الحمد لله رب العالمين ...الغني الحميد دعا المؤمنون إلي التجارة معه تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)}[الصف].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير يضاعف الثواب للمنفقين في سبيله فقال تعالي{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
[البقرة].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) فتح الباب أمام أصحابه للتجارة مع الله فعن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:{ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا.. ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر}[رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح]
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ....
أما بعد : فيا أيها المؤمنون ...
فإن رمضانَ شهرُ الجود، وشهر السخاء؛ فالنفوس في هذا الشهر تقترب من مولاها، وتنبعث إلى ما يزكيها ويطهرها من شحها، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)} [الحشر].
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: كان رسول الله (ﷺ) أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} . [رواه البخاري].
هكذا وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (21)}[الأحزاب].
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما، قَالَ: {كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ} [البخاري ومسلم]
إن أعلى تجارة وأغلى تجارة هي التجارة ببذل النفس والمال لله عز وجل، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} [فاطر].
لذلك كان حديثنا عن رمضان شهر الجود والسخاء وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية
1ـ التوجيهات القرآنية في الجود والكرم .
2ـ لماذا الإنفاق بالمال .
3ـ وسائل التحفيز في الجود والكرم.
4ـ عاقبة الشخ والبخل .
5ـ صورة من التاريخ .
=========================
العنصر الأول : التوجيهات القرآنية في الجود والكرم:ـ
لقد أعطي الله عز وجل توجيهات كثيرة منها :ـ
1ـ الإنفاق من الحلال الطيب:
قال تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ(267)}[البقرة].
2ـ الإنفاق في السراء والضراء:ـ
قال تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ (134)}. [ آل عمران] .
في البحبوحة وفي الإقتار، في الضيق المادي وفي السَّعة المادية.
3ـ الإنفاق في سرا وعلانية: ـ
قال تعالي {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً (274)}[البقرة].
لقد كان زينُ العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما يَحمل جِرَابَ الخُبْز على ظهْرِه باللَّيل فيتصدَّق به، ويقول: {إنَّ صدقةَ السرِّ تطفئ غضبَ الربِ عزَّ وجلَّ}.
وكان ناسٌ من أهل المدينة يعيشون، لا يدْرون من أين كان معاشهم، فلمَّا مات عليُّ بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤْتَون باللَّيل، ولمَّا مات رضي الله عنْه وغسَّلوه جعلوا ينظرون إلى آثارِ سَوادٍ في ظهْره، فقالوا: ما هذا؟
فقالوا: كان يَحْمِلُ جُرُبَ الدَّقيقِ ليلاً على ظهره يعطيه فقراءَ أهلِ المدينة.
4ـ الإنفاق سرا لمراعاة المشاعر:
أما إذا توجهت الصدقة إلى إنسان مراعاة لمشاعره، ولكرامته الإنسانية، ولأخوته الإيمانية فينبغي أن تكتم هذا الإنفاق:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}. [البقرة].
5ـ عدمُ إتباع الصدقة بالمن والأذى:
يقول الله عز وجل : {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلَا أَذًى (262)}[البقرة]
6ـ شرط قبول الإنفاق:ـ
ما شرط قبول الإنفاق ؟ قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ (265)}
[البقرة].
فالعمل الصالح والإنفاق من العمل الصالح لا يقبل إلا إذا كان ابتغي به وجه الله، لذلك قال (ﷺ):{إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى} مع الإخلاص ينفعك قليل العمل وكثيره، ومن دون إخلاص لا ينفعك لا قليله، ولا كثيره، قال تعالى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ (265)} [البقرة] .
وماتنفقوا من خير فلأنفسكم : أنت حينما تنفق تؤكد لنفسك أنك تحب الله، تؤكد لنفسك أن هذا المال تحل به مشكلات كثيرة في حياتك لكنك آثرت أخاك الفقير على نفسك، فكأن هذا المبلغ الذي تدفعه سمي في القرآن صدقة، لأنه يؤكد صدقك في محبة الله، قال تعالى:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ (272) [البقرة].
