الحمد لله رب العالمين
…أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا،فقال تعالي{ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ (3)}[المائدة].
وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ..أتم
علينا نعمته فأرسل إلينا رسوله (ﷺ) ليزكي نفوسنا ،
ويهذب أخلاقنا ويقوم سلوكنا، ويعلمنا مالم نكن نعلم ، فقال تعالي { وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
(151)}[البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمد
رسول الله (ﷺ).... حدد الغاية الأولي من بعثته والمنهاج القويم في دعوته
فقال (ﷺ) [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق][صححه
الألباني في السلسلة الصحيحة].
فاللهم صل علي سيدنا
محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
أما بعد .. فيا أيها
المؤمنون
فإن الإنسان جسد وروح،
ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلُّها القلب، وهذه
الصورة الباطنة هي قوام شخصية الإنسان المسلم، فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه، أو لونه
وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق، يقول تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(13)} [الحجرات].
وَعَنْ أبي هُريْرة
عَبْدِ الرَّحْمن بْنِ صخْرٍ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ): {إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى
أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ }[رواه مسلم].
فالإسلام لا
يعتمد علي الشكل ولا الصور وإنما الإسلام سلوك وعمل ،فالتدين الشكلي لا يعتبر في
ميزان الإسلام ، لذلك كان موضوعنا [الإسلام سلوك وعمل] وذلك من خلال هذه العناصر
الرئيسية التالية ...
1ـ الإسلام اعتقاد وعمل.
2ـ
التدين الشكلي.
3ـ مظاهر
التدين الشكلي .
4ـ التدين
الحقيقي.
5ـ
مقياس التدين الحقيقي .
6ـ صور مشرقة من حياة التابعين .
7ـ أثر
التدين الحقيقي في حياة الناس .
8 ـ الخاتمة
.
العنصر
الأول : الإسلام اعتقاد وعمل :ـ
إن المبادئ الأساسية
التي قام عليها ديننا الحنيف هي: هي العقيدة والأخلاق والأحكام.
فالعقيدة إيمان بالله
تعالي ورسوله (ﷺ) بحيث يصبح الإيمان دستورًا يحكم التصرفات، فيؤدي المرء
ما أمر به الله من عبادات، وينتهي عما نهى عنه الله من مُحرَّمات؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9)}[الإسراء].
ويقول رسول الله(ﷺ): ((الإحسان أن تعبد الله كأنك
تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
والأخلاق وهي المقصد
الثاني من مقاصد الدين، إنما هي الثمرة للإيمانِ الصادق بمبادئ الخالق - تبارك وتعالى
- يقول الله لرسوله (ﷺ): {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)}[القلم].
ويقول رسول الله (ﷺ){اضمنوا لي ستًّا أَضمن لكم الجنَّة:
اصدُقوا إذا حدَّثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا إذا ائتُمِنتم وغُضوا أبصاركم، واحفظوا
فروجكم، وكُفوا أيديكم}.
أما الأحكام فهي المقصد
الثالث من مقاصد الدين كما رسمها القرآن الكريم، وكما سنَّتها شريعة النبي (ﷺ)وهي تنظيمٌ لعَلاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان؛
قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
(153)}[الأنعام].
إن الإسلام الحنيف
منهج شامل انتظمت فيه شئون الدنيا والدين (قُلْ إِنَّ
صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لَا
شَرِيكَ لَهُ (163)}[الأنعام].
فحقق الكفاية
والإغناء عما سواه من المناهج والأفكار وذلك لإمكانية تطبيق تعاليمه السمحة فهو
ليس طقوسا تؤدى في أبراج عاجية لا علاقة لها بالواقع المعاش.
فليس الإيمان
بالتمني ، ولا بالتحلي فليس شعارا أجوفَ وإنما هو طاقة تحمل المرء على العمل الجاد
والفعال، يثير همته ويقويها، ولعلك تقرأ كثيرا في كتاب الله تعالى بعد الأمر
بالتكاليف إن كنتم مؤمنين .. إن كنتم مسلمين ..لآيات لقوم يؤمنون.. وهكذا ..
كما أن العمل
دليل وبرهان على صدق هذا الإيمان وإلا فادعاء الإيمان بغير عمل كذب عظيم على الله
ورسوله (ﷺ) والمؤمنين، وقد ربط القرآن بين الإيمان والعمل كثيرا {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) }[الكهف].
وقال تعالي {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ …(218)}[البقرة].
