الأربعاء، 4 مارس 2020

لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ




 الحمد لله رب العالمين . أكرمنا بالقرآن العظيم وجعله منهاجا قويما يهدي للتي هي أقوم فقال تعالي {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}[الإسراء]
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين ، فقال تعالي { وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) }[الحجرات].
وأشهد أن محمد رسول الله () أرسله ربه رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفح به أعيننا عميا وقلوبا غلفا فكان () يتمثل القرآن منهجاً لحياته قراءةً وتدبراً وتطبيقاً،، ولهذا لمَّا سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله () {قَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ}[مسند أحمد] .
فاللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
لقد أمرَنَا اللهُ سبحانَهُ وتعالى أَنْ نقرأَ القرآنَ الكريمَ، وأن نفهَمَ معانِيَهُ، ونتدبَّرَهُ لِنُدرِكَ مرامِيَهُ، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله تعالي .
وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان لها أثر في سلوك الإنسان
لذا أمرنا الله تعالي بالتدبر في القرآن الكريم فقال تعالي {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ(29)}[ص]
وقال سبحانه وتعالي :{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)}[محمد]
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لا تهذُّوا القرآن هذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة".
وقال الامام علي بن أبي طالب: "لا خير في قراءة لا تدبر معه"
وقال ابن مسعود: "إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط حرفاً وقد أسقط العمل به".
لذلك لو أحسنا المعايشة الحقيقية للقرآن لتغير حالنا إلي أحسن حال ، وانتقلنا نقلة نوعية ، فما أجملَ أن نعيشَ الحياة في رِحابِ آياتٍ بيِّنات، نستلهِمُ منها النفحَات والعِظات، ونجنِي منها أطايِبَ الثمرات..
فتعالوا بنا أيها المؤمنون نعيش مع سورة الحجرات نقف عند آدابها وحدودها لذلك كان موضوعنا { المجتمع الفاضل كما تصوره سورة الحجرات}
فسورة الحجرات تشتمل على كثير من حقائق العقيدة والتشريع والأخلاق، وقد جاءت آياتها كمنهج متكامل لمجتمع إسلامي، سليم العقيدة، نقي القلب، عف اللسان، مهذب الأخلاق، نقي السريرة مع الله ، مجتمع تصان فيه الحرمات ،ولا تتبع فيه العورات ، مجتمع رباه القرآن على يد من كان خلقه القرآن ().
إنها مدرسة عقدية وتشريعية وتربوية، فلا عجَب حينئذٍ أن نرى أخلاقَ الجيل الأول هي أخلاق القرآن التي هي أخلاق رسول الله ()، ولذلك قادوا الدنيا بأسرها لا بسيوفهم ولا بأموالهم ولكن بأخلاقهم المستمَدَّة من دينهم ومُثُلهم المأخوذة من كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وأمتنا اليومَ أحوج ما تكون إلى منقِذ لها مما هي فيه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما صلح أولها إلا بالكتاب والسنة، قال رسول الله (){تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي}
فالتوجيه الأول في السورة يتعلق بعلاقة المسلم بالله ورسوله يتناول الأدب مع الله ورسوله ()
بعنوان [لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ]
قال تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}[الحجرات].
كلمة يا أيها الذين آمنوا هي عقد إيماني بين الإنسان و ربه:
كأن الله عز وجل يقول يا من آمنتم بوجودي، وآمنتم بوحدانيتي، وآمنتم بكمالي، يا من آمنتم برحمتي، وحكمتي، وعدلي، يا من آمنتم بأسمائي الحسنى وصفاتي الفضلى، ما دمتم قد آمنتم افعلوا كذا وكذا، يا من آمنتم بكمال الله المطلق أيعقل أن يشرع الله شيئاً يحتاج إلى تعديل ؟
يحتاج إلى إلغاء ؟ يحتاج إلى زيادة ؟ يحتاج إلى تطوير ؟ هذا شأن البشر ولكنه ليس شأن خالق البشر.
يجب أن نوقن أن هذا الدين توقيفي من عند الله ليس منتجاً أرضياً، وليس تراثاً، وليس ثقافة، وليس شيئاً خاضعاً للبحث، والدرس، والتعديل، والتطوير، والتحديث، والإضافة، والبحث، والنظر ، فإذا توهم الإنسان أن الدين خاضع للبحث، والدرس، والتعديل، والتطوير، والإضافة، والحذف، هذا وهم كبير، الدين من عند الله، من عند خالق السماوات والأرض، الدين كامل كمالاً مطلقاً، والدليل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (3) }[المائدة].
الإكمال نوعي و الإتمام عددي، أي أن عدد القضايا التي عالجها الدين تامة عدداً، وأن طريقة المعالجة كاملة نوعاً.
ربما نسمع مصطلح التجديد في عصرنا الحالي.
 نقول أن تجديد الخطاب الديني شيء وتجديد الدين شيء آخر، الأصح أن نقول التجديد في الدعوة إلى الله، الخطاب الديني تلكأ ولم ينجح في فترة سابقة لابدّ من خطاب ديني جديد.
الدين شمولي شمول مطلق مستحيل أن يحتاج إلي تعديل
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}[الحجرات].
هذا نداء من الله لأهل الإيمان أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه ، يفعل ما يؤمر ،ويرضى ويستسلم .
يا أيها الذين آمنوا، لا تقترحوا على الله ورسوله () اقتراحاً، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم.
ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله ().
قال حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) : أي : "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".
وقال مجاهد: "لا تفتاتوا على رسول الله  بشيء حتى يقضيَه الله على لسانه".
وقال الضحاك: "لا تقضوا أمرًا دون الله ورسوله () من شرائع دينكم".
فهذا أدب أخلاقي نفسيّ عظيم مع الله ورسوله، وهو منهج في التلقّي والتنفيذ، وهو أصل من أصول التشريع ، والعمل في الوقت ذاته، وهو منبثق من تقوى الله وراجع إليها.
فالمؤمن مطالب بعدم تقديم رأيه على أوامر الله ورسوله () في الكتاب والسنة، فلا يقول ولا يقضي في الدين ،بخلاف ما تنص عليه الشريعة، ولا يجعل لنفسه تقدما على الله ورسوله في المحبة والولاء، بل يكون رأيه تبعاً لما جاء به النبي ()، وتكون محبته وولاؤه لله ورسوله أقوى وأشد من محبته وولائه لنفسه وأهوائه ومصالحه،
والمؤمن لا يفتات على الله شيئاً أو يقطع أمراً حتى يحكم الله فيه، ويأذن به على لسان رسوله ().
وقد روى أبو داود وغيره (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ () لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ « كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ ». قَالَ أَقْضِى بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (). قَالَ « فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ () وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ». قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ () صَدْرَهُ وَقَالَ « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ ».
وحين نتأمل حال الصحابة  الذين شهدوا التنزيلَ نرى العجب من أدبهم في هذا الأمر مع الله ورسوله()، وهذا مقتضى العبودية لله تعالى، فلا يُقَدِّمَ هوَى نفسه أو غيره على أمر الله تعالى وحكمه، قال تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا(36)} [الأحزاب].
وقال تعالى : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)} [النساء].
من صور التقدم بين يدي الله ورسوله :
القول على الله بغير علم، الفتوى بغير علم، التعالم والتصدر بغير علم.
إذا كان الملائكة وهم أشرف الخلق وأكثر الخلق معرفة بربهم لما سألهم الله عن
أسماء الأشياء بعد أن سماها لآدم عليه السلام فقال الله للملائكة{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(39)}[البقرة].
ماذا قالت الملائكة {قَالُوا سُبْحَانكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الحْكِيمُ (34)}[البقرة]؟
نحن ننزهك ونسبحك يا رب كيف نعلم أسماء هذه الأشياء وأنت لم تعلمنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا وأظهروا لله عجزهم وجهلهم وفقرهم.
ولما سئل نبينا () عن الساعة قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" [صحيح النسائي]
- العلماء الراسخون إذا سئلوا عن أمر لا يعلمونه يقول الواحد منهم لا أعلم.
- هذا ابن عمر رضي الله عنه وهو من علماء الصحابة سئل مسألة فقال: لا أدري.
فلما خرج السائل من عنده أخذ يفرك يديه ويقول [سئل ابن عمر عما لا يدري فقال:
لا أدري] يرددها فرِحاً بها.
- الإمام مالك رحمه الله كان الرجل يأتيه من اليمن ومن بغداد، ويقطع المسافات ليصل إليه ويستفتيه ثم إذا سأله في بعض المسائل يقول: لا أدري، لا أعلم. فيتعجب السائل ويقول: وماذا أقول لقومي؟ قال: قل لهم مالك يقول: لا أعلم.
وكل هذا حتى لا يتقدموا على الله ورسوله ويفتوا بغير علم.
