السبت، 29 يوليو 2023

المعايشة الإيمانية لاسم الله الشكور





الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله الحليم الشكور ، أنعم علي عباده بالنعم التي لا تعد ولا تحصي ،وعد الشاكرين بالمزيد فقال تعالي{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7)}[إبراهيم].
لك الحمدُ ربَّنا بالإسلام، ولك الحمدُ بالقرآن،ولك الحمد بالصيام والقيام، ولك الحمدُ بالأهل والمال والمُعافاة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. وضع الآيات عبرة وعظة للشاكرين فقال تعالي {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}[لقمان].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) سيد الشاكرين وإمام الذاكرين يقومُ لربِّه من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟».
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين.
 أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون 
إن حال المسلم دائما بعد كل عبادة أن يقدم الشكر والإعتراف لله بالفضل أن وفقه لأداء العبادة ، فبعد عبادة الصوم قال تعالي{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(185) }لبقرة].
وقال تعالي في معرض الحديث عن الأضحية{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)}[الحج] .
وبعد أداء كل عمل صالح حاله الحمد والشكر ،ممتثلا قول الله تعالي {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ (43)}[الأعراف] .
فمقامُ الشكرمن أعلي المقامات ومنزلة من أرفع المنازل التي يتحلي بها السائرين إلي الله تعالي ،والشكر من أسماء الله الحسني التي ينبغي أن نعيش به في حياتنا ، حتي نُحسن التعامل مع جميع نعم الله تعالي ،فنِعَم الله تترى على العباد في كل لحظة ،بل مع كل نَفَس كما قال تعالي {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم].
فبها يزداد الإيمان واليقين في القلب ، فيسعد الإنسان في الدارين .
لذلك كان حديثنا [عن المعايشة الإيمانية لاسم الله الشكور]، وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ اسم الله الشكور في القرآن الكريم.
2ـ معنى اسم الشكور في حق الله تعالي.
 الفرق بين الشكر والحمد.
4ـ المعايشة الإيمانية لاسم الله الشكور .
5ـ فضل الشكر ومنزلة الشاكرين .
6ـ  قواعد في الشكر . 
7ـ ذم الجحود والنكران وعاقبته في الدنيا والآخرة .
======================
العنصر الأول : اسم الله الشكور في القرآن الكريم :
ورد اسم الله تعالى الشكور مقترنا بالغفورفي مواضع منها :ـ
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)} [فاطر].
وقوله تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}[فاطر].
وقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}[الشورى].
ورد اسمه تعالى الشكور مقترناً باسمه الحليم في قوله تعالى:{إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ(17)} [التغابن].
نلاحظ أن اسم (الشكور) قد اقترن ثلاث مرات باسم (الغفور) واقترانه به يفيد أنه غفور لمن عصاه، وشكور لمن أطاعه، وقيل: إنه غفور لذنوبهم. شكور للقليل من أعمالهم
وورد مقترنا بالصبور في قوله تعالي {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}[إبراهيم].
وقوله تعالي {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} [لقمان].
وقوله تعالي {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(19)}[سبأ].
وورد اسم الشكور بلفظ (الشاكر) في القرآن الكريم مرتين؛ مرة بلفظ (شاكرٌ) بالرفع، في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} [البقرة] .
ومرة بلفظ (شاكراً) بالنصب، في قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء].
العنصر الثاني : معنى اسم الشكور في حق الله تعالي:
 الشاكر والشكور : الذي يشكر القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل، ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب، ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة تقرب الله منه أكثركما يقول النبي (ﷺ):{ما تصدَّقَ أحدٌ بصدَقَةٍ منْ طيِّبٍ، ولا يقبَلُ اللهُ إلَّا الطيبَ، إلَّا أخذَها الرحمنُ بيمينِهِ، وإِنْ كانتْ تَمْرَةً، فتربُو في كفِّ الرَّحمنِ حتى تَكونَ أعظمَ مِنَ الجبلِ، كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّهُ أوْ فَصيلَهُ}[صحيح الجامع ]. 
قالوا ومن معنى الشكور أنه سبحانه يرغب الخلق في الطاعة قلّت أو كثرت لئلا يستقلوا القليل من العمل، لذا كانت عائشة رضي الله عنها عندما تقرأ {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)} [الزلزلة].
 تأتي بشطر تمرة وتتصدق به وتتأول الآية وتقول مثقال ذرة إذا تمرة خيراً يره. 
قالوا وإذا أثنى الرب على عبده فقد شكره، والثناء يكون في الملأ الأعلى كما ورد في حديث ثناء الله على عبده وهو يقرأ الفاتحة. {فإذا قالَ العبدُ:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، قالَ اللهُ تعالى: حمدني عبدي، وإذا قالَ: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قالَ اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قالَ(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قالَ: مجَّدني عبدي}.[رواه مسلم].
وحين تصلي على النبي (ﷺ) يثني عليك في الملأ الأعلى، {من صلَّى عليَّ واحدةً، صلَّى اللهُ عليه عشرَ صلواتٍ، و حطَّ عنه عشرَ خطيئاتٍ، و رفعَ له عشرَ درجاتٍ}[صحيح الجامع].
وثناء الله غير ذكره لعبده قال تعالي {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} [البقرة].
فسبحان الله العظيم هدانا للأعمال الصالحة ، ويثني علي بعد ذلك ، يعطي ويثني عليك ،ويثيب الجزيل ،وهل هناك أكثرُ إحساناً عليك وإنْعاماً ممن رزقك وأنت في بطن أمك ؟
وسوّغ لك الطعامَ والشراب ؟ وألبسك لباسَ الصحة والعافية ؟ وأعطاك المال والأهل والولد ؟ وذكّرك مولاك بنعمته فقال تعالي{أَلَمۡ نَجۡعَل لَّهُۥ عَيۡنَيۡنِ (8) وَلِسَانٗا وَشَفَتَيۡنِ (9) وَهَدَيۡنَٰهُ ٱلنَّجۡدَيۡنِ (10)}[البلد]
قال سيدنا موسى عليه السلام: {يا رب إن أنا بلغت رسالاتك فمن عندك وإن أنا صليت فمن عندك وإن أنا فعلت كذا وكذا من أفعال الطاعات فمن عندك ومن قبلك فكيف أشكرك؟ قال: "الآن شكرتني"}.فالعجز عن الشكر تمام الشكر.
العنصر الثالث: الفرق بين الشكر والحمد :
 الفرق بين الشكر والحمد من وجهين:
الأول: الشكر يكون بالجوارح، والحمد يكون باللسان وبالقلب.
ولذلك نسمع بسجود الشكر، ولا نسمع بسجود الحمد، لأن الشكر يكون بالجوارح.
 ومضى في أركان الشكر أنه يكون بتسخير النعمة في طاعة الله، وهذا عمل، والعمل بالجوارح.
الثاني: الشكر يكون عند البلاء، والحمد يكون على كل حال، وقد كان النبي (ﷺ)  إذا أصابته سراء قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات»، وإن نزل به بلاء قال: «الحمد لله على كل حال».
العنصر الرابع : المعايشة الإيمانية لاسم الله الشكور:
قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء:"واعلم أن الشكر من جملة مقامات السالكين وهو ينظم من علم وحال وعمل".
قال: فالعلم هو الأصل، وهو يُورث الحال، والحال يُورث العمل.
1ـ معرفة النعمة من المُنعم سبحانه وتعالي:
اعتراف العبد بمنة الله عليه ، وإقرارٌ بنعمِه عليه من خيرَي الدنيا والآخرة في النفس، وفي الأهل والمال والأعمال، وفي شأن العبد كلِّه ،والشكرُ دليلٌ على أن العبدَ راضٍ عن ربِّه.
واليقين بأن هذه النعمة ليست من أحد سوى الله، ولا تلتفت للأسباب مطلقاً بل ترى نجاحك وتوفيقك في شتى أمورك محض فضل من ربك، وأن من سوى الله من الخلق إنما هم سببٌ لجريان شيء مِن النِّعم على أيديهم .قال تعالي { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ(53)}[النحل]
وهذا يسمي شكر القلب.
2ـ الفرح بإنعام الله لك :
إن لم تجد هذا الفرح فاعلم أنك لم تعرف نعمة الله من الأساس. لذا دائماً أقول اكتبوا نعم الله ، تفكروا فيها، وانظروا لمن حرمها. انظر لمن فقد بصره حتى تفرح ببصرك، وانظر لمن حرم الأولاد وينفق الآلاف لكي يرزق بطفل واحد وأنت عندك ثلاثة وأربعة، انظر له لتفرح بنعمة ربك. إذا فقدت إحساسك بالنعمة فابحث عن من فقدها، فإذا استشعرتها وشعر قلبك بالفضل والفرح والانشراح بها فهنا يتولد عن هذا الحال العمل.
وهذا يسمي شكر اللسان لقوله تعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}[الضحي].
فيتحدّث العبدُ بنعمة ربِّه عليه اعترافاً بـها ، وقبولاً لها ، وشكراً لمن أسداها ، وأنعمَ عليه بـها. فيتحدث العبد بنعمة الله عليه بلسان مقاله ، وبلسان حاله .
وفي صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبيِّ (ﷺ) أنه قال : سيدُ الاستغفار أن تقول : "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدُك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ،أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليّ ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي ، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" .
تضمّنَ الحديثُ الاعترافَ بنعمةِ اللهِ عليه . فكلُّ نعمةٍ فمن الله وحدَه حتى الشكر فإنه نعمةٌ وهي مِنْـهُ سبحانَه ، فلا يطيقُ أحدٌ أن يشكرَه إلا بنعمته ، وشكرُه نعمةٌ مِنْهُ عليه ، كما قال داود عليه الصلاة والسلام : يا رب كيف أشكرُك وشكري لك نعمةٌ من نعمك عليّ تستوجبُ شكراً آخر ؟ فقال : الآن شكرتني يا داود .
3ـ العمل علي رضا المُنعم سبحانه وتعالي :
إذا شعرت بقيمة النعمة بذلت وسعدك في تحقيق مقصود المُنعم ومحبوبه ، تجدك تريد أن تبذل لله.. تصلي أو تتصدق أو تكشف كربة أو تعين أحداً.. تفعل أي شيء يرضي الله فتفعل "
ويكونُ الشكرُ عَمَلاً بالجوارح بأن لا تعملِ الجوارحُ إلا بما يُرضي مولاها سبحانه .
فيعمل العبدُ بطاعة ربِّه ، خِدمةً لسيِّدِه ، لا يرى أنه صاحب معروفٍ بعمله ، بل ينظر إلى أعماله كلِّها على أنـها قطرةٌ في بحر جودِ مولاه جل جلاله ، وأنه مهما عمِلَ من عملٍ فإنه لا يؤدّي شُكرَ أقلَّ نعمةٍ يتقلّبُ بـها ، ولذا قام النبي صلى الله عليه و سلم الليل حتى تفطرت قدماه فقيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال: (أفلا أكون عبداً شكورا) ،{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ(13)}[سبأ].
فيجب أن يتواطأ القلب واللسان والجوارح بالشكر، فهي منظومة متكاملة، آخذ بعضها بآخية بعض، وقد أنعم الله عز وجل على العبد بالجوارح والأعضاء التي لا تُقدّر بثمن ، ولو كانت تُباع أو تُتشرى لكان الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال أكثر الناس تمتعاً بالصّحة !
قال سهل بن عبد الله :الشكر :الاجتهاد في بذل الطاعة ، مع اجتناب المعصية في السر والعلانية .
وقال الجُنيد : الشكر ألاّ يُعصى اللهَ بِنِعَمِه .
وقال الشِّبلي : الشكر : التواضع ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة جبار الأرض والسماوات .
لذلك كان الشكر بالقلب والجوارح واللسان، فلا يكون شاكر إلا إذا كان قلبه مخبت، ولسانه ذاكر، وكذلك جوارحه منقاده بالطاعة لله سبحانه وتعالى.
يقول الأصفهاني في المفردات: "الشكر تصور النعمة وإظهارها وهو ثلاثة أدرب:
- شكر القلب: وهذا بتصور النعمة ودوام رؤيتها.
- وشكر اللسان: بالثناء على المنعم سبحانه وتعالي.
- وشكر سائر الجوارح: وهو مكافأة النعمة بقدر إستحقاقها، وهو أن كل شيء بك
يذعن لله سبحانه وتعالى".
ويقول ابن القيم رحمه الله: "الشكر مبني على خمس قواعد وهي :
1. خضوع الشاكر للمشكور، وحظها منك الذل والانكسار لله تعالى.
2. حب العبد للمُنعم سبحانه وتعالي ،وأن يزداد المؤمن في حبه لله تعالى.
3. اعتراف العبد بنعمة الله عليه واقراره بها، فيكثر من قوله: "أبوء لك بنعمتك علي"، ويكثر من التحدث بنعم الله تعالى. يتحدث بالنعمة لذكر المُنعم وبيان فضله لا لبيان النعمة والزهو بها.
4. ثناء العبد علي المُنعم سبحانه وتعالي بالنعمة.
5. ألا يستعمل النعم فيما يكره، لا يعصي الله ويبارزه بها.
العنصر الخامس : فضل الشكر ومنزلة الشاكرين :
إن مقام الشكر له منزلة عالية ودرجة رفيعة ، وبالشكر رفع الله الشاكرين الدرجات العليا في الدنيا والآخرة  ، وقد ميز الله الشكر والشاكرين بالفضائل العظيمة منها ...
1ـ الشكرُ أولُ وصيَّةٍ وصَّى الله تعالي بها الإنسان:
قال تعالي {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان].
2ـ نصف الإيمان :
فالشكر من أهم الأعمال الصالحات التي يتقرب بها العبد المسلم إلى نيل رضا ربه سبحانه وتعالى، ومنزله في الدين عظمية فهو نصف الإيمان فالإيمان نصفان، الصبر نصف، والشكر نصف.
فعن أنس رضي الله عنه- قال قال رسول الله (ﷺ){يا أنس, الإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر} .
3ـ سبب في رضا الله تعالي :
أخبرَ عزَّ شأنه  أن رِضاه في شُكره، فقال تعالي: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ(7)} [الزمر].
4ـ سبب من أسباب الأمن من عذاب الله:
يقول عزَّ شأنه{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء].
5ـ منة الله تعالي علي عباده :
بل لقد خصَّ الله الشاكرين بمنَّته عليهم من بين سائر عباده، فقال جل وعلا :{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ(53)}[الأنعام].
ولا يعبده حق العبادة إلا الشاكرين فيقول عز شأنه{وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)} [البقرة]، فلا يعبُده حقَّ عبادته إلا الشاكرون.
6ـ الشكرُ حياةُ القلب وحيَّويَّتُه :
الشكرُ دليلٌ على صفاء النفس، وطهارة القلب، وسلامة الصدر، وكمال العقل؛ بل إن الله جل وعلا خلقَ الناسَ من أجل أن يشكُروه، يقول جل وعلا{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78)}[النحل].
7ـ من أسس الدين :
لقد تعبدنا ربنا سبحانه بالشكر له واعتبره أحد أسس الدين فقال تعالي{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}[البقرة].
لكن كثيرين جعلوا عبادة الشكر عبادة ممسوخة بلا روح، فإما أن يكفر بها أو ينساها أو يرددها بحركات لسان مع قلب غافل وعقل لا يعي معنى شكرها .
لذلك قليل فاعله ولقد مدح الله تعالي القلة الشاكرة فقال تعالي {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}[سبأ].
وقال تعالي :{وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}[الأعراف]
8ـ الجزاء الحسن للشاكرين :
إن الله تعالى وعدنا بمضاعفة الأجر من الحسنات، واتبع الزيادة بالمغفرة للسيئات، والشكر على ذلك كله، فقال تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ(145)}[آل عمران].
ولقد أثنى الله عز وجل على أهل الإيمان وهم أهل الشكر فسعيهم مشكور قال سبحانه وتعالى{وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً(19)} [الإسراء], وقال عز وجل{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً(62)}[ الفرقان].
وقال سبحانه وتعالى{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُ مَّشْكُوراً(22)} [الإنسان].
فلا ينتفع بالشكر إلا أهل الشكر قال سبحانه{وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12)}[لقمان].
9ـ مرتبط بطيبات الحياة :
كذلك أذن الله لعباده المؤمنين بالتمتع من طيباته التي رزقنا إياها بالحلال الطيب، ومتابعة التمتع بها بالشكر له، فقال تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}[البقرة].
10حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام :ـ
والشكرُ أمرٌ مستقرٌّ في سُلوك المُتعبِّدين، ونهجٌ راسِخٌ في نفوس الصالحين، تمتلِئُ به قلوبُهم، وتلهَجُ به ألسِنتُهم، ويظهرُ على جوارِحهم.
وأولُ أنبياء الله نوحٌ عليه السلام ، وصفَه ربُّه بقوله تعالى {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} [الإسراء]،
والخليلُ إبراهيم صاحب الملَّة الحنيفية قال فيه ربُّه{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)121)}[النحل].
ويقول سليمان عليه السلام وهو ينظرُ فيما خصَّه به ربُّه من نعمه وسخَّر له من مخلوقاتِه{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19)} [النمل].
ويقول سبحانه وتعالي عنه أيضا {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)40)}[النمل].
ولقد حرِصَ أنبياءُ الله عليهم السلام  على تذكير أقوامِهم بهذا المقام العظيم من مقامات العبودية؛ فها هو هودٌ عليه السلام  يقول لقومه{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)} [الأعراف].
ويقول صالحٌ  عليه السلام  وهو يُعدِّدُ على قومِه ما منحَه ربُّهم من مظاهر النِّعَم والقوة{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}[الأعراف].
أما نبيُّنا محمدٌ (ﷺ) وهو الذي قد غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، فيقومُ لربِّه من الليل حتى تتفطَّر قدماه، ويقول: «أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟».
العنصر السادس : قواعد في الشكر :
 القاعدة الأولى : الشكر قيد النعم :
فمن كان ذا مال أو صحة أو مكانة أو نحوها ، فليحطها بسياج الشكر، و ليدفع عن حياضها بسلاحه ،
وليعلم بأنها لن تبقى إذا لم يؤد حق الله فيها ، فإذا أردنا المحافظة على نعمة و بقاؤها ، فعلينا بالشكر فإنه
" قيد النعم " كما قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.
وروي أيضا : أحسِنوا جوارَ نعم الله؛ فإنها قلَّ ما نفَرَت عن أهل بيتٍ فكادَت أن ترجِع إليهم.
القاعدة الثانية : ولئن شكرتم لأزيدنكم:
وهذا من فضل الله ورحمته ، فالشكر يحافظ على بقاء النعم ، ثم لا يكتفي بذلك فقط بل يزيدها .
قال ابن القيم : "والشكر معه المزيد أبدا" لقوله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم } فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر ".
 فمن لم يلمس الزيادة في إيمانه و عبادته ، فليراجع نفسه ، و من لم ير البركة في ماله و عياله ، فليراجع نفسه ، فإن الله وعد الشاكر بالمزيد ، و الله لا يخلف الميعاد.
القاعدة الثالثة ً: احذر الاستدراج:
 قال أبو حازم: إذا رأيت الله عز وجل سابغ نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره .
و ذلك حين ترى زيادة النعم و إسباغها بدون شكر لله عز وجل. فهذه علامة خطر ينبغي الوقوف عندها، كما قال الله عز وجل {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)}[المؤمنون].
ولذا فسر سفيان ابن عيينه قول الله عز وجل{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون }  قال: نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر "نعوذ بالله من ذلك.
القاعدة الرابعة كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية :
قال الحسن رحمه الله :"إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر قلبها عليهم عذابا".
وانقلاب النعمة عذاباً مما نراه في واقعنا، فكم رأينا صاحب المال يعذب بماله، و ذا العيال يشتكي من عقوق أبنائه، و صاحب المنصب و الجاه ينكوي بلظى النعيم الذي يراه الناس يتقلب فيه.
القاعدة الخامسة: لا تعصيه بنعمه:
وهذه قاعدة متينة من قواعد الباب، لذا عرف كثير من السلف الشكر بذلك، فقد سئل الجنيد عن الشكر فقال: "أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه "
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية رضي الله عنه: إن أقل ما يجب للمنعم على من أنعم عليه: أن لا يجعل ما أنعم عليه سبيلا إلى معصيته" .
ومن أقوال سيدنا علي ابن أبي طالب رضي الله عنه :ـ 
إذا كنت في نعمة فارعها        فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد       فرب العباد سريع النقم
وكان مخلد بن الحسين يقول: كان يقال : "الشكر ترك المعاصي "فهل من الأدب أن نستعين بنعم الله على معصيته ! فنعمة البصر ينظر بها للحرام، و نعمة السمع لا تسمع الذكر و القرآن، و المال لا يزكى و لا ينفق منه في سبيل الرحمن ، و تستغل المناصب و الجاهات و القدرات و المواهب في غيرما يحب واهب النعمة .
فلنسأل أنفسنا إذاً : هل نحن ممن يشكر الله أم ممن يعصيه بنعمه ؟!
القاعدة السادسةً: الشكر بالعمل:
وذلك بالعبودية لله عز وجل و التقرب إليه بأداء الفرائض أولا، فلم يشكر الله عز وجل من لم يؤد فرائضه، ثم بأداء النوافل و القربات ، ثم بحسن التعامل مع خلقه ولين الجانب لهم والبعد عن ما يضاد ذلك من سوء الأخلاق والظلم والشطط .
ثم بصرف النعم في مصارفها، واستغلالها فيما يناسبها ، فكيف يكون شاكراً من يلهج لسانه بالحمد و الشكر على نعمه ثم ترمى بعد ذلك النعم في النفايات !
أو يصرف نعمة البصر والمال والصوت والسمع.. إلخ في غير ما يحب الله عز وجل ثم يحمده و يشكره عليها بعد ذلك.
القاعدة السابعةً : لا يشكر الله من لا يشكر الناس :
 فمن قواعد الشكر أن تكافئ من أسدى لك معروفاً أو خدمة ومعونة ، مهما كان حجمها وقدرها ، فإن لم تستطع مكافأته حسياً ، فلتشكره بلسانك و تثني عليه خيراً بما قدم لك ، كما في حديث جابر مرفوعا : {من صُنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره وإن كتمه فقد كفره } .
وهذا هو التوازن المطلوب من المسلم ، الذي حين فقدناه سقطنا في قاع الانفصام النكد ، فتجد من يتورع عن الربا و لكن لا يبالي بمال اليتيم.
ومن تورع عن الكذب وهو يفري أعراض الناس، والتوازن هو منح الناس حقهم من الشكر والإحسان ” لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه وأبي أن يقبلهما إلا معاً لأن أحدهما دليلٌ على الآخر وموصولٌ به‏ فمن ضيع شكر ذي نعمةٍ من الخلق فأمر الله ضيَّع وبشاهده استخف‏ ولعمري إن ذلك لموجودٌ في الفطرة قائم في العقل‏:‏ أن من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر لأن الخلق يعطي بعضهم بعضاً بالكلفة والمشقة وثقل العطية على القلوب والله يعطي بلا كلفة‏ ولهذه العلة جمع بين الشكر له والشكر لذوي النعم من خلقه" .‏
القاعدة الثامنة: و لتسألن يومئذ عن النعيم:
 فهذه الآية فيها ما يكفي من الحث على الشكر والاهتمام به ، لأنها تشمل كل نعمة على العبد قد تمتع بها كما قال الطبري رحمه الله " فالله أخبر أنه سائل هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يخصص في خبره أنه سائلهم عن نوع من النعيم دون نوع، بل عمّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلهم كما قال عن جميع النعيم، لا عن بعض دون بعض " .
و قال ابن كثير "أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ما قابلتم به نعمه من شكره وعبادته "
فيا لله ما أعظم غفلتنا عما يراد بنا ! فإن كان ربنا يقول :{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }
فلو مكث أحدنا عمره ليعد نعم الله عداً فقط بدون أن يشكرها فإنه لا يحصيها فمتى و كيف يشكرها.
ثم ما من نعمة إلا و نحن نتمتع بها وإن لم نعلم بها أو نستشعرها، ثم بعد هذا التمتع السؤال عن هذا النعيم، فهل أعددنا لهذا الموقف جواباً، وهل نبدأ بمراجعة أنفسنا ومحاسبتها لنذوق بعد طعم المزيد الذي وعدنا به لندرك بعد ما فاتنا من خير ونعيم (وما تقدموا من خير فلأنفسكم ).
العنصر السابع : ذم الجحود والنكران وعاقبته في الدنيا والآخرة :
وكما ألزمنا سبحانه بالشكر له , فقد حذرنا من الكفر بنعمته وجحودها، وحذرنا من أن نسلك مسلك من قبلنا، من أتباع الشرائع الأخرى، أن كفروا بنعم الله وجحدوها، فقال تعالى{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ۗ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}[البقرة].
وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}[إبراهيم].
فبالشكر تدوم النعم ويزيد الخير وبكفرها تزول النعم ويكثر الخبث .
غافلون هم الذين يتنعمون بنعم ربهم سبحانه ويلتهون عن شكره , وخاسرون هم الذين ألهتهم النعم عن ذلك الشكر , فتقلبوا فيها ليلا ونهارا بينما هم لا يؤدون حق شكرها من صالح العمل قال سبحانه واصفا حال قرية كانت مرفهة منعمة تتقلب في أنعم الله فغفلت عن شكره وكفرت بأنعمه { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}[النحل] .
وبينما قوم آخرون يرتعون في النعيم , فيطغون مستكبرين عن شكر ربهم بالعمل الصالح , إذ يقلب سبحانه نعيمهم نقمة , ورغدهم خسرانا قال سبحانه وتعالي :{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}[سبأ].
فقد كانوا يعيشون من الرغد أطيبه، ومن الرزق أوسعه، ومن القوة أشدها، ومن الأمن أهنأه.
قال ابن كثير رحمه الله:كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانت التبابعة منهم ، وبلقيس صاحبة سليمان
منهم ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم ، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم .
"وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين، وتجتمع إليه أيضا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدّا عظيما محكما، حتى ارتفع الماء وحكم على حافات الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تغترف فيه الثمار فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف؛ لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السد بمأرب بلدة بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسدّ مأرب، وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شيء من الهوام، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه"
وقال ابن كثير أيضا : "وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ، ويشكروه بتوحيده وعبادته ، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد ، شذر مذر .. وعوقبوا بالقحط والجذب .. وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله ، وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل"
وفي الختام :ـ 
أيها المؤمنون ......
إذا كان الشكر بهذه المكانة فحري بنا أن ندعوا بدعاء رسول الله (ﷺ) ، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، أن رسول الله (ﷺ) أخذ بيده، وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك،
وشكرك، وحسن عبادتك» [أبو داود].
قابِلوا إحسانَ ربِّكم بالإحسان، واحفَظوا النِّعَم بالطاعة والعِرفان؛ ففضلُ الله عظيم، وإنعامُه جسيم، وخيرُه عميم، وكل شكرٍ وإن قلَّ ثمنٌ لكل نوالٍ وإن جلَّ.
ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقعٌ أوشكَ ألا يشكُر الكثير. جعلني الله وإياكم من خير الشاكرين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
================================= 
رابط doc

رابط pdf

 

ليست هناك تعليقات:

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...