فالإيمان بدون عمل كشجرة بلا ثمر ،
والإيمان بلا عمل هباء ووبال علي صاحبه ، قال رسول الله (ﷺ): "أتدرون ما المفلس؟" قالوا: "المفلس فينا من لا درهم
له ولا متاع" فقال:" إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام
وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من
حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت
عليه ثم طرح في النار".،
فهذا الحديث يدحض كل اعتقاد خاطئ حول الإسلام، على
أنه دين يرتكز فقط على العبادات دون مراعاة لجانب المعاملات والأخلاق، فالأخلاق
والمعاملات تعتبر شرطا أساسيا من أجل قبول العبادات
ولو تأملنا
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة نجد أن العبادات والشعائر الدينية دائما تردفها المعاملات،
كما يقول عز وجل في كتابه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ(77)}[الحج].
فهنا نجد أن العبادة
وفعل الخير شرطان متلازمان من أجل فلاح المسلم، كما أن حسن المعاملة دليل على صحة الشعائر
الدينية التي يقوم بها العبد، لأن هذه الأخيرة إذا لم تهذب أخلاق المسلم فهي دليل على
أنها مجرد عادات واجبات يؤديها دون خشوع وفارغة من مضمونها الروحي.
في هذا الإطار، يعتبر
علماء الدين أن جل العبادات التي جاء بها الدين الإسلامي، تحمل في مضمونها مجموعة من
القيم والمبادئ التي يجب على المسلم أن يترجمها إلى سلوكيات ومعاملات في حياته اليومية،
ويتمثل ذلك في :
ففي الصلاة تربية
عملية علي الإلتزام بالأخلاق والسلوكيات الإسلامية: قال تعالي {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)}[العنكبوت].
فمدلول الصلاة ليس
مجرد حركات بدنية من ركوع وسجود، وإنما هي تعويد للنفس على تجنب الفعل والقول القبيح،
إلى جانب التحلي بالصدق ومكارم الأخلاق، لأن المصلي دائما يستحضر مراقبة الله بحكم
أنه في اتصال دائم معه، فضلا عن احترام الوقت، بحكم أن الصلاة فرضت في أوقات محددة،
وتعزيز أواصر الترابط بين أفراد المجتمع، من خلال لقائهم بالمساجد.
ولو نظرنا إلي الزكاة
نجد قول الله تعالي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)}[النور].
تعتبر الزكاة إحدى
فرائض الإسلام التي تربي نفس المسلم على العطاء والإحساس بالفقراء مما يغنيهم عن حاجة
التسول، وبالتالي تعزيز أواصر المحبة والتعاون بين أفراد المجتمع.
وكذلك الصيام قال
تعالي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183)}[البقرة].
وتتجلى الحكمة من
فرض الصيام على المسلمين، في جعلهم يحسون بألم الجوع والعطش الذي يحسه المساكين، وبالتالي
تنمية إحساس العطف والرحمة تجاههم، إلى جانب ذلك فالصيام ليس فقط إمساك عن شهوتي البطن
والفرج، بل كذلك عن الكلام الفاحش والكذب والنميمة وغيرها من الآثام التي ينبغي أن
يصوم عنها الإنسان حتى بعد شهر رمضان، فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): "الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ يَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ
الرَّاعِي الشَّجَرَةَ}[ رواه الْأَصْبَهَانِيُّ].
وقال تعالي عن الحج
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ (197) }[البقرة].
وقال (ﷺ): {من حج فلم يرفث ولم يفسق
رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه }[رواه مسلم] .
وقد أخبرنا النبي
(ﷺ) أن للإيمان شعب كثيرة، كما قال عليه الصلاة والسلام:{الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها
إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} [رواه البخاري، ومسلم، واللفظ له].
ولقد ذكر الله
تعالي من صفات المؤمنين المفلحين أن لهم عبادات ظاهرة وباطنة، قال تعالي { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ
خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ
فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)فَمَنِ ابْتَغَىٰ
وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (11) }[المؤمنون].
من هنا نلاحظ أن الإسلام
دين سلوك ومعاملات، لا تستقيم شعائر المتعبد إلا بحسن أخلاقه وطيب معاملته، بل أن الرسول
جعلها من شروط كمال الإيمان كما جاء في حديثه (ﷺ):"مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا
يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا
أَوْ لِيَصْمُتْ".[مسلم]
ونجد أن النبي (ﷺ) ربط الإيمان بسلوكيات إيجابية كإكرام الضيف والجار
وضبط اللسان وما هذه إلا أمثلة والأحاديث التي تربط الإيمان بأعمال من شأنها أن
تجعل من إيمان الفرد واقعا ملموسا فالقول بغير عمل ادعاء بغير بينة.
يا مسلمًا يدَّعي الإسلام مجانا هلا
أقمتَ على دعواك برهانا
من لم يكن بالنبي والصحب قدوته فهو الذي يقتفي لا شك شيطانا
وهذه التعاليم
العظيمة والقيم السامية في مقدور الناس ، لأن الله تعالي لم يتعبدنا بشئ مستحيل
أو بما ليس في
مقدورنا قال تعالي {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا(286)}[البقرة].
وقال تعالي {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ(16)}[التغابن].
لأن هذا الدين
شرعة الله تعالي الخالق العليم الخبير بشئون عباده قال تعالي {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}[الملك].
العنصر
الثاني : التدين الشكلي :ـ
لقد صارت ظاهرة
التدين الشكلي واضحة في حياتنا ، أصبحنا نهتم ببعض الأشياء من الفرعيات ونترك
الأصول والواجبات ، فمنا من يشغله الشكل والمظهر ، والبعض يهتم بالسنن والنوافل
علي حساب الفرائض ، ومنا من يبالغ في الورع في أداء بعض النوافل والسنن ، ولكن أين
الأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، وصلة الرحم، والأمانة، ونصرة
المظلوم وغيرها من القضايا الهامة في الإسلام .
التدين الشكلي : تدينٌ
مغشوشٌ، فيه يكتفي صاحِبُهُ مِن التدين بـ "الطقوس الشكلية"، مع "إهمال
القيم والأخلاق" التي هي "المقاصد الحقيقية والروح الحقيقية" لشعائر
الإسلام.
[فالشعائر] الإسلامية
ليست مجرد "طقوس"، وإنما هي "وسائلٌ للمقاصد التي تُزَكِّي النفسَ بمنظومة
القيم والأخلاق".
أما الذين يكتفون
من التدين بـ "الطقوس الشكلية"، فإنها "لن تُغْنِيَ عنهم شيئاً"؛
ورُبَّ صائمٍ ليس له مِن صيامه إلا الجوع والعطش، ومَن لم تنهه صلاتُهُ عن الفحشاء
والمنكر لم يَزْدَدْ مِن الله إلا بُعْداً.
العنصر
الثالث :مظاهر التدين الشكلي :ـ
من الناس من يتعامل
مع الخالق في بيته معاملة حسنة، لكن إذا خرج إلى الخلق عاملهم معاملة سيئة.
ومنهم من يتعامل مع
الناس معاملة حسنة، لكنه في غاية السوء في معاملته مع ربه؛ لأنه مضيع، قال تعالي {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
(59)}[مريم].
فهو في العمل جيد،
وفي الدراسة جيد، وفي المعاملة مع الناس جيد، لكن في المعاملة مع الله في صلاة الفجر
والعصر ليس بجيد، ونحن نرى مواسم يتحمس البعض فيها مثل الطاعات في الصيام، والتراويح،
وعمرة رمضان، لكن النفس الطويل في ممارسة العبادة مما ينقص.
وبعض الناس عنده محافظة
على الصف الأول، لكنه لا يخلص في عمله، ولا يكون أميناً في معاملته.
وبعضهم يحج ويتقاضى
رشوة، يصوم فرضاً وتطوعاً وعنده معاملات ربوية، ربما يتدين بحضور بعض مجالس الذكر لكن
هنالك تقصير كبير في قضية العقود مع الخلق، والعهود معهم.
وتجد البعص يتورع
تماما عن الخمر ، لكن في قضية أكل أموال الناس لا يتورع عن ذلك، فالعجب يتورع عن شيء
ولا يتورع عن آخر، الدين جاء بمنع هذا ومنع هذا، فلماذا فرقت بينهما؟
قال ابن القيم رحمه
الله: "ولهذا تجد الرجل يتورع عن القطرة من الخمر، أو من استناده إلى وسادة حرير
لحظة واحدة، ولكنه يطلق لسانه في الغيبة والنميمة في أعراض الخلق، كما يحكى أن رجلاً
خلا بامرأة أجنبية، فلما أراد مواقعتها، قال: يا هذه غطي وجهك، فإن النظر إلى وجه الأجنبية
حرام".[عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين].
قال ابن الجوزي رحمه الله-: فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر
في رمضان عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم عادة غالبة" [صيد الخاطر].
فأين هؤلاء من قوله
تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ
الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ(120)[الأنعام].
