الجمعة، 6 سبتمبر 2019

أخلاق المعلم والمتعلم






الحمد لله رب العالمين، الذي شرف أهل العلم ورفع منزلتهم على سائر الخلق، فقال تعالي {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ(11)}[المجادلة].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..قرن أهل العلم بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته والإقرار بعدالته فقال تعالي {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ (18)}[آل عمران].
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ().. حث علي طلب العلم فقال صلي الله عليه وسلم «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد ... فيا أيها المؤمنون
إن الاسلام الحنيف دعا إلي العلم والمعرفة وإعمال العقل ،وقد بدا ذلك واضحا مع أول آيات القرآن نزولا في سورة العلق فقال تعالي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}[العلق] .
فإن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب لأن شرفه يثمر علي صاحبه وفضله ينمي علي طالبه . 
فإن للعلم آداب وأخلاق لا بد أن يتحلي بها طالب العلم  ويتحلي بها المعلم  فهذه الأخلاق هي الوسيلة إلي الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة .
فالعلم إن لم تكتنفه فضائل        تعليه كان مطية الإخفاق
لذلك كان موضوعنا عن أخلاق المعلم والمتعلم وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية
1ـ العلم ميراث النبوة :ـ
2ـ أخلاق المعلم .
3ـ أخلاق طالب العلم.
4ـ أثر العلم في حياة الأمة.
5ـ الخاتمة.
======================
العنصر الأول : العلم ميراث النبوة:ـ
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بسوق المدينة ، فوقف عليها ، فقال : " يا أهل السوق ، ما أعجزكم " قالوا : وما ذاك يا أبا هريرة ؟ قال : " ذاك ميراث رسول الله () يقسم ، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه " قالوا : وأين هو ؟ قال : " في المسجد " فخرجوا سراعا إلى المسجد ، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا ، فقال لهم : " ما لكم ؟ " قالوا : يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد ، فدخلنا ، فلم نر فيه شيئا يقسم . فقال لهم أبو هريرة : " أما رأيتم في المسجد أحدا ؟ " قالوا : بلى ، رأينا قوما يصلون ، وقوما يقرءون القرآن ، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام ، فقال لهم أبو هريرة : " ويحكم ، فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم " . " .
ففي الحديث : «وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». 
أيها الأخوة، لو وجد عندنا أثر من آثار النبي () لو ثبت عندنا أن هذه صحفة النبي ()التي كان يأكل فيها، أو هذا الحصير الذي كان يجلس عليه، لَتقاتل الناس على هذا الأثر، فكيف لو كان هذا الأثر ملتصقًا بجسمه كشعَره لربما بذل فيه الغالي والنفيس، فما ظنكم بشيء موجود عندنا من أعظم آثار النبي ()ألا وهو شرعه، ووحيه عليه الصلاة والسلام بين أيدينا أعظم وأرفع من آثاره المادية، مبذول كلٌّ يستطيع الأخذ به، وهذا هو ميراث النبوة، ليس ميراث النبوة المال والعقار، بل ميراث النبوة هذا العلم وهذا الوحي، وهو مشاع، ليس خاصًّا لفئة بعينها.
ميراثه عليه الصلاة والسلام ليس خاصًّا لذريته، أو لبني هاشم، أو لبني عبد المطلب، بل لكل من أراد أن ينال هذا الميراث، ألا وهو العلم.
يقول ابن القيم: “وقوله: «العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ»… دليل على أنهم أقرب الناس إلى الأنبياء؛ في الفضل والمكانة والمنزلة؛ لأن أقرب الناس إلى المورث ورثته، ولهذا كانوا أحقَّ بالميراث من غيرهم، كذلك العلماء أحق الناس بالنبي () وأقرب الناس بالنبي ()هم أهل العلم”
( مفتاح السعادة لابن القيم).
وفي صحيح مسلم: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثَةٍ». وذكر: «أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» ) أخرجه مسلم. 
فإن العالم آثاره باقية حتى بعد وفاته، فالناس تنقطع أعمالهم، حتى الذين خلفوا ولدا صالحًا، أو خلفوا صدقة جارية، ففي وقت من الأوقات سينقطع غالبًا؛ وذلك إذا جاء الجيل الثالث أو الرابع أو الخامس، فغالبًا سينقطع هذا الباب، إلا العالم، فإن أثره باقٍ ما بقيت السماوات والأرض.
ولهذا لاحظوا أن الأئمة والعلماء في القرن الأول  قبل ألف وأربعمائة سنة ما زالت أثارهم وأقوالهم باقية، يُذكَرون ويُترحَّم عليهم، وقد اهتدى واستقام على أقوالهم مئات، بل آلاف، بل ملايين من البشر، وأجورهم ليست كأجور أولئك. فأي منزلة، وأي مكانة أعظم من هذه المنزلة؟ 
العنصر الثاني : أخلاق المعلم :ـ

المعلم له دوره المهم والبارز في العملية التعليمية ، فالطالب ينظر إلى معلمه نظرة اقتداء واهتداء  ويتخذ منه القدوة والنموذج الأعلى , يقلده في أقواله وأفعاله .
أوصى عتبة بن أبي سفيان عبد الصمد مؤدَب ولده فقال: "ليكن إصلاحُك بَني إصلاحَك نفسك، فإن عُيوبَهم معقودة بعَيْبك، فالحسنُ عندهم ما استحسنتَ، والقبيحُ ما استقبحت؛ وعلِّمهم سِيَرَ الحكماءِ، وأخلاقَ الأدباء، وتهدَدْهم بي وأدَبْهم دوني؛ وكن لهم كالطبيب الذي لا يَعْجَل بالدواء حتى يَعْرِف الداء؛ ولا تَتَكِلَنَ على عذر مني، فإني قد اتكلتُ على كِفاية منك. [ابن قتيبة:عيون الأخبار]
لذا ينبغي على المعلم أن يضع نفسه دائما موضع القدوة ، وأن لا يتخذ من هذه الرسالة العالية الفاضلة مجرد وظيفة ووسيلة للتكسب والارتزاق.
والمعلم الجيد هو الذي يتصف بالصفات الإيجابية ومنها :
أولاً : حسن الإخلاص والتقوى :
 وذلك بتصحيح النية ، تلك النية التي تحتاج إلى مجاهدةٍ في تحصيلها واستصحابها، وإلى مدافعة أضدادها ومفسداتها، قال سبحانه:{ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا(110)} [الكهف].
ولقد حذر الإسلام من تعلم العلم للدنيا فقط , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ () يَقُولُ: " إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ . قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِىءٌ . فَقَدْ قِيلَ ،ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ فِى النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ . قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقَرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ . فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِىَ في النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِىَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِىَ في النَّار". [أخرجه أحمد ومسلم والنَّسائي]
قال الإمام النووي: ويجب على الْمُعلِّم أن يقصد بتعليمه وجه الله لِما سبق، وألاَّ يجعله وسيلة إلى غرضٍ دنيوي، فيستحضر الْمُعلِّم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات، ليكون ذلك حاثًا له على تصحيح النية، ومُحرِّضًا له على صيانته من مُكدِّراته ومن مكروهاته، مخافة فوات هذا الفضل العظيم والخير الجسيم.(المجموع شرح المهذب.)
فالمعلم الذي يجعل هدفه الأول الكسب المادي ولا يبالي إذا كان من حلال أم من حرام هو معلم لا يدرك كنه الرسالة والمسؤولية التي سوف يسأل عنها أمام الله يوم القيامة .
ثانياً : الصبر والحلم :
فالله سبحانه وتعالى أعلن حبَّه للصابرين بقوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(146)}[آل عمران].
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه ، قَالَ :قال رسول الله (): " إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلاَ مُتَعَنِّتًا ، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا". أخرجه أحمد ومسلم
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ ()، إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ ، فَقُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللهُ ، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ ، فَقُلْتُ : وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ ؟ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ أَفْخَاذِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي ، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ ، فَوَاللهِ ، مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي ، قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. [أخرجه أحمد والبُخَارِي ومسلم]
وقال تعالى : {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (159)} [آل عمران].
قال ابن جماعة: وكذلك ينبغي أن يرحب بالطلبة إذا لقيهم، وعند إقبالهم عليه، ويُكرمهم إذا جلسوا إليه، ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم وأحوال من يتعلَّق بهم بعد ردِّ سلامهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر وحُسن المودة وإعلام المحبة وإضمار الشفقة؛ لأنَّ ذلك أشرح لصدره وأطلق لوجهه وأبسط لسؤاله، ويزيد في ذلك لمن يُرجى فلاحه، ويظهر صلاحه.
ثالثاً : العدل والإنصاف :
وذلك بأن لا يفرق بين طلابه ويحابي أحدهم على حساب الآخرين ، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}[النحل].
عقد ابن سحنون بابًا في ذلك «ما جاء في العدل بين الصبيان»، وأورد فيه بإسناده عن الحسن قال: "إذا قوطع الْمُعلِّم على الأجرة فلم يعدل بينهم أي الصبيان كُتب من الظلمة ".
وقال في موضع آخر: وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائنًا.
جاء هارون الرشيد ونزل في بيت الإمارة فطلب الإمام مالك بن أنس ،ليأتي بموطئه ليقرأه عليه وعلى الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد فنظر إليه مالك وقال: يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي إلى أحد، فجاء هارون وقف على باب مالك واستأذن، فأخبرت الجارية مالك بأن هارون أمير المؤمنين على باب البيت، فذهب واغتسل وارتدى خير ثيابه وتطيب، كل هذا وهارون على الباب، أذن له فلما دخل قال : ما هذا يا مالك؟
طلبناك فامتنعت علينا جئناك حبستنا على بابك؛ قال: أفدتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي، أما أني حبستك على الباب فصحيح، لأني حينما أخبرت أنك تأتي ولم أكن أعلم في أي وقت، علمت أنك لا تأتي لمالك، لا لمال ولا لجاه ولا لشيء إلا للعلم، فأردت أن أكون على أحسن هيئة وأنا أدارسك العلم ".
رابعاً التواضع والرجوع إلى الحق :
قال تعالى :{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(21)}[الشعراء]
ويقول الرسول الكريم ():{ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا وما تواضع أحدٌ لله إلاَّ رفعه}. [رواه مسلم]
ومن التواضع أن يقول لا أدري فيما لا يعلمه وأن يرجع إلى الصواب إذا أخطأ ، وروى بسنده
عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، جئتكم من
مسيرة ستة أشهر، حمَّلني أهل بلدي مسألة أسألك عنها. قال: فسل. قال: فسأله الرجل عن المسألة. فقال: لا أُحسنها.
قال: فبُهِت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كلَّ شيء. قال: أيُّ شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟
قال: تقول لهم: قال مالك: لا أُحسِن"
قال الشافعي رحمه الله " ما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه، أو على لساني ".
وعن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟
فقال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه' فقال أحمد: 'ما أعقله من رجل "
خامساُ : أن يكون قدوة صالحة لطلابه :ـ
فالتربية بالقدوة من أنجح الوسائل المؤثِّرة في إعداد المتعلِّم خُلقيًا وتكوينه نفسيًا واجتماعيًا، ذلك لأنَّ الْمُعلِّم هو المثل الأعلى في نظر المتعلِّم، والأسوة الصالحة في عينه، يُقلِّده سلوكيًا ويُحاكيه خُلقيًا من حيث يشعر أو لا يشعر، بل تنطبع في نفسه وإحساسه صورته القولية والفعلية والحسية والمعنوية من حيث لا يدري أو يدري.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ(2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)} [الصف].
وعن أسامة بن زيد أنه سمع رسول الله () يقول: «يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أي فلان، ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه». [رواه البخاري ومسلم]
قال الشاعر:
يا أيهَا الرجلُ المعلِّمُ غيرَه         هلاَّ لنفسِك كانَ ذا التعليمُ
تَصِف الدواءَ لِذي السقامِ وذي الضنَا         ومِن الضَّنَا وجَواهُ أنتَ سقيمُ
وأراكَ تلقحُ بالرشادِ عقُولَنا                   نُصْحاً ، وأنت مِن الرشادِ عديمُ
أبدأ بنفسِك فانْهَهَا عَن غَيَّها              فإذا انتهتْ عنه فأنتَ حكيمُ
فَهُناك يُقْبَلُ إن وعظتَ ، ويُقتدَى          بالقول منكَ ، وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه             عارٌ علَيكَ إذا فعلتَ عظيمُ

سادساً : أن يعتني ويهتم بتخصصه وبمادته العلمية :
 لأن بعض المعلم تقف حدود معرفته وثقافته عن مرحلة الجامعية وبعدها يهجر الكتاب ويجافي المعرفة ،ولا يحاول أن يطور من قدراته وأن يرتقي بذاته،
فالاهتمام بالتخصص والعناية به والسعي لبلوغ الذروة فيه هو ما ينبغي أن يكون من شأن الْمُعلِّم، لأنه سيكون مرجعًا لطلابه يسألونه ويستفتونه به، ويلتزمون بما يمليه عليهم ويوجِّههم إليه، وينقلون هذا عنه إلى غيرهم من زملائهم أو طلابهم حينما يتصدُّون للتعليم فيما بعد، فلا بدَّ من العناية به .
وقد سُئل سفيان بن عيينة: "من أحوج الناس إلى طلب العلم؟ قال: أعلمهم؛ لأنَّ الخطأ منه أقبح".
قال تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)}[النحل].
وقال (): «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكلِّ أمَّة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح». رواه الترمذي. وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه. وابن ماجه.
فكل هذه الصفات الطيبة وغيرها تجعل المعلم يقوم بدوره المنوط به ،وتجعله يحقق الأهداف
التي يسعى إليها ، وبدونها يصبح المعلم جسداً بلا روح وشمساً بلا ضوء .
العنصر الثالث: أخلاق طالب العلم :ـ

1ـ  إخلاص النية لله عز وجل :ــ
فالعلم طاعة وعبادة ، والإخلاص لله تعالى واجب في جميع العبادات وسائر الطاعات ، والإخلاص شرط في قبول الأعمال كلها ومن جملتها العلم، أمر الله بالإخلاص في الدين في قوله تعالى : { فاعبد الله مخلصا له الدين(2) ألا له الدين الخالص(3)} [الزمر] .
وفي قوله سبحانه : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين(11)} [الزمر] .
وذلك بإصلاح القصد وإصلاح النية في طلب العلم.
قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)ْ}[البينة] .
والإخلاص في العلم أن يبتغي به  وجه الله تعالى، فإذا كان هم طالب العلم تحصيل شهادة أو تبوء منصب لكسب منافع مادية فحسب: فإنه لا يكن مخلصا في طلب العلم .
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه  قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه (): (من تعلم علما مما يبتغي بِهِ وجه اللَّه، لاَ يتعلمه إِلاَّ ليصيب بِهِ عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يَوْم القيامة) يعني ريحها.
فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار). 
فإن هناك من ينوي بتعلمه شغل الوقت، يقول عندي وقت فراغ أشغله بهذا التعلم، وليس له قصد في المنفعة، ولا شك أن هذا قصد قاصر، قصد ناقص إذا كان لمجرد شغل الوقت ، لأن هؤلاء إذا وجد أحدهم ما يشغل به وقته غير العلم انشغل به، فكأنه وجد فراغا فأخذ المصحف أو أخذ الكتاب حتى يشغل هذا الفراغ، ولو وجد كتابا ليس علميا لشغل به وقته، ولو وجد من يحدثه لشغل وقته بهذا الكلام الدنيوي أو اللهو.
ومن الناس من يكون قصده بتعلمه أمرا دنيويا ، فيقول أتعلم حيث أنه يبذل في هذا التعلم مكافأة، أو أجرة، أو مال أو نحو ذلك، فيكون من الذين تعلموا العلم لأجل الدنيا، ولا شك أن هذا يفسد النية، ولا يحصل له الفضل الذي ورد في فضل تعلم العلم.
ومن الناس من يكون قصده بالتعلم مجرد شهادة أو مؤهل يحصل به على ترقية أو وظيفة أو نحو ذلك، وهذا أيضا مقصد دنيء لا يليق بالمؤمن أن يقصد هذا المقصد ؛ وذلك لأنه لا يبارك له في علمه إذا كان يدرس لمجرد أن يحصل على كفاءة أو توجيه، أو ما أشبه ذلك، فيكون قصده قصدا دنيئا، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية.
وإذا قلت : فما المقصد الصحيح؟ وكيف إذا تعلمت العلم يكون قصدي قصدا حسنا ؟
الجواب: ـ
تنوي إزالة النقص، وذلك لأن الجهل نقص، فالله تعالى أخبر بأنه أخرجنا إلى الدنيا من بطون أمهاتنا جهلاء، قال تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة(78)} [النحل].
فإذا عرفت أن الإنسان ناقص في حالة جهله، ونويت أن تزيل هذا النقص لتحصل لك صفة كمال فإن هذا مقصد حسن، فتقول إني رأيت الجهلاء لا يعرفون وقدرهم ناقص عند الناس فأنا أريد أن أسد هذا الفراغ وأن أكمل ذلك النقص.
2ـ تقوى الله عز وجل :ــ
فالعلماء هم أعرف الناس بالله وأتقاهم  له وبالتقوى يزداد العالم علما ، وبالعلم يزداد التقي تقوى قال تعالى {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}[البقرة].
وقال تعالي {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}[غافر]
والتقوى هي جماع كل خير ،ووصية الله للأولين والآخرين قال تعالى في سورة النساء {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا(131)}[النساء].
وقال عز وجل {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}[الحديد]. 
أي يجعل لكم ما تٌفرقون به بين الحق والباطل، وبين الصحيح والسقيم ، وبين الغث والسمين
وذلك إنما يكون بنور العلم وميزانه ، ونبراسه ومقياسه فالعلم ثمرة من ثمرات التقوى والتقوى سبيل إلى نيل العلم ، والعلم يرقى بصاحبه إلى أعلى درجات المعرفة بالله والخشية من الله  ولهذا يؤثر عن الشافعي  رحمه الله  أنه قال‏:‏
شكوت إلى وكيع سـوء حفظـي         فأرشـدني إلى ترك المعـاصي
وأخبرني   بأن العلـم نـور                ونـور الله لا يهدى لعاصـي .
3ـ استحضار القلب عند الطلب:ـ
إذ لا بد من ذلك لطالب العلم لأنه إن طلبه دون استحضار قلب وحضور ذهن فلن يحصّل شيئا ، وعلى المعلم أن يستعين بالوسائل المفيدة التي تعين على الانتباه والالتفات إلى العلم والإقبال عليه، كالأسئلة والمحاورات مع الطلبة وتنبيه الغافل منهم والثناء الحسن على النابهين المجتهدين ورصد الجوائز والحوافز لهم وتذكيرهم دوما بفضائل العلم وثمراته العاجلة والآجلة .
4ـ علو الهمة :ـ  
فلا بد لطالب العلم أن تسمو همته في طلبه فيبذل ما في وسعه لتحصيله ولا يركن إلى الكسل والتواني ولا يسوّف ، ويجعل قدوته العلماء العاملين الذين جدوا وتسابقوا في هذا الميدان .
من النماذج المهمة في علو الهمة  ما يلي:ــ
أـ هذا ابن أبى حاتم  الرازى يقول :ـ
مكثت في مصر سبع سنوات ، لم أذق فيها مرقة ، نهاري أمر على الشيوخ وبالليل أنسخ وأقابل النسخ ، وفي يوم ذهبنا لموعد شيخ فوجدناه عليلاً فمررنا بالسوق فوجدت سمكة فأعجبتني فاشتريتها وانطلقنا إلى البيت فجاء موعد شيخ فتركناها وانشغلنا عنها ثلاثة أيام حتى كادت أن تنتن  فأكلناها وهى نيئة .
ب ـ  الإمام  أبو يوسف القاضي:ـ
كان شديد الملازمة لشيخه أبى حنيفة ، لازم مجلسه أكثر من  17 سنة ، ما فاته صلاة الغداة معه ، ولا فارقه في فطر ولا أضحى إلا من مرض ، ( روى محمد  بن قدامة ، قال : سمعت شجاع بن مخلد ، قال : سمعت أبا يوسف يقول : مات ابن لي، فلم أحضر جهازه ولا دفنه وتركته على جيراني وأقربائي ، مخافة أن يفوتني من أبي حنيفة شيء لا تذهب حسرته عنى ) . 
ج ـ  الإمام الفقيه المؤرخ  المحدث المفسر :
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، الذي نشأ الشيخ وترعرع وطلب العلم منذ نعومة أظفاره ، وسرعان ما تفتح عقله ، وبدت عليه علامات النجابة وأمارات النبوغ حتى قال عن نفسه : " حفظت القرآن ولي سبع سنين ، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين ، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة ".
ومما يدل على علو همته  وقوة تحصيله ما أخبر به عن نفسه قال : " جاءني يوماً رجل فسألني عن شيء في علم العروض ، ولم أكن نشطت له قبل ذلك ، فقلت له : إذا كان غداً فتعال إلىَّ " ، وطلب سِفْرَ العروض للخليل بن أحمد ، فجاءوا له به فاستوعبه وأحاط بقواعده وكلياته في ليلة واحدة ، يقول : " فأمسيت غير عروضي ، وأصبحت عروضياً ".
5ـ الصبر والتحمل :ــ
فطريق العلم ليس مفروشا بالورود والرياحين بل إنه يحتاج إلى صبر ويقين وعزيمة لا تلين ، فالطريق طويل والنفس داعية إلى الملل والسآمة والدعة والراحة فإذا طاوع طالب العلم نفسه قادته إلى الحسرة والندامة .
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى                 فإن أطمعت تاقت وإلا تسلتِ   
والنفس كالطفل إن تهمله شب على                 حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ومن أعظم ميادين الصبر :
الصبر في طلب العلم :
فلا سبيل إلى طلب العلم إلا بالصبر ، فالصبر يضئ لطالب العلم طريقه ، وهو زاد لا يستغني عنه ، وخلق كريم لا بد وأن يتحلى به ، صبره على مشقة الترحال إلى الشيوخ وطول المكث عندهم  والتأدب معهم ، وصبره على المذاكرة والتحصيل ، وفي قصة موسى  والخضر دار هذا الحوار بين نبي الله موسى وبين الخضر عليهما السلام قال تعالى { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)}[الكهف].
ورحم الله تعالي من قال :ـ
تصبر علي مر الجفاء من معلم              فإن رسوب العلم في غفراته
ومن لم يذق ذل التعلم ساعة                تجرع ذل الجهل طول حياته 
ومن فاته التعليم وقت شبابه               فكبر عليه أربعا لو فاته
حياة الفتي والله بالعلم والتقي                 إذا لم يكونا لاعتبار لذاته .
6ـ المثابرة :ــ          
فطالب العلم لا يعرف الملل ولا الكلل  ولا يتوقف عن الطلب ؛ ولا ينقطع عن التعلم ولا عن العلم في وقت من الأوقات، بل يستمر عليه إلى الممات .. 
فالعلم بحر لا ساحل له ونهر لا ينقطع .
يقول بعض السلف : اطلب العلم من المهد إلى اللحد، أي منذ الطفولة إلى الموت، وكان كثير من السلف يطلبون العلم ويكتبونه، فيدخل أحدهم إلى الأسواق ومعه المحبرة - الدواة التي فيها الحبر وسنه كبيرة  فيُقال : لا تزال تحمل المحبرة ؟ فيقول : مع المحبرة إلى المقبرة، أي لا نزال نواصل العلم.
وقيل لابن المبارك : إلي متي تطلب العلم قال حتي الممات إن شاء الله . 
وقد روي في الأثر " إذا أتي علي يوم لم أزد فيه علما يقربني من الله عز وجل فلا بورك في طلوع شمس ذلك اليوم " .
ونسمع عن كثير من طلبة العلم أنهم يواصلون طلب العلم ليلا ونهارا ولا يملون ولا يتكاسلون، ويذكر أن أحد مشايخ مشايخنا كان طوال ليله وهو يقرأ للتحفظ أو يكتب العلم، فيجيئه بعض المحسنين بعشاء بعد صلاة العشاء ويوضع إلى جنبه ولا يتفرغ لأكله إلا بعد الأذان الأول في آخر الليل، ويجعله سحوره، يجعل عشاءه سحورا انشغالا بطلب العلم، انشغالا بالقراءة والكتابة وما أشبه ذلك.
ونسمع عن الأولين أن أحدهم يسافر مسيرة شهر وشهرين في طلب حديث أو أحاديث ويغيب عن أهله سنة أو سنتين أو سنوات كل ذلك لطلب العلم ولا يملون، ولا يقولون أضعنا أهلنا، أو هجرنا بلادنا .. لأن الدافع قوي وهو تحصيل العلم النافع، فهكذا يكون طالب العلم.
البيروني يتعلم مسألة في الفرائض وهو في مرض موته !. 
جاء في معجم الأدباء لياقوت الحموي في ترجمة الإمام الفلكي الرياضي الفذ ، والمؤرخ اللغوي الأديب الأريب ، والعالم بالشريعة ومقارنة الأديان :ـ  
الجامع لأشتات العلوم أبى الريحان البيروني ( محمد بن أحمد الخوارزمي ( 362 - 440 هـ) : حدث الفقيه أبو الحسن على بن عيسى الولوالجي قال : دخلت على أبى الريحان وهو يجود بنفسه ، قد حشرج نفسه ، وضاق به صدره  قد بلغ من العمر 78 سنة  فقال لي في تلك الحال : كيف قلت لي يوماً : حساب الجدات الفاسدة  وهى التي تكون من قبل الأم - ؟.  
فقلت له إشفاقاً عليه : أفي هذه الحالة ؟ قال لي : يا هذا ‍‍ أودّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة ، ألا يكون خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها ، فأعدت ذلك عليه ، وحفظ ، وخرجت من عنده وأنا في الطريق فسمعت الصراخ ‍! ) . 
7 ـ مذاكرة العلم  :ـ
وقد قيل :
إحياء العلم مذاكرته   ***   فأدم للعلم مذاكرته
ولقد كان سلفنا الصالح  يتواصون بمذاكرة العلم ، يقول أحدهم: مذاكرة ليلة أحب إلي من إحيائها. يعني : جلوسي في هذه الليلة أتذكر العلم وأتذكر ما حفظته أحب إلي من أن أقومها قراءة وتهجدا وصلاة وركوعا وسجودا  .
8ـ  كتابة ما استفاده :ـ
فكلما استفاد فائدة أثبتها معه في دفتر أو ورقة وكررها إلى أن يحفظها .
يقول العلماء : " إن ما حفظ فر وما كتب قر " ، أي أن ما كتبته ستجده فيما بعد .. ويشبهون العلم بالصيد، فيقول بعضهم:
العلم صيد والكتابة قيده      فاحفظ لصيدك قيده أن يفلت
9ـ أن لا يمنعه خجله من السؤال :ــ
ولذلك قال بعض السلف : " لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر " ، يحمله تكبره على أن يعجب بنفسه ويبقى على جهله، وكذلك أيضا يحمله خجله عن أن لا يطلب أو يستفيد ممن معه علم فيبقى
على جهله.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة؛ قالت: جاءت أم سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله ()! إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله ()"نعم. إذا رأت الماء" فقالت أم سلمة: يا رسول الله! وتحتلم المرأة؟ فقال "تربت يداك. فبم يشبهها ولدها".
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما : مع حرصه على  ملازمة النبي () قبل وفاته ، ودعائه له () كان مجتهدا في طلب العلم من فقهاء الصحابة بعد وفاة النبي () .
فعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لما قبض رسول الله  () قلت لرجل من الأنصار هلم فلنسأل أصحاب رسول الله   () فإنهم اليوم كثير قال فقال واعجبا لك أترى الناس يفتقرون إليك قال فترك ذلك وأقبلت أسأل فإن كان ليبلغني الحديث عن رجل فآتي بابه وهو قائل  فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني فيقول يا ابن عم رسول الله ما جاء بك هلا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول لا أنا أحق أن آتيك فأسأله عن الحديث فعاش الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي ليسألوني فقال هذا الفتى كان أعقل مني ".
10 ـ التواضع والانكسار :ــ
لا سيما في مجالس العلماء، وذلك أن العالم هو الذي يتواضع لمن يعلمه، وقد ورد في الأثر : " لا يتعلم العلمَ مستحي ولا مستكبر "  .
فالذي يتكبر ولا يتواضع لمن هو أصغر منه لا يوفق للعلم كما إذا رأى عالما أصغر منه سنا يقول كيف أتعلم من هذا الطفل ؟ أو من هذا الصغير الذي أنا أكبر منه ؟  
نقول : إن الله تعالى شرفه وفضله بالعلم فعليك أن تصغر نفسك وتتواضع وتأخذ العلم ممن هو معه ، ولو كنت أشرف وأغنى وأكبر وأرقى فإن العلم يؤخذ من منابعه ومن أهله.
ومن أدب المتعلم توقير المعلم واعطاؤه ما يستحق من التكريم والإكبار فإن المعلم لتلميذه بمنزلة الأب لولده ، بل قال يحي ابن معاذ رحمه الله " العلماء أرحم بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم قيل له وكيف ذلك ، قال: لأن آباؤهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة .
وبهذا صار حق المعلم كما يقول الإمام الغزالي أعظم من حق الوالدين فإن الوالد سبب الوجود الحياة والحياة الفانية ، والمعلم سبب الحياة الباقية ولولا المعلم  لانساق   ماحصل من جهة الأب إلي الهلاك الدائم وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية .
وقال رسول الله (): ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه " ، وقال () :تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تتعلمون منهم"
وقال (): "ثلاثة لا يستخف بهم إلا منافق : ذو الشيبة في الإسلام ،وذو العلم ،وإمام مقسط )
وقال الشعبي  رضي الله عنه : صلي زيد ابن ثابت علي جنازة فقربت إليه بغلة ليركبها ،فجاء ابن عباس فأخذ بركابه ، قال زيد ابن ثابت خل عنه يا بن عم رسول الله، فقال ابن عباس هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء ، فقبل زيد ابن ثابت يده وقال هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله ().
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي :ـ
قم للمعلم وفه التبجيلا                  كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أعظم أوأجل من الذي                    يبني وينشئ أنفسا وعقولا.
ومن حق المعلم كما أخبر سيدنا علي رضي الله عنه :ـ 
ألا تكثر عليه بالسؤال ، ولا تعنته في الجواب ، وألا تلح عليه إذا كسل ، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض أي تريد أن تستوقفه ، ولا تفشين له سرا ، ولا تغتابن عنده أحد ، ولا تطلبن عثرته وإن زلت قبلت معذرته ، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله ، ولا تجلس أمامه أي يدير له ظهرك ، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلي خدمته .
ومن توقير المتعلم للمعلم أن يحسن الصمت في موضعه كما يحسن الكلام أو السؤال في موضعه.
وكما شاع في الأمثلة ( من علمني حرفا صرت له عبدا ).
وهذه غاية في التكريم للعلماء والمعلمين لم ترق إليها أمة من الأمم .
إن الإنسان إذا تأدب بهذه الآداب الشرعية فإن الله تعالى يوفقه ويفتح عليه ويرزقه العلم النافع والعمل الصالح، ونذكر الخصال الستة التي نظمها بعضهم :
أخي لن تنال العلم إلا بستة          سأنبيك عن تفصيلها ببيان  
ذكاء وحرص واجتهاد ودرهم          وصحبة أستاذ وطول زمان
وهذه بعض الأدعية عند طلب العلم ( اللهم نور بالكتاب بصري واستعمل به بدني وأسرع به فهمي وأطلق به لساني وقوي به عزمي بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بك وأنت أرحم الراحمين ) .
العنصر الر ابع : أثر العلم في حياة الأمة :ـ
العلم صمام أمام للأمة :ـ
إن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فذهاب العلماء هلاك الناس، فهم صمام الأمان بعد الله – عز وجل ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» (أخرجه أحمد ،والبخاري ، ومسلم).
وفي حديث ابن عباس قال رسول الله () : «هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ؟» قَالَ: «هُوَ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الأَرْضِ» (أخرجه أحمد).
وفي حديث أبي أمامة، أن رسول الله () قال: «خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ». قالوا: كيف يذهب العلم يا نبي الله، وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب النبي () ثم قال: «ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ» – لاحظ المثل «أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ». رواه الدارمي بسند صحيح.
ويقول الحسن: “موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء، ما طرد الليلُ النهارَ”.
وبهلاك العلماء يهلك الناس، كما سمعنا قول سعيد بن جبير، قيل: ما علامة هلاك الناس؟ قال: ” هلاك علمائهم “.
ويقول عكرمة رضي الله عنه :ـ “الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء”.
لا شك أن القرآن وحده لا يكفي، لا بد من أهل العلم؛ ليبينوا للأمة العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم. وإلا إذا أخذ الإنسان النصوص بنفسه بعيدًا عن أهل العلم ضل وأضل، وما ضل أكثر الفرق وأكثر الطوائف إلا لأنهم اعتمدوا على عقولهم، وعلى أنفسهم، وأخذوا شطرًا وجزءًا من هذه النصوص.
فالخوارج أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، والمرجئة أخذوا نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد، والمعتزلة النفاة أخذوا النصوص التي فيها إثبات فعل العبد، والجهمية والمعطلة أخذوا النصوص التي فيها تنزيه الرب.
أما أهل العلم، الذين أنار الله عز وجل – بصائرهم وأبصارهم، فأخذوا كلام الله عز وجل متكاملاً، وعرفوا الخاص والعام، والمقيد والمطلق، والناسخ والمنسوخ، وجمعوا بين كلام الله عز وجل  ولهذا سلموا، وسلم من اقتفى أثرهم.
ولذلك قال القائل:
الأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا وَإِنْ يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا وَإِنْ أَبَى حَلَّ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
العلم أساس النهضة :ــ 
في ظل تعاليم الإسلام السمحة وحضارته الوارفة وترغيبه في طلب العلم وتكريمه للعلماء  نبغ المسلمون في العلوم كلها والتمسوا المعرفة من الشرق والغرب فترجموا كتب العلوم الفارسية واليونانية وغيرها وشجع الخلفاء على هذه الحركة العلمية ، حتى كان الخليفة المتوكل يعطي حنين بن إسحاق أشهر المترجمين وزن ما يترجمه ذهباً. 
ولم يقتصر المسلمون على الترجمة، بل تابعوا البحث والدراسة، والتعديل والتطوير ، حتى ابتكروا وطوروا وسبقوا غيرهم .
ففي ظل إدراك المسلمين لحقيقة العلم وقيمته :ـ
برز أبو بكر الرازي أول من عمل عملية إزالة الماء من العين. 
وظهر ابن سينا الذي كان كتابه الطبي (القانون) يدرس في جامعتي (كمبردج، وأكسفورد) وغيرهما من مشاهير الأطباء كثيرون .
وبرع جابر بن حيان  في علم الجبر،  واكتشف كثيرا من أسرار الكيمياء.
وسبر العرب علم الفلك ، فكانوا أول بناة للمراصد الفلكية في العالم، وأول صانعي المناظير [التليسكوبات] فضلا عن تقدمهم في  فنون الهندسة المختلفة.
ومحاولة الطيران في السماء التي كان أول من فكر فيها عباس بن فرناس. 
إن العلم الذي تنهض به أمتنا هو كل علم نافع ، سواء كان من علوم الشريعة أو من علوم الطبيعة أقصد كل العلوم التي يحتاجها الناس في حياتهم كالطب والهندسة والزراعة والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الفيزياء وعلم الإحصاء وسائر العلوم التي تعد من المقومات الأساسية للنهضة الحضارية ، العلوم التي توجَّه الإنسان وتأخذ بيده وتيسر له القيام بمهمته في الوجود.
ولله القائل :ـ
إذَا مَـا الْجَهْـلُ خَيَّـمَ فِي بِـلادٍ *** رَأَيْتَ أُسُودَهَا مُسِخَـتْ قُـرُودَا
ولله در القائل أيضا :ـ
الْعِلْـمُ يَرْفَـعُ بَيْتًـا لا عِمَـادَ لَهُ *** وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ وَالشَّرَفِ
ولله در أحمد شوقي أمير الشعراء :ـ
إنِّي نَظَرْتُ إِلَـى الشُّعُوبِ فَلْمْ أَجِدْ *** كَالْجَهْلِ دَاءً لِلشُّـعُـوبِ مُبِيـدًا.
الخاتمة:
أيها المسلمون ...
إن صلاح الحياة وإصلاح الأحياء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإصلاح التعليم لذا فقد قيل : اثنان إذا صلحا صلح أمر الناس وإذا فسدا فسد أمر الناس : الأمراء والعلماء .
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يجعلنا من " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه  أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب "
=====================
رابط doc

 رابط pdf

الأربعاء، 4 سبتمبر 2019

الهجرة ميلاد أمة وبناء دولة





الحمد لله رب العالمين .. فضل الهجرة والمهاجرين ورفع درجتهم فقال تعالي {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤيد أوليائه ويدافع عنهم فقال تعالي {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}[الحج] .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول  الله () أخذ بالأسباب واثقا في تأييد الله سبحانه وتعالي له يتضح ذلك من قوله () لصاحبة في الغار {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا }
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين ..
أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون ..
إن للأمة الإسلامية أحداثاً و ذكريات لها أعظم الأثر في حياتها، تنعم بخيرها و تسعد بتذكرها،
وتترك آثارها الصالحة عند من يفهم الغرض منها، و قد سجل لنا التاريخ هذه الأحداث ؛ لنتعلم منها و نعتبر بها، إذ أن تاريخ الأمة هو ذاكرتها الحية، مستودع تجاربها ومعارفها، فعلى المسلمين أن يذكروا تاريخهم الحافل، و يعوه جيدا و لا ينسوه، و إلا دفعوا ثمن نسيانهم من استقرارهم ومكانتهم.
من هذه المناسبات الهجرة المباركة حيث أنها لم تكن الهجرة فرارا من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، و تحويل مجرى التاريخ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها، وترتبت عليها، وبذلك كان يوم بدر و فتح مكة و ما تبعه،
وتطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود والشرك، و إسلام العرب، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وتقويض ممالك الفرس و الروم، ووصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة.
لقد كانت الهجرة ميلاد لأمة الإسلام وبعث حضاري جديد للأمة ولذلك كان حديثنا عن [الهجرة ميلاد أمة وبناء دولة ] وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ الهجرة معلم بارز للأمة .
2ـ الهجرة وخوارق العادات .
3ـ الأهداف الأساسية للهجرة المباركة .
4ـ التخطيط البشري لإقامة الدولة .
5ـ أسس ودعائم الدولة .
6ـ الخاتمة .
=================
العنصر الأول :ـ الهجرة معلم بارز للأمة :ــ
لأهمية حدث الهجرة المباركة ومكانتها بين الأحداث الإسلامية أرخ المسلمون بالهجرة كمعلمٍ
بارز في تاريخ الدعوة ؛ولما للهجرة من آثار على انتصار الدعوة و ظهورها ولأنه بالهجرة
ولدت دولة الإسلام.
- وذكروا في سبب عمل عمر رضي الله عنه التأريخ بالهجرة " أن أبا موسى كتب إلى عمر : أنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس، فقال بعضهم : أرخ بالمبعث، و بعضهم قال : أرخ بالهجرة، فقال عمر : الهجرة فرقت بين الحق والباطل فأرخوا بها، و ذلك سنة سبع عشرة، فلما اتفقوا، قال بعضهم : ابدؤوا برمضان فقال عمر : بل بالمحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، فاتفقوا عليه ".
ومما يروى أيضاً :أنهم أعرضوا عن التأريخ بمولده و مبعثه  وومماته صلى الله عليه وسلم لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه صلى الله عليه و سلم.
لقد كان عمر رضي الله عنه ومن معه يحرصون كل الحرص على ألا تذوب شخصية هذه الأمة في شخصية غيرها من الأمم، إذا لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم، بل كانوا مبدعين في كل شيء، ليسوا إمعات ، ولا ببغاوات، يستوردن فكرهم و ثقافتهم و تاريخهم من غيرهم.
- لقد تجلى فقه الصحابة رضوان الله عليهم، في هذه الموازنة الفذة بين الأحداث، ثم اختيار الهجرة بذاتها لتكون عنواناً ،ورمزاً للتاريخ الإسلامي، إذ أنهم اعتبروا الهجرة بداية وجودهم الحقيقي في هذه الحياة، لقد كان هذا العمل منهم فهماً عميقاً لرسالتهم، لأن الهجرة كانت عملاً غير الله به وجه التاريخ الإنساني بعد أن مال ميلاً عظيماَ، و دفع به إلى وجهته الصحيحة مستقيماً غير ذي عوج، لقد أذن الله تعالى  بهذه الهجرة أن تقوم في المدينة دولة الإسلام، فحمت المؤمنين من عربدة الجاهلية و حققت حكم القرآن في واقع الحياة، وجعلت الإسلام حقيقة بارزة ترى و تسمع في الأرض، و أقامت المجتمع الإسلامي نموذجاً متفرداً بين الأمم جميعاً، وغدت قاعدة الإسلام و داره التي يأوي إليها المعذبون في الأرض، فيجدون الأمن و الإيمان، ويتعلمون الدين و يتزودون بالفضائل والأخلاق، ثم يخرجون إلى أطراف الأرض دعاة وهداة.
العنصر الثاني :ــ الهجرة وخوارق العادات :ــ
قد يسأل سائل لماذا لم تقم الهجرة علي المعجزة الربانية مثلما حدث في رحلتي الإسراء والمعراج يأتيه البراق ويذهب به إلي المكان الذي يريده ؟
لا بد أن نحدد الفرق بين الهجرة والإسراء والمعراج : الإسراء والمعراج كانت معجزة الهدف منها التسرية والتسلية لقلب النبي () وخاصة بعد الأحداث العظيمة التي حدث في عام الحزن من شدة تعذيب وفقدان زوجه خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب .
أما الهجرة المباركة كان من الممكن أن يهاجر النبي () وأصحابه الكرام بكلمة كن ولكن لم يحدث لأن الهدف من الهجرة هو تأسيس دولة الإسلام والإبقاء علي الإسلام فتأسيس دولة الإسلام لا يقوم علي المعجزات ولا خوارق العادات ، فلا بد من بذل الجهد البشري القائم علي التخطيط والأخذ بالأسباب ولكي يتعلم الناس هذه السنة الكونية التي لا ينصلح الكون إلا بها ولا يقوم الدين إلا بها .
العنصر الثالث : الأهداف الأساسية للهجرة المباركة:ــ
لم تكن الهجرة فراراً من الجهاد أو تهرباً منه، كلا ،وإنما كانت إعداداً لأعبائه، و لم تكن خوفاً من الأذى، ولكن توطيداً لدفعه، ولم تكن جزعاً من المحنة، ولكن توطيناً للصبر عليها، أجل لم تكن فراراً من القدر، ولكنها كانت فراراً إلى القدر. 
ولم تكن الهجرة فرارا من المحنة، أو مجرد انتقال مكاني، وإنما كانت فاتحة العمل الجاد المتواصل لتغيير الأرض، وتحويل مجرى التاريخ، ووضع أسس البناء الإسلامي الشامخ ؛ ولذلك كانت أكبر أحداث التاريخ البشرى بلا مبالغة، بل أعظم هجرة في تاريخ النبوات جميعا من حيث النتائج والآثار، ومن حيث التفاعلات التي تولدت عنها، والأحداث التي تعاقبت بعدها،
و ترتبت عليها. 
وبذلك كان يوم بدر و فتح مكة و ما تبعه، و تطهير الجزيرة العربية من أرجاس اليهود والشرك، وإسلام العرب، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وتقويض ممالك الفرس و الروم، ووصول الإسلام إلى الصين شرقا والأندلس غربا ؛ كل هذا وأكثر منه سيظل مديناً بقدرٍ كبير لهذه الهجرة النبوية المباركة.
ولقد وضع النبي () أهدافا أساسية للهجرة المباركة وهي .....
 1ـ إقامة دين الله ولا شيء أغلى عند المسلم من دينه، ولا شيء أسمى من رسالة التوحيد، فهي التي عليها نحيا، وعليها نموت، وفي سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله، ولذلك هاجر رسول الله
() من أجله.
وضحي أصحابه الكرام رضوان الله عليهم جميعا من أجله فعلي سبيل المثال :ـ
يقول أهل السير: كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته. 
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية.
وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول، وترك ماله وأرضه وداره وهاجر إلي الله ورسوله ونزل فيه قول الله تعالي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}[البقرة] .
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد،أحد، ويقول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها.
ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه. وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ، وعلى رأسهم أبو جهل ،يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها.
ومر بهم النبي () وهم يعذبون فقال: ( صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة )، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية أم عمار في موضع عفتها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة.
وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي ()، فأنزل الله:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ(106)} الآية [النحل].
والأمثلة كثيرة والسيرة مليئة بالقدوات الرائعة في البذل والعطاء من أجل إقامة الدين وكان شعارهم :ـ
تهون الحياة وكل يهون             ولكن إسلامنا لا يهون
نضحي له بالعزيز الكريم           ومن أجله نستحب المنون
2- حماية الفئة التي آمنت بدين الله عزَّ وجلَّ، وبرسوله محمد () من بطش المشركين الكافرين؛ حتى تتمكن من إقامة هذا الدين.
3- نشر دين الله، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة المشركين الكافرين السفلى، وصدق الله العظيم القائل:{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)}[التوبة].
4- تأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كلِّ نواحي الحياة؛ من خلال المجتمع الإسلامي المتآخي المترابط المتحاب.
فالدولة إحدى ضرورات إقامة الدين في الأرض فهي حارسة له حامية لمبادئه كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي "الدين والسلطان توأمان الدين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وملا حارس له فضائع".
ولقد قرر علماء السياسة الشرعية أن أول ما تحتاج إليه الدعوة الإسلامية أن تقوم "دار الإسلام" أو دولة الإسلام" التي تتبنى رسالة الإسلام عقيدة وشريعة عبادة وأخلاقا, هذه الدولة ضرورة إسلامية وهي أيضا ضرورة إنسانية دولة توحد الأمة تحت راية واحدة وتنطلق بالإسلام إلى العالمية، هذه الدولة جزء من نظام الإسلام، وإذا كانت الأفكار والمعتقدات والمبادئ تحتاج إلى
كيان قوي لحمايتها فهذا الكيان هو الدولة التي سعى إليها رسول الله () من أول يوم.
5- الانطلاق بالإسلام إلى العالم لتكون له العالمية باعتباره الدين التام والشامل، وأن رسوله () قد أُرسل إلى الناس كافة، مصداقًا لقول الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(28)}[سبأ].
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف العامة كانت الهجرة التي أُذِنَ للرسول بها، وهذا أمر مهم وإستراتيجي وعظيم يجب أن توضع له السياسات ويخطط له بحكمة، وينفذ بنظم وبرامج وبأساليب رشيدة على النحو الذي سوف نوضحه في الفقرات التالية.
العنصر الرابع : التخطيط البشري لإقامة الدولة :ـ
إن الهجرة يتجلى فيها التعامل مع الأسباب ؛ لأن ذلك من الدين، إذ الأسباب ما هي إلا أدوات للقدرة العليا، ومفاتيح لخزائن رحمة الله عز وجل، إن من تأمل الهجرة، و رأى دقة التخطيط فيها، و دقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، يدرك أن التخطيط جزء من السنة النبوية، بل هو جزءٌ من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، ولابد أن نعلم أن هذه العبقرية في التخطيط، ما كان بها وحدها يكون النجاح، لولا التوفيق الإلهي، والإمداد الرباني، فالهجرة جرى فيها القدر الإلهي من خلال الأخذ بالأسباب البشرية.
لقد وضع النبي صلي الله عليه وسلم الخطوات الأساسية للخطة وهي كما يلي :ــ 
الخطوة الأولي :ـ وضوح الرؤية :ــ
وضوح الرؤية لدي النبي () منذ أول يوم في الرسالة  أنه مبعوث للعالمين ، وأن التحديات له من أول يوم وأنه سيتحول من بلد إلي بلد وسيكون البلد الجديد مأوي جديد للدعوة ، وذلك من خلال حديثه مع ورقة ابن نوفل  لما رجع صلى الله عليه وسلم من غار حراء وبعد حوار طويل تقول له زوجته خديجة بعد أن أخذته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟
فأخبره رسول الله () خبر ما رأى، فقال ورقة:[هذا هو الناموس الأكبر نزّله الله على موسى، ليتني فيها جَذَعَا أنصرك حين يخرجك قومك، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا]. 
وإدراكه أن حالة الاستضعاف التي هم فيها لن تدوم فتهيأ () لتلك المرحلة فربي أصحابه تربية صلبة قوية تربية رجل الدولة فكرا وعقلا وممارسة ، فكان يبعث فيهم الأمل والنظرة المستقبلية يتضح من حديثه مع خباب رضي الله عنه  حينما قال : شكونا إلى رسول الله  وهو متوسد بردة له في الكعبة، فقلنا له ألا تستنصر لنا؟
ألا تدع الله لنا؟
فقال (): [كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون].
الخطوة الثانية : البحث عن عاصمة جديدة  للدولة :ـ
البحث عن مراكز داعمة للحركة نحو الدولة وذلك من خلال ترتيب الهجرة إلى الحبشة قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)}[العنكبوت] .
قال ابن كثير رحمه الله: "هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة الدين... إلى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، -رحمه الله تعالى قال ()  لأصحابه: (لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه ) فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله () إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام). 
ولكن كان النبي () يعلم من خلال خبرته للواقع أن الحبشة لا تصلح لأن تكون مقرا للدولة الإسلامية لأنها كانت في منفي واعتماد الدولة علي الملك العادل الذي إن مات ماتت الدعوة هناك ، ولكن ظل النبي () يعرض نفسه علي القبائل والأسواق ،حتي قابل  ستة شباب من الخزرج في العقبة، فواعدوه سنة حتى يكمل اجتماع أهل يثرب، بعد أن فرَّقهم وشتَّت شملهم النزاع في حرب بعاث، وانتظر رسول الله () عاما كاملا على الموعد الذي تم بينه وبين النفر الستة من الخزرج، وتم لقاء جديد في العقبة أطلق عليه فيما بعد - بيعة العقبة الأولى، وهو كما رواه ابن إسحاق: "حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله () على الإسلام وهو ما يسمي ببيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب".
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرًا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله () قال وحوله عصابة من أصحابه [بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروفٍ، فمَن وفى منكم فأجرُه على الله، ومَن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا، فهو كفَّارة له، ومَن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه]، فبايعناه على ذلك
يقول ابن إسحاق: "فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله () ودعوهم إلى الإسلام حتى فشى فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله () ".
ولقد بعث النبي () مصعب بن عمير ممثلا شخصيا للرسول () إلي المدينة يفقه المسلمين بهذا الدين الجديد، واستطاع السفير الأول  في المدينة مصعب بن عمير بحكمته وحصافته وذكائه أن يقنع أكبر قيادات الأوس للإسلام، أسيد بن حضير وسعد بن معاذ، خلال العام الجديد، ولم يبق في بني عبد الأشهل بطن كبير من الأوس- رجل ولا امرأة ولا طفل إلا ودخل في الإسلام.
لقد أصبح الجو العام في المدينة مهيأ تهيئة تامة لقيام الدولة الإسلامية.
وهذا ما خطط له رسول الله () بعد أن بذل كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة.
وتمت التعبئة الكاملة، حين شعرت القاعدة الصلبة التي بايعت النبي () البيعة الأولي أنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "حتى متى نترك رسول الله () يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟".
 لقد أصبحت النفوس جاهزة للانطلاق، وتنتظر إشعال الفتيل للحرب ضد الجاهلية المستحكمة.
وصار القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله () ومنعته.
كان اللقاء الذي غير مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسا من المسلمين ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان) من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلي اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل، والذي كان من نتائجه أن تغيرت خريطة العالم بعد ذلك وقامت للإسلام دولة، وسقطت عروش عظيمة كعرشي كسرى وقيصر، واستقر دين الإسلام في الأرض.
تكلم رسول الله () ، وتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم"، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا (نساءنا) فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب، وأبناء الحلقة (السلاح)، ورثناها كابرا عن كابر، فاعترض القول والبراء يُكَلِّمُ رسول الله () أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله () ، ثم قال: "بل الدم الدم والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم".
وروى الإمام أحمد في مسنده والبيهقي في السنن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلاً حَتَّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ في الْمَوْسِمِ فَوَعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "تُبَايِعُونِى عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، والنَّفَقَةِ في الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا في اللَّهِ لاَ تَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ. وَلَكُمُ الْجَنَّةُ".
يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَالُوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ، أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا.
فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ.
ملامح الدولة الإسلامية المرتقبة :ـ
بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية طلب رسول الله () انتخاب اثنى عشر زعيما يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسؤولية عليهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، إذ إن رسول الله () لن يستطيع أن يبايع كل أفراد الأمة المسلمة على ذلك، فلا بد من انتخاب قيادة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن هذه القواعد.
وتم الأمر بانتخاب تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وبعد هذا الانتخاب الحر عقد رسول الله () اجتماعًا مهمًّا على مستوى القمة مع هؤلاء النواب، وأخذ عليهم النبي () ميثاقا آخر بصفتهم رؤساء مسؤولين، وقال لهم: "أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بِنْ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي". يعني المسلمين من أهل مكة. فقالوا: نعم.
قال ابن إسحاق: "فلما أذن الله تعالى لرسوله () في الحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن تبعه وآوى إليه من المسلمين، أمر رسول الله () أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، وقال: "إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها".
فخرجوا أرسالًا وأقام رسول الله () بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة".
الخطوة الثالثة : الهجرة إلي عاصمة الدولة الجديدة:ــ
رغم ثقة النبي () بحماية ربه له فهذا لم يمنعه من أن يأخذ الاحتياط البشري الذي يملكه ، وما أحوجنا إلي أن ندرك واجبنا في الإعداد لمواجهة العدو رغم اعتمادنا الأول والأخير علي الله تعالي ، لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا علي القدر ، ونتوجع علي عدم نصر الله تعالي لنا ، ونحن المسؤولون عن ذلك.
لذلك قام النبي () بوضع الوسائل للهجرة الي عاصمة الدولة الجديدة علي النحو التالي :ـ 1- توفير وسائل الهجرة:ــ
طلب رسول الله () من أبي بكر شراء راحلتين، وتم استئجار أحد الخبراء في الطرق وهو عبد الله بن أريقظ؛ ليدلهما على الطريق، ثم طلب من أبي بكر ليكون في الصحبة: فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟
قال رسول الله (): "نعم" (رواه البخاري)، كما طلب من علي بن أبي طالب أن ينام في فراشه، وطلب من عبد الله بن أبي بكر جمع الأخبار، وطلب من أسماء بنت أبي بكر إحضار الزاد، وطلب من عامر بن فهيرة السير خلف عبد الله بن أبي بكر بالأغنام ليزيل آثار الأقدام.
2- التوقيت المناسب للهجرة: ـ
لقد أَوْحَى الله عزَّ وجلَّ إلى نبيه () وأخبره بمؤامرة قريش، وَأَذِنَ له في الخروج، وحدَّد له وقت الظهيرة، وذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه في ذلك الوقت، في ساعة لا يظن أحد أن يخرج فيها رسول الله () ، وَمَكَثَ في الغار ثلاثة أيام حتى تهدأ الأمور ويأمن الطريق، لقد اختار الله عزَّ وجلَّ لنبيه التوقيت المناسب في إطار خطة محكمة وترتيب دقيق.
3 - اختيار الطريق المناسب: ـ
خرج رسول الله () وصاحبه من الغار نحو الجنوب إلى اليمن، ثم اتجه غربًا إلى الساحل حتى سارا في طريق لم يألفه الناس إلا نادرًا بهدف تجنب شر الأعداء. 
4-  التموية  والسرية والكتمان :ـ 
حرص النبي () علي كتمان الأمر وأخذ السرية التامة  عن أقرب الناس إليه وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه "لقد استعد أبو بكر للهجرة إلى المدينة؛ ليلحق بمن هاجر من قبل، فقال له رسول الله (): "على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله () ليصحبه.."، ولكن لم يُعْلِم رسول الله ()أبا بكر بميعاد الهجرة،  
وتقول أمنا عائشة رضي الله عنها "  "بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله () متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلاَّ أمر؛ قالت: فجاء رسول الله () فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبي () لأبي بكر: "أخرج مَنْ عِنْدك"، فقال أبو بكر: إنما هم أَهْلُكْ، بأبي أنت يا رسول الله، قال: "فإني قد أُذِنَ لي في الخروج"، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله () :"نعم" (رواه البخاري)، ويستنبط من ذلك الموقف كتمان ميعاد الهجرة عن أهل رسول الله () وعن أبي بكر حتى ساعة التنفيذ، وهذه سياسة رشيدة عند التعامل مع الأعداء. 
وقد أوصي النبي صلي الله عليه وسلم بالاستعانة بالسرية في أمور حياتنا فقال () " استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود " 
ولقد مَوَّه رسول () خروجه من البيت، ثم غادرهو وأبو بكر من بيت سيدنا أبو بكر رضي الله عنه من باب خلفي، وسلك طريقًا غير طريق المدينة المعتاد، وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، وكان النبي () يسير على أطراف قدميه كي يخفي الآثار،وظل في الغار مدة ثلاثة أيام حسب التخطيط ، وهنا تبدو عظمة التخطيط أكثر حين نعلم أن غار ثور في جنوب مكة ، وليس علي طريق المدينة  حيث احتمالات الرصد ، ولما كان النبي () يعلم أن قريشا ستجد في الطلب ، وإن الطريق الذي ستتجه إليه  الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالا ، فقد سلك الطريق المعاكس تماما وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن ، سلك هذا الطريق نحو خمسة أمثال حتي بلغ إلي جبل يعرف بجبل ثور وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقي ذو أحجار كثيرة فخفيت قدما رسول الله () ، وأقام النبي () ثلاثة أيام  لأن الخروج إلي أي مكان في الأيام الأولي يجعلهما عرضة للوقوع في قبضة العدو كما أن المدة الزمنية كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا في المعلومات المقدمة من عبدالله ابن أب بكر عن خفة الطلب عليهما كما أن الاستقرار أكثر قد يلفت النظر من الآخرين حين يتكرر المرور عليهما من أسماء وعبدالله كل يوم .
5- توزيع الأدوار والاختصاصات:ـ
إن سياسة تحديد وتوزيع الاختصاصات والمسئوليات من الأشياء المهمة في أي خطة،فلم تكن الهجرة عملاً عشوائيًّا، بل كانت خطة محكمة جدًّا وتنظيمًا دقيقًا، وُزِّعَت فيها الاختصاصات وحُدِّدَت المسئوليات علي هذا النحو:ـ
رفيق الرحلة :ـ
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرافق الرسول () ويعاونه ويساعده ويشتري راحلتين.
رد الودائع والأمانات والتعمية علي الكفار :ـ
يقوم به علي رضي الله عنه ، ينام في فراش النبي () للتمويه ويرد الأمانات والودائع لأصحابها.
نقل الأخبار والمعلومات :ـ
يقوم به عبد الله بن أبي بكر، فلا يكفي أن يقوم النبي () في الغار مدة معينة ثم ينطلق إلي المدينة حسب تقديره وظنه فلا بد من التعرف مباشرة علي كل أسرار العدو مخططاته وتوقعاته يحيث تصل أول بأول إليه () فيكون متابعة تنفيذ الخطة قائما علي خبرة الواقع لا علي الظن يخطئ ويصيب فكان عبدالله يسمع أخبار مكة نهارا ويقضي النهار معهم ، ثم يأتي بالليل إلي النبي () في الغار يبيت معهم ، وقبل الفجر يذهب إلي مكة ،وكأنه نائم في مكة . ، وكلما كانت القيادة أعلم بواقع العدو ، وأدري بأسراره ، ولها في صفوفه من ينقل إليها كل تخطيطاته ، كلما كان ذلك أنجح لها في تنفيذ خططها ومخططاتها .
تأمين الزاد :ـ
تقوم به أسماء بنت أبي طالب رضي الله عنها وكانت حامل في شهورها الأخيرة وكانت تصعد في الجبل اوعر الشامخ ذو الأحجار الكثيرة .
إخفاء أثر الأقدام :ـ
يقوم به عامر ابن فهيرة ، يقوم برعي الأغنام ليعفي أثر الأقدام ،ونجحت هذه السياسة في إخفاء
محاولة المشركين في العثور على رسول الله () وصحبه .
الإستعانة بالخبراء:ـ
لقد اتبع النبي () سياسة الاستعانة بالخبراء حتى ولو كانوا من غير المسلمين، لقد استعان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أريقط الليثي؛ ليدله على أفضل الطرق الخفية إلى المدينة باعتباره من الخبراء في ذلك، تقول كتب السيرة: "لقد استأجر رسول الله () وصاحبه أبو بكر عبد الله بن أريقط الليثي الكافر، وكان هاديًا ماهرًا بالطريق وَأَمِنَاهُ على ذلك، وسلما إليه الراحلتين، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، وجاءهما عبد الله في المكان والميعاد المتفق عليه، ولقد استنبط فقهاء الإسلام أنه يجوز الاستعانة بغير المسلم عند الضرورة متى كان خبيرًا وأمينًا.
لقد كان توزيع دقيق للمسئوليات في إطار سياسة رشيدة وخطة محكمة، ولذلك تحققت المقاصد والأهداف بدون ارتباك أو خلل، وهذا ما يجب الاستفادة منه في إدارة شئون حياتنا كلها وفي دعوتنا الإسلامية.
6 ـ التأييد الإلهي للنبي ():ـ
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فإنه لم يرتكن إليها مطلقا وإنما كان كامل الثقة في الله تعالي ، عظيم الرجاء في نصره وتأييده ، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها قال تعالي {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)}[الإسراء]
هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي؟
هل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة؟
هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطئ أحدهم رأسه لينظر في الغار؟
وسجل الحق عز وجل ذلك في قوله تعالي {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)} (التوبة). 
وصدق الله العظيم إذ يقول :{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}
[الطور].
هل رأيتم فرس سراقة يمشي في أرض صلبة فتسيخ قدماه في الأرض وكأنما هو يسير في الطين... هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن؟
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين، وقلب الموازين «إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون».
العنصر الخامس : وضع أسس الدولة الجديدة :ـ
إن الهجرة النبوية أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فبالهجرة ولدت دولة الإسلام الأولي على أرض المدينة المنورة ،بعد جهاد ضار مضني استمر ثلاثة عشر عاما كاملة، وقد وضع النبي () أسس ودعائم الدولة وهي ..
1ـ بناء المسجد :ـ
الخطوة الأولى في بناء هي بناء المسجد الذي سيكون مركز انطلاقة لهذه الدولة، ودار الحكم فيها، ومقر قيادة الجيش، ومحضن التربية الأول ودار القضاء العالي.
2ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار :ـ
 كانت المؤاخاة هي الأساس الثاني الذي أشرف عليه رسول الله () بنفسه في المدينة، وهو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وضرب الأنصار المثل الرائع والقدوة العملية في معاني الأخوة والتآخي والوحدة والإيثار.
وقد ذكر أصحاب المغازي أن المؤاخاة بين الصحابة وقعت مرتين: الأولى قبل الهجرة بين المهاجرين خاصة على المواساة والمناصرة، فكان من ذلك إخوة زيد بن حارثة وحمزة بن عبد المطلب، ثم آخى النبي () بين المهاجرين والأنصار بعد أن هاجر، وذلك بعد قدومه المدينة.
3ـ دستور المدينة :ـ
ثم كان الأساس الثالث (وثيقة المدينة)، حيث وُضع الدستور الإسلامي بين المسلمين وغيرهم، وهو أول دستور منصف عرفته البشرية، فقد كتب رسول الله () كتابًا بين المهاجرين والأنصار وَادَع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم.
الخاتمة :ـ
إن حدث الهجرة غير مسيرة التاريخ، وتجلت فيه قوة العزيمة، وكمال الشجاعة، وصدق الإيمان، ونهاية التضحية، وحب الإيثار، لقد كانت الهجرة مؤشراً لانطلاق الدعوة، التي ظلت حبيسة في أرض حسب أهلها أن انتهاك الحرمات إقدام، والنيل من المستضعفين جرأة و شجاعة.
لقد كانت الهجرة نقطة الانطلاق والتأسيس للدولة الإسلامية، وهي عملية الانتقال من مرحلة الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وترك عبادة الأوثان وتطهير النفوس من أدران الشرك، إلى مرحلة بناء وتأسيس الدولة والأمة الإسلامية، وإرساء قواعدها لتتمكن من الانطلاق إلى العالم أجمع لنشر الدعوة الإسلامية.
فكانت فيصلًا بين مرحلتين، مرحلة العصبة المؤمنة، ومرحلة الدولة الموحدة، أقام المسلمون بعدها دولة بنت حضارة إنسانية عريقة قوامها الأخلاق وعمادها الإنسان، ولن تقوم للإسلام دولة إلا إذا قامت على ما قامت عليه الهجرة.
 =======================
رابط doc
رابط pdf

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...