لو أن كل البشر مؤمنون ما زاد في ملكي شيئاً. عن أبي ذر رضي الله عنه قال رسول الله (ﷺ) قال الله تعالي:{يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ }[ رواه مسلم].
العنصر الثاني : لماذا الإنفاق بالمال :ـ
للإنفاق بالمال مغزى مميز وذاتية فريدة وحكم بالغة ...من ذلك ما يلي :ـ
أولا :ـ يعتبر الإنفاق بالمال اختبار لقوة العقيدة ومقياسا لصدق الإيمان ووسيلة لتطهير النفس البشرية من الشح والبخل فمن غرائز الإنسان حب المال ..
ولقد أشار القرآن ذلك فقال تعالي: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} [آل عمران ].
إن التضحية بالمال في سبيل الله مع حبه وتفضيل حب الله ورسوله لدليل قوى على العقيدة والإيمان ..
ولقد عبر القرآن عن ذلك فقال الله تبارك وتعالى { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}[آل عمران ] .
وليس هناك أدنى شك في أن أفضل مجالات الإنفاق هو الإنفاق في سبيل الله .
ثانيا: امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى المالك الحقيقي والأصلي للمال:ـ
فملكية الناس للمال ملكية حيازية مؤقتة ووسيلة لمساعدة الفرد على عبادة الله وعمارة الأرض
وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ (33)}[النور].
ولقد أمرنا الله في كثير من الآيات بإنفاق المال في سبيل الله تعالي .
ثالثا :ـ جعل الله الإنفاق في سبيله اختبارًا حاسمًا تختار فيه بين وعد الله ووعد الشيطان..
يقول عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء.. وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(268)} [البقرة].
رابعا :ـ في إنفاق المال ضرورة حتمية للمحافظة على أعراض المسلمين وأموالهم وتقوية اقتصاد الأمة الإسلامية :ـ
فنحن نعلم أن الطواغيت والكفار والفراعنة ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ويعتدون على المسلمين فينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم وييتمون أولادهم ويشردون شيوخهم ..
ولقد صور القرآن العظيم ذلك تصويرا بليغاً فيقول الله تبارك وتعالى :{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} [الأنفال] .
أما الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله فقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)} [الأنفال].
العنصر الثالث :ـ وسائل التحفيز إلي الإنفاق في سبيل الله تعالي :ـ
1ـ الجنة نتيجة حتمية للإنفاق:ـ
جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال.. فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)} [آل عمران]. فأول صفة تُذكر للمتقين: أنهم ينفقون في السراء والضراء!! يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: في الشدة والرخاء، والمنشط والمكره، والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال".
ويتضح بالفعل أننا نعاني من قصورٍ شديدٍ في فهم حقيقة الجنة.. فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة؛ فكانوا يستعذبون الآلام في سبيلها, ويستمتعون بالموت من أجلها!!
"الجنة" كثيراً ما تتردد علي أسماعنا؛ فلا تُحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوب الصحابة، ولابد أن نقف مع أنفسنا لحظات؛ فنسألها: لماذا؟!
ولقد وعد الله عز وجل المؤمنين بالجنة مقابل جهادهم بالمال والنفس،فقال الله تعالى:{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم.. بِأَنَّ لَهُمُ (الجَنَّةَ (111)} [التوبة].
ثم يقول بعد قليل في نفس الآية: {فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ.. وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}!! لقد كان تجاوب الصحابة مع وعد الله بالفوز والجنة سريعًا وواقعيًّا بصورة لافتة للنظر، تأمل رد فعل أبي طلحة الأنصاري تجاه آية واحدة من كتاب الله.. طالما قرأناها!!
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه "بيرحاء" (اسم بستانه من النخل)، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب.
قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ(92)} [آل عمران].
قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}، وإن أحب أموالي إلي "بيرحاء".. وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرَهَا عند الله.. فضعها يا رسول الله حيث أراك الله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ!! ذلك مال رابح! ذلك مال رابح!.. وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: "أفعل يا رسول الله".. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه..