فنهى الله عباده عن
اقتراف الإثم الظاهر والباطن، يعني في السر والعلانية، سواء متعلق بالقلب مثل سوء الظن،
أو بالجوارح مثل الاعتداء والبغي.
وكذلك فإن الظاهر،
والباطن، والجوهر، والمخبر متلازمان، وإذا صح هذا صح هذا، ولا بد أن القلب إذا كان
صحيحاً ينعكس ذلك ويظهر على الجوارح، وقد يظهر بعض الناس مجاملة أو مسايرة لمن معه
بمظهر إسلامي، ولكن إذا خلا بمحارم الله انتهكها.
قال رسول الله (ﷺ) {لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون
يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً ، قال
ثوبان يا رسول الله: صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: أما
إنهم إخوانكم ،ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم
الله انتهكوها} [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة].
لا بد أن نعلم أن
الالتزام الظاهري لا يكفي إذا لم يصاحبه سلوك موافق للشرع، لذلك بين النبي (ﷺ) أهمية التكامل بين الظاهر والباطن، وخطورة النقص.
فعن أبي
هريرة رضي الله عنه: {قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها، وصيامها،
وصدقتها" يعني: في النوافل، ليس فقط الفرائض"غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها،
قال: هي في النار ، قيل: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها، وصدقتها، وصلاتها،
يعني: في النوافل؛ لأن الواجبات هذه من المفروغ منها، "وإنها تصدق بالأثوار من
الأقط}.
القطع الكبيرة
من اللبن الجامد المستحجر، وكان مستعملاً في قوتهم ذلك الوقت، "ولا تؤذي جيرانها
بلسانها، قال: هي في الجنة} . [رواه أحمد]، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة].
ـ فمخالفة الظاهر
للباطن، والقول للعمل شأن المنافقين الذين
يخالفون بأعمالهم ثوابت الإسلام مع ادعائهم الانتساب إليه ، وقد نعى القرآن على
الذين يدعون الإسلام ولا يقومون بواجباته:{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ
مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)}[الصف].
وقال تعالي {ألَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا
أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ….(60)}[النساء].
فالمنافقون في زمن
النبوة كانوا يلجؤون إلى التدين المغشوش لمآرب في أنفسهم، وقد أظهرت عوراتـهم الآيات
القرآنية ، فقال تعالى :{إذَا جَاءَكَ الْـمُنَافِقُونَ
قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْـمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ(1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( 2)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ
(3)} [المنافقون]،
ـ ومن التدين الشكلي كما جاء عن عمر رضي الله عنه- أنه قال على المنبر:
"إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم.
قالوا : كيف يكون
المنافق عليماً؟ قال: يتكلم بالحكمة، ويعمل بالجور، أو قال: بالمنكر".
ـ فالتدين الشكلي
هو الذي يقدم المصلحة الدنيوية على المصلحة الأخروية، والمصلحة الشخصية على المصلحة
العامة من غير مبرر شرعي، وهو الذي يصلح ظاهره لأجل الناس ويقبح باطنه، والتدين الشكلي هو التدين الذي يبدو صاحبه قديسًا
أو «ملاكًا» أمام الخلق، ويصبح «إبليسًا» لعينًا أمام الخالق.
ـ وأصحاب التدين الشكلي لا يرون أي غضاضة في التهام أموال غيرهم باسم التدين
والتزهد، وفي الذكر الحكيم ، قال تعالى : {إنَّ كَثِيرًا
مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ(34)} [التوبة].
وصاحب التدين الشكلي
قد يقوم ببناء مسجد أو مدرسة أو مرفق حيوي، ولكن مراده ليس وجه الله تعالى واليوم الآخر،
بل له شأن وأمر آخر، وقد قَصَّ علينا القران الكريم خبر أبي عامر الفاسق وتظاهره بالتدين
الكاذب وقيامه ببناء مسجد للضعفاء وأبناء السبيل، بحسب زعمه، وهدفه الحقيقي هو الكيد
والمكر للدعوة، ففضح الله تعالى أمره، وسمى ما بناه مسجد الضرار، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا
بَيْنَ الْـمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّـمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْـحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107)}
[التوبة]،
ثم قال تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّـمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُطَّهِّرِينَ(108)} [التوبة].
فأصحاب التدين المغشوش
موجودون في كل زمان ومكان، ويطلون رؤوسهم أو يختفون ويتوارون عن الأنظار بحسب مصالحهم،
ويجيدون التلوُّن والتقمصَّ بقوالب مختلفة ومتنوعة، فهم آفة الأمم، وسبب الانتكاسة
والهزائم التي تعاني منها أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة.
فالواجب على كل شخص
أن يتقي الله تعالى وأن يكون هدفه ورأس ماله الحقيقي إخلاص العبادة لله تعالى ،وأن
يكون شعاره ، قول الله تعالى : {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)}
[الكهف].
العنصر
الرابع : التدين الحقيقي:ـ
إن الذين يحسنون
الكلام عن الإسلام كثرة كاثرة من الناس، لكن الذين يطبقونه بقناعة قلة قليلة
والمدار على العمل، فإن التدين الحقيقي يقوم على أساس من الإيمان القلبي، والسلوك العملي،
لما قال: {التقوى هاهنا
وأشار إلى صدره ثلاث مرات} [رواه مسلم].
ولابد من تحويل
المفاهيم النظرية إلى سلوك عملي ملموس. سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق
الرسول (ﷺ) فقالت: {كان خلقه القرآن}[البخاري
ومسلم].
ولقد كان سلوك رسول
الله تطبيقًا علميًّا لمبادئ القرآن وأخلاقيات القرآن، فكان عليه الصلاة والسلام قرآنًا يسير في الحياة، فكان القرآن ممتزجًا بأقواله
وأفعاله وذاته ونفْسه ورُوحه وقلبه، ما خرجه للناس عقيدة وأخلاقًا، وتشريعًا ومعاملات؛
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا
مُنِيرًا(46)}[الأحزاب].
ولقد تمسَّك المسلمون
الأوائل بمبادئ الدين، وطبَّقوه تطبيقًا علميًّا، وحوَّلوا مبادئه إلى سلوك وتصرفات،
فعزُّوا وسادوا وسعِدوا، وخلَّدوا على صفحات التاريخ أعمالاً وأقوالاً، وتصرفات وتضحيات
هي خير شاهد وأعظم برهان على مقدار ما يتركه التمسك بالمبادئ من آثار تُخلد مع الدهر،
وتُحوِّل تيار الحياة إلى ما هو خير وأفضل؛ قال تعالى:{أُولَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (4)}[الأنفال].
ويقول جل شأنه {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ
(90)}[الأنعام].
العنصر
الخامس : مقياس التدين الحقيقي :ـ
جاء عن خرشة بن
الحر قال: "شهد رجل عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بشهادة، فقال له: لست
أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، ائت بمن يعرفك؟"
واحد شاهد عند
عمر بشهادة، عمر قال: كيف أقبل شهادتك وأنا لا أعرفك، وما يضرك أن لا أعرفك، أنت
ممكن تكون من الأتقياء، ممكن تكون من الزهاد، من العباد، لكن حتى أقبل شهادتك هات
من يعرفك، ويعرفك: يزكيك.
"فقال رجل
من القوم" أنا أعرفه.
قال عمر: بأي شيء
تعرفه؟
قال: بالعدالة
والفضل" كلام عام.
قال: فهو جارك
الأدنى؟ القريب المجاور، الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه.
قال: لا.
قال: فمعاملك
بالدينار والدرهم، اللذين بهما يستدل على الورع؟
قال:لا.
قال: فرفيقك في
السفر، الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟
قال:لا.
لا شاركته
وعاملته، ولا سافرت معه ولازمته، ولا جاورته ورأيته وراقبته، كيف تعرفه؟
قال عمر: لست
تعرفه، ثم قال: ائت بمن يعرفك" والقصة رواها البيهقي [السنن الكبرى]، وصححه
الألباني في الإرواء .
العنصر
السادس : صور مشرقة من حياة التابعين :ـ
الأمثلة على تطبيقِ
المبادئ وتحويلها إلى سلوكٍ لدى المسلمين الأوائل أكثر من أن تُحصى، منها
ـ الإمام
علي زين العابدين رضي الله عنه :ـ
كان لا يعلم أحدًا
من أصحابه عليه دَين إلا تَحمَّل عنه الدين، ذهب لزيارة محمد بن أسامة بن زيد، وهو
مريض مرَض الموت، فبكى محمد، ولما علِم أن سبب بكائه وجود دَين عليه مقداره خمسة عشر
ألف دينار قام فأدَّى الدَّين عنه، وكان يحمِل إلى المحتاجين بالمدينة حاجاتهم ليلاً
يضعها أمام منازلهم وهم لا يعرفونه، فلما مات انقطعتْ أعطياتهم، فعلِموا أنه هو الذي
كان يُعطيهم، وعندما غُسِّل وجدوا أثر حملِ الجراب في كتفيه وظهره، وصدَق قول رسول
الله (ﷺ):{أيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع
أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم كسا مسلمًا على عري كساه الله من خضر الجنة،
وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة}
ـ التجار
المسلمين نشروا الإسلام في بلاد إفريقيا :ـ
معلوم أن الإسلام
انتشر في أواسط أفريقيا وغيرها من البلدان بالأخلاق الحسنة والمعاملات المنضبطة
التي بهرت الناس، فدخلوا في دين الله أفواجا،
لقد كان التجَّارُ
دُعاةً لِدِينهم بالفطرة، وكان هؤلاء التجَّارُ المشعلَ الذي أضاء طريقَ الدَّعوةِ
للإسلام، فانتشَر مِن صدُورهم في أرجاء الكون؛ حيث كانوا نماذِجَ مُثْلَى يُحتذَى بها
في جميع الأعمال الفاضلة.
وكان مِن أهمِّ السِّمات
التي تحلَّى بها التجاَّرُ المسلمون، التواضعُ؛ حيث نجد أنَّ المعامَلةَ المبنيَّةَ
على التودُّدِ والتواضعِ والإحسان، ركيزةُ الدَّعوة الإسلاميَّة، يقول باذل دافدسن:
(لعلَّ مِن محامد العربِ المسلمين في موضوع الرِّقِّ، أنَّ العلائق بينهم وبين رقيقهم
كانت إنسانيَّةً لحدٍّ بعيد).
وهناك مِن الصفات
التي امتاز بها هؤلاء التجَّارُ حينذاكَ الكثيرُ، كالصِّدق والصبر، والخلُق الرفيع،
والسلوك النَّزيه والأمانة، وقد كان لهذه الصفاتِ الأثرُ الحيويُّ في كسب الاحترام
والثقة.
ومن هنا، انطلقتْ
دعوةُ الإسلام في آفاق الدنيا، وانتشرت انتشارًا منقطِعَ النظير، شهدَ بذلك العدوُّ
قبل الصديق، والبعيدُ قبل القريب، والغائب قبل الشاهد.
ومما
نسب لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه {عمل
رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل لرجل }.
وقد جاء الغرب
ليرد الناس عن دينهم مستندا إلى سوء التطبيق الذي وقع فيه كثير من المسلمين ورفعوا
شعار: (سنغزوا بلاد المسلمين بما غزانا به المسلمون الأوائل) أي بالسلوك والمعاملة
الحسنة المنضبطة وقد دخلوا علينا من باب السلوك فانبهر بهم كثير من الناس.
وبالجملة: لابد
أن تتفق سلوكيات المسلمين في الشارع والمصنع والمتجر وفي المحاكم والمعاملات
والمداينات وفي كل المجالات مع تعاليم دينهم وليعلم الناس ما يشاءون فالأجر على
قدر العمل لا العلم النظري!
ـ عمر ابن
عبدالعزيز وفتح مدينة سمرقند:ـ
في خلافة أمير المؤمنين
عمر بن عبد العزيز رحمه الله ،كان قتيبة بن مسلم الباهلي رحمه الله يفتح المدن والقرى
ينشر دين الله في الأرض , وفتح الله على يديه مدينة سمرقند .
افتتحها بدون أن يدعوَ
أهلها للإسلام أو الجزية, ثم يمهلهم ثلاثاً كعادة المسلمين , ثم يبدأ القتال .
فلما علم أهل سمرقند
بأن هذا الأمر مخالف للإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت وهو
عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله , أرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند يقول هذا الرسول:-
(أخذت أتنقّل من بلد إلى بلد أشهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة فلما وصلت أخذت
أتنقل في أحيائها وأُحدِّث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان , فأخذت على نفسي إن نطقت
باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً فلما رأيت أعظم بناءٍ في المدينة , دخلت إليه وإذا أناس
يدخلون ويخرجون ويركعون ويسجدون , وإذا بحلقات هذا البناء , فقلت لأحدهم أهذه دار الوالي؟
قال: لا , بل هذا
هو المسجد.
قال: صليت؟ قال: قلت:
وما صليت؟ , قال: وما دينك؟
قال: على دين أهل
سمرقند , فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته وشهدت بالشهادتين ,ثم قلت له: أنا رجل
غريب أريد السلطان دلّني عليه يرحمك الله؟
قال أتعني أمير المؤمنين؟
قلت: نعم .
قال: اسلك ذلك الطريق
حتى تصل إلى تلك الدار وأشار إلى دار من طين .
فقلت: أتهزأ بي؟
قال: لا ولكن اسلك
هذا الطريق فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده , قال: فذهبت واقتربت وإذا برجل يأخذ
طيناً ويسدّ به ثُلمة في الدار وامرأة تناوله الطين , قال: فرجعت إلى الذي دلّني وقلت:
أسألك عن دار أمير المؤمنين وتدلّني على طيّان! فقال: هو ذاك أمير المؤمنين .
قال: فطرقت الباب
وذهبت المرأة وخرج الرجل فسلّم علي ورحّب بي وغسّل يديه, وقال: ما تريد؟ قلت: هذه رسالة
من كهنة سمرقند فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها, ( من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى
عامله في سمرقند أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا ) , ثم ختمها وناولنيها.
فانطلقت أقول: فلولا
أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات
في إخراج هذه الجيوش العرمرم وذلك القائد الذي دوّخ شرق الأرض برمتها .
قال: وعدت بفضل الله
مسلماً كلما دخلت بلداً صليت بمسجده وأكرمني أهله , فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة
الرسالة أظلمت عليهم الأرض وضاقت عليهم بما رحبت ، ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند
فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم ,ثم اجتمعوا في يوم وسألناه
دعوانا فقلنا اجتاحنا قتيبة, ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا لننظر في أمرنا فقال القاضي:
لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة رحمه الله:أنت ما تقول؟
قال: لقد كانت أرضهم
خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه .
قال القاضي: لقد خرجنا
مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً , ثم قضى القاضي بإخراج
المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية .
ما ظنّ أهل سمرقند
أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض
سمرقند , خرج الجيش كله ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال .
فلما رأى أهل سمرقند
ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها , قالوا:
هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة , فدخل أغلبهم في دين الله وفُرضت الجزية على الباقين.
هكذا كانت أخلاق الإسلام
رحمة ونعمة علي الدنيا كلها
ـ يونس
بن عبيد الله رحمه الله تعالي :ـ
لم يكن يونس بن عبيد
من أولئك الذين يحسنون الكلام ولا يجيدون الفعل، بل كان فعله يصدّق قوله. ها نحن نجده
يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا، فيقول عن نفسه: «إنه ليشتد عليّ أن أصيب الدرهم الواحد من
حلال»، فهو يشتبه في أموال على الرغم من المنهج الصارم الذي اتبعه في معاملاته التجارية.
يكشف لنا يونس بن
عبيد موقفه مما ساد بين التجار بما عرف بقانون العرض والطلب والذين يجيزون به مضاعفة
الربح في البيع والشراء بدعوى أن القضية قضية عرض وطلب، فيروى أنه كان عند يونس بن
عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان،
فمر إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه
من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس
فعرف حلته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال بأربعمائة، فقال: لا تساوي أكثر من مائتين
فارجع حتى تردها، فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها، فقال له يونس: انصرف
فإن النصح في الدين خير من الدنيا بما فيها، ثم رده إلى الدكان ورد عليه مائتي درهم،
وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييت، أما اتقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك
النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راض بها، قال: فهلا رضيت له بما ترضاه
لنفسك.
فهذا الموقف من يونس
بن عبيد يبرز لنا أن للعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد أخرى غير أبعاد الربح والخسارة،
ولها قوانين أخرى غير قانون العرض والطلب، فللعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد دينية
واجتماعية، فأما الدينية فمتمثلة في نصح المسلمين وعدم غشهم أو خداعهم، ويذهب البعد
الاجتماعي أكثر من هذا فيجعل المسلم لا يبيع شيئًا لأخيه أو يعقد صفقة إلا إذا كان
يرضاها لنفسه، فإن رضيها لنفسه أتمها، وبارك الله له فيها.
ـ من
أقوال السلف في التدين الحقيقي:ـ
كان السلف ينهون
عن إقامة اللفظ وترك العمل، كما قال الحسن رحمه الله: "أنزل القرآن ليعمل به،
فاتخذ الناس تلاوته عملاً"، يعني: اقتصروا على ذلك، وتركوا العمل بمعانيه [تلبيس
إبليس].
وعن مالك بن
دينار قال: "تلقى الرجل وما يلحن حرفاً، وعمله كله لحن" [حلية الأولياء
وطبقات الأصفياء].
وعن معاوية بن
قرة قال: "بكاء العمل أحب إلي من بكاء العين" [سير أعلام النبلاء].
وقال مالك بن
دينار أيضاً : "إني آمركم بأشياء لا يبلغها عملي، أنا قد أحثكم على أمور،
وأنا لا أقوم بها، ولكن إذا نهيتكم عن شيء ثم خالفتكم إليه فأنا يومئذ كذاب"
[حلية الأولياء].
فالتدين العملي سلوك،
تعبد، خلق، أدب، ممارسة أعمال.
يا باغيًا سنـن الهـدى *** اسلك سبيل الراشدين
يا قافيًا سـبل الـردى *** قف عن دروب الزائغين
يـا أولـيـاء الأمـر *** والأمر الخطير سيستبين
اهـدوا الشباب لقدوة *** في ظلهـا الهدي المبين
وقفـوهمُ للصـالحين *** السـالكين المهتديـن
العنصر
السابع : أثر التدين الحقيقي في حياة الناس:ـ
فالتدين الحقيقي:
هو أن يظهر أثر الدين في حياة الناس وفي علاقاتهم وفي سلوكياتهم.
والتدين الصحيح
ينعكس في علاقة المسلم بربه وفي علاقته بالناس ابتداء بأسرته، وبجيرانه ، وبمجتمعه
، وبأمته بالإنسانية جمعاء ، بل بغير الإنسان ، بالحيوان ، وبالكون، وبالبيئة
والتدين .. يظهر
في علاقة الإنسان المؤمن العابد المخلص لربه المحب له الراضي عنه الراجي لرحمته الخائف
من عذابه ، كما قال تعالى :{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ
آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ
رَبِّهِ(9)}[الزمر].
والمسلم المتدين يعيش في حياته متوازنا بين الرجاء
والخوف ،وهو في علاقته بالناس مؤدي للحقوق، والناس يعيشون في خيره ،ويسلمون من شره
،كما عرف النبي صلى الله عليه وسلم المسلم.. ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو رضى الله عنهما عَنِ النَّبِىِّ
(ﷺ) قَالَ:
«
الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ
مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ »
وفي سنن الترمذي« الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ
وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
».
فالمسلم المتدين
هو مصدر سلام لمن حوله ، والناس يأمنونه ولذلك يقول النبي (ﷺ):{وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا يُسْلِمُ
عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ ، وَلاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ ، قَالُوا : وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ : غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ }[رواه
البزار].
أيها المسلمون
احذروا التدين
المغشوش ، والزموا أنفسكم التدين الحق ، قال تعالى :{قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(32)}[آل
عمران]
وقال صلى الله
عليه وسلم « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ
فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ
وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ » رواه البيهقي .
الخاتمة ...
على كل فرد مسلم أن
يقدم النموذج الإسلامي في حياته العامة فيكون سفيرا لهذا الدين في الموقع الذي يعمل
فيه تاجرا كان أو صانعا، رئيسا أو مرءوسا رجلا أو امرأة … وفي كل مناحي الحياة، ولا
يخفى أن غياب النموذج العملي للإسلام أحدث خللا كبيرا بين التصور والواقع، وفجوة كبيرة
بين النظرية والتطبيق، وهذه الفجوة ليست موجودة في الإسلام أصلا، وإن وجدت في غيره
من النِّحَل والاتجاهات، وللأسف صارت سلوكيات المسلمين مصدات للناس عن الدخول في هذا
الدين، ولذلك كان من دعاء الصالحين {…. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85)}[يونس].
دخل بعض الباحثين
المعاصرين في الإسلام بعدما اطلع على مبادئه السمحة الشاملة، فلما رأى تصرفات المسلمين
هاله ذلك، ثم قال قولته الشهيرة: ( الحمد لله الذي عرفني الإسلام قبل أن أعرف المسلمين
).
ومن تمسك بالدين بشعبه
الظاهرة والباطنة، قولا وعملا وسلوكا فهو المتدين الحقيقي، هذا الملتزم المستقيم.
وإذا بحثت عن التقي وجدته *** رجلاً يصدق قوله بفعالي
فاللهم اهدِنا لأحسنِ
الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلَّا أنتَ، واصرف عنِّا سيِّئَها، لا يصرفُ عنِّي سيِّئَها
إلَّا أنتَ.
اللَّهُمَّ إنِّا
أعوذُ بك مِن منكَراتِ الأخلاق والأعمالِ والأهواءِ.
===========
رابط doc
رابط pdf