الحمد لله رب العالمين.. شرع لنا الدين سموا بالإنسان إلى معارج الكمال وكريم الخصال ، وحميد الفعال ،فأمرنا بالاستسلام الكامل والخضوع له سبحانه وتعالى فقال تعالى } } وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ (22){ ] لقمان[
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء قدير .. خصَّنا بخير كتاب أُنزل، وأكرمنا بخير نبي أُرسل، وأتمَّ علينا النعمة بأعظم منهاج شُرع، منهاج الإسلام، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا(3)} [المائدة]
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)..عاش بالإسلام الحقيقي ،فربى الأمة على الإسلام والاستسلام الكامل لله تعالى ، فبين أن الابتلاء على قدر الإيمان ، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة { ] روى الترمذي وصححه ، وابن ماجة [
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعـد : فيا أيها المؤمنون....
إن ركن الحج الأعظم يرسخ لنا معنى الإسلام الحقيقي بداية من الإحرام والطواف حول الكعبة واستلام الحجر الأسود والسعي بين الصفا والمروة ، والوقوف بعرفة ، ورمي الجمرات ، والنحر والحلق أو التقصير كل هذه الأشياء يفعلها المسلم طاعة واستسلاماً لله تعالى دون النظر إلى الحكم من وراء ذلك ،ورأينا نموذج للإسلام الحقيقي يتجسد في نبي الله إبراهيم عليه السلام هو وأسرته ، وكذلك كل أركان الإسلام تربينا على الإسلام الحقيقي وليس الإسلام الصورة ، لذلك كان حديثنا عن الإسلام الحقيقي من خلال قصة سيدنا إبراهيم وأسرته عليهم السلام وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ معنى الإسلام .
2ـ إن الدين عند الله الإسلام.
3ـ نموذج للإسلام الحقيقي من خلال قصة سيدنا إبراهيم وأسرته عليهم السلام.
4ـ الأضحية تطبيق عملي.
5ـ الخاتمة.
العنصر الأول : معنى الإسلام:
الإسلام: هو إسلام القلب والوجه لله تعالى، والاستسلام لأحكام الشريعة والانقياد لأوامره سبحانه.
قال الأزهري: فالإسلام: إظهار الخضوع والقبول لما أتى به سيدنا رسول الله (ﷺ).
قال تعالى } وَمَن يُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ (22){ ] لقمان[
وقال تعالى } وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125){ ] النساء[
فالمسلم الحقيقي المستقيم على أمر الله، فيعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، قال تعالى على لسان نبيه: }قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ(163){ ]الأنعام[
والإسلام أن نرضى بحكم الله ورسوله في كل معاملاتنا وأقضيتنا ونزاعاتنا وخلافاتنا وعلاقاتنا، فننقاد لأمره ، ونجتنب نهيه ، ولا نقدم عقولنا وأهوائنا على ما جاء في شرع ربنا عز وجل ، قال تعالى: }فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا(65){ ]النساء[
فالكون كله أسلم لله تعالى ، فقال تعالى: }أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ(83){[آل عمران].
فإذا كان الكون أسلم لله طوعاً وكرهاً، فكيف لا يسلم له الإنسان الذي عرف قدر الخالق وعظمته، ورأى آثار صنعه وإبداعه في هذا الكون المترامي؟
فالاستسلام لله والانقياد له من أهم معاني الإسلام التي يجب أن نحققها، يقول تعالى في الحديث عن مناسك الحج }فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34){ [الحج].
العنصر الثاني: إن الدين عند الله الإسلام :
قال تعالى : } إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ (19){ ] آل عمران[
فالإسلام دين جميع الأنبياء والرسل، وإن تنوعت شرائعهم: قال تعالى: }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (13){ ] الشورى[
قال تعالى عن سيدنا نوح عليه السلام :} وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72){ ]يونس[
وقال تعالى أيضاً عن سيدنا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: }رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً (128) { ] البقرة[
وقال تعالى: }وَمَنْ يرغبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131) {[البقرة].