ومن صور التقدم أيضًا:
- تقديم الأعراف والتقاليد والعادات على منهج الله تعالي.
- رفض أحكام الشريعة وتحكيم القوانين الوضعية.
- البدع والمحدثات وكأن دين الله ناقص وهم سيكملونه بهذه البدع.
- عدم إعطاء البنات حقهن في الميراث ، أو مساواة المرأة للرجل في الميراث.
- التعامل بالربا . فقد تفكر في استثمار المال بربحٍ ثابتٍ على شكل الربا ؟
فمن هنا كانت هذه الآية الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
وهذه الآية تدعمها آيةٌ أخرى وهي:﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ (36)}[الأحزاب]
فمن خالف منهج القرآن الكريم فقد قدّم بين يدي الله ورسوله ، لمجرَّد أن تعتقد أن هناك حلاَ أرضياً وضعياً لمشكلةٍ خلاف منهج القرآن الكرم لها فقد قدَّمت بين يدي الله ورسوله،  فكلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا وراءها مخالفة لمنهج الله، هذا كلام قطعي،
لو انتقلنا إلى المجتمعات الغربية تجد أن كل المشكلات الطاحنة التي تسحق المجتمع وراءها مخالفة لمنهج الله عزَّ وجل، وما من مخالفةٍ لمنهج الله عزَّ وجل إلا بسبب الجهل بمنهج الله عز وجل .
- تقديم محبة الدنيا والأموال علي الله ورسوله ،ولهذا قال تعالى:{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ(24)} [التوبة].
ثم ختمت الآية بختام قوي {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
وهذان الاسمان السميع العليم يوقعان في قلب العبد الخوف والوجل، وتجعلانه أكثر استحضارًا لنظر الله إليه، وأكثر مراقبةً ومحاسبةً لنفسه فيما يقول ويفعل فيزداد خوفه من أن يتقدم على الله ورسوله.
والله تعالي أمرنا بالالتزام بأوامره وأوامر رسوله قال تعالى:{ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}[النساء].
وقال سبحانه:{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)}[النور].
وقال عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (7)}[الحشر].
والصحابة الكرام كانوا في أعلى درجات الأدب، فالحُباب بن المنذر رضي الله عنه لمَّا رأى موقع المسلمين في بدر ليس موقعاً جيداً توجَّه إلى النبي () (دقِّقوا فيما سيقول) قال: " يا رسول الله أهذا الموقع وحيٌّ أوحاه الله إليك ؟ أي لو أنه وحيٌّ أوحاه الله إليه لا يمكن أن ينطق بكلمة، ولا يمكن أن ينبس ببنت شفة.. أم هو الرأي والمكيدة
؟ " فلَّما قال النبي ():( بل هو الرأي والمكيدة")
قال: يا نبي الله ليس بموقع. " متى قدَّم اقتراحاً ؟ حينما تأكَّد أن هذا الموقع ليس وحياً من الله عزَّ وجل.
فالمؤمن حينما يشعر أن هذا الكلام وحي الله عزَّ وجل، فهذا هو الحل ولا حلَّ سواه، وهذا هو المنقذ للبشرية مما هي فيه من آلام..
فهذا الأدب من أعلى أنواع الأدب، فمن فكّر بأن الشرع لا يتناسب مع هذا العصر يكون قد ارتكب سوء أدب مع الله و رسوله، فلا يسيء الأدب مع الله إلا كافر لا يؤمن بالله صراحة، كاليهود الذين قالوا يد الله مغلولة وقالوا: إن الله فقير  تعالى الله عن ذلك، أو كالنصارى الذين زعموا أن لله ولداً وأنه ثالث ثلاثة والعياذ بالله،  ويسيء الأدب مع الله أيضاً المنافقون في نقضهم لأحكام الشريعة وسخريتهم بآيات الله واستهزائهم بالمؤمنين والمؤمنات عياذاً بالله من النفاق.
الأدب مع رسول الله ():ـ
 قال تعالي:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ(2)}[ الحجرات]
معرفة مكانته() وعدم رفع الصوت في حضرته ومجلسه، فقد نهى الله تعالى في هذه الآية عن أمور منها: ألا يرفع الصوت بحضرته ، وكذا الجفاء في مخاطبته ومحاورته ، وفي ذلك أمر بتعظيمه () ، وتوقيره وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته، والتزام توجيهاته وأوامره.
وبما أن حرمة النبي () حيا كحرمته ميتا، وكلامه المسموع منه مباشرة ككلامه المروي عنه بعد موته في الرفعة والإلزام، فقد وجب على كل من يسمع حديثه وسنته وهديه ألا يرفع صوته عليه أو يعرض عنه لأن رفع الصوت والجهر به في حضرته () أو عند تلاوة سنته دليل على قلة الاحتشام وترك الاحترام،
وفي قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون(4)}[الحجرات].
فقد حكم الله بالإخلاص والإيمان والتقوى للمؤمنين الذين يتصفون بالمحبة لله ورسوله والولاء لهما، وتقديم أحكام الشرع على آرائهم وأهوائهم ومصالحهم، والاحترام لرسول الله () حيا وميتا وغض الصوت بحضرته أو عند سماع سنته().
ولقد تربى جيل الصحابة رضي الله عنهم على هذا الفهم الواعي فكانوا قمة في الأدب والتأدب مع رسول الله () ، ومن ذلك ما جاء من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ..(2)}[الحجرات].
قال ابن الزبير رضي الله عنه: ما كان عمر رضي الله عنه يُسمع رسول الله ()  بعد هذه الآية حتى يستفهمه!..
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لما نزلت هذه الآية: قلت: يا رسول الله، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار (يعني كالهمس!).
وعن أنس رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) إلى : ( وأنتم لا تشعرون ) ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله() حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في أهله حزينا ، ففقده رسول الله ()  فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول الله () ما لك ؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي () وأجهر له بالقول حبط عملي ، أنا من أهل النار . فأتوا النبي ()   فأخبروه بما قال ، فقال : " لا بل هو من أهل الجنة " . قال أنس : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة ".
فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال : بئسما تعودون أقرانكم . فقاتلهم حتى قتل}[ رواه الإمام أحمد في مسنده].
ولقد وصف الله تعالى المتأدبين مع رسول الله () بأنهم أصحاب تقوى وأن لهم مغفرة وأجراً عظيماً، وفي المقابل وصف الذين ينادونه من وراء بيته كأنهم أصغر أبنائهم ووصفهم الله بأن أكثرهم لا يعقلون وكان الأولى في حقهم كما قال الله تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [الحجرات].
قال العلماء: واعلم أن حرمة النبي (ﷺ) بعد موته، وتوقيره وتعظيمه لازم على كل مسلم، كما كان ذلك واجباً حال حياته، وذلك عند ذكره (ﷺ) وعند سماع اسمه وسيرته.
ولذلك كره العلماء رفع الصوت في مسجد النبي (ﷺ)، وكذلك عند قراءة حديثه وسيرته، وعند سماع القرآن وتفسير الفرقان؛ لأن القرآن الذي أتى به ()، وأحاديث الرسول (ﷺ) كان من سنة السلف أنهم كانوا يخفضون أصواتهم وينصتون عندما تقرأ عليهم الأحاديث؛ لأن من احترام الرجل احترام حديثه، ومن احترام الرسول (ﷺ)احترام حديثه، وعدم مقاطعة الحديث، وخفض الصوت، والإنصات للمحدث الذي يقرأ الحديث، قال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً(63)} [النور].
 ومرة من المرات ناظر أبو جعفر الخليفة مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي، أي: مناقشة، فقال مالك للخليفة: لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً، فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ(2)}[الحجرات].
ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى(3)} [الحجرات].
 وذمّ قوماً فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(4)} [الحجرات].
وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصح الإمام مالك.
ولذلك الصحابة كانوا يحترمون الرسول أيما احترام، فكان باب بيته (ﷺ) يقرع بالأظافير كما ورد في الحديث الصحيح، حتى باب بيت الرسول () ما كانوا يطرقونه طرقاً، كانوا يضربون عليه بالأظافر، انظروا إلى الحساسية المرهفة التي تعامل فيها الصحابة مع نبيهم (ﷺ).
فقد جعل من حَقّ النبي ()على أمته أن يُهاب ويُعظم ويُوَقّر ويُجَل أكثرَ مِما يُجِلّ الوَلدُ والِدَه، والعبدُ سيدَه، قال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}[الأعراف]. ﴿ وعزّروه ﴾ أي وَقَّرُوه وعَظّمُوه.
لماذا توقير النبي () ؟؟
كيف لا نوقّره ونجِله؛ وهو صاحب المهابة والوقار، وصاحب القيم والأخلاق؟.
هو الذي علمنا الوقار، ودعانا إلى الوقار.
فلقد كان عليه الصلاة والسلام نموذجًا يقتدى به في خلق الوقار، وَصَفتْه أمُّ معبد حين مرّ بخيمتها في طريقه مهاجرا إلى المدينة المنورة، فقالت: (إنْ صَمَتَ فعليه الوَقَار، وإن تكلَّم سَمَاه وعلاه البهاء، أجملُ النَّاس وأبْهَاه من بعيد، وأحسنُه وأجمله من قريب ).
كيف لا نُوقّرُه؛ وهو صاحب الخلق العظيم، الذي زكاه ربه فقال سبحانه:{ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)}[القلم].
كيف لا نُوقّرُه؛ وهو نِعمةُ ربّ العالمين على الناس أجمعين. قال ربنا سبحانه:{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران]. وقال عز وجل: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)}[الأنبياء].
كيف لا نُوقّرُه؛ وهو سيد المرسَلين، وخاتم النبيين، وإمام المتقين؟. هو الذي اصطفاه ربه واجتباه فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، بعثه الله ليكون مبشرا بالخير، محذرا من الشر، سراجا ينير الطريق للسالكين. قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب]
كيف لا نُوَقره؛ وبه هُدِينا إلى الطريق المستقيم؟. قال ربنا سبحانه: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}[الشورى].
كيف لا نُوَقّرُه؛ وهو الحريص على هداية أمته؟ تعب من أجل هداية أمته، وأوذي فصبر من أجل هداية أمته، ما مِن خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر الأمة منه، قال ربنا سبحانه:{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة].
كان عليه الصلاة والسلام يتألم لآلام قومه، ويصبر على أذاهم، ويفرح بهدايتهم، ويخشى عذابَ الله عليهم، كان يدعو لهم ولا يدعو عليهم؛ روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم:{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي (36)} [إبراهيم]، وقال عيسى عليه السلام: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة]
فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى صلى الله عليه وسلم، فقال الله: «يا جبريل، اذهب إلى محمد  وربك أعلم - فسَله ما يبكيه»، فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله () بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: «إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك».
وها هو عليه الصلاة والسلام يجَسّدُ لنا حِرصَه على إنقاذ أمته من الهلاك والضلال فيقول: عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله () «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادِب والفراش يقعْنَ فيها، وهو يَذُبُّهن عنها؛ وأنا آخِذٌ بحُجَزِكم عن النار، وأنتم تفَلَّتُون مِن يَدِي». [رواه مسلم].
ولكل نبي من الأنبياء عليهم السلام دعوة مستجابة، دعوا ربهم فاستجاب الله تعالى دعواتهم، وأعطاهم مسائلهم، إلا رسولنا صلى الله عليه وسلم فإنه ادّخر دعوته شفاعة لأمته في موقفٍ هُمْ أحوجُ ما يكونون إلى شفاعتِه، فصلوات ربي وسلامه عليه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (): «لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجّلَ كل نبي دعوَته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله مَنْ ماتَ مِنْ أمّتي لا يشركُ بالله شيئا».
وإنّ نبيا بلغ حِرصُه علينا ورحمتُه بنا هذا المبلغَ العظيم لحَرِيٌّ بنا أن نؤمن به ونصَدّقه، وأن نعزّره ونوقره، وأن نتّبعه ونُطيعه، وأن نحبه أشدّ مِن محبتنا لأنفسنا وآبائنا، وأمهاتنا وأزواجنا، وأولادنا وأموالنا، فهو بفضل الله تعالى هدايتنا ونجاتنا، وهو حياتنا وسعادتنا، فما بُعِثَ به كان غيثَ قلوبنا وحياتَها، وزكاءَ نفوسنا وصفاءَها، وأعظمُ خير بلغنا-وهو الإيمان- إنما بلغنا عن طريقه، وأعظم شرّ تركناه -وهو الكفر- إنما تركناه لأنه () قد حذرَنا منه، ومَن مات منا على الإيمان، ونال الجنة والرضوان، فما نال ذلك إلا بسبب دعوة النبي () ورسالته؛ فهل تروْن لأحدٍ حقا عليكم بعد حَقّ الله عز وجل  أعظمَ مِن حَقّ أبي القاسم () ؟. فكونوا من أحبابه، وكونوا من أتباعِه وأنصاره.
صور من توقير السلف الصالح للنبي ():
لقد عرف سَلفنا الصالحُ فضلَ النبي () وقدْرَه، فأنزلوه المنزلة التي يستحقها، آمنوا به وأحَبّوه، وصدّقوه وأطاعوه، وَوَقروه وعَزّروه.
كانوا لا يقطعون أمرا دون مَشُورته، ولا يقومون من مجلسه إلا بعد استئذانه؛ قال تعالى عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)} [النور].
إذا حضروا في مجلسه جلسوا في سكينة ووقار، كأن على رؤوسهم الطير؛ فعن البراء بن عازب رضِي الله عنه قال: خرجنا مع رسولِ الله () في جِنازَة رجلٍ من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يُلحَدُ، فجلس رسول الله ()، وجلسنا حوله، كأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه، فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر». مرتين أو ثلاثا.. [أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود].
لا يَحِدّون النظر إليه، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ولا يتأخّرون في الاستجابة لأمره؛ فعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: {كنا إذا قعدنا عند رسول الله ()، لم نرفعْ رؤوسنا إليه إعظاما له}. [أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
وفي صحيح البخاري عن الِمسْوَرِ بن مَخرَمة ومروانَ بنِ الحكم في قصَّة الحديبية، قالا: ثم إن عُرْوَة بن مسعود جعل يَرمُق أصحاب النبي () بعينيه، قال: فوالله ما تنخّمَ رسول الله () نخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يَحِدّون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أيْ قوم، والله لقد وفَدتُ على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إنْ رأيتُ ملكا قط يُعظمه أصحابه ما يُعَظمُ أصحاب محمد () محمدا. سئل علي رضي الله عنه: كيف كان حبّكم لرسول الله ()؟ فقال: "كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".
و كان من توقير أهل العلم للنبي ()أنهم لا يحدثون بحديثه إلا وهم على أحسن حال وهيئة، ويربون أتباعهم على ذلك، قال أبو سلمة الخزاعي رحمه الله تعالى: (كان مالك بن أنس إذا أراد أن يخرج ليُحدّث توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوة، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقر به حديث رسول الله ()).
وهذا الحسن البصري رحمه الله تعالى كان يبكي إذا حدّث بحديث الجذع الذي بكى لما فارقه النبي ()، ويقول: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله ()؛ شوقا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
وأخيرا ...
 أين نحن من توقير النبي () وتقديره واحترامه؟.
أين نحن من توقيره؛ ونحن نخالف أمره ونترك سنته؟.
أين نحن من توقيره؛ ونحن نتلاعب بدينه وشرعه؟.
فهل وقرَّ النبيَّ () مَن غيّرَ دينَ الله تعالى، وأولّ النصوص المحكمة الواضحة، ليوافقَ أهواء البشر ورغباتهم؛ لجاهٍ يبتغيه، أو مالٍ يطلبه، أو دُنيا يريدها، والنبي () يخبرنا أنه سيتبرأ يوم القيامة ممن بدّل وغيّر مِن بَعْدِه. ففي الصحيحين عن سهل بن سعد، قال: قال النبي (): «إني فرَطُكم على الحوض، مَن مَرّ علي شَرب، ومَن شرب لم يظمأ أبدا، لَيَرِدَنّ عليّ أقوام أعْرِفُهم ويَعْرِفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مِني، فيُقال: إنك لا تدري ما أحْدثوا بعدَك، فأقول: سُحقا سُحقا لمن غيّرَ بَعدي».
من كان يوقر رسول الله () ويجله ويحترمه؛ فلْيُوَقّرْ سنته، وَلْيتأدّبْ مع حديثه وسيرته، وليَستجِبْ لأمْره، وليَلتزمْ بدِينه وشريعته ، وتوقيرُ أهل بيته وصحابته.
وتمسكوا بدينكم، واعْرِفوا لنبيكم () حَقّه وقدْرَه، ووقروه وعزروه، وعظموا سنته، واحفظوا له مكانته، وأنزلوه منزلته التي أنزله الله تعالى إياها بلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو وتقصير، واقرؤوا سيرته، وتزودوا من حديثه، وأطيعوا أوامره، واجتنبوا زواجره؛ فذلكم هو طريق النجاة والنجاح، وسبيل الفوز والفلاح، قال تعالي{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الفائزين، وأن يجعلنا من المفلحين، وأن يجعلنا من أتباع نبيه الأمين ، اللهم اجعلنا من المتمسكين بسنته، المتبعين لهديه، الفائزين بشفاعته.


رابط doc
رابط pdf

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...