هكذا تعامل مع وعد ربه بصدق وصراحة.. ودون تسويف بحث عن أفضل ما يحب من ماله (بستانه!!)، وبذله لربه في كلمة واحدة!!، ولم يكن هذا السلوك استثناءً في أخلاق الصحابة.. ولا كان لحظة تسرُّعٍ من أبي طلحة.. كل ما هنالك أنهم كانوا يرون الجنة أمامهم بكل ما فيها من نعيم.. يرونها دائمًا.. أمام كل قول أو فعل أو تضحية..
وما أدراكم ما الجنة؟
روى الإمام مسلم رحمه الله عن المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (ﷺ):
"سأل موسى عليه السلام ربه: "ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة.. فيقول: أَي رب.. كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟!، فيقال له: أما ترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟، فيقول: رضيت رب.. فيقول: لك ذلك ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ!، فقال في الخامسة: رضيت رب!!، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله!.. ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك..!، فيقول: "رضيت رب!"، قال موسى عليه السلام: "رب فأعلاهم منزلة؟!"، قال: "أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها؛ فلم تَرَ عينٌ ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر".. قال صلى الله عليه سلم: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ(17)} [السجدة].
وليس معنى ذلك أن يقتصر المسلم في سعيه إلى الجنة على الرغبة في أدنى الدرجات، بل هو مأمور بالحرص على المعالي، وطلب الفردوس الأعلى في الجنة برفقة النبي (ﷺ) الذي يقول: «فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس» [رواه البخاري].
اللهم إنا نسألك الفردوس..
2ـ الجمع بين الصلاة والإنفاق:
كثيرًا ما جمع الله بينهما في كتابه الكريم، ومن المعروف أن الصلاة عماد الدين، وهي أهم عبادة في الإسلام،ومن ثَمَّ يأخذ الإنفاق في سبيل الله من قلب المؤمن حيّزًا يقترب من حيز الصلاة.
تأمل قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً(21)} [المعارج].
صفات أساسية مجبول عليها الإنسان: الهلع، والجزع، والمنع: أي البخل.. ثم يأتي الاستثناء:{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ(23)} [المعارج].
فالصلاة أولاً، ثم ماذا؟{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(25)} [المعارج]
فجاء الإنفاق تاليًا للصلاة مباشرة..
فهم ذلك أصحاب النبي (ﷺ) حتى صار منهج حياتهم، فقد روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "أُمرنا بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له" [ضعفه الألباني].
ومن هنا كان هذا الموقف الحاسم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، ذاك الرجل الذي لا تنقضي عجائبه!!، فإنه لما ارتدت القبائل، وكان منها من ارتد بمنع الزكاة فقط، رأى بعض الصحابة أن أهل هذه القبائل ما داموا قد شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.. فلا يقاتَلون.. أما الصديق رضي الله عنه فكان يعلم أن الجميع متفقون على أن منكر الصلاة كافر.
ولاحظ هو رضي الله عنه أن الله قد جمع بين الزكاة (الإنفاق) وبين الصلاة في مواضع كثيرة جدًا في القرآن الكريم، فقال قولته الحكيمة: "لا أفرق بين شيئين جمعهما الله"!!، انظر إلى الفقه!، فإذا كان حكم إنكار الصلاة كفرًا، والله قد جمع بين الصلاة والزكاة كثيرًا.. فإنكار الزكاة كفر إذًا.. المهم عندنا أن نفهم أن هذا الجمع بين الصلاة والإنفاق لم يتكرر بين الصلاة وشيء آخر.. مما يحفز المؤمن على الاهتمام بالإنفاق والتدريب عليه..
3ـ المبادرة قبل فوات الوقت :ـ
ومن وسائل التحفيز: "التحذير من التسويف والتأجيل"، وهذه آفة خطيرة؛ فالشيطان لا يأتي للصالحين يقول لهم: لا تنفقوا أموالكم.. ولكن ويأتي ويقول: فلتدفعوا غدًا، أو بعد غدٍ، أو فلتدفع بعد أن تشتري كذا وكذا، أو فلتدفع بعد أن يأتي لك مبلغ كذا وكذا...
الشيطان إذن يستعمل وسيلة التسويف، ولا شك أنها فعالة!، استمع إلى قوله تعالى يحفزك على الإنفاق: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(11)} [المنافقون].
تصدق؛ فقد تكون هذه الصدقة هي المرجحة لكفة الحسنات؛ فتسعد سعادة لا شقاء بعدها!
4ـ والله يضاعف لمن يشاء..!!
ومن وسائل التحفيز على الإنفاق أيضًا مضاعفة الحسنات بشكل فريد.. فإننا في كل أمور الخير قد اعتدنا أن تضاعَفَ الحسنات إلى عشر أمثالها، كما في قوله سبحانه وتعالي مثلا: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ(160)} [الأنعام].
أما في الإنفاق.. فالأمر مختلف؛ ذلك أن الإنسان جُبل كما ذكرنا علي حب المال، ويحتاج إلى دوافع كبيرة, ومحفزات عظيمة..
فيزيد الله في أجر الإنفاق أكثر من أمور الخير الأخرى؛ حيث يتضاعف إلى أجور كثيرة.. إلى سبعمائة ضعف!! انظر إلى قوله سبحانه وتعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)} [البقرة].
والله إنه مشروع اقتصادي هائل!!، لو أنفقت ألف جنيه ،كان المردود ما يوازي سبعمائة ألف جنيه!!، لابد أن تفكر.. لماذا توافق على أن تضع ألف جنيه في مشروع دنيوي يعود عليك بألفين مثلاً.. ولا تضعها في مشروع رباني يعود عليك بسبعمائة ألف؟؟!
مع أن المشروع الأول دنيوي غير مضمون، والمشروع الثاني رباني مضمون لا شك فيه؟!! فكِّر.. والحمد الله أنك مازلت حيًّا، ومازالت أمامك الفرصة للاستثمار..
روى الإمام أحمد والترمذي وصححه.. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):"إن الله عز وجل يقبل الصدقات, ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم, كما يربي أحدكم مُهرَهُ أو فُلُوَّهُ أو فَصِيلَهُ.. حتى إن اللقمة لتصير مثل جبل أحد!!"..
5ـ ما نقص مال من صدقة!!
يقسم الصادق المصدوق (ﷺ) أن الصدقة لن تُنقص من مالك.. بمعنى أنه لابد أن يتم التعويض في الدنيا قبل الآخرة، إما بمال قادم، أو برفع أمر كنت ستنفق فيه مالك حتمًا.. والمسلمون لا يحتاجون لقسم رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى يصدقوه، ولكنه يقسم على أشياء قد يتسلل الشك فيها إلى قلوب البعض؛ وذلك تأكيدًا لها، وتحفيزًا لمن تزعزع قلبه واهتز يقينه..
روي الترمذي وقال: حديث حسن صحيح, وروى الإمام أحمد أيضًا عن أبي كبشة عمرو بن سعد الناري قال: قال رسول الله (ﷺ): «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال عبد من صدقة»..
هذه أول الأشياء التي يُقسم الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم عليها في يقين.. ثم يقول: «ولا ظُلم عبد مظلمةً فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا.. ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر». وكلها أمور تحتاج إلى كثير يقين، وإلى عظيم عقيدة.
ثم انظر إلى قوله تعالى.. يطمئنك بالتعويض الرباني عمَّا أنفقت: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ (39)} [سبأ].
نعم، هو الذي يُخْلِفه.. وهو الواسع العليم...
بل تأمل هذا الحديث العجيب والتحفيز الرباني بالتعويض.. روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال: «قال تعالى: "أنفق يا ابن آدم.. أُنْفِقْ عليك"» [رواه البخاري].
سبحان الله! إذا أنفقت علي أهل بيت فقراء أو مجاهدين أو يتامي أو أرامل أو غيرهما.. أنفق الله عليك.. أما ترضى أن ينفق الله عليك؟!
واعلم علم اليقين أنك كمؤمن عاداتك كلها عبادات، بينما المنافق عباداته سيئات، الدليل قال تعالي{وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(121)}[التوبة].
حينما تنفق على أهلك، وعلى أولادك، وحينما تجلس مع أهلك وأولادك، وحينما تأخذهم إلى نزهة، حينما ترحم من حولك، حينما تكسب مالك بالحلال أنت في عبادة، أنت آمنت بالله، أعمالك كلها في عبادة و هذه الآية هي الدليل، من هذا الذي ينبغي أن تعطيه، قال تعالي: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}[البقرة]
و تعلموا من النبي عليه الصلاة والسلام حينما قالت له السيدة عائشة رضي الله عنها يا رسول الله، لم يبق إلا كتفها، قال:(بل بقيت كلها إلا كتفها ) [ الترمذي].
6ـ القرض الحسن مع الله عز وجل ..
في موضوع الحث علي الإنفاق يستعمل القرآن ألفاظًا عجيبة لا يتخيلها الناس, ولا يتوقعونها
انظر إلى كتاب ربك كيف يناديك وينادي غيرك متلطفا متحببًا: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً
حَسَناً؟؟، فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً.. وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)} [البقرة]. سبحانك يا الله!! كم أنت كريم!!.. المال مالك، والعبيد عبيدك، ثم أنت سبحانك تستقرضنا من مالك؟ ثم إذا أقرضناك أموالنا ضاعفت لنا أضعافًا كثيرةً ؟ سبحان الله!!
إن إلهاً بهذه الصفات لجدير أن يُعبد، وأن يُحَبَّ، وأن يُعَظَّمَ، وأن يُبَجَّلَ، والآية فعلاً عجيبة، وسياقها مبهر، وكما تعجَّبْنا منها فقد تعجب منها الصحابة، لكن انظر إلى التعجب الإيجابي.. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إنه لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري: "يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح»
قال: "أرني يدك يا رسول الله" قال عبد الله بن مسعود: فناوله يده، قال: "فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي أي حديقتي"، وأرضي.
قال عبد الله بن مسعود: "وحائطه فيه ستمائة نخلة" وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: "يا أم الدحداح، قالت: "لبيك" قال: "اخرجي؛ فإني قد أقرضته ربي عز وجل"!!.. [صححه الألباني].
عطاء في كرم، وقرار في حسم، لقد كان أبو الدحداح الأنصاري رضي الله عنه معطاءً بشكل عجيب..
روى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "لما انصرف رسول الله (ﷺ) من جنازة أبي الدحداح رضي الله عنه قال: «كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح»
كم من فروع نخيل لأبي الدحداح رضي الله عنه في الجنة!
يذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم سبب ذلك فيقول: إن يتيمًا خاصم أبا لبابة رضي الله عنه) في نخلة، فبكى الغلام، فقال النبي (ﷺ) له: أي لأبي لبابة أعطه إياها ولك بها عذق في الجنة.. فقال: "لا".
فسمع أبو الدحداح فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له، ثم قال: "يا رسول الله، ألي بها عذق إن أعطيتها اليتيم؟" قال: "نعم"..
ثم قال: "كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح" ثم مرت الأيام وذهب أبو الدحداح، وذهب الغلام، وذهب الحائط، وذهبت النخلة، ولكن ماذا بقي؟ بقي عذق أبي الدحداح في الجنة،{مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ(96)} [النحل].
فارق كبير جدًا بين رد فعل أبي الدحداح للآية الكريمة: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً}،وبين رد فعل اليهود لما نزلت الآية نفسها.. قالت اليهود: "يا محمد، افتقر ربك فسأل عباده القرض ؟
انظر إلي سوء الأدب، وفظاظة اللفظ، ووقاحة الفعل!!، فأنزل الله عز وجل: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ(181)} [آل عمران].
ولا يمكن لمثل تلك النفوس المريضة أن تبصر جلال الحكمة والكرم الإلهيين من وراء سؤال المؤمنين القرض الحسن.. فحقيقة الأمر أن الله قد رفع كثيرًا من شأن عباده يوم جعل إنفاقهم في سبيله قرضًا حسنًا يسألهم إياه، مع أنه صاحب الفضل والعطاء أولاً وآخرًا، ومع أنه الغني عن عباده، وهم جميعًا فقراء إليه.