وكان وصية سيدنا إبراهيم عليه السلام ومن بعده كانت وصية ذريته ،فقال تعالى} وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133){ ] البقرة[
وسيدنا إبراهيم عليه السلام هو من سمانا المسلمين فقال تعالى :} وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78){ ] الحج[
وعندما اختلف اليهود والنصارى، كل فريق منهم يريد أن ينسبه لهم فقال الله تعالى :} مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67){ ]آل عمران[
ولقد قطع الطريق على كل الطوائف فقال تعالى } وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85){ ]آل عمران[
وقال تعالى عن سيدنا لوط عليه السلام : } قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36){ ] الذاريات[
وجميع أنبياء بني إسرائيل الذين حكموا بالتوراة كانوا مسلمين، قال تعالى:}إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44){ ] المائدة[
وقال تعالى عن سيدنا موسى عليه السلام وهو يوصي المؤمنين من قومه:}وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84){ ] يونس[
وقال تعالى: } وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90){ [يونس].
وقال تعالى حاكيًا عن سحرة فرعون: }قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126){ [الأعراف]
وقال تعالى عن ملكة سبأ: }رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44){ ] النمل[ .
وقال تعالى عن سيدنا عيسى عليه السلام وهو يخاطب المؤمنين من أتباعه، فقال تعالى}فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52){ ]آل عمران[
وقال تعالى: } وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ(111){ [المائدة].
ولقد حدد الله تعالى المعنى الحقيقي للإسلام عبر التاريخ من لدن آدم إلى يومنا متمثلا في الإيمان بالله و اليوم الآخر المقترن بالعمل الصالح فقال تعالى :} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62){ ]البقرة[
لذلك قال تعالى عن المجادلين ، قال تعالى }فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20){ ]آل عمران[
فالإسلام يتطلب الطاعة الكلية لله ولرسوله (ﷺ).والإيمان بكل ما جاء من عند الله تعالى ، والإيمان بجميع الأنبياء والكتب فقال تعالى }قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85){ ] آل عمران[
وقال النبي (ﷺ): } إنَّا معاشرَ الأنبياءِ دينُنا واحدٌ ، والأنبياءٌ أخوةٌ لعلَّاتٍ ، وإنَّ أوْلَى النَّاسِ بابنِ مريمَ لأنا ، إنَّه ليس بيني وبينهُ نبيٌّ{. المحدث ابن تيمية مجموع الفتاوى وقال حديث صحيح .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بابْنِ مَرْيَمَ، وَالأنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ نَبِيٌّ{ ] رواه البخاري[.
فالله تعالى يشرع لكل أمة ما يناسب حالها ووقتها، ويكون كفيلاً بإصلاحها، متضمنا لمصالحها، ثم ينسخ الله ما يشاء من تلك الشرائع لانتهاء أجلها، إلى أن بعث نبيه محمدًا (ﷺ) خاتم النبيين إلى جميع الناس على وجه الأرض، وعلى امتداد الزمن إلى يوم القيامة، وشرع له شريعة شاملة صالحة لكل زمان ومكان؛ لا تبدل ولا تنسخ؛ فلا يسع جميع أهل الأرض إلا اتباعه والإيمان به (ﷺ): قال تعالى:}قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا (158){ ]الأعراف[
العنصر الثالث: نموذج للإسلام الحقيقي من خلال قصة سيدنا إبراهيم وأسرته عليهم السلام:
أيها المؤمنون : إن الإيمان ليس كلمة تُقال وإنما هو حقيقة ذات تكاليف ،وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلي صبر، وجهد يحتاج إلي احتمال فلا يكفي أن يقول الناس آمنا وهم لا يتركون لهذه الدعوي حتي يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافيةً عناصرهم خالصةً قلوبهم كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الدخيلة العالقة به .
لذلك جعل الله عز وجل الابتلاء سنة ربانية في هذا الدين العظيم ، حتى يتبين الصادق في إيمانه من المدعي الإيمان ، فأمرنا أن نعمل لهذا الدين ونضحي من أجله ولا نقدم عليه شيئاً سواء أهل أو مال أو ولد لذلك قال تعالى } قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِيرَتُكُمۡ وَأَمۡوَٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَآ أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ (24){ ] التوبة [
فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يتعرض للمحن أكثر من مرة فيثبت ويكون حاله الاستسلام الكامل لأمر الله تعالي.
لقد ابتلاه الله تعالي بأمر عظيم، ابتلاه بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام ، فلذة كبده، وثمرة سعيه، يقوم بهذه المهمة بنفسه ،فلم يتراجع أو يتوانى مع حبِّه الشديد لولده وتعلقه به قال تعالى}فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105){ ]الصافات[ .
لقد كان عليه السلام مثالاً رائعًا ونموذجًا فريدًا في الامتثال الكامل لأمر الله تعالى، والتسليم المطلق لحكمه قال تعالى }إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131){ ]البقرة[.
قال الحافظ ابن كثير: أسلما، يعني: استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل أمر الله، وإسماعيل طاعة لله ولأبيه، قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم. انتهى.
ومعنى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي: أكبه على وجهه، فلا يشاهده عند ذبحه فيكون أهون عليه، وقال سبحانه وتعالى مادحاً إبراهيم عليه السلام: }إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131){ ]البقرة[
قال الحافظ ابن كثير: أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد، فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً. انتهى.
هيا بنا أيها الأكارم : نُطَوِّف سويا مع هذا الحدث العظيم الذي يهز القلوب هزاًّ ويحرك فيها الإيمان بالغاية وبالمبدأ ، فهذا الشيخ الوقور المقطوع من الأهل والقرابة ، المهاجر من الأرض والوطن ، ها هو ذا يُرزق في كبرته وهرمه بغلام طالما تطلع إليه فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه غلام حليم ، وها هو ذا ما يكاد يأنس به وصباه يتفتح ويبلغ معه السعي ويرافقه في الحياة ، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتي يري في منامه أنه يذبحه ويُدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية .
فماذا يفعل هذا الشيخ الوقور؟
إنه لا يتردد ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . نعم إنها إشارة، مجرد إشارة وليست وحيا صريحاً ولا أمراً مباشراً ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي ليلبي ويستجيب دون أن يعترض ودون أن يسأل ربه لماذا يا رب أذبح ابني الوحيد ؟
ولكن العجيب !! لا يلبي في انزعاج ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب كلا !
إنما هو القبول والرضي والطمأنينة والهدوء ، يبدو ذلك في كلماته لابنه، وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب .
قال تعالى } قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ (102){ ] الصافات[ .
فهي كلمات المالك لأعصابه المطمئن للأمر الذي يواجهه ، الواثق بأنه يؤدي واجبه ،وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن الذي لا يهوله الأمر فيؤديه في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ويسترح من ثقله علي أعصابه والأمر شاق ما في ذلك شك ، فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلي معركة حربية فيموت هناك وينتهي الأمر ، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته ،إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده ماذا ؟
يتولى ذبحه وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي ويعرض علي ابنه هذا العرض ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يري فيه رأيه!!
إنه لا يأخذ ابنه علي غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي ، إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر ، فالأمر في حسه هكذا !
ربه يريد فليكن ما يريد علي العين والرأس ، وابنه ينبغي أن يعرف وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما ، لا قهرا واضطرار لينال هو الآخر أجر الطاعة وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ، فماذا يكون من الغلام الذي يُعرض عليه الذبح تصديقا لرؤيا رآها أبوه .
إنه يرتقي إلي الأفق الذي ارتقي إليه من قبل أبوه قال تعالى } قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (102){ ] الصافات[.
إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب! ولكن في رضي ويقين .
يا أبت في مودة وقربي فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفقده رشده، بل لا يفقده أدبه ومودته (ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ).
فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه يحس أن الرؤيا إشارة وإن الإشارة أمر وإنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمهل ولا ارتياب .
ثم هو الأدب مع الله ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال والاستعانة بربه علي ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته علي التضحية ومساعدته علي الطاعة . }سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ (102){.
لم يأخذها بطولة ، ولم يأخذها شجاعة ، ولم يأخذها اندفاعا إلي الخطر دون مبالاة ، ولم يظهر لشخصه ظلاًّ ولا حجماً ولا وزناً، إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه علي ما يُطلب إليه .
يا للأدب مع الله ، ويا لروعة الإيمان ، ويا لنبل الطاعة ، ويا لعظمة التسليم .
برعظيم ،وتوفيق من الله أعظم ،وإيمان وثيق ،ونفس راضية بما أراد الله وقدر.
وهنا يُسدل الستار علي موفق الأب والابن ويُكشف الستار علي العدو الأكبر لبني الإنسان وهو الشيطان الرجيم الذي يُريد أن يفسد علي الأب وابنه طاعتهما لله وأن يعطل عبادة الله عز وجل في الأرض كما قال النبي (ﷺ) في حجة الوداع } إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرض العرب ولكنه رضي أن يطاع فيما سوي ذلك مما تحقرونه من أعمالكم {
جاء الشيطان الأكبر لخليل الرحمن عليه السلام ليفسد عليه إيمان القمة .
جاء ليقول له ما الذي تنوي أن تفعله بابنك الوحيد وما معني أن تذبحه وأنت شيخ كبير مُحتاج إليه وكيف تُصدق هذه الرؤيا ؟ إنها أضغاث أحلام .
والشيطان لا ييأس من أي جزئية يدخل منها بل يُحاول أن يدفع الإنسان إلي المعصية بأي وسيلة ، ولذلك فإن الشيطان لم يترك وسيلة مع إبراهيم وإسماعيل وهاجر إلا اتبعها عله يُفسد طاعة من أعلي الطاعات وأكثرها ثوابا عند الله، طاعة الإيمان القمي .
وبمجرد أن غادر إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام البيت ، بدأ الشيطان مهمته وهو يقول لنفسه هذه محنة ،هذا ابتلاء عظيم، فإن لم أستطع أن أفتن هؤلاء في هذه المحنة فلن أستطع أن أفتنهم أبدا .
وجاء لهاجر وقال لها أتعرفين إلي أين ذهب إبراهيم بابنك؟
فقالت ذهب به لبعض حاجته،
فقال لها الشيطان إنه لم يذهب به لحاجته ،إنما ذهب به ليذبحه.
فقالت هاجر ولماذا يذبحه ؟
فرد عليها الشيطان زعم أن الله أمره بذلك.
فقالت اغرب عن وجهي يا عدو الله ، مادام الله قد أمر فلابد أن يُطاع .
انصرف الشيطان عنها مدحوراً وأسرع ليلحق بإبراهيم وابنه عليهما السلام وبدأ بإبراهيم لقد حاول أن يمنعه من تنفيذ أمر الله تعالى ، فقال له ما الذي أعلمك أن هذه الرؤيا من الله ربما كانت أضغاث أحلام وماذا يستفيد الله من ذبح ابنك؟
لا تطع الأمر وإلا فسوف تندم طول حياتك ،إذا قمت بذبحه فلن يفارقك وجه ابنك، وهو يموت سيظل وجهه دائما أمامك يُعذبك طول حياتك وأنت شيخ كبير في الرابعة والثمانين لن ترزق ولداُ بعده , وظل يحاول مع إبراهيم ولكن إبراهيم عليه السلام لم يستمع إليه .
ولما يئس من إبراهيم عليه السلام ذهب إلي إسماعيل وقال له إن أباك سيذبحك فقال إسماعيل إذا كان الله قد أمره أن يفعل ذلك فليفعل ما أراد الله ،
حينئذ حاول إبليس أن يمنع إبراهيم وإسماعيل من الذهاب إلي مكان الذبح , حاول الشيطان الأكبر أن يمنع إبراهيم عند الجمرة الكبرى في مني من الاستمرار في السير لتنفيذ أمر الله , فأمسك إبراهيم بالجمرات السبع ورجم إبليس , ولكن إبليس وذريته لم ييأسوا وتابعوا إبراهيم وإسماعيل علهم يستطيعوا أن يمنعوهما من تنفيذ أمر الله فرجمهم إبراهيم وإسماعيل لينصرفوا ويبتعدوا عنها .
وهنا يُسدل الستار علي محاولة الأبالسة مع الأسرة المباركة ، ونعود إلي الشيخ الوقور وابنه عليهما السلام عندما همَّا بتنفيذ أمر الله عز وجل قال تعالى }فَلَمَّآ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِينِ (103){ ] الصافات[ .
ومرة أخري يرتفع نبل الطاعة وعظمة الإيمان وطمأنينة الرضي وراء كل ما تعارف عليه بنوا الإنسان .
إن الرجل يمضي فيكب ابنه علي جبينه استعداداً للأمر، وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا , لقد وصل الأمر إلي أن يكون عيانا , لقد أسلما فهذا هو الإسلام في حقيقته ثقة ، وطاعة ، وطمأنينة ، ورضي ، وتنفيذ وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم .
ثم أراد إسماعيل عليه السلام أن يخفف علي أبيه لوعة الثُّكل ويُرشده إلي أقرب السبل إلي قصده، فقال يا أبت اشدد وثاقي وأحكم رباطي حتي لا أضطرب واكشف عني ثيابي حتي لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فيشتد حزنها وتفيض شئونها (دموعها ) واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها علي حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد ووقعه أليم واقرأ علي أمي السلام وإن أردت أن ترد قميصي عليها فافعل فإن ذلك فيه تسريةً لهمها وسلوةً لها في مصابها وهو ذكري لوليدها تشم منه عبيره وتتنسم فيه أريجه ، وتعود إليه حين تبحث حولها فلا تجدني، وتفتش عني فلا تراني .
قال إبراهيم نعم العون أنت يا بني علي أمر الله ثم ضمه إلي صدره وأخذ يقبله وتباكيا وانتحبا .
ثم أسلم إبراهيم ابنه فصرعه علي شقه وأوثقه بكتافه وأمسك السكين ، وأخذ يُصوب النظر إليه مرة، ويُحدق في ابنه مرة أخري، ثم تدفقت عبراته وتتابعت زفراته رحمةً به واشفاقاً عليه وأخيراً وضع السكين علي حلقه وأمرها فوق عنقه ،ولكنها لم تقطع لأن قدرة الله قد كسرت حدتها وفلت من غَربِها .
فقال إسماعيل : يا أبت كبني علي وجهي فإنك إذا نظرت إلي أدركتك رحمة بي تحول بينك وبين تنفيذ أمر الله تعالي ,ففعل ثم وضع السكين علي قفاه فلم تمض الشفرة وأدركت إبراهيم الحيرة وشق ذلك علي نفسه فتوجه إلي الله أن يجعل له مخرجا، فرحم الله ضعفه واستجاب لدعائه وكشف غمته ، وتحركت الكائنات بقوة حركاتها واستغاث الكل بلسان واحد اللهم ارحم هذا الشيخ الكبير وافدِ هذا الطفل الصغير فجاء النداء من العزيز الجليل } وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ (104) قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡبَلَٰٓؤُاْ ٱلۡمُبِينُ (106) وَفَدَيۡنَٰهُ بِذِبۡحٍ عَظِيمٖ (107){ ]الصافات[
ولله در الشاعر الذي نسج ما حدث مع سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام شعراً فقال ..
فاضت بالعبرة عيناه أضناه الحلم وأشقاه
شيخ تتمزق مهجته تتندى بالدمع لحاه
ينتزع الخطوة مهموما والكون يناشد مسراه
وغلام جاء على كبر يتعقب في السير أباه
والحيرة تثقل كاهله وتبعثر في الدرب خطاه
ويهم الشيخ لغايته ويشد الابن بيمناه
بلغ في السعي نهايته والشيخ يكابد بلواه
لكن الرؤيا لنبي صدق وقرار يرضاه
والمشهد يبلغ ذروته وأشد الأمر وأقساه
إذ تمرق كلمات عدلى ويقص الوالد رؤياه
وأمرت بذبحك يا ولدي فانظر في الأمر وعقباه
ويجيب العبد بلا فزع افعل ما تؤمر أبتاه
لن أعصي لإلهي أمرا من يعصي يوما مولاه
واستل الوالد سكينا واستسلم أبن لرداه
ألقاه برفق لجبينٍٍ كي لا تتلقى عيناه
أرأيتم قلبا أبويا يتقبل أمرا يأباه
أرأيتم ابنا يتلقى أمرا بالذبح و يرضاه
وتهز الكون ضراعات ودعاء يقبله الله
تتوسل للملأ الأعلى أرض وسماء ومياه
ويقول الحق ورحمته سبقت في فضل عطاياه
صدقت الرؤيا لا تحزن يا إبراهيم فديناه
يا إبراهيم يا إبراهيم يا إبراهيم فديناه
واستبشر إبراهيم وإسماعيل ببشري الله عز وجل , وهنا كان الأب والابن قد أديا ,كانا قد أسلما كان قد حققا الأمر والتكليف ولم يكن باقيا إلا أن يُذبح إسماعيل، ويُراق دمه وتُزهق روحه ،وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله تعالى ، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما عز وجل.
كان الابتلاء قد تم ، والامتحان قد وقع ، ونتائجه قد ظهرت ، وغاياته قد تحققت ، ولم يعد إلا الألم البدني وإلا الدم المسفوح والجسد المذبوح، والله عز وجل لا يريد أن يُعذب عباده بالابتلاء ولا يُريد دماءهم وأجسادهم في شيء ومتي خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا وقد حققوا التكليف وقد جازوا الامتحان بنجاح .
فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقي في النفس ما تُكنه عن الله أو تُعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ولوكان هو الابن فلذة الكبد ولو كانت هي النفس والحياة , وأنت يا إبراهيم قد فعلت ,جُدت بكل شيء وبأعز شيء وجُدت به في رضي وفي هدوء ، فلم يبقي إلا اللحم والدم وهذا ينوب عنه أي ذبح من دم ولحم ، ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت, يفديها بذبح عظيم قيل إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل
ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل . لذلك استحق سيدنا إبراهيم أن ينال الإمامة للناس ، كما قال تعالى }وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ (124){ ] البقرة[
واستحق أيضا أن يكون أمة كما قال تعالى } إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (120){ ] النحل[
واستحق أن يقول عنه أيضا }وَإِبۡرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰٓ (37){ ] النجم[
وقال عن نبيه إسماعيل عليه السلام }وَٱذۡكُرۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ إِسۡمَٰعِيلَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صَادِقَ ٱلۡوَعۡدِ وَكَانَ رَسُولٗا نَّبِيّٗا (54){ ] مريم[
حقا من تأدب مع الله في البلاء أخرجه من بارتقاء.
العنصر الرابع: الأضحية تطبيق عملي:
وإليكم بعض أحكام الأضحية التي يحتاج إليها كل مسلم.
تعريفها : الأضحية والضحية : اسم لما يذبح من الإبل والبقر والغنم يوم النحر وأيام التشريق تقربا إلى الله تعالى .
مشروعيتها : وقد شرع الله الأضحية بالكتاب والسنة .
من الكتاب : قوله سبحانه : }إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلۡأَبۡتَرُ (3){ ] الكوثر[.
وقوله تعالى: }وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (36) { ]الحج[. والنحر هنا هو ذبح الأضحية .
من السنة : ثبت أن النبي ، (ﷺ) ، ضحى وضحى المسلمون وأجمعوا على ذلك . عن أنس الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي ، (ﷺ)" ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر"
فضلها : روى الترمذي عن عائشة أن النبي ، (ﷺ) ، قال : }ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم. إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا {.
حكمها : الأضحية سنة مؤكدة ، ويكره تركها مع القدرة عليها .
متى تجب : ولا تجب إلا بأحد أمرين :
1 - أن ينذرها لقول الرسول ، (ﷺ): " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وحتى لو مات الناذر فإنه تجوز النيابة فيما عينه بنذره قبل موته " .
2 - أن يقول : هذه لله ، أو هذه أضحية . وعند مالك إذا اشتراها نيته الأضحية وجبت .
وقال ابن حزم : لم يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة ويرى أبو حنيفة أنها واجبة على ذوي اليسار ممن يملكون نصابا من المقيمين غير المسافرين ، لقوله (ﷺ): "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " رواه أحمد وابن ماجه وصححه
الحاكم ورجح الأئمة.
حكمتها : الأضحية شرعها الله إحياءاً لذكرى الخليل إبراهيم عليه السلام وتوسعة على الناس يوم العيد ، كما قال الرسول ، (ﷺ): "إنما هي أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل" .
ممن تكون : لا تكون إلا من الإبل والبقر والغنم ، ولا تجزئ من غير هذه الثلاثة . يقول الله سبحانه : }لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ (34){ ]الحج [
ويجزئ من الضأن ما له نصف سنة ، ومن المعز ما له سنة ، ومن البقر ما له سنتان ، ومن الإبل ما له خمس سنين ، يستوي في ذلك الذكر والأنثى .
1 - روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : } نعمت الأضحية الجذع من الضأن { .
2 - وقال عقبة بن عامر : قلت يا رسول الله ، أصابني جذع قال : ضح به . رواه البخاري ومسلم .
3 - وروى مسلم عن جابر أن الرسول (ﷺ) قال : }لا تذبحوا إلا مسنة ، فإن تعسر عليكم فاذبحوا جذعة من الضأن { .
والمسنة الكبيرة هي من الإبل ما لها خمس سنين ، ومن البقر ما له سنتان . ومن المعز ما له سنة ، ومن الضأن ما له سنة وستة أشهر ، على الخلاف المذكور من الأئمة . وتسمى المسنة بالثنية .
الأضحية بالخصي :
ولا بأس بالأضحية بالخصي . روى أحمد عن أبي رافع قال : "ضحى رسول الله (ﷺ) بكبشين أملحين موجوءين خصيين ، ولأن لحمه أطيب وألذ" .
شروط الأضحية :
ومن شروط الأضحية السلامة من العيوب ، فلا تجوز الأضحية بالمعيبة مثل :
1 - المريضة البين مرضها .
2 - العوراء البين عورها .
3 - العرجاء البين ظلعها .
4 - العجفاء التي ذهب مخها من شدة الهزال التي لا تُنْقِي.
5 - العضباء التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها .
يقول (ﷺ): } أربعة لا تجزئ في الأضاحي : العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والعجفاء التي لا تنقي { . رواه الترمذي وقال : حسن
صحيح.
المقصود بالمعيبة : هو العيب الظاهر الذي ينقص اللحم ، فإذا كان العيب يسيرا فإنه لا يضر ، ويلحق بهذه :
1ـ الهتماء التي ذهب ثناياها من أصلها .
2ـ والعصماء ما انكسر غلاف قرنها .
3ـ والعمياء .
4ـ والتولاء التي تدور في المرعى ولا ترعى .
5ــ والجرباء التي كثر جربها .
ولا بأس بالعجماء والبتراء والحامل وما خلق بغير أذن أو ذهب نصف أذنه أو أليته والاصح عند الشافعية لا تجزئ مقطوعة الإلية والضرع لفوات جزء مأكول وكذا مقطوعة الذنب .
قال الشافعي : لا نحفظ عن النبي ، (ﷺ)، في الأسنان شيئا .
وقت الذبح :
ويشترط في الأضحية ألا تُذبح إلا بعد طلوع الشمس من يوم العيد ويمر من الوقت قدر ما يصلى العيد ، ويصح ذبحها بعد ذلك في أي يوم من الأيام الثلاثة في ليل أو نهار ، ويخرج الوقت بانقضاء هذه الأيام .
فعن البراء ، رضي الله عنه ، عن النبي (ﷺ) قال : }إن أول ما نبدأ به في يومنا ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء { .
وقال أبو بردة : خطبنا رسول الله (ﷺ) يوم النحر فقال : " من صلى صلاتنا ووجه قبلتنا ونسك نسكنا فلا يذبح حتى يصلي "
وروى الشيخان عن الرسول (ﷺ): }من ذبح قبل الصلاة ، فإنما يذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة والخطبتين فقد أتم نسكه وأصاب سنة المسلمين {.
كفاية أضحية واحدة عن البيت الواحد :
إذا ضحى الإنسان بشاة من الضأن أو المعز أجزأت عنه وعن أهل بيته .
فقد كان الرجل من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يُضحي بالشاة عن نفسه وعن أهل بيته ، فهي سنة كفاية .
روى ابن ماجه والترمذي وصححه أن أبا أيوب قال : " كان الرجل في عهد رسول الله (ﷺ) يُضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى " .
جواز المشاركة في الأضحية :
تجوز المشاركة في الأضحية إذا كانت من الإبل أو البقر ، وتُجزئ البقرة أو الجمل عن سبعة أشخاص إذا كانوا قاصدين الأضحية والتقرب إلى الله ، فعن جابر قال : } نحرنا مع النبي (ﷺ) بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة { . رواه مسلم وأبو داود والترمذي .
توزيع لحم الأضحية :
يُسن للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي الأقارب ويتصدق منها على الفقراء ، قال رسول الله (ﷺ): " كلوا وأطعموا وادخروا "
وقد قال العلماء : الأفضل أن يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ويدخر الثلث .
ويجوز نقلها ولو إلى بلد آخر ، ولا يجوز بيعها ولا بيع جلدها . [ ولا يعطى الجزار من لحمها شيئا كأجر ، وله أن يكافئه نظير عمله ] وإنما يتصدق به المضحي أو يتخذ منه ما ينتفع به . وعند أبي حنيفة أنه يجوز بيع جلدها ويتصدق بثمنه وأن يشتري بعينه ما ينتفع به في البيت .
المضحي يذبح بنفسه :
يُسن لمن يحسن الذبح أن يذبح أضحيته بيده ويقول : بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عن فلان ويسمي نفسه فإن رسول الله (ﷺ) ذبح كبشا وقال : بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي " . رواه أبو داود والترمذي .
فإن كان لا يحسن الذبح فليشهده ويحضره ، فإن النبي (ﷺ) قال لفاطمة : يا فاطمة ، قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها كل ذنب عملته ، وقولي : " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " .
فقال أحد الصحابة : يا رسول الله ، هذا لك ولأهل بيتك خاصة أو للمسلمين عامة ؟ قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : بل للمسلمين عامة .
وأخيراً أيها المؤمنون : مضت بذلك سنة النحر في الأضحى ذكري لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان وجمال الطاعة وعظمة التسليم قال تعالى} لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ (37) ){ ]الحج[ .
لتعرف الأمة أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء إنما يريد أن تأتيه طائعةً ملبيةً وافيةً مؤديةً .
فالله لا يريد منا إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقي في النفس ما تُكنه عن الله أو تُعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، فلا بد أن نُري الله منا خيراً من طاعة وتضحية وثقة ويقين ورضا .
==============================
رابط pdf
https://www.raed.net/file?id=831631
رابط doc
https://www.raed.net/file?id=831634
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق