الجمعة، 10 نوفمبر 2023

حاجة الأمة إلى الأمل

 


ـ الحمد لله رب العالمين ..... هدانا للإيمان، وأكرمنا بالإسلام، ووفقنا لطاعته ، ووعدنا بالجنان ، وصرف عنا السوء وجعل المحن تحمل المنح، والعسر من بعده اليسر ، والضيق من بعده الفرج فقال تعالي 
}وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216){ (البقرة). 
ـ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك والحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. حرم اليأس وندد باليائسين فقال علي لسان نبيه يعقوب عليه السلام }يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87){ يوسف .
وقال تعالي علي لسان نبيه إبراهيم عليه السلام }قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56){ الحجر .
ـ وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. أمرنا بالتيسير والتبشير....فعن أنس رضي الله عنه  قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)؛ متفق عليه.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين
أما بعـد: فيا أيها المؤمنون  
إن الإنسان يواجه في حياته كثير من المحن والشدائد فتصيبه بشيء من اليأس والإحباط ، فينظر لكل شيء نظرة يأس ، وربما تدخله في دائرة الشك في الله عز وجل فتقعده عن الحركة والعمل ، فمن أجل الله تعالي بحجة أنه لا فائدة فيجلس ينتظر الموت .
فالإنسان يحتاج إلي الأمل في كل مجالات حياته ، فالأمل إذن هو إكسير الحياة، ودافع نشاطها، ومخفف ويلاتها، وباعث البهجة والسرور فيها.  
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!  والأمل قبل ذلك كله شيء حلو المذاق، جميل المحيا في ذاته، تحقق أو لم يتحقق.
لذلك كان حديثنا عن (حاجة الأمة إلي الأمل)، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية .....
1ـ حقيقة الأمل .
2ـ حرمة اليأس والتنديد باليائسين
3ـ أهمية الأمل في الحياة .
4ـ صور مشرقة  تبعث فينا الأمل .
5ـ مصادر الأمل عند المسلم.  
 6ـ الخاتمة.
العنصر الأول : حقيقة الأمل :ـ
الأمل : هو  تعلق القلب بالله وحده في تحصيل ما ينفع ودفع ما يضر، وقطع التعلقَ بالمخلوقين، فهم لا يملكون لأحد ولا لأنفسهم نفعاً ولا ضرا.
الأمل : هو اليقين الثابت بكمال بصفات الله تعالى، وبصدق وعده، وعظيم قدرته، وإحاطة علمه بكل شيء.
الأمل : هو التسليم والانقياد المطلق بالجوارح كلها لله جل وعلا.
الأمل : هو توقع حدوث شيء طيب في المستقبل مستبعد حصوله , وانشراح النفس في وقت الضيق والأزمات .
وهو عبادة الوقت .
الأمل من العبادات القلبية والأصول الإيمانية
الأمل من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبها تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة].
وقد كان ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ رحمه الله يَقُولُ: بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(24)} [السجدة].
وهو العبادة التي جمعت بين التفويض والتسليم لله رب العالمين، وقد خلق الله الخلق جميعا لغاية واحدة؛ وهي عبادته وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ الْإِنسَ إلَّا ليَعْبُدُونِ(56)}[الذاريات]
فالأمل هو عمود التوكّل، وهو ساقُ التفويض التي يقوم عليها، فلا توكّلَ بدون أمل، وعلى قدر الأمل تكون قوة التوكل.
العنصر الثاني : حرمة اليأس والتنديد باليائسين :ـ 
ـ لقد حرم الله تعالي اليأس  واعتبره قرين الكفر فقال تعالي }يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87){ يوسف .
وندد بالقنوط واعتبره قرين الضلال فقال تعالي علي لسان نبيه إبراهيم عليه السلام }قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56){ الحجر .
ـ وحكم علي اليائسين بالبوار فقال تعالي :{بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا(12)} (الفتح)
وماذا يكون حال القلب إذا خلا من حسن الظن بالله؟ يكون بوراً، ميتاً أجرد نهايته إلى البوار والدمار لأنه انقطع عن الاتصال بروح الله.
ـ وأجمع العلماء أنهما من الكبائر بل أشد تحريما، وجعلهما القرطبي في الكبائر بعد الشرك من حيث الترتيب .
  قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأْس من روح الله، والأمن من مكر الله) .
ـ واليأْس فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى: فقال تعالي } وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوسًا (83){ [الإسراء].
 ـ واليأس سبب لفساد القلب:  قال ابن القيم وهو يعدد الكبائر: (الكبائر: القنوط من رحمة الله، واليأْس من روح الله..   
ولقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم على الذين ينفّرون الناس، ويضعون الناس في موقع الدونية والهزيمة النفسية فعن أبي هريرة  رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم  " إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم "  رواه مسلم 
العنصر الثالث :أهمية الأمل في الحياة :ـ    
لَقدْ جعلَ اللهُ  تعالَى الحياةَ الدنيا كثيرةَ التقلُّبِ لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وصلاحٌ وفسادٌ، وسُرورٌ وحُزْنٌ، وأملٌ ويأْسٌ، ويأتِي الأملُ والتفاؤلُ كشُعاعَيْنِ يُضِيئانِ دياجِيرَ الظلامِ، ويشقَّانِ دُروبَ الحياةِ للأنامِ، ويَبْعَثان في النَّفْسِ البشريَّةِ الجِدَّ والمثُابَرةَ، ويلقِّنانِها الجَلَدَ والمصُابَرَةَ.
فالأمل للأمة كالروح للجسد ، فلولا الأمل ما بني بان , ولا غرس غارس , ولولا الأمل لما تحققت أي إنجازات ولا أهداف.
فإنَّ الذي يُغْرِي التاجرَ بالأسفارِ والمخاطر، ومفارقة الأهل والأوطان: أَمَلُهُ في الربحِ.
والذي يَبْعثُ الطالبَ إلى الجدِّ والمثُابرةِ: أملُهُ في النجاحِ.
والذي يحفِّزُ الجنديَّ إلى الاستبسالِ في أرضِ المعركةِ : أمله في إحدى الحسنيين إما نصر وإما شهادة ..
والذي يُحبِّبُ إلى المريضِ الدواءَ المُرَّ ، وربما في ببعض الأحيان أن يقطع من جسده في عملية جراحية :  أملُهُ في الشِّفاءِ والعافية.
وما الذي يدفع الزارع إلي الكد والعرق ويرمي بحبات البذور في الطين ؟ إنه أمله في الحصاد وجني الثمار . 
والذي يدعو المؤمنَ أنْ يُخالِفَ هَواهُ ويُطيعَ مَوْلاهُ: أملُه في الفوزِ بجنَّتِهِ ورِضاهُ، فهوَ يُلاقِي شدائِدَها بقلبٍ مُطْمَئِنٍ، ووجْهٍ مُسْتبشرٍ، وثَغْرٍ باسمٍ، وأمَلٍ عَريضٍ، فإذا حارَبَ كانَ واثِقًا بالنصرِ، وإذا أعْسَرَ لم يَنقطِعْ أملُهُ في تبدُّلِ العُسْرِ إلى يُسْرٍ، وإذا اقترفَ ذنبًا لم ييأسْ مِنْ رحمةِ اللهِ ومغفرَتِهِ تَعلُّقاً وأملاً بقولِ اللهِ تعالىَ:}قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53){ ( الزمر).
فالأمل لابد منه لتقدم العلوم، فلو وقف عباقرة العلم والاختراع عند مقررات زمنهم ولم ينظروا إلا إلى مواضع أقدامهم، ولم يمدهم الأمل بروحه في كشف المجهول، واكتساب الجديد من الحقائق والمعارف، ما خطا العلم خطواته الرائعة إلى الأمام ووصل بالإنسان إلى القمر.
 والأمل لابد منه لنجاح الرسالات والنهضات، وإذا فقد المصلح أمله فقد دخل المعركة بلا سلاح يقاتل به، بل بلا يد تمسك بالسلاح، فأنى يرتقب له انتصار وفلاح؟ 
فالأمل قوة دافعة تشرح الصدر وتبعث النشاط في الروح والبدن , واليأس يولد الإحباط فيؤدي إلي الفشل .
فالمخترع لم يتمكن غالبا من تحقيق انجازه من أول مرة . فهذا أديسون بعدما أخطأ 999 مرة نجح في صنع أول مصباح كهربائي وسألوه متي الإجازة يا أديسون ؟ قال في اليوم الذي يسبق جنازتي .   
وإذا استصحب الأمل فإن الصعب سيهون، والبعيد سيدنو، والأيام تقرب البعيد، والزمن جزء من العلاج.
وانظر أخي الكريم إلى سورة الشرح التي كانت تتضمن اليسر والأمل والتفاؤل للنبي صلى الله عليه وسلم، وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعم الله عليه، ثم اليسر بعد العسر، والطريق لهذا اليسر هو النّصَب والطاعة لله عز وجل، والرغبة والأمل في موعود الله عز وجل، قال تعالى: }أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) { .[ الشرح ].                                              
  فلقَدْ كانَ رسولُنا صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الفأْلُ لأنَّه حُسْنُ ظَنٍّ باللهِ سبحانه وتعالى، فقَدْ أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَنْ أنسٍ رضي الله عنه - أنَّ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:} لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ ويُعُجِبُنِي الفأْلُ: الكَلِمَةُ الحسَنَةُ، الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ {، فبالأملِ يذوقُ الإنسانُ طَعْمَ السعادَةِ، وبالتفاؤُلِ يُحِسُّ بِبَهْجَةِ الحياةِ.  
 والإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه، وتمنحه دافعاً قوياً للعمل، بينما التنفير يعزز مشاعر الإحباط واليأس لديه ويصيبه بالعزوف عن القيام بدوره في الحياة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك  رضي الله عنه ،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)؛ متفق عليه.
وقَدْ بشَّرَنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم بانتصارِ الإسلامِ وظُهورِهِ مَهْما تكالبَتْ عليهِ الأعداءُ وتألَّبَتْ عليهِ الخُصومُ؛ فعن تَمِيمِ الدَّارِيِّ  رضي الله عنه،  قالَ: سمعتُ رســولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: } لَيَبْلُغَنَّ هَذا الأمرُ ما بَلَغَ الليلُ والنَّهارُ، ولا يَتْركُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخَلَهُ اللهُ هــذا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أوْ بِذُلِّ ذَليـلٍ، عِزّاً يُعِزُّ اللهُ بهِ الإسـلامَ، وذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بهِ الكفــرَ{ [ أخرجَهُ أحمدُ ].
العنصر الرابع : صور مشرقة  تبعث فينا الأمل :ـ
المثل الأعلى للمصلحين سيدنا رسول الله صلوات الله عليه: 
 ظل في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو قومه إلى الإسلام، فيلقون دعوته بالاستهزاء، وقرآنه باللغو فيه، وحججه بالأكاذيب، وآياته بالتعنت والعناد، وأصحابه بالأذى والعذاب، فما لانت له قناة، ولا انطفأ في صدره أمل.
اشتد أذى المشركين لأصحابه، فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم في ثقة ويقين: "تفرقوا في الأرض وإن الله سيجمعكم".                             
 وجاءه أحد أصحابه "خباب بن الأرت" وكانت مولاته تكوي ظهره بالحديد المحمي فضاق بهذا العذاب المتكرر ذرعاً، وقال للرسول في ألم: ألا تدعو لنا؟
كأنه يستبطئ سير الزمن ويستحث خطاه ويريد حسم الموقف بين الإيمان والشرك بدعوة محمدية تهتز لها قوائم العرش، فينزل الله بأسه بالقوم المجرمين كما أنزله بعاد وثمود والذين من بعدهم.                 
 وغضب النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العجلة من صاحبه. وألقى عليه درساً في الصبر على بأساء اليوم، والأمل في نصر الغد، فقال: "إن الرجل قبلكم كان يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، وينشر بالمنشار فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه. والذي نفسي بيده ليظهرن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه … ولكنكم تستعجلون!!".   
وفي الهجرة من مكة، والنبي خارج من بلده خروج المطارد المضطهد الذي يغير الطريق، ويأوي إلى الغار، ويسير بالليل، ويختفي بالنهار … 
ينزل عليه صلي الله عليه وسلم قول الله تعالي :{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(85) }(القصص)
فما هو بتاركك للمشركين ، وقد فرض عليك القرآن وكلفك الدعوة ، ما هو بتاركك للمشركين يخرجونك من بلدك الحبيب إليك ، ويستبدون بك وبدعوتك ، ويفتنون المؤمنين من حولك .
إنما فرض عليك القرآن لينصرك به في الموعد الذي قدره ، وفي الوقت الذي فرضه؛ وإنك اليوم لمخرج منه مطارد ، ولكنك غداً منصور إليه عائد .
وهكذا شاءت حكمة الله أن ينزل على عبده هذا الوعد الأكيد في ذلك الظرف المكروب ، ليمضي صلى الله عليه وسلم في طريقه آمناً واثقاً ، مطمئناً إلى وعد الله الذي يعلم صدقه ، ولا يستريب لحظة فيه .
ففي هذا الموقف الشديد الحالك يبث الأمل في نفوس أصحابه ، حينما يشتد خوف الصديق رضي الله عنه على النبي صلي الله عليه وسلم  وهو يقول: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له النبي: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"،
وكانت العاقبة ما ذكره القرآن  }إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40){ (التوبة).
 وفي الطريق يلحقه الفارس المغامر سراقة بن مالك وفي رأسه أحلام سعيدة بمائة ناقة من حمر النعم -جائزة قريش لمن يأتي برأس محمد حياً أو ميتاً ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول، ويكشف الله له عن الغيب المستور لدينه فيقول له: "يا سراقة كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟
" فيعجب الرجل ويبهت ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: "نعم".
ويذهب الرسول إلى المدينة، ويبدأ في كفاح دام مرير مع طواغيت الشرك، وأعوان الضلال، وتسير الحرب حتى تأتي غزوة الأحزاب فيتألب الشرك الوثني بكل عناصره، والغدر اليهودي بكل تاريخه، ويشتد الأمر على النبي وأصحابه: قريش وغطفان ومن يحطب في حبلهما من خارج المدينة، واليهود والمنافقون من الداخل. موقف عصيب صوَّره القرآن بقوله: }إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11){ (الأحزاب) .
في هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل، ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة ... في هذه اللحظات والنبي يسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة ، فنري النبي صلي الله عليه وسلم ينظر إلي الأمل المنشود ، فيحدث النبي أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة، حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق فقالوا في ضيق وحنق: إن محمداً يعدنا كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده!
 و كما قال القرآن: }وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12{  (الأحزاب).    
  ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة، فينير الطريق ويبدد الظلام؟
 إنه الأمل، وإن شئت فهو الإيمان بنصر الله: }يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6){  (الروم).
 *الخليل إبراهيم عليه السلام :
وهَذا  الخليل إبراهيمُ عليهِ السلامُ  قَدْ صارَ شَيْخاً كبيراً ولَمْ يُرْزَقْ بَعْدُ بِوَلَدٍ فيدفَعُهُ حُسْنُ ظَنِّهِ بربِّهِ أنْ يَدْعُوَهُ: } رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100){ [ الصافات].
 فاستجابَ له ربُّهُ ووَهَبَ لهُ إسماعيلَ وإسحاقَ عليهما السلامُ.  
 * الكليم موسي عليه السلام :
ولد بالأمل ويعيش بالأمل منذ أن كان رضيعا في اليم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ(7)} (القصص)
ويخرج مطاردا إلي مدين{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ(22)}(القصص) ،
وقال تعالي {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24)} (القصص )
حتى يخرج من مصر بأمر الله وفي كنفه وتحت رعايته , ويتبعهم فرعون وجنوده , إن موسى وقومه أمام البحر ليس معهم سفين ولا هم يملكون خوضه وما هم بمسلَّحين . وقد قاربهم فرعون بجنوده شاكي السلاح يطلبونهم ولا يرحمون! وقالت دلائل الحال كلها: أن لا مفر والبحر أمامهم والعدو خلفهم فظن أتباع موسي الغرق وأصابهم اليأس والشؤم{فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} وبلغ الكرب مداه ، وإن هي إلا دقائق تمر ثم يهجم الموت ولا مناص ولا معين !
ولكن سيدنا موسى عليه السلام الذي تلقى الوحي من ربه ، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد من النجاة ، وإن كان لا يدري كيف تكون ,ولكن حاشا لنبي من أولي العزم أن يقربه اليأس والقنوط , فما كان يمتلك خطة نجاة وما كان يعرف طريقا للهرب من بطش فرعون ولكن إن كان قد فقد الأسباب فمعه رب الأسباب , وإن كان بلا حول ولا قوه فحول الله وقوته تحيطانه من كل جانب فهو إذا بأمله وبثقته في ربه يملك النجاة والفوز المبين علي فرعون وجنوده {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} كيف يا موسي لا أدري ولكن ما دام ربي معي فثم الهداية والنجاة {فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(67){ (الشعراء)
فلولا انتفاضة نبي الله موسي عليه السلام وقلبه الذي ينبض بالأمل والثقة لأدركهم فرعون بسبب شؤمهم .
* سيدنا يعقوب عليه السلام :
وهذا نبيُّ اللهِ يعقوبُ  عليهِ السلامُ فَقَدَ ابنَهُ يوسفَ عليهِ السلامُ ثُمَّ أخاه، ولكنَّه لم يتسرَّبْ إلى قلبِهِ اليأسُ ولا سَرَى في عُروقِهِ القُنوطُ، بَلْ أمَّلَ ورَجا.
 وقالَ تعالي: }فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83){ [ يوسف].
وما أجَملَهُ مِنْ أَمَلٍ تُعَزِّزُهُ الثِّقَةُ باللهِ سبحانه وتعالى حينَ قالَ تعالي:}يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ(87){ [ يوسف]. 
وقال تعالي }وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ۖ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(96){ يوسف .
* سيدنا زكريا عليه السلام :
وهذا سيدنا زكريا عليه السلام قال تعالي  }ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا(5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) { (مريم)
 فاستجاب الله تعالي لدعائه فقال تعالي } يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7){ (مريم).  
 * سيدنا أيوب عليه السلام :ـ
وأيوبُ عليهِ السلامُ- ابتلاهُ ربُّه بِذَهابِ المالِ والوَلَدِ والعافِيَةِ، ثُمَّ ماذا ؟ لم ينقطع أمله أبدا ولكن ظل مؤملا ومستبشرا
قالَ اللهُ تعالىَ: } وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسّــَنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَـفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَــهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَــةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكـْرَى لِلْعَابِدِينَ(84){ [ الأنبياء]. 
 * سيدنا يونس عليه السلام :ـ
سيدنا يونس قد ابتلعه الحوت قال تعالي }وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88){ (الأنبياء).
العنصر الخامس :مصادر الأمل عند المسلم:ــ 
إن هناك أركانًا أربعة لإحياء الأمل الكبير:ـ 
 1- الإيمان بالله تعالي .
 2- قوة المنهج الذي لا يتغير. 
 3- التاريخ يحي فينا الأمل.
 4ـ الواقع الماثل.
1ـ الإيمان بالله تعالي:ـ  
الإيمان والأمل متلازمين، فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشاراً، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر، إذ الإيمان معناه الاعتقاد بقوة عليا تدبر هذا الكون لا يخفى عليها شيء، ولا تعجز عن شيء، الاعتقاد بقوة غير محصورة، ورحمة غير متناهية، وكرم غير محدود، الاعتقاد بإله قدير رحيم، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، يمنح الجزيل، ويغفر الذنوب، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، إله هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم.
إله يداول الأيام بين الناس. فيبدل من بعد الخوف أمنا، ومن بعد الضعف قوة، ويجعل من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً، ومع كل عسر يسراً. قال تعالي {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(140)} [آل عمران].
وأن الأمر كله بيده: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ(154)} [آل عمران]، وقال تعالي  { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82) } [يس]
وهو سبحانه يورث الأرض من يشاء من عباده، كما قال: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف]
وأنه تعالي شديد المحال، عزيز لا يُغلب، كما قال تعالى: { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) } [الرعد]
وأنه سبحانه وتعالى له جنود السموات والأرض قال عز وجل: { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ(4) } [الفتح] .
فالله وحده هو الخالق {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(17)} [النحل]. 
 والله وحده هو المالك لهذا الكون {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)} [آل عمران].  
 والله وحده هو القاهر {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(18)} [الأنعام].         
 والله وحده هو النافع الضار {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} [الأنعام]. 
المؤمن الذي يعتصم بهذا الإله البر الرحيم، العزيز الكريم، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد ، يعيش على أمل لا حد له، ورجاء لا تنفصم عراه. إنه دائماً متفائل، ينظر إلى الحياة بوجه ضاحك، ويستقبل أحداثها بثغر باسم، لا بوجه عبوس قمطرير.
إننا بحاجة ماسة إلى تغذية الإيمان بالله تعالى على أساس واضح من الثقة الكاملة في قوة الله التي لا تقهر؛ فعندئذٍ تزيد ثقته بربه ويطمئن قلبه بوعده ويرضى بقضائه وقدره ويستقيم على شرعه.
فهل يليق بمسلم يرى الطائرات والبواخر العملاقة والصواريخ الفتاكة ثم يضعف بصره عن رؤية الليل والنهار، البحار والأنهار، الماء والريح، الشمس والقمر، النور والظلمة، الحر والبرد؟
من الذي يحرك كل هذا؟
إن الله يجيب في وضوح وجلاء: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}[فاطر: 41].                                
هل قرأنا القرآن حقًّا وأيقنا بأن الماء الذي هو سر الحياة هو الذي أغرق فرعون وقوم نوح، وأن الرياح اللواقح تحولت مع قوم عاد إلى لواقح {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(42)} [الذاريات].
وأن الحجارة التي تبني البيوت والعمارات تحولت إلى هلاك لقوم لوط، هل نوقن أن هناك جنوداً لا ترى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ(31)} [المدثر] مثل الفيروسات والميكروبات والإيدز والسرطان والقلق النفسي...؟!                                                           
هل كان يتصور أحد أن يزول ملك فرعون على يد رجل تربى في بيته؟
وأن يتحول المستضعفون في مكة إلى ملوك الأرض في المدينة والشام ومصر والهند والسند والمغرب العربي؟!
 ـ ومن مقتضيات الإيمان بالله تعالي الإيمان بأسمائه الحسني وصفاته العليا ..
قال ابن القيم: أكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يَسلَم من ذلك إلا من عرَف اللهَ وعرَف أسماءَه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته.
فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل التام.
والله سبحانه عند ظن عبده به، عن واثلة بن الأسقع  -رضي الله عنه-، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ )
فَلَا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ. . . فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
فلابد من حسن الظن بالله تعالي والثقة المطلقة في إرادته  تعالي والتعلق بمشيئته تعالي وعدم التعلق بالأسباب
فعندما تسمع من يقول: ماذا نفعل ونحن مجردون من الأسباب المادية؟!
نقول له إنه تبرير الأذلاء وحجة الضعفاء، وكأن الأسباب المادية هي التي تأتي بالنصر. فماذا كان يملك نوح عليه السلام من الأسباب المادية عندما وقف أمام قومه وقال لهم: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ(71)} [يونس].
ونفس الموقف يتكرر مع هود عليه السلام يقف وحده أمام قومه ويتحداهم قائلاً:{ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) } [هود]
فإني لا أخشاكم ولا أبالي بكم، فمعي قوة لا تقهر ومعي نصير لا يغلب: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا (56)} [هود]
ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، وأنتم أيها الغلاظ الشداد ما أنتم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربي بناصيتها، فما خوفي إذًا منكم؟
إنها حقيقة الألوهية عندما تتجلي في قلوب الصفوة المؤمنين، عندها يهتف القلب على الفور: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ(67)} [يوسف]
ومن مقتضيات الإيمان بالله تعالي الثقة في معية الله تعالي وحفظه لعبده المؤمن
- فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما ألقي في النار كان على ثقة عظيمة بالله؛ حيث قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل " فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ.  فكفاه الله شر ما أرادوا به من كيد، وحفظه من أن تصيبه النار بسوء، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)} [الأنبياء].
- وهذه هاجر عليها السلام امرأة مؤمنة، ترَكها زوجها إبراهيم عليه السلام مع ابنها الرضيع بأرض قفار لا أثر فيها للحياة، وقفل راجعًا وهي تتبعه متعجبة من هذا الصنيع؛ فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال نعم، قالت: إذن لا يضيعنا.
إنها الثقة بالله التي تقوِّي الذات ولا تدمّرها؛ لأنها تنقلها من التواكل إلى التوكل، وتُشعِرها أنها تستمد قدرتها من قدرة الله.
- وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ  رضي الله عنهما، قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم المشركين، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
قَالَ:( اللَّهُ)، فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟
قَالَ: كُنْ كَخَيْرِ آخِذٍ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، قَالَ: لاَ، وَلَكِنِّي أُعَاهِدُكَ أَنْ لاَ أُقَاتِلَكَ، وَلاَ أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَ: فَذَهَبَ إِلَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ.
ـ وأيضا الثقة بما عند الله من ثواب وعقاب....
فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله أي تسبيحة أو تحميدة أو صدقة أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك: قال تعالي{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(121) } [التوبة]
أيها المؤمنون ....إنه ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز، فإن حصل اليأس أو العجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين.
2ـ قوة المنهج الذي لا يتغير:ـ 
إن قوة المنهج جزء من قوة الملك الذي أنزل الكتاب وأجرى السحاب وهزم الأحزاب. إنه القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة: قال تعالي{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ(87)} [الحجر]،
وقال تعالي{لاَ يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ (42)} [فصلت]، ولا تستطيع قوى الإنس والجن لو اجتمعت أن تأتي مثله، ولا تستطيع حضارة اليوم أن تواجه تحدي القرآن في إعجازه اللغوي والتشريعي والتاريخي والعلمي {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِاجْتَمَعُوا لَهُ (73)} [الحج].  
فالمؤمن يثق في كلام الله، لأن كلام الله كله صدق سواء في الأخبار أو في الأحكام ( الأوامر والنواهي) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا(115)} [الْأَنْعَامُ] أي: صدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام.
ومن الأمثلة التطبيقية :
ـ حديث الأنصاري الذي لزم المسجد حزيناً من كثرة همومه وديونه, أرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى استبدال اليأس بالأمل والتفاؤل, وأن عليه أن يترك اليأس والتشاؤم ويحسن التوكل على الله تعالى، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: "يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَالِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ؟".
قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟". قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّى دَيْنِي" أخرجه أبو داود.
ـ وعـَنْ نِيَارِ بْنِ مُكْرَمٍ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ (2)} [الروم]
خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}الروم .
 قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ: فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، زَعَمَ صَاحِبُكَ أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ، فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالمُشْرِكُونَ وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: كَمْ تَجْعَلُ البِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إِلَى تِسْعِ سِنِينَ، فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ وَسَطًا تَنْتَهِي إِلَيْهِ، قَالَ: فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ، قَالَ: فَمَضَتِ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا، فَأَخَذَ المُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَتِ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ، فَعَابَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، قَالَ: وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ.
ولذلك حاول أعداء الإسلام أن يحرفوا القرآن ويهاجموا السُّنَّة، وأن يحطوا من شأن هذا الدين، والله تعالى في عليائه يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا (40)}[فصلت].
لقد ظل الملايين في العالم يحفظون القرآن ويقرءونه، وبقي الكتاب الأول المحفوظ في الصدور المتلوّ في المساجد والدور، المقروء من المؤمنين وغيرهم في المدن والقرى والكفور.. لقد بقي كالشمس الساطعة على العالم رغم أنفه، والقمر المضيء على الكون رغم ظلمته، إنه النور الذي لا يُطفأ {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}[التوبة]. 
 فالمعركة مع القرآن مآلها الخسران، هذا وعد الرحمن للمؤمنين ووعيده للكافرين {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}[الأنفال]. 
  لقد سبقت بريطانيا وفرنسا إلى الحرب على القرآن والسنة، وقال اللورد كرومر عندما جاء إلى مصر، جئت لأهدم ثلاثة: القرآن، والكعبة، والأزهر. وهلك دون مراده. 
 أيها المؤمنون... 
ثقوا في قوة القرآن والسنة، ثقوا أن معكم أقوى سلاح على وجه الأرض؛ لأنه سلاح تعمير الأرض لا تخريبها، إحياء الموتى لا قتل الأبرياء، الحكم بالعدل وليس إشاعة الظلم، التحلي بالعفة لا التدني بالخسة، التكافل بين الأغنياء والفقراء ليس الحقد والسرقة والاعتداء، الأمن لا الخوف، البر لا الظلم، الإحسان لا الطغيان، السكينة لا الضغينة، التواضع لا الكبر والخيلاء، وحق لمنهج هذه بعض معالمه أن يقود وأن يسود، وأن نتحرك به في هذا الوجود؛ حتى يسطع نوره على أهل الأرض جميعا.                          
 3ـ التاريخ يحي فينا الأمل:ــ 
اقرؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر.... ضلَّ قومٌ ليس يَدْرُون الخَبَر
إن التاريخ كله يعطي رسالة واضحة {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ(140)} [آل عمران]،
فدوام الحال من المحال "دولة الإسلام مع الظلم تزول ودولة الكفر مع العدل تطول". فكيف إذا اجتمع الكفر والظلم؟! إننا بحاجة أن نتدبر آيات واضحات قال تعالي{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ(58)}[القصص: 58].
وقال تعالي {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59)} [الكهف].   
وقال تعالي { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ(9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر].
إذا كانت هذه نصوص القرآن، فهل يستطيعون من لا يؤمن به أن يكذب التاريخ العالمي الذي يؤكد حقائق القرآن؟   
أين أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان؟
 أين عمالقة الهند والصين؟
 أين هولاكو ولويس التاسع؟
 أين نابليون بونابرت؟ أين كارل ماركس ولينين وستالين؟ وغيرهم كثيييييييييييير؟؟؟
قال تعالي { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ(43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ (46) }[القمر].   
 وانظر أخي المسلم إلى التاريخ يصدقك هذه الأنباء، إن المسلمين قد مرت بهم أحوال عصيبة، وظروف رهيبة، لا تقل عما يحل بهم اليوم.....
ألم تسمع عن تاريخ الصليبين في بيت المقدس..
قال الإمام الحافظ ابن كثير في تاريخه ..
مَن كان يظن أن تقومَ للمسلمين قائمة لَمَّا استولى الصليبيون على كثيرٍ من البلاد الإسلامية والمسجد الأقصى ما يقارب مائة عام، وصنعوا فيه ما لا تصنعه وحوش الغاب، وارتكبوا فيه ما لا ترتكب أكثر منه الشياطين، لبثوا فيه أسبوعًا؛ يقتلون المسلمين حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفًا، منهم الأئمة، والعلماء، والمُتَعبدون، والمُجَاورون، وكانوا يُجْبِرون المسلمين على إلقاء أنفسهم من أعالي البيوت؛ لأنهم يُشعلون النار عليهم وهم فيها فلا يجدون مخرجًا إلا بإلقاء أنفسهم من على السطوح، جاثوا فيها خلال الديار، وتبَّروا ما علوا تتبيرا، وأخذوا أطنان الذهب والفضة والدراهم والدنانير، ثم وُضِعت الصُلبان على بيت المقدس، وأدخلت فيه الخنازير، ونودي من على مآذن لطالما أطلق التوحيد من عليها: أن الله ثالث ثلاثة جل الله وتبارك- فذهب الناس على وجوههم مستغيثين إلى العراق، وتباكى المسلمون في كل مكان لهذا الحدث، وظنَّ اليائسون أن لا عودة لبيت المقدس أبدًا إلى حظيرة المسلمين، من كان يظنُّ أنَّ هذه البلاد ستُحَرَّر في يوم ما على يد البطل المغوار صلاح الدين في معركة حطين الحاسمة، ويُصبح للمسلمين من الكِيان والعظَمة والعِزَّة والسيادة ما شرَّف التاريخ.
في السابع والعشرين من رجب سنة (583 هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعاد بيت المقدس من جديد ولقن الصليبيين درسا لم ينسوه ،و صاح المسلمون وكبروا تكبيرة اهتز لها السهل والجبل، ثم هجموا كالسيل الدَّفَّاع لِيَنْهَزِم الكفار، ويُؤسَر ملوكهم، ويُقْتَل منهم ثلاثون ألفًا، حتى قِيْل لم يَبْقَ أحد، ويُؤسَر منهم ثلاثون ألفًا، حتى قيل لم يُقْتل أحد.
فلم يُسْمع بمثل هذا اليوم في عِزِ الإسلام وأهله إلا في عصر الصحابة، حتى ذُكِر أن بعض الفلاحين رئي وهو يقود نيفا وثلاثين أسيرا يربطهم في طنب خيمته، وباع بعضهم أسيرًا بنعل يلبسها، وباع بعضهم أسيرًا بكلب يحرس له غنمه ، وقبل صلاح الدين الصلح معهم بعدما ألحوا عليه كثيرا ،على أن يبذلَ كل رجل منهم ويخرج ذليلا، يبذل عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة، وعن الطفل دينارين، ومن عجز كان أسيرًا للمؤمنين، فعجز منهم ستة عشر ألفًا كانوا أسرى للمسلمين، ودخل المسلمون بيت المقدس، وطَهَّروه من الصليب، وطَهروه من الخنزير، ونادى المسلمون بالآذان، وَوُحدوا الرحمن، وجاء الحق وبَطلت الأباطيل، وكَثُرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، وتَنَزَّلت البركات، وتَجَلَّت الكربات، وأُقِيمت الصلوات، وأَذَّن المُؤَذِنون وخَرِسَ القسيسون، وأُحْضِر منبر [نور الدين] الشهيد عليه رحمة الله الجليل الذي كان يأمل أن يكون الفتح على  يديه فكان على يدي تلميذه [صلاح الدين].  وكان نور الدين محموداً قد عمل بحلب منبراَ أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه واتقانه، وقال: هذا عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنه، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده" كان كلما مر عليه ملأ سخروا منه كما كان الناس يسخرون من نبي الله نوح عليه السلام وهو يصنع السفينة .
 وَرَقى الخطيب المنبر في أول جمعة بعد تعطل للجمعة والجماعة في المسجد الأقصى دام واحدًا وتسعين عامًا، فكان مما بدأ به الخطيب خطبته بعد أن حمد الله أن قال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ألم تسمع عن هولاكو وجيوش التتار ؟!
 ألم تسمع عن جيوش التتار الغازية البربرية الوحشية المدمرة الفتاكة التي ما تركت أخضر ولا يابساً، والتي أتت على كل معنى من معاني الإنسانية، ودمرت كل معلم من معالم الحضارة البشرية، ألا ترى تلك الأحوال؟
ألم تقرأ عن دخول التتار إلى بغداد سنة ست وخمسين وستمائة للهجرة؟ 
  قال ابن كثير في تاريخه: إن عدة من قتلوا في بغداد في ذلك الوقت نحو ثمانمائة ألف نسمة، ويذكر في رواية أخرى أنهم يزيدون عن ألف ألف، أي عن مليون.
قال: قتلوا حتى هربوا إلى بيوتهم، ثم دخلوا عليهم في بيوتهم حتى صعدوا إلى أسطح منازلهم، ثم قتلوا حتى صبت ميازيب بيوتهم من دمائهم، وبقوا أربعين يوماً يستحر فيهم القتل من أولئك التتار الكفرة الهمجيين. ثم ماذا بعد ذلك ؟!
بعد عامين اثنين فقط، في الخامس والعشرين من شهر رمضان، في يوم جمعة
أغر للعام الثامن والخمسين وستمائة للهجرة كانت معركة عين جالوت، عندما عادت الأمة إلى ربها وتوحدت في بعض صفوفها، وأخلصت في كثير من المعاني لربها، جاءت عين جالوت لتكون نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، ودحراً وكسراً للتتار المعتدين.    
ثم بعد ذلك دخل التتار في دين الله أفواجاً وصاروا مسلمين، بمقياس العقل والمادة، لا يمكن لأمة هزمت مثل هذه الهزيمة وحلت بها مثل هذه المصيبة أن تقوم لها قائمة، أو أن ينشط لها أبناؤها في هذه الفترة الوجيزة من الزمان.
4 ـ الواقع يبعث فينا الأمل :ـ
دخل الاسلام ومازال ينتشر في كل دول العالم وكل يوم نسمع عن أناس يعتنقون الإسلام برغم حملات التنصير الموجهة إلي الدول الفقيرة . 
لا تزال المساجد ملأى والقرآن يتلى يبعث في الأمة الأمل لإحياء مجدهم .
 ـ  لا يزال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة محفوظتان وستظلان إلي يوم القيامة برغم الحملات الموجهة لحربهم .
قال تعالي } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9){ الحجر
فهل بعد هذا نيأس؟ هل يتضاءل الأمل أم يتضاعف؟
الخاتمة :ـ
أيها المؤمنون .....  
إِنَّ الحَياةَ قَصِيرَةٌ فَلاَ تُقَصِّروها بِالهُمومِ والأَحْزانِ، ولاَ تَحْمِلوا الأَرضَ فَوقَ رُؤوسِكُم، وقَدْ جَعَلَها اللهُ تَحْتَ أَقْدامِكُم، ولاَ تَخْشَوا الظَّلاَمَ ولاَ تَذْرِفُوا لَهُ دُمُوعاً، بَلْ أَوقِدُوا لِتَبْدِيدِهِ أَضْواءًا وشُموعاً، ولاَ تُنَغِّصُوا عَيشَ اليَوْمِ بِالتَّفْكِيرِ والخَوفِ مِنَ المُستَقبَلِ، إِنَّ الحَياةَ هَكَذا خُلِقَتْ، لاَ تَصفُو لأَحَدٍ مِنَ الكَدَرِ، فَلاَ مُبَرِّرَ لِلْخَوفِ مِنْها والحَذَرِ، ولَولاَ أَنَّها دَارُ ابتِلاَءٍ واختِبارٍ لَمْ تَكُنْ فِيها الأَمْراضُ والأَكْدارُ، ولَمْ يَضِقِ العَيشُ فِيها عَلَى الأَنْبِياءِ الأَخْيارِ، واعلَمُوا أَنَّ بَسْمَةَ الحَياةِ ولَذَّتَها مِنْ نَصِيبِ أَربابِ الأَمَلِ وأَصْحابِ التَّفاؤلِ، ورُبَّ مِحنَةِ تَلِدُ مِنْحَةً، ورُبَّ نُورٍ يَشِعُّ مِنْ كَبِدِ الظَّلاَمِ، وإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، والفَرَجَ بَعْدَ الكَرْبِ، وإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً، فَأَبْشِروا وأَمِّلُوا، فَمَا بَعْدَ دَياجِيرِ الظَّلاَمِ إِلاَّ فَلَقُ الصُّبْحِ المُشْرِق.
فَاتَّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وأَحْسِنوا الظَّنَّ بٍاللهِ وتَفاءلُوا، ولاَ تَجْعلُوا لِليأْسِ طَرِيقاً إِلَيكُم فَتَهلَكُوا وتَفْشَلوا، وتَذكَّروا قَولَ اللهِ فِي الحَدِيثِ القُدُسيِّ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْراً فَلَهُ، وإِنْ ظَنَّ شَرّاً فَلَهُ).
تفاءلوا بالخير تجدوه.
فاللهم املأ قلوبنا بالأمل واليقين ، واجعل رجاؤنا فيك وحدك ، وتوكلنا عليك وحدك، و آمنا في أوطاننا، اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، وأبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويهدى فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.  آمين يا رب العالمين
تمت  بفضل الله تعالي وتوفيقه.

الأربعاء، 8 نوفمبر 2023

المؤمن بين الأثرة والإيثار



الحمد لله رب العالمين .. جعل الإيثار شعار الصالحين وأعلي مراتب المؤمنين فأثنى على المتصفين به، وبيّن أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة؛ فقال سبحانه وتعالى:}وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9){ [الحشر].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير.. أرشدنا إلي الطريق الموصل إلي الجنة فقال تعالي }لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92){[آل عمران].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) ربي أصحابه علي أخلاق الكبار، وبين أن العطاء حال النفوس الكريمة ، وأن البخل سلوك النفوس الشحيحة، فعن عبدالله ابن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ):}إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا { ]أخرجه أبو داود في سننه[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين.
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
ما أجمل أن يتصف المرء والمجتمع بالإيثار والعطاء وحب الخير للآخرين، وما أقبح أن يتصف بالأثرة ، والأنانية وحب النفس.
والإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين من أسمى المراتب العالية والأخلاق الكريمة التي حث عليها الإسلام الحنيف ، حرصا على العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية بين الأفراد ولضمان تماسك المجتمعات وسعادة البشرية.
لذلك يعيش المؤمن بين الإيثار والأثرة ، فنجده يتردد بين ذلك ، فتجد إنسانا يعيش لنفسه فقط ، وآخر يعيش لنفسه ولغيره ، وآخر يعيش يؤثر غيره على نفسه وذلك أعلى المراتب والدرجات لذلك كان موضوعنا }المؤمن بين الأثرة والإيثار { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ تعرف الأثرة والإيثار.
2ـ ذم الأثرة والأنانية والتحذير منهما .
3ـ الآثار السيئة للأثرة والأنانية .
4ـ مراتب الأثرة .
5ـ دوافع الإيثار.
6ـ فضل الإيثار ومكانته في الإسلام .
7ـ  أنواع الإيثار .
8ـ الوسائل المعينة على اكتساب خلق الإيثار.
=====================
العنصر الأول : تعريف الأثَرةُ والإيثار:
الأثَرةُ مِن: آثَر يُؤثِرُ إيثارًا، وفي الآيةِ:آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا(91){ [يوسف] ، أي: فضَّلك.
والأثَرةُ: الاستِئثارُ، والاستِئثارُ: هي أن يؤثر الإنسان نفسه على من حوله، ويخص نفسه أو أتباعه بالمنافع والمكاسب والمصالح الدنيوية، ويستأثر بذلك ويحجبها عمن له فيها نصيب، أو من هو أولى بها منه.
وهي من ‌الأنانيَّةُ، والأنانية: مِن (أنا)، يدُلُّ على أثَرةِ وحُبِّ الذَّاتِ معَ عَدمِ التَّفكيرِ في الآخَرينَ، وهي ضدُّ الإيثارِ.
والإيثار معناه :  التقديم والتفضيل.
والإيثار في أيسر معانيه: هو أن تُقدِّم منافع غيرك على منافعك، وأن تحبَّ لأخيك ما تحب لنفسك، بل وأكثر مما تحبُّ لنفسك، أن تعطي لأخيك مثلَ أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تَخدم غيرك عند الحاجة والاقتضاء أكثر مما تَخدم نفسك، وذلك رغبة في رضا الله تعالى، فقد يجوع المؤثِر ليُشبع غيره، ويَعطش ليَروي سواه، بل قد يموت في سبيل حياة الآخرين.
والفرق بينهما : أنَّ الإيثارَ هو البَذلُ، وتخصيصُك لمَن تُؤثِرُه على نَفسِك.
وأمَّا الأثَرةُ فهي: استِئثارُ صاحِبِ الشَّيءِ به عليك، فحقيقةُ الإيثارِ بَذلُ صاحِبِه وإعطاؤُه، والأثَرةُ: استِبدادُه هو بالمُؤثَرِ به.
ربما يقول قائل: إنَّ الإنسان مجبول على حُبِّ ذاته، وحرْيص على جلْب الخير لها، ودفْع الضر عنها، وهذا أمرٌ عادي فلماذا تلومونا عليه؟
والجواب: إن هناك فرق بين الأنانية وبين حب الذات؛ فالأناني تجده منكمشاً على نفسه، مقتصراً على شهواته ولذائذه وتفكيره، لا يتعدى تفكيره التفكير في نفسه فقط، وتزين له نفسه فعل ما يريد طالما أن فيه مصلحة له، حتى لو كان فيه مفاسد على الآخرين، فهذه هي الأنانية المذمومة.
أما المحب لنفسه فهو الذي يتحكم في نفسه وانفعالاته، ويرى فضل الله تعالى عليه في كل شيء، ويفكر في الآخرين ويحب لهم ما يحبه لنفسه، ويزن الأمور كلها بميزان الشرع الحنيف.
العنصر الثاني : ذم الأثرة والأنانية والتحذير منهما :
لقد ذم الله تعالى الأثرة والأنانية في أكثر من موضع في القرآن الكريم لأنه مرض خطير ، وسبب كبير من أسباب الظلم والفساد ، ومزيل عظيم لكثير من النعم ، ومُحلٌ للعقوبات والنقم، ومعول هدم ، يهدم بنيان الأسر والمجتمعات والدول..
 فقال تعالى في وصف أصحاب الجنة في سورة القلم الذين أرادوا أن يستأثروا بما وهب الله تعالى ويمنعوا حق الفقراء فقال تعالى:} إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلَا يَسۡتَثۡنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ (19) فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوۡاْ مُصۡبِحِينَ (21) أَنِ ٱغۡدُواْ عَلَىٰ حَرۡثِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰرِمِينَ (22) فَٱنطَلَقُواْ وَهُمۡ يَتَخَٰفَتُونَ (23) أَن لَّا يَدۡخُلَنَّهَا ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكُم مِّسۡكِينٞ (24)......... كَذَٰلِكَ ٱلۡعَذَابُۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ (33){  [القلم] ،
قَالُوا: اغْدُوا سِرًّا إِلَى جَنَّتِكُمْ فَاصْرِمُوهَا وَلَا تُؤْذِنُوا الْمَسَاكِينَ، وظاهِرُ النَّصِّ أنَّ خطيئتَهم التي أُخِذوا بها هي التَّصميمُ على صَرمِ جنَّتِهم خُفيةً، والاستِئثارُ بكُلِّ خَيرِها، لا يُؤدُّونَ حقَّ مسكينٍ فيه.
إنه مرض الأنانية وحب الذات ، والاستئثار بالأمور للنفس دون الآخرين.
ولقد حذرنا ربنا سبحانه وتعالى من هذا الشر المستطير فقال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39){ [النازعات]، ويقول جلّ وعلا  حول هذا المعنى قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17){ [الأعلى].
يحذرنا الله في هذه الآيات العظيمة من الأثرة بالدنيا وإيثارها على الآخرة، وإعطاء النفوس هواها ومُناها، فتغتر بالدنيا، وتنسى الآخرة، وتغفل عنها.
وحذر النبي (ﷺ) من الأثرة والأنانية في سنته (ﷺ) فمن ذلك ...
1- عن ابنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ (ﷺ) قال:}ستكونُ أثَرةٌ وأمورٌ تُنكِرونَها، قالوا: يا رسولَ اللهِ، فما تأمُرُنا؟ قال: تُؤدُّونَ الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ اللهَ الذي لكم{ . أثَرةٌ: (أي: استِبدادٌ واختِصاصٌ بالأموالِ فيما حقُّه الاشتِراكُ)  .
2- وقال رسولُ اللهِ (ﷺ) للأنصارِ:}إنَّكم ستَرونَ بعدي أثَرةً شديدةً، فاصبِروا حتَّى تلقَوا اللهَ ورسولَه (ﷺ) على الحَوضِ{[البخاري، مسلم].
(المُرادُ بالأثَرةِ هنا: استِئثارُ الأمراءِ بأموالِ بيتِ المالِ)  .
3- وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضِي اللهُ عنه قال: }بايَعْنا رسولَ اللهِ (ﷺ) على السَّمعِ والطَّاعةِ في العُسرِ واليُسرِ، والمَنشَطِ والمَكرَهِ، وعلى أثَـرةٍ علينا، وعلى ألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وعلى أن نقولَ بالحقِّ أينما كنَّا، لا نخافُ في اللهِ لومةَ لائِمٍ(الأثَرةُ أي: يُستأثَرُ عليكم، فيفضِّلُ غَيرُكم نَفسَه عليكم). أي: اسمَعوا وأطيعوا، وإن اختصَّ الأمراءُ بالدُّنيا عليكم، ولم يُوصِلوكم حقَّكم ممَّا عندَهم  .
وكذلك حال السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يذمون الأثرة والأنانية ويقدمون غيرهم على غيرهم...
قال بعضُهم: إذا استقضَيتَ أخاك حاجةً فلم يَقضِها، فذكِّرْه ثانيةً، فلعلَّه أن يكونَ قد نسِي، فإن لم يقضِها فكبِّر عليه، واقرَأْ هذه الآيةَ: }وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ (36){ [الأنعام] .
وقضى ابنُ شُبرُمةَ حاجةً لبعضِ إخوانِه كبيرةً، فجاء بهديَّةٍ، فقال: ما هذا؟ قال: لِما أسدَيتَه إليَّ، فقال: خذْ مالَك عافاك اللهُ، إذا سألْتَ أخاك حاجةً فلم يُجهِدْ نَفسَه في قضائِها فتوضَّأْ للصَّلاةِ، وكبِّر عليه أربعَ تكبيراتٍ، وعُدَّه في الموتى)  .
وقال ابنُ القيِّمِ رحمه الله تعالى : "فإذا رأَيتَ النَّاسَ يستأثِرونَ عليك معَ كونِك مِن أهلِ الإيثارِ، فاعلَمْ إنَّه لخَيرٌ يُرادُ بك"  .
وقال الشيخ عليٌّ الطَّنطاويُّ رحمه الله تعالى : "نحن في حاجةٍ إلى الإيمانِ بأنَّ مصلحةَ الفردِ في مصلحةِ المجموعِ، وأنَّ رِفعتَه في رِفعةِ الأمَّةِ"  .
العنصر الثالث :الآثار السيئة للأثرة والأنانية :
للأثَرةِ آثارٌ سيِّئةٌ؛ فكم من حقوق ضاعت على أصحابها بسبب الأثرة؟!
وكم من أموال استأثر بها أناس وأخذوها لأنفسهم دون أن يكون لهم فيها شيء، أو أخذوا منها أكثر مما يستحقون؟!
وكم من مميزات وخصائص اختص بها أناس وهي ليست لهم، وحَرموا منها غيرهم ممن هو أولى وأحق منهم؟!!.
بل تجد بعض النفوس أعاذنا الله وإياكم امتلأت بالأنانية، والطمع، وحب الذات، فتجده لا يعرف إلا نفسه، ويهتم بنفسه على حساب الآخرين، ولا يهتم بالآخرين، ولا يبالي بمشاعر الناس وأحاسيسهم، ولا يهمه شيء إلا نفسه، ولا يحب أحداً إلا ذاته، ولو خُيّر له لتمنى أن يموت الناس ويهلكوا ويبقى هو ومن يريدهم فقط.
إن الأنانية والأثرة دفعت بقارون إلى أن يقول كما قال الله تعالى: }إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي(78){ [القصص]،
ودفعت بفرعون إلى أن يقول كما قال الله تعالى : }أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24){[النازعات]
ودفعت بالنمرود إلى أن يقول كما أخبرنا الله تعالى :}أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ(258){  [البقرة]
ودفعت بإبليس إلى أن يقول: }أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ(12){ [الأعراف].
ودفعت بقابيل ابن آدم إلى قتل أخيه هابيل، عندما قدّم كل واحد منهما قربة يتقرب بها إلى الله، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ، فقال الذي لم يتقبل منه للآخر أنانية وأثرة (لأقْتُلَنَّكَ)، فقال له الآخر مترفقا له في ذلك: }إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27){.
فالشاهد أنه يحب نفسه أكثر من اللازم، وإلا فلِمَ يريد أن يقتل أخاه على أمر ليس له فيه شيء؟
فالقبول من الله، والله سبحانه وتعالى لا يتقبل إلا من المتقين؛ فلماذا دفعت به نفسه إلى قتل أخيه ؟  بدلاً من أن يلوم نفسه ويعاتبها على عدم قبول عمله ، قام بقتل من تقبل الله عمله، فهذ يدل على أنه مصاب بالأنانية والأثرة قال تعالى :}وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30){ [المائدة].
وكذلك إخوة يوسف دفعت بهم الأثرة وحب الذات إلى إلقاء يوسف عليه السلام في البئر، ورميه فيها، وتعرضه للمذلة والإهانة والبيع كما يباع الأرقاء والعبيد؛ فما الذي دفع بهم إلى هذا كله؟
إنها الأثرة لأنفسهم دون أخيهم، حتى يستأثروا بمحبة أبيهم قال تعالى }إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9){ [يوسف].
لذلك نرى أي مجتمع تسود أفراده الأنانية والأثرة يتفشى فيه هذه الصفات منها ..
1- الصَّدُّ عن الحقِّ؛ فعن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: (قدِم مُسيلِمةُ الكذَّابُ على عهدِ رسولِ اللهِ (ﷺ)، فجعَل يقولُ: إن جعَل لي مُحمَّدٌ الأمرَ مِن بَعدِه تبِعْتُه).
2- انعداِمُ الرَّحمةُ، فيأكلُ القويُّ الضَّعيفَ، ويسودُ قانونُ الغابِ ، فيقع الظُّلمِ بين الناس ، وأكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، وقَطعُ الأرحامِ.
3- نقصان الإيمانِ ودناءةِ النَّفسِ وخِسَّتِها، حيث نفي النبي (ﷺ) الإيمان عن الشخص الأناني ،فقال رسول الله (ﷺ):}لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه{ [متفق عليه].
4- انعدام التكافل والتراحم : فحينما تسودُ الأنانيَّةُ ينعدِمُ التَّكافُلُ، فإن شرّ ما يصيب المجتمع هو التفكك وضعف الروابط بين أبنائه، وذلك بغلبة الأنانية على أنفسهم، عندما يذكر المرء نفسه، وينسى أخاه، عندما يقول كل واحد: نفسي نفسي ،عندما تعظُم الأنانية في نفسه على حساب غيره، فليعلم كل منا أنه مسئول عن غيره كما قال (ﷺ)عن أصحاب الأنانية والأثرة }كم من جارٍ متعلّق بجاره يقول: يا ربّ، سل هذا: لِمَ أغْلق عنّي بابَه، ومنعني فضله؟{ ]الألباني في السلْسلة الصحيحة[.
فيجُرُّ ذلك إلى عَدمِ الاهتمامِ بأمرِ المُسلمينَ ، فيكون سببٌ لحُلولِ العداءِ والكراهيَةِ محَلَّ المحبَّةِ والمودَّةِ في القُلوبِ.
العنصر الرابع : مراتب الأثَرةِ:
تنقَسِمُ الأثَرةُ إلى مراتِبَ:
الأولى: العُبوسُ والانقِباضُ وتركُ البِشرِ والبَسطةِ، فلا يسَعُ الأنانيُّ أحدًا لا بمالٍ ولا بخُلقٍ بسببِ ما به مِن أثَرةٍ.
الثَّانيةُ: الانتِقامُ وعَدمُ الإغضاءِ، فيحمِلُه حُبُّ ذاتِه على الانتِصارِ لها، وتَركِ التَّغافُلِ والعَفوِ.
الثَّالثةُ: الاستِئثارُ بقُوَّتِه البدنيَّةِ، فيخصُّ بها نَفسَه، ولا ينفعُ بها غَيرَه.
الرَّابعةُ: التَّفرُّدُ بنعمةِ الجاهِ، فلا يشفَعُ لأحدٍ، ولا يمشي معَ غَيرِه إلى ذي سُلطانٍ، ونَحوُ ذلك.
الخامِسةُ: الضَّنُّ بالعِلمِ، فهو يُحبُّ ألَّا يشرَكَه فيه أحدٌ، وإذا سُئِل أجاب باختِصارٍ بقَدرِ ما يدفعُ به الضَّرورةَ، كما كان بعضُهم يكتبُ في جوابِ الفُتيا: نعم أو لا، مُقتصِرًا عليها.
السَّادسةُ: أن يكونَ ضنينًا براحتِه ورفاهِيتِه وإجمامِ نَفسِه، فلا يسعى تعبًا وكدًّا إلَّا في مصلحةِ نَفسِه.
السَّابعةُ: التَّطلُّعُ إلى ما في أيدي غَيرِه، وتمنِّي زوالِ النَّعمةِ عنه، وتحوُّلِها إليه.
الثَّامنةُ: أن يبخلَ بنَفسِه عن نصرِ المُستضعَفينَ؛ قال تعالى: }أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ(19){ [الأحزاب] ، أي: بُخلًا بالنُّصرةِ والمُوافَقةِ في القتالِ   .
العنصر الخامس : دوافع الإيثار:
إن الدافع والباعث إلي الإيثار أمران :
الأمر الأول : فطري  وغريزي : كالذي يكون عند الآباء والأمَّهات ، وهذا ينتج عنه حبٌّ شديدٌ عارم، والحبُّ مِن أقوى البواعث الذَّاتية الدَّافعة إلى التَّضْحية بالنَّفس وكلُّ ما يتَّصل بها مِن مصالح وحاجات مِن أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه، أو جلب السَّعادة أو المسرَّة إليه .
تجد الأب يعمل ويتعب من أجل تحقيق راحة أبنائه وتوفير الحياة الكريمة لهم وكذلك الأم تشعر بالسعادة الحقيقة عندما تجد أبنائها سعداء فهذا إيثار فطري لذلك تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كلَّ واحدة منهما تمرة ، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله (ﷺ)، فقال: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، أو أعتقها بها مِن النَّار"
فهذا الإيثَار دافعه حبُّ الأم لابنتيها ورحمتها بهما.
الأمر الثاني: يكون الدَّافع هو الإيمان:  الإيمان هو المحرك للمسلم أن يكون نافعا لغيرة طمعا في الأجر والثواب كما حدث مع الصحابة الكرام في المدينة ، فامر يعتمد على عاطفة إيمانيَّة عاقلة { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9){ [الحشر].
فالإيثار ليس ادِّعاءً ولا شعارًا فارغًا، يُعلنه الإنسان في السرَّاء وأوقات الفراغ، وربما يُؤثِر على نفسه في المواقف اليسيرة ، والأشياء الصغيرة، أمَّا إذا جدَّت ساعة الجد وحان وقت الفصل، يُؤثِر نفسه، وهذا غالب حال البشر، فالإنسان لا يُقدِّم غيرَه على نفسه إلاَّ لحبٍّ شديد له، أو لإيمان بأجر هو أعظم من هذه المَنفعة التي يقدمها لأخيه.
العنصر السادس: فضل الإيثار ومكانته في الإسلام :
للإيثار فضل عظيم ومكانة كبيرة في الإسلام منها ..
1ـ تحقيق الكمال الإيماني في النفس البشرية :
 فللإيثار منزلة رفيعة القدر لا يتخلَّق به إلاَّ أصحاب القلوب التي وعَت إنسانيَّتها ، وفَهِمت دينها، وتحقَّق لها القرب من الله، قال تعالى: }عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا(9){ [الإنسان].
يطعمون الطعام للفقراء والمساكين ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من عون ومساعدة، ولا ينتظرون منهم أي مردود، وهذا هو المعنى الصحيح للتطوع.
وجعل الله تعالي الإيثار من أخص خصائص المجتمع الإيماني، حيث قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (9)} ]الحشر[.
فهذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة يؤثر مصلحة الأمة علي مصلحته الخاصة حينما أشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة  وقالوا له تبيعنا و نزيدك الدرهم درهمين  ؟  فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها بأكثر من هذا .
فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة : فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة تجار غيرنا ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ولرسوله  فهي لفقراء المسلمين ..
 الله أكبر!! ...  ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن  الحي لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموال طائلة  ولو كانت على حساب البطون الجوعى والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات. إنه مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر الظلم إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر.
2ـ الإيثار من موجبات رحمة الله تعالي :
 هو رحمةٌ أسكنها الله قلوبَ المؤمنين، فبذلت وضحّت لوجه الله رب العالمين، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، قلوبُ أهلها رقيقة لينة حليمة رحيمة، لا تحتمل فواجع المسلمين، بل تهتز لدعاء المصابين والمنكوبين.
الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! أن تسعى في بذل الخير والمعروف والإحسان، طمعا في رحمة الله الرحيم الرحمن، بإجابة دعوةٍ مِن أرملة، أو دعوةٍ مِن بائسة، أو دعوةٍ مِن مكروب، أو دعوةٍ مِن مهموم أو مغموم، أو كربة تفرِّجها على مَدين مُعسِر.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال:}من لا يرحم لا يرحم { ]متفق عليه[.
3ـ الإيثار هو الطريق الموصل إلي الجنان ومحبة الرحمن :
إنه الإيثار؛ الذي يحمل صاحبه على البذل والعطاء، والكرم والسخاء، مما تحبه النفس من الكنوز والأموال، قال الله تعالى: }لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92){ [آل عمران].
يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنات، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها فإن النفقة من الطيّب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدَلّ الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جُبِلت النفوس على قوّة التعلق بها).
فهذا أبو طلحة الأنصاري؛ جاء إلى النبي  (ﷺ) فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه }لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ(92){[آل عمران] وإنّ أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي (ﷺ) ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله (ﷺ) أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال (ﷺ): }بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه{[البخاري ومسلم].
4ـ الإيثار سبب في نقاء النفس من الصفات السلبية المشينة :
الإيثار ذلِكُم الخلقُ الذي يدل على صفاء النفس ونقائها من البخل والشح والأنانية. فلصاحب الإيثار نفس تواقة إلى الخير، مسرعة إلى الإحسان.
ورد في الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ:}أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ{.
روى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ:}اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ {.
وهذا عبدالله ابن عباس يؤثر مصلحة أخيه المسلم علي اعتكافه في المسجد النبوي ، عندما كان معتكفا في مسجد رسول الله (ﷺ), فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس , فقال له ابن عباس : يا فلان أراك مكتئبا حزينا ؟! قال : نعم يا ابن عم رسول الله لفلان علي حق ولاء , وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه , قال ابن عباس : أفلا أكلمه فيك , فقال : إن أحببت قال : فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل : أنسيت ما كنت فيه ؟؟!! قال : لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر (ﷺ) والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول}من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين , ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين { ]رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي واللفظ له والحاكم مختصرا وقال صحيح الإسناد[
لم يترك ابن عباس رضي الله عنه اعتكافه في أي مسجد , بل ترك الاعتكاف في مسجد رسول الله (ﷺ), مع ما له من أجر مضاعف وعظيم , ولم يتركه لينقذ مسلما من الموت جوعا أو بردا أو خوفا وذعرا , بل خرج ليكلم له دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب , وهي حاجة ربما يستصغرها بعض المسلمين اليوم , إلا أنها كانت كافية لإخراج ابن عم الرسول (ﷺ) من معتكفه وعبادته .
أفلا تستحق آلام المسلمين المنكوبين اليوم في غزة وغيرها من بلاد الإسلام, بأن نخرج من شح النفوس وهواها إلى كرمها وتقواها , ومن قسوة القلوب وغفلتها إلى لينها وذكرها لخالقها ومولاها , ومن إغلال الأيدي إلى الأعناق إلى بسطها بعض البسط في الإنفاق .
إنه الإيثار؛ الذي يزرع في النفوس المودة والمحبة، والرأفة والرحمة، وينزع من القلوب الكراهية والبغضاء، فإن القلوب مجبولة على تعظيم صاحب الإيثار ومحبته، كما أنها مجبولة على بغض البخيل المستأثر ومقته.
5ـ الإيثار يحقق التضامن والتكافل في المجتمع :
إنه الإيثار؛ الذي به تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليست لها بيوت تؤويها. وهكذا..
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ{.
وفي صحيح مسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ)  يَقُولُ: }طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ{.
قال الله سبحانه وتعالي : }وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2){ [المائدة].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فِعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم.
وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: "فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (ﷺ) إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):}مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ  { [ مسلم]. فالإيثار جالبٌ للبركة في الطَّعام والمال والممتلكات
6ـ الإيثار هو أعلي مراتب الأخوة الإيمانية:
الإيثار أعلي مراتب الأخوة الإسلامية ، فهو الخُلق الذي وصَف به الحقُّ  سبحانه وتعالى أنصار رسوله عليه الصلاة والسلام الذين جسَّدوا تجربة الأخوَّة الإيمانيَّة في صورة لا عهدَ لتاريخ البشرية بها، صورة من الإيثار يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن التعبير عنها البيان، كيف لا، وقد قال الله تعالى في حقهم:
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9) {[الحشر].
أي: يقدمون خدمة الآخرين ومصلحتهم العامة على المصلحة الشخصية الخاصة.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ (ﷺ)، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ...
إنها الأخوة في الله ،إن التمسك بحبل الله تعالى ينقي القلوب، ويجعلها تتطلع إلى السماء، يجعلها تنظر للآخرة، يجعلها تسير في درب الإيثار وطريق التضحية وسبيل الوفاء والبذل والعطاء دونما كلل أو تعب ،نفوس عفيفة نقية طاهرة لا تحمل في قلبها حقدا ولا حسدا.
العنصر السابع : أنواع الإيثار:
1ـ الإيثار مع الخالق سبحانه:
أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدراً؛ الإيثار مع الله، إيثار رضاه على رضا غيره، وإيثار حُبّه على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه.
الإيثار مع الله: أن يفعل المرء كلّ ما يحبه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه، ثقيلاً عليه.
الإيثار مع الله: أن يترك المرء ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبوباً إلى النفس، تشتهيه، وترغب فيه.
فتُؤثر رضا الله وتقدمه على رضا نفسك وهواك، وعلى رضا الناس أجمعين، إذ لا رضا يقدم على رضاه، ولا طاعة فوق طاعته، ولا محبة تفوق محبته...
الإيثار مع الله يقتضي من العبد أن يداوم على طاعة الله، وألا ينشغل بدنياه عن أخراه، إذ كيف لعاقل أن يقدم الدنيا وهي دار الفناء، على الآخرة وهي دار البقاء.
قال سبحانه: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)}[الأعلى].
وهذا نموذج في غاية في العظمة يبين لنا قيمة الإيثار مع الخالق جل وعلا ..
تُمثِّلُ قصة سَحَرة فرعون نموذجًا رائعًا في الإيثار بمعناه الإيماني الرفيع، فما إن تأكَّد لهم صدقُ موسى عليه السلام حتى تنصَّلوا من زَيفهم، وأقبلوا على الإيمان إقبالاً فوريًّا رائعًا، فغاظَ ذلك فرعون، فهدَّدهم بالموت، وتوعَّدهم بالتنكيل؛ ليُبعدهم عن سبيل الهدى الذي أدركوه لتَوِّهم، فما لانَتْ لهم قناة، ولا أَلْقَوا بالاً للتهديد والوعيد، وبَقَوْا متمسكين بإيمانهم واثقين بربِّهم عزَّ وجلَّ مُؤثِرين الانخراط في موكب الشهداء على البقاء أحياءً في ظلِّ العبودية لغير الله؛ قال تعالى:}قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73){ [طه].
لقد آثَروا الله  عزَّ وجلَّ على فرعون المتجبِّر الذي ادَّعى الألوهيَّة، واستعبَد عقول الناس وأرواحهم وأفكارهم، آثَروا الله على تاريخ فرعوني طويل أَلِفوه واعتادوه، ولَمَّا هدَّدهم فرعون وأمرَهم بالتراجع، آثَروا الله على النجاة من العذاب، وعلى أيديهم وأرجلهم التي هدَّدهم بقطعها من خلاف، ثم آثَروا الله أخيرًا على أرواحهم وحياتهم، واسْتَسْهلوا صَلْبهم في سبيل الله تعالى، فكأنَّهم قالوا له: نحن أحرارٌ من عبوديَّتك يا فرعون، فماذا تصنع بنا؟
إن كلَّ ما تَملكه أن تقضي في حدود هذه الدنيا، لكنَّك لا تَملك أمرَ خلودنا وحياتنا الآخرة، لا تَملك لنا نعيمًا أبديًّا ولا تعاسة أبديَّة، }فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ(72) { [طه]. هذه عبارة تُشعر بمدى إيثار السَّحرة لله  عزَّ وجلَّ  على كلِّ ما سيَصنعه فرعون، ولَم يَزيدوا عن التضرُّع إلى الله يستمدُّون منه الثباتَ على البلاء العظيم، ويطلبون ليس النجاة في الدنيا، ولكن حُسن الخاتمة؛ }رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126){ [الأعراف].
وهذه صورة مشرقة، ولوحة رائعة يزيّنها مسارعة الصحابة، ومبادرتهم إلى فعل الخيرات، وتقديم مصلحة الأمة على مصالحهم الشخصية ، يوم أن عَظُم الخطب واشتد الأمر علي رسول الله (ﷺ) في يوم تبوك الذي سماه الله تعالي يوم العُسْرة  كما قال الله تعالي{لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ(117)} [التوبة]
لقد فتح الرسول (ﷺ) باب التبرع علانية؛ حتى يحفز المسلمون بعضُهم بعضًا..
وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. !!
لقد قام فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، فَسُرَّ رسول الله (ﷺ) بذلك سروراً عظيماً؛ فهذا عطاء كثير، ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانيةً يزايد علي نفسه ، قال: "علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، فسعد به رسول الله (ﷺ) سعادة عظيمة.. حتى إنه قال (ﷺ) : "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم!"
ولكن هل سكن عثمان أو اطمأن؟ انظر إليه ، لقد أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلي ثلاثمائة بعير (وفي رواية: تسعمائة بعير، ومائة فرس)، ثم ذهب إلي بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله (ﷺ)، ورسول الله (ﷺ) يقلِّبها متعجبًا!.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أتى بأربعة آلاف درهم، وقد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان.. لكنها تُعتبر أكثر نسبيًّا من عطاء عثمان (سبحان الله) لأنها كل مال أبي بكر الصديق.. حتى إن رسول الله (ﷺ) سأله: "وماذا أبقيت لأهلك؟" قال له في يقين: "أبقيت لهم الله ورسوله".   
وأتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله، وهو كثير.. بل كثير جداً.. 
2- الإيثار مع الخلق:
بحب الخير للآخَرين، وتطهير النفس من كل أنانية وكراهية وشحناء، حين يستشعر العبد معنى الأخوة التي تربطه بكل مسلم مِن حَوله.
تعالوا بنا نري الإيثار حقيقة مجسدة وليس مجرد شعارات رنانة ، فتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله (ﷺ) ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا.
وعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه قال: قام رسولُ اللهِ (ﷺ) في صلاةٍ، وقُمْنا معَه، فقال أعرابيٌّ وهو في الصَّلاةِ: اللَّهمَّ ارحَمْني ومُحمَّدًا، ولا ترحَمْ معَنا أحدًا، فلمَّا سلَّم النَّبيُّ (ﷺ) قال للأعرابيِّ: "لقد حجَّرْتَ واسِعًا"  .
فالنَّبيُّ (ﷺ) لم يُعجِبْه دُعاؤُه لنَفسِه وحدَه، فلأنَّه بخِل برحمةِ اللهِ على خَلقِه، وقد أثنى اللهُ على مَن فعَل خلافَ ذلك بقولِه تعالى: }وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(10){ [الحشر].
وقال عُمرُ رضِي اللهُ عنه يصِفُ النَّبيَّ (ﷺ): }إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد خصَّ رسولَ اللهِ (ﷺ) في هذا الفيءِ بشيءٍ لم يُعطِه أحدًا غَيرَه، ثُمَّ قرأ: "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه مِنْهُمْ" إلى قولِه قَدِيرٌ فكانت هذه خالِصةً لرسولِ اللهِ (ﷺ) ،وواللهِ ما احتازها دونَكم، ولا استأثَر بها عليكم، لقد أعطاكموها، وبثَّها فيكم{
قولُه: (ما احتازها)، أي: ما جمَعها دونَكم، (ولا استأثَر بها)، أي: ولا استبدَّ بها وتخصَّص بها عليكم. قولُه: (وبثَّها فيكم)، أي: فرَّقها عليكم  .
وهذا مشهد لأصحاب رسول الله (ﷺ) في قمة الإيثار، أخذ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أربعمائة دينار، فجعلها في صرَّة، ثمَّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح، ثمَّ تلكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه.
 ثمَّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل. وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكَّأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع. فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا. فاطَّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلَّا ديناران فنحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر، وقال: "إنَّهم إخوة بعضهم مِن بعض"
وهذا عبدالله ابن المبارك يُقدم حاجة اليتامي علي حجة النافلة ، كان عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج ، خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره ، وفي الطريق وجد منظراً ارتعدت له أوصاله. واهتزت له أعصابه!!. القصة ذكرها ابن كثير بلا اسناد في البداية والنهاية وملخصها ، أنه لما كان في طريق الحج مات لهم طائر فامر غلمانه بإلقائه في مزبلة الطريق ثم أنه رأى فتاة جاءت وأخذت الطائر الميت فسألها عن شانها فأخبرته أنها وأخاها من الفقراء وأن أباها قد قتل وأخذ ماله وأن الميتة تحل لهم فقال لخادمه كم معنا من المال فقال ألف دينار فقال ابق منها عشرين نرجع فيها إلى بيوتنا واعط الباقي لهذه الفتاة فهذا أفضل من حجنا لهذا العام ثم رجع .
وهذا مشهد فاق الخيال: عن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ، قال: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم. فإذا رجل يقول آه. فأشار ابن عمّي إليّ أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه. فأشار هشام: انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات" ] ذكره البيهقي في شعب الإيمان، والغزالي في إحياء علوم الدين، وابن كثير في تفسيره[
فانظروا إلى إيثار هؤلاء الأفاضل الكرام، لقد بلغ الإيثار والسخاء بأحدهم أن يقول: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له.
العنصر الثامن :الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار:
للإيثار أسباب ووسائل تعين عليه:
1ـ الإيمان بالله تعالي والسعي إلى مرضاته عز وجل، واستشعار أن الله هو المعطي جل وعلا, وعطاءه فيض لا ينقطع فإن الله يمد بعطائه في الدنيا جميع خلقه ، قال تعالي}كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً(20){  ]الإسراء[
وفي الحديث القدسي الذي يرويه أبي ذر رضي الله عنه- عن رسول الله (ﷺ) }.... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم. ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه { ]رواه مسلم[
وحينما يسعى العبد إلى الله حثيثاً، مُجِدّاً ومسرعا لا بطيئا ومتريثاً، حين يتعلق قلبه بالدار الآخرة، فلا يفتُر عن حسنة يبذلها، أو قُرْبَة بإذن الله يكسب بها أجرا وثوابا ، فيكون إيمان العبد قويا، ويقينه في الله عظيما، وحسن ظنه بربه حاضرا حينئذ يهون على النفس الإيثار، ويُحبَّبُ إليها البذل والعطاء.
2ـ استشعار عظيم الأجر والثواب والجزاء المترتب على الإيثار:
رغبة العبد فيما عند الله عز وجل من خير وعطاء، الطمع في الفوز والفلاح، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فمن رغب في النجاة فليكن من أهل الإيثار، ومن رغب في الفلاح فليكن من أهل الإيثار؛ قال سبحانه: }فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (16) إِن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (18){ ] التغابن [ .
  فإذا استشعر الإنسان هذا الأجر وهذا الجزاء فإن ذلك يدفعه إلى الازدياد في الإيثار رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى
3- الاقتداء بالنبي (ﷺ) في عظيم عطائه وجزيل سخائه.
4- التأسي بسلف هذه الأمة وخير القرون في بذلهم وعطائهم.
5- تدريب النفس على البذل والعطاء مرة بعد مرة قال تعالى }ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(29){ ]الإسراء[.
6ـ مصاحبة أهل الكرم والجود ، فالصحبة متى كانت سيئة فهي من أهم العوائق التي تعيق الإنسان عن القربات والأعمال الصالحات، لما لها من تأثير كبير على الإنسان، والصحبة الصالحة من أهم المعينات علي التحلي بالأخلاق الفاضلة ، فالطباع يسرق بعضها بعضا .
7ـ تذكرُ الموت والبِلَى، وقربِ المصير إلى الله جلَّ وعلا، أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مغموم بين الْجَنادل والْحَفائر، فما ذُكِر الموت في كثيرٍ إلا قلله، ولا في جليلٍ إلا حقَّره.
فيا من تشكو من مرض الأنانية وحب الذات، تَذكّر الموتَ وسكرتَه!
تذكر القبرَ وضجعته! تذكر القبر وضمّته! يومَ يصير الإنسان وحيداً فريداً، قد سار إلى الله ذليلاً حقيراً، يومئذٍ تهون عليه تجارته، وتهون عليه أمواله، ويهون عليه أولاده، وربما صاح بأعلى صوته: }يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ (27) مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ (29){]الحاقة[
فما الذي يأخذه الإنسان من تجارته؟!
وما الذي يجنيه من سوقه وعمارته؟! وما الذي يأخذه من الدنيا غيرُ زادِه وكفنِه؟! إنا إلى الله صائرون، وإنا إليه راجعون، وبين يديه مختصمون ، قال تعالى }إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31){ [الزمر].
يا جامعَ المالِ في الدنيا لوارثه              هل أنتَ بالمالِ بعد الموتِ منتفعُ؟
قدِّمْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ في مَهَل                 فإِن حظكَ بعد الموتِ منقطعُ
فما أعظمَ نجاتك وفرحتك إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين!
يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة، يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل، يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة !..
فالله أكبر! ما أعظم فوز أهل الإيثار! يوم خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، واستقبلوا الآخرة أمام عيونِهم!..
نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من كل سوء وداء، وأن ينور قلوبنا بكل خلق كريم ووصف حميد، وأن يؤلف بين قلوبنا وأن يصلح فساد قلوبنا ، وأن يحقن دماء المسلمين في كل أرض الإسلام ، وأن ينصر الإسلام ويعز المسلمين ،
إنه ولي ذلك ومولاه .

تمت بحمد الله

===================================== 

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=466494


رابط doc

https://www.raed.net/file?id=466497

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...