إن الله تبارك وتعالى يعلم حرص النفس الإنسانية على المال، وحبها له؛ فيعطف سبحانه على هذه الغريزة في عباده.، مصوِّرًا إنفاقهم في سبيله بصورة القرض الحسن!!
ولا يملك المؤمن إن فقه هذا المعنى إلا أن يذوب حياءً من ربه, ويفيض عطاءً وإنفاقًا لماله في سبيل رضا مولاه.
لقد كان استشعار الصحابة رضوان الله عليهم بالغًا لهذا المعنى (معنى إقراض الله)؛ فها هي آيات القرآن الكريم تواصل حثهم وتحفيزهم بمثل قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ؟(104)} [التوبة].
فصاروا يوقنون بوقوع الصدقة في يد الله سبحانه قبل أن تقع في يد الفقير..
7ـ الوقاية من النار ، وتكفير السيئات :ـ
روى الشيخان أن النبي (ﷺ) قال:{اتقوا النار ولو بشق تمرة}[أخرجه البخاري،ومسلم].
ويقول (ﷺ):{الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار}. [أخرجه الترمذي]
8ـ انشراح الصدر، وطيب النفس:ـ
يقول الله جلَّ وعلا:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ (7)} [الليل].
ويقول (ﷺ): "مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْبَخِيلِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ ثُدِيِّهِمَا إِلَى تَرَاقِيهِمَا، فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ أَنْ يُنْفِقَ سَبَغَتْ حَتَّى تعفن جلده، وتخفي بَنَانَهُ، وتمحو أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ لَصَقتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكانهَا كلما أراد أن يُوَسِّعُهَا وَهِىَ لاَ تَتَّسِعُ".
9ـ المنفق في ظل عرش الرحمن يوم القيامة :ـ
وذكر من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه} [متفق عليه].
العنصر الرابع :عاقبة الشح والبخل :ـ
وكما اهتم الإسلام بتحفيز النفس على البذل والتطهر من الشح.. فقد سلك في تربيتها جانبًا آخر هامًّا لا يمكن إغفاله؛ فأوضح أن الجهاد بالمال ليس بالأمر الاختياري أو الثانوي، يستطيع الإنسان أن يتجاوزه أو يحيد عنه متى شاء، وإنما هو سلوك إسلامي أصيل يبلغ درجة الفريضة والركن أحيانًا كما في الزكاة ، ويظل فيما سوى الفريضة معلمًا مميزًا من معالم النفس المسلمة، ودعامة هامة لحياة وسلامة المجتمع المسلم.. فقد روى الطبراني عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):"إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم.. ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم.. ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا" [ضعفه الألباني]..
فلن ينجو الأغنياء بأموالهم طالما هناك فقراء يجوعون ويعرون..
وكذلك روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله (ﷺ) في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال: «يا معشر النساء تصدقن؛ فإني أُرِيُتُكُنَّ أكثر أهل النار!!»،فقلن: "وبِمَ يا رسول الله؟!"، قال: «تُكْثِرْنَ اللعن, وتكفرن العشير»..
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَتْ له صفائحُ من نار، فأُحْمِيَ عليها في نار جهنم، فيُكوَى بها جنبُهُ وجبينُهُ وظهرُه.. كلما بَرَدَتْ أُعيدَتْ له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقْضَى بين العباد فَيَرَى سبيلَهُ: إما إلى الجنة، وإما إلى النار»
قيل: "يا رسول الله، فالإبل؟"، قال: «ولا صاحبَ إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها: حلبُها يوم وِرْدِها - إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ (أي: جُعِلَتْ في أرض مستوية ملساء) أَوْفَرَ ما كانت؛ لا يَفْقِدُ منها فَصِيلاً واحدًا، تَطَؤُهُ بأخفافها (أي: تدوسه)، وتعضه بأفواهها.. كلما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد؛ فيرى سبيله: إما إلى الجنة, وإما إلى النار».
قيل: "يا رسول الله، فالبقر والغنم؟"، قال: «ولا صاحبَ بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ, لا يفقد منها شيئًا.. ليس فيها عقصاء (ملتوية القرن)، ولا جلحاء (ليس لهل قرن)، ولا عضباء (مكسورة القرن).. تنطحه بقُرُونِهَا، وتطؤه بأظلافها، كلما مَرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها.. في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضَى بين العباد؛ فيرى سبيلَهُ: إما إلى الجنة، وإما إلى النار».. قيل: "يا رسول الله, فالخيل؟"، قال: «الخيل ثلاثة: هي لرجل وِزْرٌ، وهي لرجل سِتْرٌ, وهي لرجل أجر؛ فأما التي هي له وِزر فرجل ربطها رياءً وفَخْرًا ونِوَاءً (أي: عداءً) لأهل الإسلام؛ فهي له وزر، وأما التي هي له سِتْرٌ فرجل رَبَطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظُهُورها ولا رقابها؛ فهي له سِتْر، وأما التي هي له أَجْرٌ فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كُتب له عدد ما أكلت حسنات، وكُتب له عدد أرواثها وأبوالها (فضلاتها) حسنات، ولا تَقْطَعُ طِوَلَهَا (وهو الحبل الذي تُقاد منه)، فاسْتَنَّتْ (جرت بقوة) شَرَفًا أو شَرَفَيْن (الشَّرَف: قرابة الميل) إلا كُتِبَ له عددُ آثارها وأرواثها حسنات، ولا مَرَّ بها صاحبها على نهر؛ فشربت منه، ولا يريد أن يَسْقِيَهَا.. إلا كتب الله تعالى له عدد ما شربت حسنات»، قيل: "يا رسول الله، فالحُمُر؟"، قال: «ما أُنْزِلَ عليَّ في الحُمُر شيءٌ إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)} [سورة الزلزلة].
بل انظر إلى هذا التحذير الرهيب في الحديث الذي رواه مسلم عن الأحنف بن قيس قال: كنت في نفر من قريش، فمر أبو ذر وهو يقول: "بَشِّر الكانِزِين بِكَيٍّ في ظهورهم.. يخرج من جنوبهم، وبِكَيٍّ من قِبَلِ أقْفَائِهِم.. يخرُجُ من جِبَاهِهِم.. قال: ثم تَنَحَّى فَقَعَدَ".. قال: قلت: "من هذا؟"، قالوا: "هذا أبو ذر".. قال: فقمت إليه فقلت: "ما شيء سمعتُك تقول قُبَيْل؟" (أي: قبيل قليل)، قال: "ما قُلْتُ إلا شيئًا قد سمعتُه من نبيهم صلى الله عليه وسلم". قال: قلت: "ما تقول في هذا العطاء؟"، قال: "خُذْهُ؛ فإن فيه اليوم معونة.. فإذا كان ثَمَنًا لدِينِك فَدَعْهُ".
بهذا المنظار إذًا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ينظرون إلى المال: إما أن يكون عونًا على الحياة ومطالبها، وإلا فهو في سبيل الله.. لأنه لو عُزِلَ عن المحتاجين إليه وقت حاجتهم، واكتنزه صاحبه دونهم، فالعاقبة وخيمة جدًّا كما رأينا..
نسأل الله السلامة من الشح وعواقبه.
وليس عقاب الشح خاصًا بصاحبه فقط.. بل إن شؤمه يعمُّ الأمة جميعًا!!
ألم تَرَ إلى ذلك التحذير النبوي الذي يَذكر سوء الجزاء الذي ينتظر المجتمعات التي لا تؤدي حق الله في أموالها.
روى ابن ماجة والبزار والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (ﷺ) قال: «يا معشر المهاجرين، خصال خمس إن ابتليتم بهنَّ ونزلن بكم أعوذ بالله أن تدركوهنَّ...»، وذكر منها: «ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ مِنَ السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا!!»
فقيمة المجتمع الذي يبخل أبناؤه بما في أيديهم، أقل من البهائم!!، ولا يستحقون فضل الله لولا البهائم التي تحيا إلى جوارهم على فطرة الله لا تتعداها..
