخرجت معه حتى دخل حائطاً فسمعتُه يقول ـ وبيني وبينه جدار(عمر!! أمير المؤمنين!! بخٍ بخٍ، واللهِ بُنَيّ الخطاب لتتقينّ الله أو ليعذبنّك)[الزهد للإمام أحمد].
وجاء رجل يشكو إلى عمر وهو مشغول فقال له: أَتَتْركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا شُغِل بأمر المسلمين أتيتموه؟ وضربه بالدرّة، فانصرف الرجل حزيناً، فتذكّر عمر أنه ظلمه، فدعا به وأعطاه الدرّة، وقال له: (اضربني كما ضربتُك) فأبى الرجل وقال: تركت حقي لله ولك. 
فقال عمر: (إما أن تتركه لله فقط، وإما أن تأخذ حقّك) فقال الرجل: تركته لله. فانصرف عمر إلى منزله فصلّى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه: (يا بن الخطاب: كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وضالاً فهداك الله، وضعيفاً فأعزّك الله، وجعلك خليفةً فأتى رجلٌ يستعين بك على دفع الظلم فظلمتَه؟!! ما تقول لربّك غداً إذا أتيتَه؟ وظلّ يحاسب نفسَه حتى أشفق الناس عليه)[ مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لابن الجوزي].
وقال إبراهيم التيمي: "مثّلتُ نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثّلتُ نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: يا نفس أيّ شيء تريدين؟ 
فقالت: أريد أن أُردّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً! قلتُ: فأنتِ في الأمنية فاعملي"[ الزهد للإمام أحمد].
وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال: كنتُ أصحبُه فكان عامةُ صلاته بالليل، وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحسّ بالنّار ثم يقول لنفسه: (يا حنيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعتَ يومَ كذا؟) [الزهد للإمام أحمد، ، وذم الهوى].
ونُقِل عن توبة بن الصّمة: (أنه جلس يوماً ليحاسب نفسَه فعدّ عمره فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي واحدٌ وعشرون ألفاً وخمسمائة يوم؛ فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الملك بواحدٍ وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!!)[وتمام القصة ثم خرّ فإذا هو ميّت!! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى. الإحياء والقصة مذكورة في صفة الصفوة لابن الجوزي ].
فعلينا أن ننظر إلى تقصيرنا، وأن نعزم عزماً أكيداً على ما نستقبله من أيام حياتنا أن نحسن ما أسأنا فيه، وأن نأخذ بالعزيمة الصادقة مع الله تعالى على أن يكون عامنا الجديد خيراً من العام الماضي، وأن نتمسك بشريعة ربنا، وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم.
===================
رابط pdf
رابط word

الاثنين، 30 ديسمبر 2019

الورع أعلي مراتب الإيمان



الحمد لله رب العالمين .. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا فقال تعالي }وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ(7){ الحجرات .
فنحمده سبحانه وتعالي، ونستعين به ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له...أمر بالوقوف عند حدوده فقال تعالي } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(229){ البقرة.

وأشهد أن محمدًا رسول الله صلي الله عليه وسلم بين الحلال والحرام وحذر من المشتبهات فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام .. كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى .. ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ ألا وهي القلب " .. رواه البخاري ومسلم.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...

أما بعــــــــد .. فيا أيها المؤمنون .

فإن الإيمان من النعم التي أنعم الله بها علينا قال تعالي }  يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(17){ الحجرات.
والإيمان ليس بالأمر اليسير، ولكن يحتاج إلي مجاهدة النفس والهوى قال تعالي }وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69){ العنكبوت .
ولن يصل العبد إلي الإيمان الحق إلا بالورع الكامل ، فالورع من أعلى مراتب الإيمان وأفضل درجات الإحسان يحقق للمؤمن هدوء البال وطمأنينة النفس وراحة الضمير ..
لذلك كان موضوعنا عن ( الورع أعلي مراتب الإيمان ) وذلك من خلال العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ تعريف الورع .
2ـ فضل الورع في الإسلام .
3ـ مراتب الورع .
4ـ فوائد الورع.
5ـ كيف نتعلم الورع؟
====================
العنصر الأول : تعريف الورع :ـ
للورع تعاريف كثيرة عند السلف والعلماء ،منها:ـ  
الوَرَعُ: ترك ما يريبُك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق.
وقيل: هو تجنب الشبهات، ومراقبة الخطرات.
وقال ابن القيم رحمه الله: هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة.
وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: هو ترك كل شبهة.
وقال يحيى بن معاذ: الورع على وجهين: ورع في الظاهر وورع في الباطن. فورع الظاهر: أن لا يتحرك الإنسان إلا لله، وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سوى الله.
وقال يونس بن عبيد رحمه الله: الورع هو الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
وقال إسحاق بن خلف رحمه الله: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: جلساء الله غدًا أهل الورع والزهد.
وقال حبيب رحمه الله (يعني ابن أبي ثابت رحمه الله): لا يعجبكم كثرة صلاة امرئ ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعًا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقًا.
وعن طاووس رحمه الله أنه قال: مثل الإسلام كمثل شجرة، فأصلها الشهادة، وساقها كذا وكذا، وورقها كذا (شيء سماه) وثمرها الورع، لا خير في شجرة لا ثمر لها، ولا خير في إنسان لا ورع له.
العنصر الثاني : فضل الورع في الإسلام :ــ
من السهولة بمكانٍ أن يكون المسلم مصليًا أو صوّامًا أو قوّامًا أو داعيةً أو خطيبًا أو معلمًا أو حتى عالمًا، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون وَرِعًا فإن الورع رتبةٌ عزيزة المنال، ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب، وتحلى بأجمل المناقب التي تؤهله جوار الرحمن، فأكثر الناس اليوم إنما يهمه أن يحقق مآربه في الدنيا وشهواتها وملذاتها دون تريث في الأمر والتفات للشرع وسؤال عن الحكم، وبعضهم قد امتلأ بطنه، وعظم رصيده، وغذي بالحرام جسمه، وما ذلك وما نلاحظه من قلة البركة وانتشار الفساد لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع.
لذلك كان للورع فضائل عظيمة في حياة المسلم منها :ــ
 الورع من أعلى مراتب الإيمان وأفضل درجات الإحسان:
فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «يا أبا هريرة! كن ورعًا تكن أعبد الناس، وكن قنعًا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقل الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب»( أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع» (أخرجه الحاكم في المستدرك)
وعن معاوية بن قرة: دخلت على الحسن وهو متكئ على سريره، فقلت: يا أبا سعيد: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة في جوف الليل والناس نيام. قلت: فأي الصوم أفضل؟ قال: في يوم صائف. قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال أنفسها عند أهلها وأغلاها ثمنًا. قلت: فما تقول في الورع؟ قال: ذاك رأس الأمر كله . 
وقال الحسن البصري رحمه الله: مثقال ذرة من الورع خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة
2ـ أنه أساس التقوى:
فعن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذارًا لما به بأس»( أخرجه الترمذي).
3ـ من حصله فلا خسارة عليه:ـ
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمه»(أخرجه أحمد)
4ـ الورِع من أسباب استجابة الدعاء:ـ
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا،وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال }يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51){( المؤمنون) .وقال }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(172){(البقرة).
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام و ملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟»( مسلم).
 أي كيف يستجاب له. فتأمل العقوبة العظيمة لمن ترك الورع، فرغم أن كل هيئة الرجل وعمله غاية في القوة والتعبد إلا أن عدم تورعه عن الحرام رد كل هذه العبادات، وضيع دعاءه سدىً
وتقول عائشة رضي الله عنها: إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة: الورع. ويقول عبد الله بن عمر: لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار، لم يُقبل ذلك منكم إلا بورع حاجز.
العنصر الثالث :ـ مراتب الورع 
للورع مرتب ودرجات لابد من معرفتها وهي كالآتي :ـ
المرتبة الأولي : الورع عن الحرام وتجنب كل قبيح :ـ 
وقد حذر الله تعالي من أكل الحرام لما فيه من مقت وغضب يناله العبد في قلبه وفي صحته وبدنه وفي تصرفاته، لأن الخبيث لا ينتج إلا الخبيث ولهذا قال سبحانه}قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(100){ المائدة
وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم عن زمن لا يبالي الناس في أمر الحلال والحرام فقال صلي الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان لايبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام ) ( البخاري )
وقد حذر الله تعالي من أكل أموال الناس بالباطل،  فقال تعالى}وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ(188){ البقرة.
قال ابنُ عباس رضي الله عنهما "هذا في الرَّجُل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيَجْحَد المالَ، ويخاصمهم إلى الحكَّام، وهو يعرف أنَّ الحقَّ عليه، وأنَّه آثِمٌ آكِلٌ للحرام(ابن كثير) .
وأكد علي ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبه من نفسه) "رواه أحمد والحاكم والبيهقي".
 وقال صلي الله عليه وسلم :( ومن اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان) "رواه مسلم". 
ولقد شددت الشريعة الإسلامية علي حرمة الاعتداء علي مال اليتيم بصفة خاصة. فقال الله تبارك وتعالي }وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(152) الأنعام . 
 وقال عز وجل في آية آخري (وَابْتَلُوا اليتامى حَتَّي إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ(6)) النساء
ولقد ورد في السنة النبوية الكريمة العديد من الأحاديث التي تحرم الاعتداء علي مال اليتيم
 فعن أبي هريرة رضي الله عنه  "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا وما هن يا رسول الله ؟ قال: الشرك بالله. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. وأكل الربا. وأكل مال اليتيم. والتولي يوم الزحف. وقذف المؤمنات الغافلات " رواه البخاري ".
ولقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل :"وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليتامى" فقالت: هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها، أو يزوجها لأحد أبنائه  بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها أقل مما يعطيها غيره.
فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلي سننهن من الصداق. وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهن من النساء سواهن "رواه البخاري
 فنهي رسول الله صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث عن ظلم اليتيمة وأمر بأن يعطي لها حقها كاملاً في الصداق.
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: "وَمَن كَانَ غَنِياًّ فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ". نزلت هذه الآية في ولي اليتيم الذي يقيم عليه ويصلح ماله. وإذا كان فقيراً أكل منه بالمعروف"رواه البخاري".
ومن أساليب أكل مال اليتيم التي أشارت إليها النصوص :الجور عند توزيع التركة وتعدي الكبار علي حقوق الصغار.
أو أن يختار الكبار أفضل وأحسن الأموال ويتركون للصغار الأقل نفعاً وقيمة ، وقد حذر الله تعالي من ذلك  فقال تعالى }وآتوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ ۖ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ۖ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا(2){ النساء
ولم يرد في القرآن من تهديد ووعيد بالويل العظيم الذي تقشعر منه الأفئدة مثل ما ورد لمن يعتدي علي مال اليتيم وحقوقه. فقال الله تبارك وتعالي } إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا(10( { النساء
لقد ورد في هذه الآية صورة مفزعة من صور النار في البطون.. وصورة السعير في نهاية المطاف. إن هذا المال نار وإنهم ليأكلون هذه النار. وإن مصيرهم لإلي النار. فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود. هي النار من باطن وظاهر. هي النار مجسمة حتي لتكاد تحسها البطون والجلود. وحتي لتكاد تراها العيونوهي تشوي البطون والجلود.
وعندما نزلت هذه الآية علي الصحابة فزعوا من التهديد والوعيد. 
 فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: "إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً"، انطلق من كان عنده يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء. فيحبس له ، حتي يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم. فأنزل الله تعالي قوله. }وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  (220){ البقرة ."رواه أبو داود .
كما ورد في سورة الأنعام قول الله تبارك وتعالي: }وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّي يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَي وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) {الأنعام
ومن صور أكل المال المحرَّم: 
الرِّبا ، والسرقة والاختلاس والرشوة ، والغش ،والغلول ، واستغلال المناصب والوظائف في كسب غير مشروع ، واستغلال حاجة الناس ، والاعتداء على رواتب العمَّال، وعدم إعطائهم حقوقهم في أوقاته.
وآكل الحرام إنما يعرِّض نفسه للعقوبة في الدنيا، وفي قَبْرِه، ويوم القيامة:
أمَّا في الدنيا: 
فقد تكون العقوبة خسارةً في ماله، أو مَحْقٌ إلهيٌّ للمال الذي اكتسبه، ونَزْع البركة منه، أو مصيبةً في جسده؛ قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276)
وأما في قبره:
فقد ورد في الحديث: أن عبدًا يُقال له مِدْعَمٌ، كان مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم واستشهِد في غزوة خيبر؛ أصابه سهمٌ طائِشٌ، فقال الصحابة رضي الله عنهم : هنيئًا له الشَّهادة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ((كلاَّ، والذي نفسي بيده، إن الشَّمْلة التي أصابها يوم خيبر من المغانِم، لم تُصِبْها المقاسِم - لَتَشْتَعِلُ عليه نارًا))، فلما سمع الناس ذلك، جاء رجلٌ بشِراكٍ أو شِراكَيْن إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال((شِراكٌ أو شِراكانِ من نارٍ)) متفق عليه .  
وهذه الشَّمْلَة عباءةٌ قيمتها دراهم معدودة، ومع ذلك لم يَسْلَم صاحبها من عقوبة أكل المال الحرام.
وأما في الآخِرة: 
 فعن كعب بن عَجْرَة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: (يا كعبُ، لا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ من سُحْتٍ؛ إلاَّ كانت النار أوْلى به). الترمذي. "
وفي الحديث المرفوع ( لا تَغْبِطَنَّ جَامِعَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، أَوْ قَالَ : مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ ، فَإِنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَمَا بَقِيَ كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ "
مفهوم خاطئ :ـ 
يظن البعض أنهم يأكلون الحرام وينفقون منه في بعض الأعمال الصالحة؛ كبناء المساجد أو المدارس أو المعاهد، أو المصانع ، أو غير ذلك، ويظنُّون أنهم بهذا برئت ذمَّتهم، فهؤلاء يعاقَبون مرتَيْن:
الأولى: أنَّ الله لا يقبل منهم أعمالهم الصالحة التي أنفقوا عليها من الأموال المحرَّمة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله طيِّبٌ، لا يقبل إلا طيبا)( رواه مسلم ).
الثانية: أن الله يعاقبهم على هذا المال الحرام، ويحاسَبون عليه يوم القيامة؛ فعن خَوْلَة الأنصارية رضي الله عنه : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:(إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حقٍّ؛ فلهم النار يوم القيامة) (رواه البخاري)
قال سفيان الثوري: "مَنْ أنفق الحرام في الطاعة، فهو كمَنْ طهَّر الثوبَ بالبَوْل، والثوب لا يَطْهُر إلا بالماء، والذنب لا يكفِّره إلا الحلال".
وقد طمأننا الله تعالي علي قضية الرزق حتي لا نتكالب عليها ونتجاوز الطريق الحلال  فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «أيها الناس: اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل، ودعوا ما حرم» رواه الإمام أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح
المرتبة الثانية :ـ ترك الشبهات :ـ
الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل للمؤمن في قلبه منه ريب والريب :بمعنى القلق والاضطراب بل تسكن إليه النفس،ويطمئن به القلب ،وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ..الحديث.
فسّر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلةٌ بين الحلال والحرام، وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام
وكذلك فإن الاستبراء للدين مهم جدًا في حياة الدين المسلم، والإنسان قد لا يشبع من الشبهة وقال الثوري رحمه الله في الرجل يجد في بيته الأفلس والدراهم: أحب إليّ أن يتنزّه عنها إذا لم يدري من أين هي.
ترك ما لا تطمئن له نفس المؤمن:
كقوله صلى الله عليه و سلم عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»(مسلم)
وحين جاء وابصةُ بن معبد إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له صلى الله عليه و سلم: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ… اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ».(رواه أحمد)
وذلك التوجيه للإنسان المؤمن، أما الفاسق والفاجر فإن الإثم لا يحوك في صدره، بل ربما يتلذذ بالمعاصي، ويستمتع بالآثام، وهي متع ظاهرة، وتلذذ مغشوش، ولكن المسلم يجد لصدره انفساحًا، ولفؤاده انشراحًا مع البر ودروبه، ويجد في صدره ضيقًا، وفي قلبه حرجًا حين التلبس بالإثم ودواعيه.
ومن ذلك أيضا ما رواه الحسن بن علي بن أبي طالبٍ، سِبطِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتِه رضي الله عنهما، قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم(دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك))؛ رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقال صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس
وقال سفيان بن عيينة لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يطبق هذا جيدا وكان حريصا عليه صلي الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : إنى لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها). 
وقال عمر رضي الله عنه (كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافةَ الوقوع في الحرام.
و قال ابن المبارك: "لأنْ أرُدَّ دِرْهمًا من شُبْهَةٍ؛ أحبّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألفٍ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: «اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرضَ ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ قال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ. قال: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا».
كان هذا في أهل الأمم ممن كانوا قبلنا، وإليك نماذج أخرى سريعة تطبيقية من حال سيد الورعين صلى الله عليه و سلم ومن حياة صاحبيه رضي الله عنهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم بالفارسية: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة»
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لأبي بكر غلامٌ يخرج به الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهّنت لإنسان في الجاهليةِ وما أُحسِن الكهانةَ إلا أنني خدعتُه فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه» وفي رواية فيقل له: أرفق بنفسك لا تخرج روحك، قال: والله لو لم تخرج إلا بها لأخرجتها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به)
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعةَ آلاف في أربعة، وفرضَ لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة. فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصتَه من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجرَ به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه).
وعن ابن شهاب: قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساءٍ من نساء المدينة، فبقي مرطٌ جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي، لأن عمر تزوجها فتكون حفيدة النبي صلى الله عليه و سلم، فقال عمر: أم سليط أحقّ، و أمُّ سليط هي من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال عمر رضي الله عنه: فإنها كانت تزفر تخيط لنا القرب يوم أحد.
المرتبة الثالثة : ترك المؤمن ما لا يعنيه:
قال ابن القيم رحمه الله:وقد جمع النبي صلى الله عليه و سلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».حسن رواه الترمذي.
 فهذا يعم الترك لما لايعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.   
 فعن عائشة رضي الله عنها: ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري ما علمت؟ أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، تعاليني وتفاخرني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ) (البخاري ومسلم).   
  ولا ريب أن حفظ اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر، كل ذلك من عوامل النجاة }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36){ الإسراء.  
المرتبة الرابعة : حفظ الحدود والوقوف عندها:ـ 
الحفظ لحدود الله هي أعظم مراتب الورع في حياة أهل الإيمان في عبادة، لذا تكرر لفظ الحفظ وما وافق معناه في كتاب الله تعالى كثيرًا، فمن مثل ذلك قول الكريمحَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238)} [البقرة]،
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)} {المؤمنون].    
  ويأمرنا عز وجل }وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ(89){ (المائدة)،
 وقال في الصفات الإيمانية للمجاهدين } وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ(112){ التوبة .
والحدود كلها رحمة من الله، ونعمة على الجميع.
فهي للمجتمع طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي، وهي ضمان وأمان للأمة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح الكون، ويسود الأمن والعدل، وتحصل الطمأنينة.
قال الله تعالى{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127 ){ طه.
وعَن أَبي ثَعْلبةَ الْخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ ناشر رضي اللهُ عَنْهُ عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:  إنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْها ). حديثٌ حسنٌ رواه الدار قطني وغيرُه).
وحدود الله تعالى ثلاثة أنواع:
 الأول: حدود الله التي نهى عن تعديها.
وهي كل ما أذن الله تعالى بفعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، والاعتداء فيها يكون بتجاوزها ومخالفتها، وهي التي أشار الله إليها بقوله سبحانه }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )229){البقرة  
فقد اعتبر القرآن الكريم العلاقة بين الرجل والمرأة ، حد من حدود الله تعالي فقال عن الطلاق }  وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ (1) الطلاق.
وقال تعالي بعد الحديث عن الظهار } وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ{ المجادلة.
وإذا انتقلنا إلي سورة النساء في اﻵية 13 والتي تحدد أنصبة الميراث في الأحوال المختلفة وتؤكد علي أن الالتزام بالأنصبة هو تطبيق لحدود الله فقال تعالي تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار (13){ .
وفي الوقت الذي تتحدث فيه اﻵية التي تليها في نفس السورة علي ضرورة عدم عصيان الله ورسوله بالتعدي علي حدوده ، فقال تعالي } ومن يعص الله ورسوله ويتعدي حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)14){ النساء.
الثاني: المحارم التي نهى الله عنها وهي المحرمات التي نهى الله عن فعلها كالزنا وهي التي أشار الله إليه بقوله سبحانه}تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187 ){البقرة.
الثالث: الحدود المقدرة الرادعة عن محارم الله كعقوبة الرجم والجلد والقطع ونحوها.
فهذه يجب الوقوف عندما قدر فيها بلا زيادة ولا نقصان، وهي المقصودة هنا.
العنصر الرابع : فوائد الورع :ـ
1ـ صيانة النفس عن كل ما يشينها :
فالورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وهو صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز و جل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه، فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده صانها وحماها، وزكّاها وعلاها، ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده، ألقاها في الرذائل، وأطلق عنانها وحل زمامها.
أنظر إلي السلف وورعهم الصادق ، لما رحل الإمام أحمد إلى اليمن ليأخذ الحديث عن عبد الرزاق الصنعاني، انتهت نفقته واحتاج إلى الطعام وفرهن إنائه عند البائع، فلما رجع للبائع ليوفيه حقه ويأخذ إنائه، قال البائع: لأختبرن ورع ابن حنبل، ووضع بجوار إنائه إناءً يشبهه، فلما وفّاه وطلب منه الإناء، قال البائع: لا أدري أي هذين الإنائين لك، فخذ إناءك منهما. فقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا حاجة لي في الإناء.. خشي أن يأخذ إناء غير إنائه
2ـ راحة للبال وطمأنينة للنفس :ـ
يحقق للمؤمن راحة البال، وطمأنينة النفس، وهو يؤدي بالمرء إلى الكف عن الحرام، والبعد عما لا ينبغي، ولهذا كان أولى الناس بالورع من كان قدوة للناس، قال الأوزاعي رحمه الله : نمرح ونضحك فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم.
3ـ النجاة يوم الحساب :ـ
قال سفيان الثوري رحمه الله: عليك بالورع يخفف الله من حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك.
إن أبواب الجنة لا يطرقها إلا أصحاب الأخلاق العظيمة مهما كانت حاجتهم وكيفما كانت ظروفهم .. ضبط الورع سلوكهم ووجه أفعالهم رغم حاجتهم وفقرهم وكان بينهم وبين الحرام سداً منيعاً وحصناً مشيداً  .. 
 فعن عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء والمهاجرون الذين تسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك  أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم قال إنهم كانوا عبادا يعبدوني لا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } ( رواه  أحمد وإسناده صحيح )
4ـ يهب الله لأهل الورع الغني الحسي والقلبي :ـ
قد بشر الله تعالي أهل الورع بالغنى الحسي والقلبي، فقال تعالي }وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ {الطلاق: 2- 3].
وقال أبو حامد رحمه الله:لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحًا من الحلال.
وهذه بشارة جِدّ عظيمة، يعقلها من كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، فعن أبي قتادة وأبي الدهماء رضي الله عنهما قالا: أتينا على رجلٍ من أهل البادية، فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئًا؟ قال: نعم، سمعته يقول: «إنك لن تدع شيئًا لله عز و جل. إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه»(مسند احمد)
وفي رواية: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى، وقال: «إنك لن تدع شيئًا اتقاء لله عز و جل، إلا أعطاك الله خيرًا منه»(أخرجه أحمد)
وذكر الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المتوفى في سنة (535 هـ)
قال الشيخ الصالح أبو القاسم الخزاز البغدادي: سمعت القاضي أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز الأنصاري يقول: كنت مجاورا بمكة حرسها الله تعالى فأصابني يوما من الأيام جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسا من إبريسم مشدودا بشُرّابة من إبريسم أيضا، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدت فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله.
فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مئة دينار وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأردّ عليه الكيس.
فقلت له: تعال إليّ فأخذته وجئت به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرّابة، وعلامة اللؤلؤ وعدده، والخيط الذي هو مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلّم إليّ خمس مئة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علي أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بدّ أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني، فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم، فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: علمني القرآن، فحصل لي من ألئك القوم الشيء الكثير من المال.
