الجمعة، 22 ديسمبر 2023

أمانة المسئولية في الإسلام

 


الحمد لله رب العالمين .. خلق الكون بأمانة شديدة ووضع كل شيء في موضعه بنظام دقيق واستأمن الإنسان علي هذا الكون وحمله الأمانة العظمي بعدما عرضها علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها  وحمله الإنسان ،فقال تعالي {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. جعل الأمانة من أخلاقه العظيمة فهو القائل {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}[يوسف] .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ).. وضع كل شيء في موضعه المناسب  واعتبر ذلك من الأمانات التي يُسأل عليها العبد يوم القيامة والأمانة..فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:{بينما النبي (ﷺ) في مجلس يحدث القوم جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله}.[رواه البخاري]
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...
أما بعد فيا أيها المؤمنون
إن الأمانة في الإسلام مفهوم واسع شامل يتجاوز المعنى الضيق والمحدود المتعارف بين الناس لكلمة الأمانة.
فالأمانة هي المسئولية بين يدي الله عن كل ما كسبت يد الإنسان وما يتحمله من أعباء ثقال. ولأجل ذلك ورد في القرآن الكريم الأمر بأداء الأمانات في صيغة الجمع وذلك في قوله تعالي{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}.[النساء].
ومن الأمانات المسئول عنها [أمانة المسئولية في الإسلام] والحديث عنها من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ مفهوم المسئولية في الإسلام . 
2ـ عظم المسئولية في الإسلام .
3ـ الأسس التي تقوم عليها أمانة المسئولية في الإسلام .
4ـ خطورة التفريط في أمانة المسئولية في الإسلام .
5 ـ كيفية اكتساب أمانة المسئولية.
===================
العنصر الأول : مفهوم المسئولية في الإسلام:ـ  
المسئولية في الإسلام تعني أن المسلم المكلف مسئول عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه، أو قدرة على التصرف فيه بأي وجه من الوجوه، سواء أكانت مسئولية شخصية فردية، أم مسئولية متعددة جماعية ، فإن أَحسن تَحقق له الثواب، وإن أساء باء بالعقاب.
العنصر الثاني : عظم المسئولية في الإسلام :
لابد أن يعلم كل إنسان أوكله الله أمر من أمور المسلمين  أن الله تعالي وضع في عنقه أمانة ومسئولية فهي ليست تشريف ولا وجاهة وإنما مسئولية وتكليف.
بمعنى أن كل من تم توظيفه في عمل عام فهو المعني بهذا الكلام : يقول المولي سبحانه وتعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)} [النساء] .
وقال تعالي {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ (24)}‏ [الصافات].
وقال تعالي{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}[الحجر].
كما يصف جل جلاله المؤمنين فيقول تعالي {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} [المؤمنون].
أي أن الوظيفة العامة وديعه في يد شاغلها يُسأل عنها أمام الأمة التي تضعها في يده ويُسأل عنها أمام الله عز وجل.
يؤكد هذا المعنى ويؤيده ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة.
فلقد طلب الصحابي الزاهد الجليل أبو ذو الغفاري رضي الله عنه من الرسول الكريم (ﷺ) أن يقلده إحدى الوظائف ، فعن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ألا تستعملني قال فضرب بيده على منكبي ثم قال يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها}[رواه مسلم]
وكما ورد في الحديث الشريف فيما رواه أبو هريرة رضى الله عنه أن النبي (ﷺ) قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة, قيل يا رسول الله وما إضاعتها قال : إذا اسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة }[رواه البخاري].
ولقد حذرنا النبي (ﷺ) من الحرص عليها فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: «يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها». [رواه البخاري]
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي (ﷺ) أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي (ﷺ) {إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه}[متفق عليه].
العنصر الثالث : الأسس التي تقوم عليها أمانة المسئولية في الإسلام:ــ
إن أمانة المسئولية في الإسلام تقوم علي أسس ومبادئ لا بد منها وإذا فرط الإنسان فيها يكون خائنا للأمانة وتتمثل تلك المبادئ بالنقاط التالية: ـ
1ـ  القوة والأمانة :ـ 
يقول الله تعالى "ان خير من استأجرت القوي الأمين" ولذلك لا يجوز في منهج الإسلام أن يتولى الوظائف وخاصة العامة في الدولة إلا القوي الأمين ومرد القوة إلى القدرة على أداء ما يتولاه من عمل وهي تقدر في كل أمر بحسبه فمثلاً:
- القوة في قيادة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بأساليب المعارك وإلى المخادعة لذلك يقول الرسول الكريم (ﷺ) "الحرب خدعة" وكذلك القدرة على القتال والخبرة بمعداته وأدواته وفي هذا يقول الله عز وجل :{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ .... (60)}[الأنفال]
- أما القوة في الحكم فترجع إلى الفقه في الشرائع وأساليب التقاضي والعدل الذي أمر الله به وإلى القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة والقدرة على تنفيذ الأحكام على القوي قبل الضعيف.
- أما بخصوص الأمانة فمردها إلى عدم التفريط في شؤون ما ولى عليه القائد ومخافة الله وخشيته والخضوع لشريعته وفي هذا يقول الله عز وجل: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}[المائدة].
ولقد اعتبر الرسول (ﷺ) أن عملية اختيار العاملين وخصوصاً القادة أمانة لا بد من أدائها بالشكل السليم ومن لم يلتزم بذلك فقد خان الله ورسوله وفي هذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}[الأنفال].
2ـ الحفظ والعلم :
ولهذا اختار الله تعالي طالوت عليه السلام لتميزه بصفتي العلم والقوة ، قال تعالي {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة].
فبعلمه وقوته استطاع بفضل الله تعال أن يقود الأمة إلي النجاة والنصر علي الأعداء والقضاء علي المفسدين في الأرض قال تعالي {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ (251)} [البقرة]. 
وهذا نبي الله يوسف عليه السلام  ،لقد أخبَرَنا القرآن أنَّ يوسف عليه السَّلام أنَّه كان أمينًا على مال العزيز وعِرْضِه، واشتهر بينهم بالعلم والعفة والأمانة والخبرة  فرَشَّحه الملك لِيَكون من خاصته المُقرَّبين، قال سبحانه وتعالى في ذلك:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}[يوسف].
أي: ائْتُوني به أجعَلْه خالصًا ليِّنًا، وموضِعَ ثقتي ومشورتي، ولَمَّا كلَّمه ووقَفَ على رَجَاحة عقله وحسن تَصرُّفه، قال له: إنَّك اليوم عندنا ذو مَكَانة سامية، ومَنْزلة رفيعة، وأمانة تامَّة.
ولما سمِع يوسف عليه السَّلام هذا، رشَّح نفسَه للولاية، فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}[يوسف].
لا تتعجَّبْ من طلب يوسف عليه السَّلام  للولاية؛ فقد قدَّم مسوِّغات الترشيح: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾.
أنا شديد المُحافَظة على الأموال العامَّة، فلن أُبدِّدها ولن أختَلِسَها، ولا أُعطيها لمن لا يستحِقُّها، ولن أهمل فيها، عليمٌ بشؤون هذه الأموال وبإدارتها، وعليمٌ بالسِّياسة الماليَّة والاقتصادية، وأنا واثقٌ من ذلك، وأعلم أنَّ في هذا صلاحَ الأمة، وخروجها من المِحْنة.
فانظروا أيها المؤمنون ....كيف أنقذ الله على يديه مصر وما حولها من أزمة غذائية طاحنة، ألهم الله يوسف فخطط لها أحسن التخطيط لمدة خمسة عشر عاما، أقام فيها اقتصاد مصر وكان الزراعة أساسه ومحوره على زيادة الإنتاج، وتقليل الاستهلاك، وتنظيم الادخار، وإعادة الاستثمار، حتى نجت مصر من المجاعة، وخرجت من الأزمة معافاة، بل كان لها فضل على ما حولها من البلدان، التي لجأ إليها أهلها يلتمسوا عندها الميرة والمئونة، كما يبدو ذلك في قصة أخوة يوسف الذين ترددوا على مصر مرة بعد مرة، وقالوا له في المرة الأخيرة: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)}[يوسف].
3ـ العدل والمساواة:ـ
لو أردنا الحديث عن العدل بالمفهوم الشامل الذي يعامل البشر جميعاً دون النظر إلى ديانتهم أو لونهم أو جنسيتهم فلن نجده إلا في الإسلام من خلال قياداتهم المتتالية والذي فقدته البشرية مع زوال القيادة الإسلامية.
ولقد أوضح لنا الله عز وجل ذلك من خلال الدستور العظيم القرآن الكريم في قوله تعالى{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء].
ويأمر الله سبحانه وتعالى الحاكم والمحكوم بالالتزام بالعدل ولو كان ذلك على أقرب الناس إليه، فيقول سبحانه وتعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُوا ۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }[النساء].
وكلنا يعلم قول الرسول (ﷺ):{لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ويقول الله تعالى "..... ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى" .
ولقد أهتم الإسلام بالقائد العادل وجعله أحب الخلق إلى الله، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):{إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ عَادِلٌ ، وَأَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ }[رواه الترمذي] .
وكما نعلم أن القائد العادل مع السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسُولُ اللَّه (ﷺ) {سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا في اللَّه: اجتَمَعا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ، وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّه، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاها، حتَّى لا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّه خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ }[متفقٌ عَلَيْهِ]
ومن هذا يتضح لنا مدى أهمية هذا المبدأ والأساس الذي اعتمدت عليه أنه المسئولية في الإسلام والتي بسببه دانت الأرض لقادة الإسلام يوم أن كانوا يحكمون معتمدين على هذا الأساس في التعامل مع الرعية.
4ـ الرفق والرحمة :ـ
من الطبيعي أن الإنسان دائماً بحاجة إلى رعاية وبشاشة سمحة وقلب كبير يعطيه ولا ينتظر الرد ويحمل همومه ويجد الرعاية والاهتمام والعطف، ومن هنا كانت القيادة الإدارية في الإسلام قد تنبهت إلى هذه الأمور فكانت تسهر ولا تنام ويبذل قصارى جهدها في راحة الرعية ومن هنا خاطب الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم بقوله تعالي {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}[آل عمران]
فهكذا كان الرسول (ﷺ) ومن بعده كافة القادة .
فها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما سمع العجوز وابنها وهي تقول لقد كان أبو بكر يحلب لنا شاتنا وقد تولى أمر الخلافة فمن يحلب لنا من بعده؟ وكان على مقربة فسمع كلامهما فأقترب منهما وقال أنا أحلب لكما شاتكما حتى يتوفاني الله.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سمع بكاء صبية صغار لا يجدون عشاء فهرول إلى بيت المال هو وخادمه وحمل على ظهره الدقيق والسمن وقام بطبخ الطعام لهما. وكان الخليفة عمر رضي الله عنه يخاطب الرعية ويبصرهم بحقوقهم قبل أن يطلب منهم واجباتهم .
ولقد كان الرسول الكريم (ﷺ) يحث القادة على التفاني في خدمة الرعية وهذا واضح من خلال الحديث الشريف "إن لله عباداً اختصهم الله بقضاء حوائج الناس حببهم إلى الخير وحبب الخير غليهم إنهم الآمنون من عذاب يوم القيامة" .
ويقول (ﷺ) أيضاً "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله" [البخاري].
ويطالب الرسول الكريم (ﷺ) من قادته بما لا يحلو من كثرة طلب الرعية (المرؤوسين) حيث قال "حاجة الناس إليكم من نعم الله، فلا تملوا النعم"
ولذلك طالب الإسلام القادة والرؤساء استخدام الكلمة الطيبة مع المرؤوسين لما لها من أثر في نفوس المرؤوسين.
فعن أبي يعلى معقلِ بن يسارٍ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ) يقولُ :{ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيتةً ، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة}[متفق عليه].
وفي رواية : ( فلم يحُطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) .
وفي رواية لمسلم:{ما من أمير يلي أمور المسلمين ، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة}.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول في بيتي هذا : {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفُق به}[رواه مسلم].
5ـ تقديم ذوي الكفاءة:ـ
والكفاءة كما ورد في لســان العرب  للعلامة ابن منظور: " كافــأه على الشيء مكافأة وكفاء : جازاه.
والكفء: النظير والمساواة، ومنه :ـ
الكفاءة في النّكاح، وهو أن يكون الزّوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك.
والكفاءة للعمل: القدرة عليه وحسن التصرف فيه.  
إن من الأمانات إعطاء القيادة للأصلح وإلى من يستحقها وهو ما يعبر عنه بـ " وضع الرجل المناسب في المكان المناسب".
 وكان النبي الكريم (ﷺ) لا يسند الوظائف الإدارية، على اختلاف مستوياتها وتخصصاتها، إلا لمن تثبت قدراتهم الإدارية، وملكاتهم الذهنية وخبراتهم المكتسبة، وصفاتهم الأخلاقية حتى يتسنى لهم النهوض بما يناط بهم من الأعمال.
وكان ينهى عن إسناد هذه المناصب إلى من يشك في قدرتهم من الرجال، ويروي أن رجلا سأله، متى تقوم الساعة فقال له"إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر لغير أهله، فانتظر الساعة".
كما نهى (ﷺ) عن اتخاذ العواطف والروابط الشخصية، معياراً للاستحقاق في شغل المناصب ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: قال رسول الله (ﷺ) :{من استعمل رجلا من عصابة أي اختار رجلا لعمل عام أو شارك في اختياره وفيهم من هو أرضي لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين} [الجامع الصغير].
وطلب أبو ذر الغفاري من الرسول (ﷺ) يوما أن يعينه واليا على إحدى الولايات، فوجده الرسول (ﷺ) غير مستوف للشروط الخاصة بهذه الولاية أو أن هناك من هو أحق منه بها فأبى عليه ذلك. وقال له: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"[رواه مسلم].
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه  في معيار الاختيار لشغل المناصب، أو للترقي إلى المناصب الأعلى: "الرجل وقِدَمُه، والرجل وبلاؤه"؛ كما يقول علي رضي الله عنه "قيمة كل امرئ ما يحسن".
ولذلك حذرنا رسول الله (ﷺ) من ذلك حين قال :{من ولى من أمر المسلمين شيئاً فولى عليهم رجلاً وهو يجد منهم من هو أصلح منه فقد خان الله رسوله وجماعة المؤمنين}[رواه الحاكم]. ورُوِي عن أبي بكر أنه قال لواليه يَزِيد بن أبي سفيان، وهو يرسله إلى الشَّام: "يا يَزِيد، إنَّ لك قرابةً عسيتَ أن تؤْثِرَهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك، بعدما قال رسول الله (ﷺ):{من وَلِي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله، لا يَقْبَل الله منه صرفًا ولا عدلاً، حتى يدخله جهنم}[رواه الحاكم].
وقال رسول الله (ﷺ):{من استعمل رجلاً على عصابة جماعة وفيهم مَن هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين}[رواه الحاكم].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين" .
وهنا أراد الرسول (ﷺ) توضيح مدى أهمية الاختيار حسب الكفاءة والجدارة وبين أن هذه الأمانة لا بد من تأديتها وإلا فلن يدخل الجنة. 
ولقد كان الرسول (ﷺ) يقوم بعملية اختيار لمن يريد أن يوليه إحدى الوظائف ليتأكد من مدى صلاحيته للعمل ، وهذا واضح عندما أراد أن يولي رسول الله (ﷺ) معاذ بن جبل على اليمن فسأله: بم تقضي؟ فأجاب: بكتاب الله فسأله: فإن لم تجد؟ فأجاب: بسنة رسول الله، فسأله: فإن لم تجد؟ فأجاب: أجتهد برأي ولا آلو فضرب الرسول صدر معاذ وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي الله ورسوله}[رواه أبوداود].
ومن بعد الرسول (ﷺ) سار الخلفاء الراشدون على دربه فكانوا لا يولون إلا الاكفأ ومن يرونه الأصلح، ولكن إذا لم تتوافر تلك الصفتين في شخص واحد بمعنى توفرت صفة واحدة ففي هذه الحالة يجب أن يحسم الموقف لما فيه مصلحة ، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان احدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم انفعهما لتلك الولاية وأقلهما ضرراً فيها، فيقدم في إمارة الحرب الرجل القوي والشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً. وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ (ﷺ) أَنَّهُ قَالَ : {إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ }[مسند أحمد بن حنبل].
أما إذا كانت الولاية تتطلب الأمانة فهنا يقدم الأمين عن القوي مثل حفظ الأموال.
وفي هذا توضيح واضح أنه لا بد من اختيار الأصلح للوظيفة حسب ما تتطلبه هذه الوظيفة من مؤهلات معينة.
فعلي سبيل المثال اختيار النبي (ﷺ) لمعاذ رضي الله عنه، لأن له صفات تؤهله لأن يكون داعية، فلو جاء أعرابي إلى النبي (ﷺ) من أعراب بني تميم، وأسلم في ذلك اليوم، فإن النبي (ﷺ) لن يقول له: اذهب إلى اليمن وادع الناس، لأن هذا المدعو يحتاج أولاً إلى أن يتعلم ويتفقه.
وأيضاً: لم يختر النبي (ﷺ) مثلاً: خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص، أو غيرهم من قواد الجيوش، الذين دكوا حصون الضلال والكفر والإلحاد، لإرساله للدعوة إلى الله في اليمن؛ لأن المسألة ليست مسألة جهاد أو سيف إنما هي مسألة علم وفقه بالدين, ومعرفة الحلال والحرام، فلا شك أن يختار النبي (ﷺ) معاذاً رضي الله عنه، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً في اليمن، كما نفع به في الشام بعد عودته، وفيها توفي رضي الله عنه.
وقد قال له الرسول (ﷺ):{يا معاذ! إني أحبك} وهذه الدنيا وأي إنسان كائناً من كان، لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى قول خليل الرحمن وحبيبه ومصطفاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا معاذ! إني أحبك}.
فهذه الكلمة أكبر وسام، وأعظم شرف، حيث يكفي أن يحبه رسول الله (ﷺ) ، والمرء مع من أحب، وهذه تزكية من النبي (ﷺ) ، وإرساله إلى اليمن تزكية أخرى، ثم أوصاه (ﷺ).
العنصر الرابع : خطورة التفريط في أمانة المسئولية في الإسلام:ـ
إن الشعور بالمسئولية هو طريق النجاح والفلاح ، والارتقاء حيال أية خطوةٍ أو مهمةٍ يقوم بها الانسان في كافة مجالات الحياة .
ومن غير الشعور بالمسئولية تتعطل الأعمال ، وتفشل الخطوات ، ويتراجع العطاء والانتاج .
والمعنى أن المسئولية تنطلق في الدين الإسلامي من منطلقٍ شرعيٍ يقول فيه الحق سبحانه :{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)}[المدثر].
فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي (ﷺ) قال:{أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ}[متفق عليه].
، ويقول (ﷺ): " فأعط كل ذي حقٍ حقه " [رواه البخاري].
إن الأُمَّة لا تَحْيَا الحياة الكريمة إلاَّ  بأداء الأمانة المحملة بها والمسئولية الملقاة علي عاتقها ولن تسعد إلا بتقديم  الكفاءات  في كل مجالات الحياة ، فعلى الأمَّة أن تتَّقي الله، وأن تقول القول السديد؛ قال سبحانه وتعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}[الأحزاب].
على ألاَّ يتأثَّر هذا الاختيار بعواملِ الهَوى، أو المُجامَلة؛ لقرابة، أو صداقة، أو عصبيَّة؛ وإذا فعَلْنا ذلك أصلحَ الله أعمالَنا، وغفر لنا ذنوبَنا؛ فالله قد أمر ووعَد:
﴿ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾، هذا هو الأمر، والوعد:{ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (71)} [الأحزاب].
وإذا ما انحرَفْنا في أقوالنا ولَم نستَقِم، انحدرَتْ بنا الأُمَّة إلى الهاوية، وانقلبتْ من خير أمَّة أُخْرِجتْ للناس إلى شَرِّ أمة في الأرض.
العنصر الخامس : كيفية اكتساب أمانة المسئولية:
 1- تذكر المسئولية والموقف أمام الله يوم القيامة. 
والمسئولية التي تدعو إلى رعاية الحقوق ٬ وتعصم عن الدنايا ٬ لا تكون بهذه المثابة إلا إذا استقرت في وجدان المرء ٬ ورست في أعماقه ٬ وهيمنت على الداني والقاص من مشاعره؟. وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه :عن رسول الله (ﷺ):{إن الأمانة نزلت فى جذر قُلُوب الرجال ٬ ثم نزل القرآن ٬ فعلموا من القرآن وعلموا من السنة}[رواه البخاري ومسلم ].
والعلم بالشريعة لا يغنى عن العمل بها ٬ والمسئولية ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة.
 فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة ٬فما يغنى عن المرء ترديد للآيات ٬ ولا دراسة للسنن ٬ وأدعياء الإسلام يزعمون للناس  وقد يزعمون لأنفسهم  أنهم أمناء. ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق.
ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه ٬ لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين ٬ فيروى عن الرسول(ﷺ): { ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينامُ الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت  هو الأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة  ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه ٬ فيظل أثرها مثل أثر المجل  كالثبور التي تظهر في اليد مثلا في استخدام الأدوات الخشنة  ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون ٬ لا يكاد أحد يؤدى الأمانة ؛ حتى يُقال : إن في بنى فلان رجلا أمينا ٬ وحتى يُقال للرجل : ما أجلده. ما أظرفه. ما أعقله. وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان }[رواه البخاري ومسلم ].
والحديث يصور انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرا محرجا فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة ٬ تمر بها وليست منها ٬ وقد تترك من مرها أثرا لاذعا.
بيد أنها لا تحيى ضميرا مات ٬وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته ٬ غير مكترث بكفر أو إيمان!؟   2- التعود والتنشئة وتعظيم مكانتها في نفس المسلم منذ الصغر.
3- السعي لحسن الذكر في الدنيا, وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة ومنها الأمانة.
4- تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.

5- الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع المسئولية.

 

=====================================

 رابط doc

https://www.raed.net/file?id=549418 

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=549419

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2023

نداء الله للمؤمنين في آيات النصروالتمكين

 

 

الحمد لله رب العالمين .. كتب النصر والتمكين لعباده المؤمنين ، وجعله مشروطاً بشروط حددها سبحانه وتعالى، فقال تعالى}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7){ ]محمد[


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير .. حدد الرسالة والغاية التي من أجلها خُلِق الإنسان فقال تعالى{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اركَعوا وَاسجدوا وَاعبُدوا رَبّكُم وَافعلوا الخَيرَ لَعلَّكم تُفلحونَ (77) وَجاهِدوا فِي اللهِ حقَّ جِهادِهِ هوَ اجتَباكُم (78) }] الحج [
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين أمر بالثبات أمام العدو، فعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }أيُّها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا اللَّهَ العَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، واعْلَمُوا أنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم{ ] صحيح البخاري[
فاللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد: فيا أيها المؤمنون
إن الله تعالى أكرمنا وشرفنا ومن علينا بنعمة الإيمان ، فهدانا إليه وجعلنا من الصادقين ،فقال تعالى }  يَمُنُّونَ عَلَيۡكَ أَنۡ أَسۡلَمُواْۖ قُل لَّا تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسۡلَٰمَكُمۖ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيۡكُمۡ أَنۡ هَدَىٰكُمۡ لِلۡإِيمَٰنِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (17){ ] الحجرات[
وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ،فقال تعالى  }وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ (7) فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعۡمَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ (8){ ] الحجرات[
لذلك تكرر نداء الله تعالى للمؤمنين في القرآن الكريم ما يقرب من تسعة وثمانين نداء، فهذا إن دل فإنما يدل على تكريم الله تعالى وتعظيمه لأهل الإيمان فهنيئاُ لأهل الإيمان ، فكل نداء له أمر وتوجيه مختلف عن الآخر ، بدءاً بأول نداء في البقرة{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ (104) }]البقرة[ بالتزام الأدب مع الله ورسوله ، وانتهاءً بآخر نداء للمؤمنين في القرآن بإعلان التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، فقال تعالى في سورة التحريم }يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةٗ نَّصُوحًا (8){ ] التحريم[  
والملاحظ في النداءات القرآنية يجد أن نسبة كبيرة منها تحدثت عن فريضة الجهاد وقيمة النصر والتمكين ، لذلك كان موضوعنا } نداء الله للمؤمنين في آيات النصروالتمكين{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..  
1ـ معنى النداء الرباني للمؤمنين.
2ـ آيات نداء الجهاد والنصر في القرآن الكريم .
3ـ معاني النصر في الإسلام.
4ـ شروط النصر .
5ـ سنن النصر وقواعده .
6ـ أسباب تأخر النصر .
7ـ الخاتمة.
==============
العنصر الأول : معنى النداء الرباني للمؤمنين:
كلمة } يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ { هي عقد إيماني بين الإنسان و ربه ، كأن الله عز وجل يقول يا من آمنتم بوجودي، وآمنتم بوحدانيتي، وآمنتم بكمالي، يا من آمنتم برحمتي، وحكمتي، وعدلي، يا من آمنتم بأسمائي الحسنى وصفاتي العليا، ما دمتم قد آمنتم افعلوا كذا وكذا، وهو يُشير إلى استقلالية الشخصية الإسلامية؛ يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: (إن رجلاً أتى عبدَالله بن مسعود فقال: اعهَدْ إليَّ فقال: إذا سمعتَ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، فأَرْعِها سَمْعَك؛ فإنه خيرٌ يأمُرُ به، أو شرٌّ يَنهى عنه)
والمتأمِّل لهذه النداءات يجد أن كل نداء يتصل به ويعقبه معانٍ تناسبه .
ويتبيَّن لنا أن كل نداء يتلوه ما يناسِبُه مِن حكم وتوجيهات؛ مما يسهِّل قَبول تلك الأوامر بإيمان ويقين، وإقناع وارتياح، وهذا هو منهجُ القرآن، وطريقة الربِّ سبحانه في التربيةِ والإعداد والبلوغ إلى الكمال.
العنصر الثاني : آيات نداء الجهاد والنصر في القرآن الكريم:
1ـ قال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا إِن تُطيعُوا الَّذينَ كَفروا يَردُّوكُم عَلى أَعقابِكُم فَتنقَلِبوا خَاسِرينَ (149) بَلِ اللهُ مَولاكُم وَهَوَ خَيرُ النَّاصرينَ (150) }]آل عمران[
2ـ  وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا لَا تَكُونوا كَالَّذينَ كَفَروا وقَالُوا لإِخوانِهِم إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرضِ أَو كَانوا غُزىً لَّو كَانوا عِندَنا مَا مَاتُوا ومَا قُتِلُوا لِيَجعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسرةً فِي قُلوبِهِم واللهُ يُحيِي ويُميتُ واللهُ بِمَا تَعمَلونَ بَصيرٌ(156) وَلَئِن قُتِلتُم فِي سَبيلِ اللهِ أَو مُتُّم لَمَغفِرَةٌ مِنَ اللهِ ورَحمةٌ خَيرٌ مِمَّا يَجمَعونَ(157) ولَئِن مُّتُّم أَو قُتِلتُم لَإِلَى اللهِ تُحشَرونَ(158)}]آل عمران[
3ـ وقال تعالى:{يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اصبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا واتَّقُوا اللهَ لَعلَّكُم تُفلِحُونَ (200)}] آل عمران[
4ـ وقال تعالى:{يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا خُذُوا حِذرَكُم فَانفُروا بِثبَاتٍ أَو انفُروا جَميعاً (71)} ]النساء[
5ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اذكُروا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذ هَمّ قَومٌ أَن يَبسُطوا
إِلَيكُم أَيدِيَهُم فَكَفَّ أَيدِيَهُم عَنكُم وَاتَّقوا اللهَ وعَلى اللهِ فَليَتَوكَّلِ المُؤمِنونَ(11) }] المائدة[
6ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدوا فِي سَبيلِهِ لَعلَّكُم تُفلِحونَ (35)}]المائدة[
7ـ وقال تعالى:{يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٌ عَلى المُؤمِنينَ أَعِزَّةٌ عَلى الكَافِرينَ يُجاهِدونَ فِي سَبيلِ اللهِ ولا يَخافونَ لَومةَ لائِمٍ ذَلك فَضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يَشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ (54)إِنَّما وَلِيُّكُم اللهُ ورَسُولَهُ والَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ وهُم رَاكِعونَ(55) ومَن يَتَولَّ اللهَ ورَسولَهُ وَالَّذينَ آمَنوا فَإِنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ الغَالِبونَ (56)}]المائدة[
8ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الّذَين َآمَنوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذينَ كَفَروا زَحفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدبَارَ(15) وَمَن يُوَلِّهِم يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفَاً لِقِتَالٍ أَو مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئةٍ فَقد بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأواهُ جَهنَّمَ وَبِئسَ المَصيرُ(16) فَلَم تَقتُلوهُم وَلَكنَّ اللهَ قَتَلَهُم وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبليَ المُؤمِنينَ مِنهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَميعٌ عَليمٌ (17)} ]الأنفال[
9ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا إِذَا لَقيتُم فِئةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللهَ كَثيراً لَعلَّكُم تُفلِحُونَ (45) وَأطِيعُوا اللهَ وَرَسولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم وَاصبِروا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابرينَ(46)}]الأنفال[
10ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذُوا آبَائَكُم وَإِخوانَكُم أَولِياءَ إنِ استَحبُّوا الكُفرَ عَلى الإِيمانِ وَمَن يَتولَّهُم مِنكُم فَأولئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ (23) قُل إِن كَانَ آبَائُكُم وَأبنائُكُم وَإِخوانُكُم وَأزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأموالٌ اقتَرَفتموهَا وَتِجارةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنَ تَرضَونَها أَحبُّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرسولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبيلهِ فَتَربَّصوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ وَاللهُ لا يَهدي القَومَ الفَاسِقينَ (24)} ]التوبة[
11ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا مَالَكُم إِذا قِيلَ لَكُم انفُروا فِي سَبيلِ اللهِ اثَّاقَلتُم إِلى الأَرضِ أَرَضيتُم بِالحياةِ الدُّنيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الحَياةِ الدُّنيا فِي الآخِرةِ إِلَّا قَليلٌ (38) إِلَّا تَنفِروا يُعَذِّبكُم عَذاباً أَليماً وَيَستَبدِل قَوماً غَيرَكُم وَلا تَضُرُّوهُ شَيئاً واللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ(39) }]التوبة[
12ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا قَاتِلوا الَّذينَ يَلونَكُم مِنَ الكُفَّارِ وّليَجِدوا فِيكُم غِلظَةً وَاعلَموا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقينَ(123) }]التوبة[
13ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اركَعوا وَاسجدوا وَاعبُدوا رَبّكُم وَافعلوا الخَيرَ لَعلَّكم تُفلحونَ (77) وَجاهِدوا فِي اللهِ حقَّ جِهادِهِ هوَ اجتَباكُم (78) }] الحج [
14ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا اذكُروا نِعمةَ اللهِ عَليكُم إِذ جاءتكم جُنودٌ فَأرسَلنا عَليهِم رِيحاً وَجُنوداً لَم تَرَوهَا وَكانَ اللهُ بِما تَعمَلونَ بَصيراً (9) إِذ جَاؤوكُم مِن فَوقِكُم وَمِن أَسفَلَ مِنكُم وَإِذ زَاغَتِ الأَبصارُ وَبَلغتِ القُلوبُ الحَناجِرَ وَيَظنُّونَ بِاللهِ الظُّنونَ (10) هُنالِكَ ابتُليَ المُؤمِنونَ وَزُلزِلُوا زِلزالاً شَديداً (11)}]الأحزاب [
15ـ وقال تعالى:{يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا إِنْ تَنصُروا اللهَ يَنصُركُمْ وَيُثبِّتْ أَقدامَكُمْ(7)}] محمد[
16ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَتَّخِذوا عدوّي وعدوَّكُم أَولياءَ تُلقونَ إليهمْ بِالمودَّةِ وَقدْ كَفروا بِما جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ يُخرِجونَ الرَّسولَ وَإيَّاكُمْ أَنْ تُؤمِنوا بِالله رَبِّكمْ إِنْ كُنتُمْ خَرجتُمْ جِهاداً فِي سَبيلي وَابتِغاءَ مَرضاتي تُسرُّونَ إليهمْ بِالمودَّةِ وَأنا أعلمُ بِما أَخفيتُم وَما أعلَنتُم وَمَن يَفعلهُ مِنكُم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبيلِ(1)}]الممتحنة [
17ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا هَلْ أَدُلُّكمْ عَلى تِجارةٍ تُنجيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ (10) تُؤمِنونَ بِاللهِ وَرسولِهِ وَتُجاهِدونَ فِي سَبيلِ اللهِ بِأموالِكمْ وَأنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكمْ إِنْ كُنتُمْ تَعلَمونَ(11) يَغفِرْ لَكُمْ ذُنوبَكُمْ وَيُدخِلكُمْ جَنَّاتٍ تَجري مِنْ تَحتِها الأنهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبةً فِي جَنَّاتِ عَدنٍ ذَلِكَ الفَوزُ العَظيمُ (12) وَأُخرى تُحِبُّونَهَا نَصرٌ مِنَ اللهِ وَفَتحٌ قَريبٌ وَبَشِّرِالمُؤمِنينَ(13) } ] الصف [
18ـ وقال تعالى:{ يا أيُّها الَّذينَ آمَنوا كُونوا أَنصارَ اللهِ كَما قَالَ عيسى ابنُ مَريمَ لِلحواريِّينَ مَنْ أَنصارِي إِلَى اللهْ قَالَ الحَواريُّونَ نَحنُ أَنصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِيْ اسرَائيلَ وَكَفَرتْ طَائِفةٌ فَأَيَّدنَا الَّذينَ آمَنوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأصبَحُوا ظَاهِرينَ (14)}]الصف[
العنصر الثالث: معاني النصر في الإسلام:
كثير من الناس يحصر مفهوم النصر في النصر الميداني وهو نصر المعركة فقط ،وهذا خلل في المفهوم، فما النصر الميداني إلا أحد أنواع النصر وقد فرح به رسول الله (ﷺ) في آخر حياته وأراه الله ذلك النصر قبل مماته ثم قال له ممتناً عليه }إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(3){ ]النصر[.
ولكن النصر له معاني أخرى منها...
1ـ الانتصار على الشيطان والنفس والشهوات:
من أعظم ميادين النصر انتصار الإنسان على نفسه وشيطانه والمحبوبات التي تشغله عن غايته الأولى والتي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى :}قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24){ ] التوبة[
وعن سبرة بن الفاكه المخزومي الأسدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):}إنَّ الشَّيطانَ قعدَ لابنِ آدمَ بأطرُقِهِ ، فقعدَ لَهُ بطريقِ الإسلامِ ، فقالَ : تُسلمُ وتذرُ دينَكَ ودينَ آبائِكَ وآباءِ أبيكَ ، فعَصاهُ فأسلمَ ، ثمَّ قعدَ لَهُ بطريقِ الهجرةِ ، فقالَ : تُهاجرُ وتدَعُ أرضَكَ وسماءَكَ ، وإنَّما مثلُ المُهاجرِ كمَثلِ الفرسِ في الطِّولِ ، فعَصاهُ فَهاجرَ ، ثمَّ قعدَ لَهُ بطريقِ الجِهادِ ، فقالَ : تُجاهدُ فَهوَ جَهْدُ النَّفسِ والمالِ ، فتُقاتلُ فتُقتَلُ ، فتُنكَحُ المرأةُ ، ويُقسَمُ المالُ ، فعصاهُ فجاهدَ ، فقالَ رسولُ اللَّهِ : فمَن فعلَ ذلِكَ كانَ حقًّا على اللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ ، ومن قُتِلَ كانَ حقًّا على اللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ ، وإن غرِقَ كانَ حقًّا على اللَّهِ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ ، أو وقصتهُ دابَّتُهُ كانَ حقًّا على اللَّهِ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ{ ]صحيح النسائي[
وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ميدانكم الأول أنفسكم , فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر , وإن خذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز . فجربوا الكفاح معها أولاً .
2ـ الثبات على الإيمان وعلى منهج الإسلام :
انتصار العقيدة لا يعني أبدا انتصار أفرادها كما لا يعني انتصارها وهم أحياء بل قد يكون في موتهم انتصار لعقيدتهم ، وأيا كان لون النصر فإن وعد الله قائم بانتصار عباده الصالحين وانتصار عقيدتهم إذ يقول تعالى }وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ (171) إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ (173){ ]الصافات[.
ويتجلى ذلك النصر العظيم بموقف من كانوا سحرة لفرعون حينما هددهم بالقتل والصلب بعدما أعلنوا إيمانهم فقال تعالى}.. فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى) فأجابوا بعزة المؤمن وبعلو منقطع النظير }قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{ وفي جواب آخر لهم قالوا }وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ{ الله أكبر !! إن هذا لهو النصر العظيم الثبات على المبدأ حتى الممات ، فالثبات على المبدأ هو النصر الحقيقي؟.
ويتجلى النصر أيضاً بقصة خبيب بن عدي رضي الله عنه عندما حاول المُشركون إخافة خُبيب بإخباره بقتل من كان معه في الأسر، فبدأوا بإغرائه بترك دينه، ولكنه رفض، فقرروا صلبه وقتله، فطلب منهم أن يُصلي ركعتين قبل ذلك، وقال لهم: "لولا أن ترون أن ما بي من خوف من الموت لأطلت في الصلاة"، فكان أول من سنّ ركعتين عند القتل، ثُمّ دعا عليهم بقوله: "اللهم أحصهم عدداً"، وأنشد قبل موته:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً       على أي شق كان لله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ        يبارك على أوصال شلو ممزع.
وناشدوه: أتحب أن محمدا مكانك وأنت في بيتك؟ فقال: لا والله ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه، فضحكوا منه. الله أكبر ما أعظمه من نصر وعلو.
فكم من أمة قُتلت وأُبيدت وانتدثرت لم يُخَلِّد الله ذكرها ويثني عليها كما أثنى على أولئك الذين وصفهم بأنهم فازوا فوزاً كبيرا، لقد ساوم أهل الكفر أصحاب الأخدود على أمرين إما الرجوع عما هم عليه أو الموت حرقاً بالنار والثبات على المبادئ، فلم تكن نار الدنيا لترجعهم عما هم عليه، فآثروا النجاة من نار الآخرة بدخول نار الدنيا، فتهافتوا في النار كأنهم جراد بإقدام وفداء لم يرعهم منظر النيران العظيمة، بل دخلوا فيها لينتصروا، وعندما تقاعست امرأة واحدة وفكرت وغاب عنها مفهوم النصر أنطق الله رضيعها ليشرح لها مفهوم النصر الحقيقي والفوز الكبير، فقال لها كما جاء عند مسلم: (يا أمه أصبري فإنك على الحق)، فقفزت في النار فانتصرت ورضيعها.
فخلد الله ذكرهم مادحاً لهم بما لم يمدح به أحداً قبلهم ولا بعدهم فقال تعالى }إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُمۡ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡكَبِيرُ (11){ ] البروج[
وإني أرى اليوم ثبات أهل غزة في مقاومتهم ضد اليهود ، من أجل الدفاع عن الدين والأرض والعرض برغم جراحاتهم الأليمة وتضحياتهم العزيزة ، واستعلائهم على الدنيا وزينتها قمة النصر ، قال أحد الشباب عندما قالوا بموضوع التهجير إلى سيناء فكان الرد العجيب إن الجنة أقرب إلينا من سيناء.
لذلك أخبر الرسول (ﷺ) عن الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها ،فقال كما في الصحيحين }لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك{.
هذا الظهور رغم خذلان الأمة لهم واجتماع أعدائهم عليهم ولكنهم في انتصار وعلو وظهور بأمر الله تعالى.
3ـ نيل الشهادة :
قال تعالى : }وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140){ ] آل عمران[
 فالشهادة اصطفاء من الله تعالى لعباده ومن يصطفيه الله لهذه المنزلة فقد فاز وانتصر، والشهادة هي غاية مطلوبة لذاتها لأنها اصطفاء من الله تعالى ،فمن رزق الشهادة فقد انتصر النصر المحقق، وأكثر من ذلك فإن الله لم يحسبها نهاية بل عدَّها حياة طيبة فقال تعالى }وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمۡوَٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ يُرۡزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَيَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمۡ يَلۡحَقُواْ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (170){ ]آل عمران[
ودليل على أن الشهادة نصر بذاتها ، ما رواه البخاري بسنده عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أنه سمع أنس بن مالك يقول: لما طعن حرام بن ملحان وكان خاله يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم قال: "فزت ورب الكعبة". فكيف لمن قتل وعاين الموت أن يقسم بالفوز، إلا أنه قد وجد ريح الجنة.
 فكانت سبب في إسلام قاتله جبار بن سلمى.
إن مدرسة حرام بن ملحان رضي الله عنه تحتاج إلى تأصيلها في نفوس المسلمين اليوم ، وترسيخ جذورها على أرض الإسلام .
وأيضا في قصة استشهاد غلام أصحاب الأخدود وثباته وإصراره على تبليغ رسالته للناس كان انتصاراً كبيراً على الملك فهو انتصار لرسالة التوحيد وانتشارها بين الناس واعتناق الناس لها من دون عقيدة الملك.
4ـ هزيمة الكفار وظهور الموحدين:
قال تعالى :}وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوۡمِهِمۡ فَجَآءُوهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمۡنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجۡرَمُواْۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (47){ ]الروم[
قد يعجز المجاهدون عن هزيمة عدوهم في الميدان وهذا غالباً لعدم المكافأة في المعركة، ولكن الله قوي عزيز، وبما أن المجاهدين قد بذلوا الأسباب وأعدوا عدتهم لجهاد الأعداء، فإن الله سيجعل من مجهودهم البسيط ومواجهتهم الضعيفة سبباً لهلاك عدوهم بقارعة من عنده وأكد الله لنا ذلك بقوله }كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249).] البقرة[
مثل هلاك فرعون وجنوده في المعركة الفاصلة مع سيدنا موسى عليه السلام  قال تعالى:}فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقٖ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِيمِ (63) وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡأٓخَرِينَ (64) وَأَنجَيۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ أَجۡمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗۖ وَمَا كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّؤۡمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ (68){ ] الشعراء[
وقال تعالى }وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ(137){]الأعراف[.
وأيضا ما حدث للكفار في غزوة بدر الكبرى من هزيمة ساحقة وهلاك عظيم لطواغيت وصناديد الكفر مثل أبو جهل وعتبة وشيبة وغيرهم رغم قلة العدد والعتاد قال تعالى :} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(13){ [آل عمران].
وكذلك ما حدث للأحزاب في غزوة الأحزاب إذ رد الله كيدهم في نحورهم خائبين مهزومين فقال تعالى : }وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيۡظِهِمۡ لَمۡ يَنَالُواْ خَيۡرٗاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا (25) وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مِن صَيَاصِيهِمۡ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِيقٗا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِيقٗا (26) وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِيَٰرَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُمۡ وَأَرۡضٗا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٗا (27){]الأحزاب[
العنصر الرابع : شروط النصر:
1ـ الإعداد والتوكل على الله تعالى :
قال تعالى :}وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ (60){ ]الأنفال[
فيشمل الإعداد كل أنواع الإعداد : الإيماني والعلمي والتربوي والمادي والبدني، فلا بد من الإعداد والأخذ بالأسباب ، فمعلوم أن الله تعالى هو الذي يأتي بالنصر؛ إذ لا يأتي النصر بالعدد ولا العتاد، كما لا يأتي بالنظام والتنظيم والإعداد، فكل ما يعدُّه المسلمون لأجل فريضة الجهاد ليس إلا أخذًا بالأسباب المأمور بها شرعًا فحسب، أما النصر فهو فضل ومنّة من الله  تعالى يقول سبحانه: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].
إذن؛ لا بدَّ وأن ترمي، لكن ما ترميه قد يصيب وقد لا يصيب، المهم أنك رميت، ثم إن المولى  سبحانه وتعالى  هو الذي يصيب به أعداء الله تعالى بإذن الله؛ يقول سبحانه: }فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249){[البقرة].
من هنا يُنَقِّي المؤمن إيمانه من كل شائبة تشوبه ، فلا يتعلق بالأسباب الظاهرة ،إنما يتعلق بالله تعالى مسبب الأسباب ،فتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب، بين قلب المؤمن وقدر الله، بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط.
2ـ الولاء لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين:
قال تعالى :} يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَٰكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ (56){ ]المائدة[
3ـ الإيمان والثبات والذكر ، وطاعة الله ورسوله ، واجتماع الكلمة ووحدة الصف:
قال تعالى : }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46){ [الأنفال].
وقال تعالى: }وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡـٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (55) وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ (56){]النور[.
4ـ مَنْ نصر الله عز وجل نصره الله.
النصر سنة كونية حتمية، لا تتبدل ولا تتغير؛ يقول  سبحانه وتعالى:} مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15){[الحج]، والآية تشير إلى أن هذا النصر يناله المؤمن في الدنيا قبل الآخرة، ومن ثم فهو نصر وظفر بإذن الله تعالى لكن يشترط له اليقين بالله  تعالى  والإيمان به، فمن متطلبات النصر الإيمان بالنصر، وتصديق المولى  سبحانه  فيما وعد به المؤمنين؛ ذكر الله عز وجل في سورة الحج عن هذه القاعدة فقال تعالى:}وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40){ [الحج].
أي «وليعينن الله من يقاتل في سبيله؛ لتكون كلمته العليا على عدوه، فنصر الله عبده: معونته إياه، ونصر العبد ربه: جهاده في سبيله؛ لتكون كلمته العليا»
وأخبر عز وجل في سورة محمد أن المؤمنين إن نصروه عز وجل نصرهم على أعدائهم، وعصمهم من الفرار والهزيمة، قال تعالى: }يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ (7){ [محمد].
ونصر المؤمنين لله: أن تتجرد نفوسهم له ، وألا تشرك به شيئًا، شركًا ظاهرًا أو خفيًّا، وألا تستبقي فيها معه أحدًا ولا شيئًا، وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها، ونشاطها كله وخلجاتها... فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
العنصر الخامس : سنن النصر وقواعده:
أولًا: سنن الله في نصر المؤمنين منها :
1ـ  الابتلاء قبل النصر:
قرن سبحانه وتعالى في كتابه بين ابتلاء المؤمنين وتحقيق نصرهم على أعدائهم.
قال تعالى:}أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ (214){ [البقرة].
قال الطبري رحمه الله في تفسير الآية: «أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثل ما أصاب من قبلكم من أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتبتلوا بما ابتلوا واختبروا به من البأساء وهو شدة الحاجة، والفاقة، والضراء، وهي العلل ؛ ولم تزلزلوا زلزالهم، يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف، والرعب شدةٌ وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا. ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه معليهم على عدوهم، ومظهرهم عليه، فنجز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا».
فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، فهو الصادق الذي تحققت فيه الأهلية؛ لينال نصر الله مؤتمنًا عليه، فمن حكمته تعالى أن يضع الأشياء في محلها اللائق بها.
وفي الآية: بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر إذا حصل لهم من الزلزلة ما يملأ القلوب رعبًا، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها من الأمم، وأن يجيء نصر الله لها قبل استبطائه.
لقد رسمت الآية طريق النصر: إنه طريق الإيمان والجهاد، ثم المحنة والابتلاء، ثم الصبر والثبات، ثم التوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر.
وقد سئل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أيما أفضل للرجل، أن يمكن له أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن الرجل حتى يبتلى، فإن الله ابتلى نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمدًا عليهم السلام فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة.
2ـ عدم الاستعجال:
ومن سنن النصر عدم استعجاله ، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه (ﷺ) بأن يصبر على تكذيب قومه كما صبر أولو العزم من الرسل على ما لاقوه من أقوامهم، وألا يستعجل النصر على مكذبيه وحلول العقوبة أو الهلاك بهم. قال تعالى:}فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ يَوۡمَ يَرَوۡنَ مَا يُوعَدُونَ لَمۡ يَلۡبَثُوٓاْ إِلَّا سَاعَةٗ مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَٰغٞۚ فَهَلۡ يُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ (35){ [الأحقاف].
وأخبر سبحانه وتعالى أن سنته فيمن سبق من الرسل أن النصر ما كان يأتيهم عاجلًا لحكمة يعلمها.
ولما ذهب الصحابة إلى النبي (ﷺ) يشكون إليه من تأخر النصر ذكرهم بسنة الله في الأمم السابقة، فقد روى البخاري بسنده عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله (ﷺ) وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا! فقال (ﷺ): }كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون{.] رواه البخاري[
3ـ تحقيق سنة التدافع:
قال تعالى: }وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ (251){ [البقرة] أي: «ولولا أن الله يدفع ببعض الناس وهم أهل الطاعة له والإيمان به بعضًا وهم أهل المعصية لله والشرك به لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض ».
وعن علاقة التدافع بالنصر: قال تعالى: }وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ
صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40){ [الحج].
أي: أمر الله المسلمين بالدفاع عن دينهم وضمن لهم النصر في ذلك الدفاع؛ لأنهم بدفاعهم ينصرون دين الله، فكأنهم نصروا الله.
3ـ سنة التغيير:
قال تعالى: }إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ (11){ [الرعد].
تُقرر هذه الآية سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في التغيير في حياة الناس، وهي أن يكون التغيير مبنيًّا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم.
«فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق مكلف مسؤول، سيد في الكون، عبد لله، قادر على تغيير ما حوله بقدر ما يغير ما بنفسه».
لذلك لابد للمصلحين أن يعتمدوا منهج التغيير النفسي على أنه وسيلتها في بناء مجتمع أفضل، تزدهر فيه قوى الخير، وتنتصر فيه إرادة الحق، والتغيير من قديمٍ سبيلُ إصلاح، وأسلوب بناء، وطريق بقاء.
ثانيًا: قواعد النصر:
للنصر قواعد يقوم عليها منها:
1ـ النصر من عند الله سبحانه وتعالى:
إذا تتبعنا آيات النصر في القرآن نجد أنه قلما ذكر الله سبحانه وتعالى النصر من غير إضافته إليه، فالله سبحانه وتعالى هو النصير، وهو خير الناصرين، فهو سبحانه ينصر عباده المؤمنين على أعدائهم، ويبين لهم ما يحذرون منهم، ويعينهم عليهم. فالنصر حقُّ الله يمتن به على من يشاء من عباده؛ لحكم يعلمها ومنافع لعباده يقدرها.
قال تعالى: }أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ (214){ [البقرة].
قال الشنقيطي رحمه الله: «ومعلوم أن هذه الإضافة هنا لها دلالة تمام وكمال ».
وفي آيات أخرى أخبر سبحانه وتعالى أنه واهب النصر، كما قال تعالى: }وَلَئِن جَآءَ نَصۡرٞ مِّن رَّبِّكَ (10){ [العنكبوت].
وقال تعالى:}وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ (126){ [آل عمران].
وقال تعالى: }وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10){ [الأنفال].
والمعنى أن: «كل نصر هو من عند الله لا من الملائكة ، ولا غيرهم ».
وإجراء وصفي العزيز الحكيم هنا؛ لأنهما أولى بالذكر في هذا المقام؛ لأن العزيز ينصر من يريد نصره، والحكيم يعلم من يستحق نصره وكيف يُعطاه.
ـ وفي موضع آخر أخبر سبحانه وتعالى أن النصر حق للمؤمنين أوجبه عز وجل على نفسه ولم يوجبه عليه أحد وجعله من جملة الحقوق المتعينة، ووعدهم به فلا بد من وقوعه، قال تعالى: }وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (47){ [الروم].
ـ وقد يتأخر هذا النصر أحيانًا في تقدير البشر؛ لأنهم يحسبون الأمور بغير حساب الله، ويقدرون الأحوال لا كما يقدرها الله، والله هو الحكيم الخبير، يصدق وعده في الوقت الذي يريده ويعلمه، وفق مشيئته وسنته، وقد تتكشف حكمة توقيته وتقديره للبشر وقد لا تتكشف، ولكن إرادته هي الخير وتوقيته هو الصحيح، ووعده القاطع واقع عن يقين، يرتقبه الصابرون واثقين مطمئنين.
ـ وأخبر سبحانه وتعالى أن النصر في الدنيا مما جبلت على محبته نفوس عباده.
قال تعالى: }وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحٞ قَرِيبٞۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (13){ [الصف]. ففي الآية :إشارة إلى الامتنان عليهم بإعطائهم ما يحبون في الحياة الدنيا قبل إعطاء نعيم الآخرة..
وفي قوله تعالى:}إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ (1){ [النصر].
قرن سبحانه وتعالى بين النصر والفتح، وقدم النصر على الفتح؛ لأن النصر سبب الفتح، ومفتاح له.
2ـ التأييد الإلهي والتأييد بالمؤمنين:
أخبر عز وجل أن من أسباب النصر تأييد المؤمنين للرسول (ﷺ)، قال تعالى: }فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ (62){ [الأنفال].
وجعلت التقوية بالنصر؛ لأن النصر يقوي العزيمة، ويثبت رأي المنصور، وضده يشوش العقل، ويوهن العزم.
العنصر السادس :أسباب تأخر النصر:
قد تتوفر أسباب النصر ولكن يؤخر الله النصر لحكمٍ يعلمها هو، قد يعرفها البعض وقد لا يعرفها ، وقد يتأخر النصر لأسباب منها..
1ـ عدم بذل الوسع:
حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا، لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
2ـ الاعتماد على القوة المادية ، ونسيان التأييد الإلهي:
حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، وذلك ما حدث للمسلمين يوم حنين إذا أُعجبوا بالكثرة  فنالهم ما نالهم بسبب ما قاله بعضهم لن نغلب اليوم من قلة، كما قال تعالى:}لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ (25){ [التوبة].
ففي هذه الغزوة اجتمع فيها للمسلمين لأول مرة جيش عدته اثنا عشر ألفًا فأعجبتهم كثرتهم، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول، فهزموا في أول المعركة، ثم نصرهم الله عز وجل بتأييده، ثم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله (ﷺ) والتصقت به؛ ليتعلم المؤمنون أن النصر من عند الله.
3ـ عدم التجرد لله في بذل الوسع:
الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فلم تنظر إلى مغنم ولا دنيا ولا غير ذلك ، فعن أبي موسى  رضي الله عنه  قال : سئل رسول الله (ﷺ) عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله { ] أخرجه ابن حبان في صحيحه[
ويوم أن تتجرد الأمة في كفاحها ينصرها الله تعالى نصراً مؤزاً ، تذكر كتب التاريخ قصة مسلمة بن عبد الملك، أحد أبطال الفتوحات في المشرق مع صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصناً واستعصى على المسلمين فتحه، فندب الناس أي أرشدهم ودلهم إلى نَقْب منه، لعل أحدًا منهم يدخل منه ويقاتل في الداخل ويفتح أبواب الحصن للمسلمين، فما دخله أحد فجاء رجل من عُرض الجيش، فدخله ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: "أين صاحب النِّقب؟" فما جاء أحد. فنادى: "إني قد أمرت الآذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاء"؛ فجاء رجل فقال: "استأذن لي على الأمير". فقال له: "أنت صاحب النِّقب؟" قال: "أنا أخبركم عنه"، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فأذن له، فقال: "إن صاحب النِّقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تُسَوِّدُوا اسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟" قال مسلمة: "فذاك له"، قال: "أنا هو". فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: "اللهم أجعلني مع صاحب النقِّب".
4ـ  عدم صلاح البيئة لاستقبال الحق:
 لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه، لذلك كان النبي (ﷺ) يصلى في الكعبة وحولها ثلاثمائة وستون صنما ومع ذلك لم يُكَسِّر الأصنام ، فلو هدم الأصنام لقاموا وشيدوها أجمل مما كانت ،ولكن انتظر النبي (ﷺ) حتى هدمها في قلوبهم أولا وتهيأت البيئة ، وهدموها هم بأيديهم ،وذلك في فتح مكة شرفها الله تعالى ،وتمكن النبي من إقامة الحق والخير والعدل .
5ـ التنازع والاختلاف:
فالتنازع والاختلاف سبب الفشل وذهاب النصر، فقال تعالى:}وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ (46){ [الأنفال].
كما حدث للمسلمين في غزوة أحد، فإن النصر كان حليفهم لما التزموا أمر الرسول الكريم (ﷺ)، ولما تنازعوا فيما بينهم وتركوا أمر الرسول (ﷺ)أصابتهم الهزيمة، وذهب عنهم ما كانوا يحبون من النصر والغنيمة.
قال تعالى: }حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (152){ [آل عمران].
فلو التحمت الأمة ونبذت الفرقة والشقاق، وحققت  صفة الجسم الحي كما قال رسول الله (ﷺ):}مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى{ ] البخاري ومسلم [ لنصرها الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
6ـ المعاصي والذنوب:
بين سبحانه وتعالى السبب الخفي لامتناع النصر في غزوة أحد، وهو استزلال الشيطان للمؤمنين ببعض ذنوبهم.
قال تعالى: }إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ (155){ [آل عمران]. أي: ببعض ذنوبهم السالفة ، فالمسلمون عندما تكاسلوا عن الطاعة وانشغلوا بالدنيا، وتنافسوها حتى تنازعوا فيما بينهم، هانوا في عيون أعدائهم، وأذهب الله ريحهم، فلم يعد الكفار يخشونهم ،لذلك حذر النبي (ﷺ) من الدنيا فعن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):} ... فَوَاللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ  تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا،
وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ  { ]البخاري[
لهذا كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أمره على أحد الجيوش الإسلامية أما بعد : "فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله في كل حال , فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو, وأقوى المكيدة على الحرب , وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً منكم من عدوكم , فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم , وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله , ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة , لأن عددنا ليس كعددهم , وعدتنا ليست كعدتهم , فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة , وإن لم ننتصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا , واعلموا أن عليكم في سيركم حفظةً من الله يعلمون ما تفعلون , فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله , ولا تقولوا عدونا شر منا فلن يسلط علينا , فرب مسلط عليهم من هو شر منه".
ويقول سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضاً للجند :" إنكم لن تنتصروا على عدوكم إلا بعد قربكم من الله وبعدهم عنه , فإذا تساويتم  أي في المعاصي كانت الغلبة لأكثركم عدة وعتاداً" .
الخاتمة ..
علينا أن نوقن أن النصر وعد الله تعالى ، ووعد الله لا يتخلف ولا يتبدل مهما تطاول الكافرون وغرهم حلم الله تعالى وإمهاله ، فنصر الله آتٍ لا محالة ولكن علينا ببذل الوسع آخذين ما لدينا من أسباب ، فعندها يأتينا نصر الله تعالى كما قال تعالى :
}حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ (110){ [يوسف].

فاللَّهُمَّ هيئ لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا ورفعةُ الإِسلام وذُل الكفرِ والعصيانِ

إنك جوادٌ كريمُ وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمَعين.

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=544140

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=544141

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...