أيها الأحبة في الله ...كم هو قصير هذا العمر، وأخشى عليكم من ليلة ليس لها صباح.. يجيء فيها الموت بغتة كعادته.. فتقول تعالي: {رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)} [سورة المنافقون].
أخشى عليكم من لحظة يقول فيها العبد: {رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ (100)} [ المؤمنون].
ها أنت وكأنك رجعت.. فاعمل ليوم لا رجعة فيه..
العنصر الخامس : صورة من التاريخ من وحي "تبوك"..
تعالوا نغُوص في أعماق التاريخ.. لنذهب إلى المعسكر الدائم للإيمان.. إلي المدينة المنورة.. ونصل إلى ساحة واسعة يجلس فيها خير الخلق محمد صلي الله عليه سلم، وعن يمينه ويساره وأمامه جماعات من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.. يحفزهم صلى الله عليه وسلم على الإنفاق لتجهيز جيش عظيم في وقت عصيب اشتد فيه الحر، وعظم فيه الخطب، وطال فيه السفر، وقل فيه الزاد، وحان وقت القطاف، لكن لابد من المغادرة.. هذا تجهيز جيش العسرة.. جيش تبوك.. ترى ماذا فعلوا حتى ينزل الله في حقهم: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ (117)} [التوبة]..
لقد فتح الرسول (ﷺ) باب التبرع علانية؛ حتى يحفز المسلمون بعضُهم بعضًا.. وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. قام يشتري الجنة!!
لقد قام فقال: "علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!، فَسُرَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً؛ فهذا عطاء كثير! ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانيةً (يزايد علي نفسه!)، قال: "علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله"!!،
فسعد به رسول الله صلي الله عليه وسلم سعادة عظيمة.. حتى إنه قال: "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم!"..
ولكن.. هل سكن عثمان أو اطمأن؟! انظر إليه.. لقد أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلي ثلاثمائة بعير!! (وفي رواية: تسعمائة بعير، ومائة فرس!!)، ثم ذهب إلي بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلي الله عليه وسلم.. ورسول الله صلي الله عليه وسلم يقلِّبها متعجبًا!..
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه.. أتى بأربعة آلاف درهم، وقد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان.. لكنها تُعتبر أكثر نسبيًّا من عطاء عثمان سبحان الله لأنها كل مال أبي بكر
الصديق.. حتى إن رسول الله (ﷺ) سأله: "وماذا أبقيت لأهلك؟!"
قال له في يقين: "أبقيت لهم الله ورسوله".
وأتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله، وهو كثير.. بل كثير جداً..
عبد الرحمن بن عوف أتى بمائتي أوقية من الفضة، وهذا أيضًا كثير!!
كانوا بصدق يشترون الجنة!! وما أزهد الثمن.. وما أعظم السلعة!.. "ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة".
بل إن النساء أتت بالحلي.. كان الكل يشارك.. كانت قضية إسلامية تشغل كل فئات الأمة حتى الفقراء الذين لا يملكون إلا قوت يومهم!!، جاءوا بالوسق والوسقين من التمر!!، تمر قليل يُجهزون به الجيش الكبير؟!
نعم قليل، لكن هذا كل ما يملكونه، سيطعمون جندياً أياماً.، قد لا يعني هذا في نظر بعض الناس شيئًا.. لكنها تعني بالنسبة لهم الكثير، وتعني أيضا عند الله الكثير والكثير، حتى إن المنافقين كانوا يسخرون من هذه العطايا البسيطة؛ فأنزل الله دفاعًا عظيمًا في كتابه عن هؤلاء الفقراء المتصدقين.. يقول تعالي: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(79)} [التوبة].
فالله تعالى بنفسه هو الذي يرد على سخرية المنافقين.. فاللهم نسأل أن يرزقنا رزقا واسعا حلالا وأن يبارك فيه وأن يعيننا علي الإنفاق ويتقبل منا ويخلف علينا إنه ولي ذلك ومولاه .
===============
رابط doc
رابط pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق