الجمعة، 17 مايو 2024

الحج مشاعر وفضائل وأحكام

 




الحمد لله رب العالمين .. جعل البيت الحرام مثابة للناس وأمنا ، وشرع الحج إليه فرضا ونفلا ، ورتب عليه جزاء وأجرا  فقال تعالي }وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(125){ ]البقرة[ .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير.. أمر بتأسيس البيت علي التوحيد فوفد إليه المؤمنون من كل فج عميق لإقامة ذكره وشكره وحمده فهو المحمود في كل الأحوال ولا معبود بحق سواه . فقال تعالي } وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28){ ]الحج[ .
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله (ﷺ).. خير من لبي نداء ربه سبحانه وتعالي فنادي في الناس قَائِلاً: }أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا{،] أخرجه البخاري ، ومسلم[
ثُمَّ لَمَّا حَجَّ بِهِمْ هَتَفَ فِيهِمْ فَقَالَ: }لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ{.]  أخرجه أبو داود[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فيا أيها المؤمنون ..
إن الله عز وجل فرض علينا الحج وجعله ركنا من أركان الإسلام فرضها الله في السنة التاسعة من الهجرة النبوية علي أرجح الأقوال وموضوعنا يتناول عدة عناصر
1ـ المشاعر الإيمانية للحج .
2ـ فضائل الحج .
3ـ الواجب علي الحاج عند خروجه للفريضة.
4ـ الحج علي الفور أم علي التراخي.
العنصر الأول: المشاعر الإيمانية للحج :
الفيوضات الربانية :
هذه الرحلة ليست ككل الرحلات فيها زاد مكثف وفير يكرم الله به زوار بيته الحرام ، فالفيوضات الربانية أثناء فترة الحج ، وفى الأماكن المقدسة، وعند أداء هذه الشعائر فيوضات غامرة من النور ، والهداية والتقوى والرحمة  والسكينة ، خاصة إذا كان جهاز الاستقبال وهو قلب الحاج سليماً نقياً نظيفاًَ مخلصاً الوجهة لله ، فالمشاعر الوجدانية التي تتملك الحاج قبل سفره من رغبة ملحة وشوق كبير لأداء فريضة الحج وزيارة بيت الله الحرام، وقبر رسول الله (ﷺ) والتي تزداد أثناء السفر ، ثم اللحظات التي يقع فيها البصر لأول مرة على الكعبة المشرفة ، ما أعظمها وأروعها من لحظات فكأن شحنة روحية تدفقت على القلب الحاج فملأته خشية وخشوعاً لله وتعظيماً ومهابة لبيت الله الحرام ، وعند استلام الحجر الأسعد يمين الله في الأرض ، وعند الوقوف بأعتاب الكعبة عند الملتزم حيث تسيل العبرات وتذرف دموع الخشية ،والضراعة و التوبة والندم ، وهناك أيضاً على عرفات الله وعلى جبل الرحمة فيض غامر ،الجميع في صعيد واحد يجأرون إلى الله بالدعاء وقد أتوا من كل فجٍ عميق ، والحج عرفة كما قال رسول الله (ﷺ)، فيكون إكرام الله لزوار بيته فلا يردهم خائبين ، فيقبل توبة التائبين واستغفار المستغفرين ودعاء الداعين وتتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة وتغمر قلوبهم بنور الله وتقوى الله وتكون السعادة الحقة التي تذكر بسعادة أهل الجنة .
ذكريات الماضي :
هل رأيت رؤوساً أعز وأكرم من رؤوس المحلّقين والمقصرين؟
وهل مر بك ركبٌ أشرف من ركب الطائفين؟
وهل سمعت نظماً أروع وأعذب من تلبية الملبين، وأنين التائبين، وتأوه الخاشعين ، ومناجاة المنكسرين؟
لنتذكر جميعاً أطهر نفس أحرمت، وأزكى روح هتفت وأفضل قدم طافت وسعت، وأعذب شفة نطقت وكبّرت وهللت، وأشرف يد رمت واستلمت يَنقلُ خُطاه في المشاعر، ينتقل مع أصحابه ومحبيه مرددين تلك الكلمات الخالدات، ومترنمين بتلك العبارات الناصعات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"  
الاقتداء بالحبيب :
يتقدم (ﷺ) في إحرامه الطاهر وقلبه الخاشع وخلقه المتواضع، يتقدم إلى حيث ذكريات جده أبي الحنيفية ، ومُرسِي دعائم هذا البيت العتيق، وجنبات الحرم تدوي بالتهليل والتكبير {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127)} [البقرة]
كلمات التلبية وعبارات التوحيد تملأ المكان، وتُطرِبُ الزمان، وتتصاعد في إخلاصها إلى الواحد الديّان، ويقترب (ﷺ) من الحجر الأسود ليقبله قبلة ترتسم على جبينه درة مضيئة على مر السنين، لم يتمالك نفسه صاحب النفس الخاشعة والعين الدامعة، فينثر دموعه مدراراً وتتحدر على خده الشريف المشرق (ﷺ)، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه  يتابع الموقف بلهفة وتعجب: يا رسول الله: لماذا تبكي؟
يكفكف (ﷺ) دموعه الطاهرة ويجيب عمر بعبارات هادئة خاشعة باكية قائلاً:}هنا تسكب العبرات يا عمر{
الحجر الأسود قبلته        بشفتي قلبي وكلي وله
لا لاعتقادي أنه نافع         بل لاقتدائي بالذي قبله
محمد أطهر أنفاسـه             كانت على صفحته مرسله
قبله والنور من ثغره           يشرق آيات هدى منزله .
 رحلة القلوب والأرواح :
فهي رحلة القلوب والأرواح وهذه استجابة لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37)} [إبراهيم] .
في عام من الأعوام شاهدوا منظراً تشيب منه الرؤوس ، شاهدوا حاجين أحدهما أعمي والآخر مشلول ، حمل الأعمى المشلول فكانت الحركة من الأعمى والتوجيه من المشلول ، وتحملا كل المتاعب رغم الزحام، عند كل منسك من المناسك وذلك لأن القلوب هي التي هوت وليست الأجساد .
- رحلة الحج ليست كغيرها من الرحلات إنها ليست رحلة بالأجساد الى مكة حيث الكعبة وجبل عرفات ، إنها رحلة ربانية ، رحلة نورانية ، رحلة قلوب وأرواح تسعى الى خالقها ، فتتصل بأصلها وتستمد القوة و الحياة و السعادة وتتزود بالتقوى خير زاد .
العنصر الثاني : فضائل الحج :
لقد من الله تعالي علي حجاج بيته بفضائل عظيمة وكثيرة ومتنوعة  منها :
1 ـ من أفضل الأعمال والقربات عند الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله (ﷺ): أي العمل أفضل؟  قال: }إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: "ثم ماذا؟" قال: "حج مبرور{]البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأحمد[.
2- الحج يعدل الجهاد في سبيل الله:
 وينوب عنه لمن لا يقدر عليه ومن لا يُكلف به: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: }لا  لكن أفضل الجهاد حج مبرور{]البخاري[
وفي رواية: قلت: يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: }لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حجٌ مبرور{.
فقالت عائشة: فلا أدعُ الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول اللَّه (ﷺ) . {البخاري }.
وفي رواية للنسائي: قلت: يا رسول الله، ألا نخرج فنجاهد معك، فإني لا أرى عملاً في القرآن أفضل من الجهاد. قال: }لا، ولَكُنَّ أحسنُ الجهاد وأجملُه حج البيت، حجٌ مبرور{
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي (ﷺ):}جهادُ الكبير والضعيف والمرأة: الحَجّ والعُمرَة {
وعنه أيضاً أنه قال: سُئِلَ رسول الله (ﷺ)أيُّ العمل أفضل؟ قال:}إيمانٌ بالله ورسوله ، قيل: ثم ماذا؟ قال: " الجهاد في سبيل الله ، قيل: ثم ماذا؟ قال: حَجٌّ مبرور{
3- الحج المبرور ليس له ثواب إلا الجنة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: }العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة{]متفق عليه[
4- الحج المبرور سبب لغفران الذنوب:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه (ﷺ) يقول: }من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجح كيوم ولدته أمه{ ]البخاري[
وعند مسلم: }من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه{.
وعند الترمذي: }من حج فلم يرفث ولم يفسق غُفر له ما تقدم من ذنبه{.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي (ﷺ) }اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج { ]أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم[ .
ويروى أن علي بن موفق حج عن رسول الله (ﷺ) حججا قال فرأيت رسول الله (ﷺ) في المنام فقال لي يا ابن موفق حججت عني قلت نعم قال ولبيت عني قلت نعم. قال فإني أكافئك بها يوم القيامة آخذ بيدك في الموقف فأدخلك الجنة والخلائق في كرب الحساب.
وقال مجاهد وغيره من العلماء إن الحجاج إذا قدموا مكة تلقتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل وصافحوا ركبان الحمر واعتنقوا المشاة اعتناقا .
وقال الحسن من مات عقيب رمضان أو عقيب غزو أو عقيب حج مات شهيدا . وقال عمر رضي الله عنه الحاج مغفور له ولمن يستغفر له في شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرين من ربيع الأول.
وقد كان من سنة السلف رضي الله عنهم أن يشيعوا الغزاة وأن يستقبلوا الحاج ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء ويبادرون ذلك قبل أن يتدنسوا بالآثام.
ويروى عن علي بن موفق قال حججت سنة فلما كان ليلة عرفة نمت بمنى في مسجد الخيف فرأيت في المنام كأن ملكين قد نزلا من السماء عليهما ثياب خضرفنادى أحدهما صاحبه يا عبد الله فقال الآخر لبيك يا عبد الله قال أتدري كم حج بيت ربنا عز و جل في هذه السنة ؟
قال لا أدري !
قال حج بيت ربنا ستمائة ألف !
أتدري كم قبل منهم ؟ قال لا. قال ستة أنفس.
قال: ثم ارتفعا في الهواء فغابا عني فانتبهت فزعا واغتممت غما شديداً وأهمني أمري، فقلت إذا قبل حج ستة أنفس ،فأين أكون أنا في ستة أنفس؟
 فلما أفضت من عرفة قمت عند المشعر الحرام ،فجعلت أفكر في كثرة الخلق وفي قلة من قبل منهم فحملني النوم .
فإذا الشخصان قد نزلا على هيئتهما ، فنادى أحدهما صاحبه وأعاد الكلام بعينه ثم قال أتدري ماذا حكم ربنا عز 
وجل في هذه الليلة؟
 قال لا.  قال فإنه وهب لكل واحد من الستة مائة ألف قال فانتبهت وبي من السرور ما يُجل عن الوصف .
وعنه أيضا رضي الله عنه قال حججت سنة فلما قضيت مناسكي تفكرت فيمن لا لم يقبل حجه فقلت اللهم إني قد وهبت حجتي وجعلت ثوابها لمن لم تقبل حجته قال فرأيت رب العزة في النوم جل جلاله فقال لي يا علي تتسخى علي وأنا خلقت السخاء والأسخياء، وأنا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ،وأحق بالجود والكرم من العالمين قد وهبت كل من لم أقبل حجه لمن قبلته.
5- الإكثار من الحج والعمرة ينفيان الفقر :
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول اللَّه (ﷺ): }تابعوا بين الحج والعمرة، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد{] ابن ماجه والترمذي عن ابن مسعود، }.
6- الحاج وافد على الله، ومن وفد على الله أكرمه الله:
عن عمر رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: }الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم{]ابن ماجه [
وفي رواية: "الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم". {ابن ماجه}.
7 ـ فريضة الحج دائمة مستمرة حتى بعد ظهور الفتن العظام:
 "ليحجن هذا البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج". {صحيح الجامع}. فإذا قبض الله أرواح المؤمنين في آخر الزمان ولم يبق على الأرض إلا شرار الخلق الذين تدركهم الساعة وهم أحياء توقف الحج، قال رسول الله (ﷺ):}لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت{. ]صحيح الجامع[
8 ـ العبادة التي تغيظ الشيطان :
ومما يدل على فضل الحج ما يكون في عشية عرفة من تنزّل الرب سبحانه وتعالى ومباهاته سبحانه لملائكته بالحجاج فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله (ﷺ) قال: }ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفه، وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء { ]رواه مسلم[.
9ـ تلبية الحجر والشجر مع الحاج :
عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله (ﷺ) : }ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه, و عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا { ]رواه الترمذي وبن ماجة[.
10ـ فضل الطواف :
قال رسول الله (ﷺ): }من طاف بهذا البيت سبوعاً فأحصاه كان كعتق رقبة{]صحيح الترمذي[ .
وقال }لا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة وكتبت له بها حسنة  { ]صحيح الترمذي[
11- فضل مسح الحجر والركن اليماني :
قال رسول الله (ﷺ):  }إن مسحهما كفارة الخطايا { ]صحيح الترمذي[
العنصر الثالث : الواجب علي الحاج قبل خروجه للفريضة :
1 ـ صدق التوجه إلي الله عز وجل :
توجيه النية والقصد إلي البر والتقوي والعمل الصالح وأن الهدف هو رضوان الله وسؤال ذلك من الله شعور وإقرار أن هذا لا يتحقق إلا بتوفيق الله وإرادته .وهذا من خلال معني حديث النبي (ﷺ)}اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر و التقوى ومن العمل ما ترضى {.
ويجب على الحاج أن يخلص النية لله في حجه بأن لا يقصد به رياء ولا سمعة ولا طمعا من مطامع الدنيا. قال تعالى: }وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ{
وإتمام الحج والإتيان بمناسكه على الوجه المشروع، وقوله: (لله) يعني: إخلاص النية فيه لله وحده وتخليص أفعاله من الشرك الأكبر والأصغر، فلا يكون فيه رياء ولا سمعة ولا فخر ولا خيلاء ولا مباهاة، ويتواضع في حجه، فقد حج  النبي (ﷺ) على رحل رث وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم، وقال : ( وقال اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة.
2 ـ الاطمئنان لجوار الله تعالي في حفظ الأهل والمال والولد :
 علي الحاج أن يستشعر معني دعاء النبي (ﷺ) : }اللهم أنت الصاحب في السفر
والخليفة في الأهل و المال و الولد { ما أعظم أثر هذا الدعاء في نفس المؤمن يشعر بصحبة الله ومعيته في السفر ، فهو في حفظ الله ورعاية الله وضمان الله ، ثم الاطمئنان أن الله هو الخليفة في الأهل و المال و الولد فلا قلق ولا انشغال على شيء من ذلك، وهكذا يتحقق التفويض لله وجميل التوكل عليه بصورة عملية واقعية ، ومن أروع القصص التابعي الجليل حاتم الأصم رحمه الله تعالي .
كان لحاتم الأصم أولاد ، فقال لهم :إني أريد الحج هذا العام. فبكوا، وقالوا :إلى من تكلنا يا أبانا؟
 فقالت إحدى بناته: كفوا عن البكاء ، و دعوا أبانا يحج ، فليس هو برازق : } إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ (58){  ]الذاريات[
نام الأولاد جياعاً ، و جعلوا يلومون أختهم ،فقالت : اللهم لا تخذلني بينهم.
فمر أمير البلد بهذا المكان وطلب ماءً ، فناوله أحدهم كوزاً (الكوز: إناء من الفخار أصغر من الإبريق) جديداً فيه ماء بارد، فشرب الأمير ، و سأل الولد : دار من هذه؟
قال :دار حاتم الأصم، فرمى الأمير قطعة من ذهب ،و قال لأصحابه: من أحبني فعل مثلي ، فرموا كلهم مثل ما رمى. بكت بنت حاتم الأصم، فقالت لها أمها: ما يبكيك وقد وسع الله علينا؟
فقالت : يا أماه ،مخلوق نظر إلينا فاستغنينا وشكرنا، فما ظنك بالله جلّ و علا لو نظر إلينا ؟
 3 ـ النفقة الحلال :
إن الله تعالي طيب لا يقبل إلا طيباً فمن ينوى أداء فريضة الحج لابد وأن يتحرى في كسبه الحلال الطيب بعيداً عن الحرام أو ما فيه شبهة وفى هذا أيضاً جانب تربوي هام في حياة المسلم النفقة في الحَجّ كالنفقة في سبيل الله (بسبعمائة ضِعف): قال رسول الله (ﷺ): " النفقة في الحَجّ كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضِعف "  
ومعنى النفقة في الحج: "أي كل التكاليف التي أنفقَهَا في الحَجّ، مثل قيمة التأشيرة، وتذكرة السفر، والإنفاق على نفسه في الحَجّ من طعام ومَسكَن وغير ذلك، وكذلك الإنفاق على الغير في الحَجّ - كُلُّ هذا بسبعمائة ضِعف".
ولكن يجب على الحاج أن ينفق في حجه من الكسب الحلال، ليكون حجه مبرورا وذنبه مغفورا.  قال تعالي } يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267){ ]البقرة [
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز، فنادى : لبيك اللهم لبيك، ناده مناد من السماء : لبيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجك مبرور وغير مؤزور وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك ناداه مناد من السماء: لبيك ولا سعديك، زادك حرام ونفقتك حرام، وحجك مؤزور غير مبرور". رواه الطبراني.
4ـ التوبة ورد المظالم والحقوق إلي أهلها:
يجب على من يريد الحج أن يسدد الديون التي عليه أو يوفر لها ما يسددها، فإن لم يكن لديه من المال ما يكفي لنفقة الحج وسداد الدين فإنه يقدم سداد الدين، ولا يجوز له أن يحج في هذه الحالة.
ويجب على من يريد الحج أن يتوب إلى الله من سائر الذنوب، وإذا كان عنده مظالم للناس فعليه أن يردها إليهم ويطلب مسامحتهم، ليستقبل حجه بالتوبة والتخلص من المظالم، ويجب عليه أن يتجنب الذنوب والمعاصي وأن يحافظ على أداء الصلوات وسائر الواجبات، وهذا أمر يجب عليه في كل حياته وفي جميع حالاته، لكن الحاج يتأكد في حالة ذلك لأنه في عبادة عظيمة ، فلا ينبغي له أن يدخل فيه وهو متلبس بالذنوب والمعاصي أو يفعل الذنوب والمعاصي أثناء الحج، قال تعالى: ٱلۡحَجُّ أَشۡهُرٞ مَّعۡلُومَٰتٞۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلۡحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي ٱلۡحَجِّۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يَعۡلَمۡهُ ٱللَّهُۗ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُونِ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ (197) ]{ البقرة[.
وعليه أن يتخلص من كل المظالم والحقوق قبل سفره وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه"]رواه البخاري[.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله (ﷺ)قال: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة.. ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
ولأن خرجه للحج يشبه خروجه تماما خروجه للآخرة فما أشبه الحاج الذى يخرج من بيته وقد اغتسل ولبس ملابس الإحرام وخرج من مشاغل الدنيا ليخلص بقلبه لله وترك الأهل و المال و الولد خلفه ، ما أشبهه بمن يخرج من الدنيا عند لقاء الله ، فالاغتسال يقابله التغسيل وملابس الإحرام تقابل ملابس التكفين والخروج من مشاغل الدنيا يقابله الخروج الجسدي من الدنيا ، وتوديع الأهل وترك المال و الولد أمر مشترك في الحالين ، فما أجمل أن يتذكر الحاج هذا المعنى ويأخذ العبرة والعظة ، ويستعد للقاء الله على طهر ونقاء ، فيرد المظالم ويقضى الديون ويطلب الصفح ممن أساء إليه ويتوب الى الله فربما لقى الله في سفره هذا ، وبهذا يبدأ رحلته بدءاً طيباً كريماً .
العنصر الرابع : الحج علي الفور أم التراخي :
إن الحج واجب وفرض للمستطيع بإجماع العلماء لثبوت الأدلة الدالة على وجوبه وفرضيته من الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}] آل عمران[.
ومن السنة قوله (ﷺ):} أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا{]رواه مسلم[.
 وعن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله (ﷺ)، فقال } يا أيها الناس، إن الله كتب  عليكم الحج فحجوا "، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال (ﷺ) " لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم " ثم قال: " ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه { ]رواه البخاري ومسلم[.
ولهذا وجب على كل مسلم مستطيع أن يتعجل الحج، فقد يأتي يومٌ يَعْجَزُ فيه عن الحج: }من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة ، وتكون الحاجة{{صحيح الجامع{.
وعنه أنه (ﷺ) قال: " تعجلوا الحج  يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " رواه أحمد، والبيهقي، وقال ما يعرض له من مرض أو حاجة". 
فالحج عبادة الإسلام من بين أركانه ومبانيه عبادة العمر، وختام الأمر،وتمام الإسلام ، وكمال الدين .
فمن توفرت لديه الوسائل والأسباب لأداء تلك الفريضة المقدسة ففرط وتكاسل كان محروما وعن الله محجوبا .
وقد ورد الترغيب في ذلك بأنْ لا يمضي عليه خمسة أعوام إلا ويأتي إلى البيت حاجاً أو معتمراً، فقد قال رسول الله (ﷺ)" إن الله عَزَّ وجَلّ يقول: إنَّ عبداً صَحَّحْتُ له جسمه، وأوسعتُ عليه في المَعِيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يَفِدُ إلَيَّ لَمَحرُوم ".   صحيح الجامع ..
وقال (ﷺ)" من ملك زادا وراحلة تبلغه إلي بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك مصداق قول الله تعالي {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)}]آل عمران[.
وعن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : "لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين" . رواه سعيد في سننه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل يسأل الرجعة عند الموت فقال رجل يا ابن عباس اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار قال سأتلو عليك بذلك قرآنا "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت إلى قوله والله خبير بما تعملون".
 قال فما يوجب الزكاة قال إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدا قال فما يوجب الحج قال الزاد والبعير. رواه الترمذي.
 وعن سعيد بن جبير قال : لو كان لي جار موسر ثم مات ولم يحج ، لم أصل عليه. فأنعم بعبادة يعدم بفقدها الكمال ، ويساوي تاركها اليهود والنصارى في الضلال .
 الخاتمة :
اعلم أخي المسلم أن هذا البيت الحرام ليس كغيره من البيوت وإن كان من حجارة متشابهة إنه بيت الله الحرام ، وهذا الجبل ( جبل عرفة ) ليس كغيره من الجبال ، وإن كان من نفس مكونات الجبال لقد خصهما الله بأسرار وفيوضات وتأثير وتجليات كما خص سبحانه القرآن كلامه العظيم بأسرار وإعجاز وتأثير ، وإن كان من ألفاظ وحروف مثل التي نتكلم بها ، وهذا فضل منه ورحمة بنا وتيسير ، فإننا لا نقوى على تحمل كلام الله على حقيقته مباشرة :{ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } كما أننا لا نستطيع تحمل تجلى الله :{ فلما تجلى ربه للحبل جعله دكاً وخرَّ موسى صعقاً } فيسر الله لنا زيارته و القرب منه ومناجاته
والنيل من فيوضاته بزيارة بيته الحرام الذى تجلى عليه وخصه بفيوضات وأنوار تنعكس علينا بالقدر الذى نتحمله .
وعلى قدر تهيؤ القلوب التي تخشى ربها على قدر استقبالها لهذه الأنوار و الفيوضات الربانية كما هو الحال مع كتاب الله :{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِيثِ كِتَٰبٗا مُّتَشَٰبِهٗا مَّثَانِيَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهۡدِي بِهِۦ مَن يَشَآءُۚ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ (23)} ] الزمر[
فيا أخي عش رحلة الحج من خلال هذه النظرة الربانية كرحلة حياة للقلوب والأرواح ، لا من خلال النظرة الجسدية الحسية فينشغل القلب بالله والقلب منه التزود من فضله وإحسانه ورحمته فيتحقق لك الحج المبرور و الزاد الموفور
 والذنب المغفور وتعود طاهراً نقياً كيوم ولدتك أمك .
- وبهذه النظرة تعرف سر تلك المشاعر والأحاسيس الغامرة التي هي مزيج من أحاسيس الخشية و المهابة و الفرح والسعادة عند وقوع بصرك على الكعبة المشرفة لأول مرة .
فاللهم اكتب لنا حج ربيتك الحرام وزيارة نبيك عليه الصلاة والسلام ،وتقبل منا صالح الأعمال.
=========================

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...