ثم إني رأيت في ذلك المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم. فقالوا: علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها، فامتنعت، فقالوا: لابدّ وألزموني فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفوها إليّ مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرّخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما، المراد أمينا ورعا، إلا هذا الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، والآن قد حصلتْ، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمئة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من بقايا ذلك المال).
5ـ الورع يضبط السلوك عند الغضب :ـ
 إننا بحاجة إلى خلق الورع في جميع جوانب حياتنا ، فالخصومات والأهواء الشخصية ضيعت كثير من الحقوق ،وتسببت في ظلم كثير من الناس ، وكانت سببا في إحداث الظلم والتعدي على الحقوق وغمط الآخرين وتفريق الصف وافتعال المشاكل وإثارة النعرات الطائفية وسفكت لأجل ذلك الدماء ، فقد قالوا لرسلهم قديماً وهم يدعونهم إلى الحق والخير والصلاح فقالوا لرسلهم في علو وكبر كما قال القرآن الكريم في سورة إبراهيم }لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا (13){إبراهيم} فأبى الله هذا الأسلوب الظالم المتغطرس فقال ﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ﴾. وبشر المستضعفين بقوله ﴿وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾{إبراهيم14/15}
ولم يسلم جيل الصحابة الكرام من أصحاب الأهواء الذين لم يتورعوا في نقل أخبارهم ، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: شكا أهل الكوفة سعد ابن أبي قاص رضي الله عنه، إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فعزله واستعمل عليهم عمارًا، فذكروا أن سعدًا رضي الله عنه فيه كذا وكذا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي انظر أين وصلت الخصومة والفجور ، فأنزل عمر لجنة تقصي الحقائق  ... فلم تدع مسجدًا إلا سألت عن سعد  وهم يثنون عنه معروفًا، حتى دخل مسجدًا ...
 فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة، فقال: أما إذا نشدتنا فإن سعدًا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا، قام رياءً وسمعة، فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن.  قال عبد الملك بن عمير الراوي عن جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكِبَر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيغمزهن، وكان بعد ذلك إذا سُئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد.  ( رواه البخاري ومسلم).
العنصر الخامس : كيف نتعلم الورع ؟:ـ
عبـاد الله :إننا نحتاج أن نرى الورع واقعاً في سلوكنا في حفظ الأمانات وفي العمل والوظائف، والبيع والشراء وفي حفظ جوارحنا  وفي طعامنا وشرابنا وفي أخلاقنا وتعاملنا مع الناس من حولنا ... إننا بحاجة إلى خلق الورع لتقوى الروابط وتزيد الألفة بين أبناء المجتمع .. إننا بحاجة إلى تربية نفوسنا على خلق الورع ليعيش المجتمع في أمن وأمان ولتحفظ الدماء والأموال والأعراض ..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيريْن، وشرّ الشرّيْن....فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية؛ فقد يدع الواجبات، ويفعل المحرمات، ويظن أن ذلك من الورع .. )
إن الورع مما يُتَعَلَّم، كما قال الضحّاك بن عثمان رحمه الله (أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام)
لابد أن نتربي علي الحياء من الله تعالي ،مع دوام مراقبة الله تعالي قال تعالي{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} سورة العلق: 14.
وليعلم المؤمن أن الحلال فيها الغني عن الحرام، فالنكاح بدل الزنى، والتجارة بدل الربا، والمشروبات اللذيذة المفيدة للبدن بدل الخمر.
ولابد أن نعلم أيضاً كيف يكون حال صاحب المعصية يوم القيامة المتمتع بالحرام يقول النبي عليه الصلاة والسلام" يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط هل مر بك نعيم قط فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط"(رواه مسلم)
ودراسة سير السلف الصالح أصحاب الورع ، ومصاحبة أهل الورع  خير معين علي تعلم الورع
اللهم ارزقنا الورع واملأ  قلوبَنا بتقواك، واجعلنا نخشَاك كأنّا نراك، وبارِك لنا في القرآن والسنّة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة. اللهم آمين .
انتهت بفضل الله ورحمته
 =======================================



المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...