الحمد لله العزيز الغفار مكور الليل
والنهار تبصرة لذوي العقول وتذكرة لأولي البصار، فقال تعالي {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي
الأبصار(44)}[النور].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ... يكفي من توكل عليه فقال
تعالى{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلً
(81)} [النساء].
وقال تعالي {وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ
جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3))} [الطلاق].
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله
عليه وسلم علمنا حسن التعامل مع الأسباب فعن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي (ﷺ) قال :{جعل
الله رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري }[رواه البخاري] .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه
وسلم تسليما كثيرا ..
أما بعــد ... فيا أيها المؤمنون ...
فإن الناظر إلى الأحداث الجسيمة والنوازل
العظيمة التي أحاطت اليوم بالعالم عامة وبالأمة الإسلامية خاصة لا يستغرب حدوثها
ولا يفاجأ بها حينما يرجع إلى كتاب ربه
وينطلق من توجيهاته في ضوء سنن الله تعالي التي لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي فردا
على حساب فرد، ولا مجتمعا على حساب مجتمع آخر .
وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من غثائية
فأصبحت كالقصعة المستباحة إلا بسبب جهل أبنائها بالسنن الإلهية التي تحكم حياة
الأفراد والأمم والشعوب، وفق المنهج الذي قرره العليم الخبير: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك].
فالذي يطلب الأسباب ليخرج من ظلمات هذا
التيه على غير بصيرة لا يزيد إلا بعدا، ولن يفهم التاريخ، فيعرف عوامل البناء
والأمن والاستقرار والبقاء ،والتمكين، وعوامل الهدم والخوف والتدمير، والاستبدال
إلا بمعرفة سنن الله عز وجل.
وما أحوجنا في أزمنة الأحداث الجسام إلى
أن نذكر أنفسنا ونذكر الناس بسنن الله تعالي ؛ فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول،
وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل فيها أقدام أقوام، وتضل أفهام آخرين، والهداية من عند
الله.
فهي بمثابة طوق النجاة من ظلمات بعضها فوق بعض
إذا أخرج العبد يده لم يكد يراها.
لذلك كان حديثنا عن [السنن الإلهية وعلاقة الأسباب بالتوكل علي الله تعالي]
وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ المقصود بالسنن الإلهية.
2ـ أنواع السنن الإلهية .
3ـ طبيعة السنن الإلهية.
4ـ علاقة الأسباب بالتوكل علي
الله تعالي.
5ـ أهمية التوكل و منزلته من العقيدة
والإيمان والسلوك.
6ـ أثار التوكل علي الله تعالي.
=========
العنصر
الأول : المقصود بالسنن الإلهية :ـ
فهي عبارة عن قوانين
وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق سبحانه لتنظم وتحكم حركة الكون
والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية،
موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري.
فلله في الأفراد سنن،
وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن.
فينبغي إذنْ معرفتها
وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى:{يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)} [النساء].
وقال تعالي{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53)}[فصلت].
العنصر
الثاني : أنواع السنن الإلهية :ـ
سنن خارقة ، وسنن
جارية
السنن
الخارقة :ـ
السنة الخارقة:
التي يجريها الله تعالى على خلاف المألوف؛ مثل تحويل العصا إلى حية في يد موسى
عليه السلام-.
ونبع الماء من
الصخرة عندما ضرب موسى عليه السلام بعصاه الحجر، لما فلق البحر إلى اثني عشر طوداً
عظيماً بتلك العصى.
وكما شق القمر
نصفين لنبينا (ﷺ).
وكما حجب النار
عن طبيعة الإحراق، كما في قصة إبراهيم عليه السلام-.
وكما حصل ليونس عليه
السلام الذي عاش في بطن الحوت تحت طبقات الماء مدة من الزمن، ولم يمت، وهذا خلاف
المعتاد.
فتكون هذه السنن
الخارقة في بعضها من جنس الكرامات والمعجزات.
السنن
الجارية :ـ
فهي القوانين التي
تحكم الدنيا، منتشرة في الكون، وفي الحياة.
وهناك سنن متعلقة
بالأمور الكونية، وهناك سنن متعلقة بالأفراد، وسنن متعلقة بالمجتمعات.
في الكون، يعني سنن
الله في الكون مثل ماذا؟
تعاقب الليل والنهار،
هذه سنة مطردة.
الشمس والقمر، وفق
ناموس محدد، قال تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ
لَهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ
حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
(40)}[يس].
في خلق الإنسان، قال
تعالي : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ
مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}[المؤمنون].
هذه الأطوار التي
يمر بها خلق الإنسان، سنة جارية.
العنصر
الثالث : طبيعة السنن الإلهية:ـ
للسنن الإلهية طبيعة
لا تنفك عنها وهي:ـ
أ ـ الثبات:
السنن الإلهية تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر
في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من نتائج كالنصر أو الهزيمة،
والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير
ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}[فاطر].
ب ـ العموم:ـ
أي أنها تشمل كل البشر والخلائق دون استثناء وبلا
محاباة قال تعالي { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ
أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ
أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ
نَقِيرًا(124)}[ النساء].
فالسنن الإلهية في
الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا
تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها
كالسنن الكونية سواء بسواء.
فهي حاكمة على جميع
الأفراد، والأمم والمجتمعات، فإذا وقفنا عند قانون من قوانين الله تعالى كقانون النصر
نعلم أن له ضوابط ومعالم تنسحب على الجميع دون مجاملة ولا محاباة.
والناظر في حياة الرسول
وسيرته يجد هذا المعنى واضحًا، فعندما أخذ الصحابة سنة الله في النصر مثلا آتى النصر
لهم أُكُله وأعطى ثمره، وعندما خالفوا أمر الرسول (ﷺ) في غزوة
أحد ، لم تنخرم لهم السنة ولم تتبدل ؛ بل حكمت عليهم وفيهم أعظم خَلْق الله (ﷺ) .
قال تعالي {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}[آل عمران].
فإن السنن لا تحيد
ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛
للوصول إلى النتائج المحددة المطلوبة.
ج ـ التكرار:ـ
تتكرر السنن الإلهية
أينما وجدت الظروف المناسبة مكانا وزمانا وأشخاصا وأفكاراَ قال تعالي{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ
وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}[آل عمران].
"جاء القرآن
يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن
سار على سنته في الحرب مثلا ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا، ومن تنكبها خسر وإن كان
مسلما.
إن سنن الله تعالى أو
القوانين التي يخضع لها الكون ثابتة وشاملة لا تتغير مهما تغيّر الزمان والمكان:{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ
اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)}[فاطر].
ولقد نجم هذا الثبات وذلك الشمول عن أمرين:
الأول: استبعاد عنصر المصادفة تماماً، إذ لا يمكن للمصادفة أن تثبت
نظاماً أو تجعله شاملاً.
الثاني: أن الثبات والاطِّراد والشمول جعل قيام العلم أمراً ممكناً،
إذ لو تغيّر نظام الوجود وخصائص الأشياء من مكان إلى آخر أو من زمان إلى آخر لما قامت
حقائق علمية، ولما كان هناك تقدّم وحضارة.
ولـمّا كــان دور
العلــم أن يبصّرنا بآيات الخـالق جلّ عُلاه في الكون وبنظامه الرائع البديع، كان اطِّراد
هذا النظام وسيلة إلى اكتشاف السنن الاجتماعية والتاريخية وقوانين المادة التابعة الصارمة
التي لا تعرف التغيير والتبديل، مما يساعد الإنسان على معرفتها ثم التكيّف معها وتوظيفها
في عمارة الأرض وبناء الحضارة.
العنصر الرابع :علاقة الأسباب بالتوكل علي الله تعالي :ـ
مواقف الناس من الأسباب
على أربعة أقسام:
1 - الالتفات إلى
الأسباب بالكلية واعتماد القلب والجوارح عليها من غير نظر لمسببها : ــ كنظرة الماديين والعقلانيين فوقعوا في الشرك لأنهم أثبتوا
موجدأً مع الله مستقلاً بالضر والنفع ، وهذا باطل مخالف للكتاب والسنة والاجماع كما
أن الأسباب قد تتخلف عن مسبباتها بإذن الله كما يشهد لذلك الحس.
2 - الإعراض عن الأسباب
بالكلية: ـ
كنظر غالب الصوفية
للتوكل ، فهم لا يرون تحقيق التوكل إلا في ترك الأسباب بالكلية فتركوا التكسب والعمل
والاحتراز والاحتياط والتزود في السفر والطعام ويرون ذلك كله منافياً للتوكل. وهذا
الموقف أي (الإعراض عن الأسباب بالكلية) حكم عليه العلماء بأنه قدح في الشرع.
3 - نفي تأثير الأسباب
بالكلية:ـ
وصف العلماء هذا القول بأنه (نقص في العقل) وهو قول
القدرية الجبرية ، وهم يرون أن الله لم يخلق شيئاً سبباً و لا جعل في الأسباب قوى وطبائع
تؤثر.
وهذا الموقف فاسد
باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
4 - قيام الجوارح
بالأسباب واعتماد القلب على مسبب الأسباب سبحانه وتعالى: ـ
هذا مذهب أهل السنة
والجماعة وهو الحق الذي دل عليه الشرع والعقل وهو الوسط في كل مذهب فأثبت للأسباب تأثيراً
في مسبباتها لكن لا بذاتها بل بما أودعه الله فيها من القوى الموجبة ، وهي تحت مشيئته
وقدرته فإن شاء منع اقتضائها وإن شاء جعلها مقتضية لأحكامها، فهم ( أي أهل السنة والجماعة)
يوجبون الأخذ بالأسباب ويعتقدون عدم منافاتها للتوكل؛ بل إن التوكل من أعظم الأسباب
في جلب المنافع ودفع المضار ونفي الفقر ووجود الراحة.
و يرون ضرورة الأخذ
بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها، و يكون التوكل بالقلب على الخالق مع اتباع الأسباب
في ظاهر الحال فقط .
والأخذ بالأسباب ثم
الاعتماد على الله عز وجل هو مذهب أهل الحق من سلف الأمة.
قال تعالى {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا
مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}[يوسف].
و في جانب الرزق قال
تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}[الملك].
و من الأدلة على ارتباط
التوكل بالأخذ بالأسباب : ــ
من القرآن :ـ قال تعالي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا
ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)}[النساء] .
وقال تعالي:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ
دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)}[الأنفال].
وقال تعالي {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}[الجمعة].
وقال تعالي : {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ
رُطَبًا جَنِيًّا (25)}[مريم].
وقال تعالي {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}[الأنبياء]
ومن السنة :
عن أنس
بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي (ﷺ) على ناقة له ، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل ؟ فقال:
اعقلها وتوكل. رواه الترمذي .
وعن عمر رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: {لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً}. [رواه أحمد والترمذي].
وعن عمر رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) قال: {لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً}. [رواه أحمد والترمذي].
(خماصاً: جياعاً ،
بطاناً: ممتلئات البطون.).
والمعنى الإجمالي
للحديث: أن التوكل الصحيح هو تفويض الأمر إلى الله عز وجل ، والثقة بحسن النظر فيما
أمر به ، فلو أن المسلمين يتوكلون على الله جل ثناؤه في كل شئونهم لرزقهم كالطير تماماً
ولكن بعضهم يعتمد على قوته وحذره ويحلف بالباطل وكل هذا خلاف التوكل.
وعن المقدام بن معدي كرب عن النبي (ﷺ) قال: {ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله
داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده}. [رواه البخاري].
وقال ابن عباس رضي الله
عنهما "وكان أهل اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون،
ويقولون: نحن متوكلون، فيحجون، فيأتون أهل مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى(197)}[البقرة]؛
رواه البخاري.
وعن عمر رضي الله
عنه قال: كان رسول الله (ﷺ) ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثم يأخذ ما بقي
فيجعله مجعل مال الله ، فعمل رسول الله (ﷺ) بذلك حياته ....[رواه البخاري ومسلم].
ولقد ربي النبي (ﷺ) أصحابه على قيمة
من القيم تلمح استصحاب هذا الإدراك القوي للسنن التي بثها الله تعالى في خلقه، فحديثه
عن اتباع سنن مَنْ قبلنا من الوضوح بمكان، وإرشاده لمن يستجديه من الناس إلى سنة الله
في الرزق واضحة عندما يأمره بأن يذهب فيشتري قدوما ويحتطب.
فعن أنس رضي الله عنه {أنَّ رجلاً من الأنصار أتى
النبي (ﷺ) يسأله فقال
(ﷺ)
أَمَا في بيتك شيء؟،
قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.] نلبس بعضَه، ونبسط
بعضه، وقَعْبٌ[الإناء] نشربُ فيه من الماء، قال (ﷺ) (ائتني بهما)
، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله (ﷺ) بيده، وقال: مَن يشتري هذين؟، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم،
قال (ﷺ) مَن يَزيد
على درهم؟ مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ
الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ
بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به) فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ (ﷺ) عودًا بيده،
ثم قال له: (اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا) ، فذهَبَ الرجل يحتطبُ
ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول
الله (ﷺ) {هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ المسألةُ
نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع،
أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع} [رواه أبو داود برقم ، واللفظ له،
، وابن ماجه ، والنسائي وأحمد]
ولقي عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ناساً من أهل اليمن فقال من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون ، فقال أنتم المتكلون
، إنما المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض ويتوكل على الله.
وفي ذلك الرد البليغ
على من يتركون الأسباب تقاعساً بدعوى التوكل على الله ، ولو صدقوا لأحسنوا العمل.
أما التواكل فهو:ـ
ترك الكسب والطمع
في المخلوقين والاعتماد عليهم بالتخلي عن الأسباب التي وضعها الله عز وجل والانقطاع
عن السعي والتقاعد عن العمل وانتظار النتائج من الخلق أو القدر أوالاتكال على الله
أن يخرق له العوائد.
والتواكل خسة همة
وعدم مروءة لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب.
والتوكل الذي نقصده
ليس التواكل وإنما هو بذل كافة الأسباب والتوكل على الله في أعمال هذه الأسباب والتوفيق
فيها قال تعالي { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ
عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)}[النمل].
فهذه نقطة هامة جدا
وهي أن تكون على الحق فإذا كنت منحرفا أو مقصرا أو معتديا أو مجانبا للحق وتقول حسبي
الله ونعم الوكيل فلا معنى لكلماتك .
فمن أهمل تربية ابنه
فانحرف الابن هل يصح أن يقول حسبي الله ونعم الوكيل ؟
والطالب الذي لم يذاكر
طول العام فرسب هل يصح أن يقول حسبي الله ونعم الوكيل ؟
وكذلك المريض الذي
يهمل في علاجه ؟
يروى عن" شقيق
البلخي" وهو من أهل العبادة والزهد أنه ودَّع أستاذه (أو شيخه) إبراهيم بن أدهم
لسفره في تجارة عزم عليها.
وهو في الطريق الصحراوي
رأى طائراً أعمى كسير الجناح، فوقف يتأمل الطائر، ويفكر كيف يجد رزقه في هذا المكان
المنقطع. فلم يمض وقت طويل حتى جاء طائر آخر،فأطعم الطائر كسير الجناح كما يطعم الحمام
فراخه.
تعجب شقيق .. من هذا
المشهد وأثر فيه ، فقال في نفسه: إذا كان الله تعالى يرزق هذا الطائر من غير حول منه
ولا قوة ولم يهمله ، فلماذا أذهب إلى التجارة و لماذا العناء و السفر وأنا في هذا السن؟!
سأرجع وحتما سيرزقني
الله وعاد إلى بيته ، وحين وصل زار شيخه فقال
له الشيخ : لماذا عدت يا شقيق.. الم تذهب للتجارة ؟ فقص عليه القصة بأنه رأى في طريقه طائرا أعمى وكسيح،
و أخذ يفكر كيف يأكل هذا الطائر ويشرب؟
وبعد قليل جاء طائر
آخر يحمل حبا وأطعم الطائر الأعمى ثم سقاه.
فقلت طالما ربنا عز
وجل رزق الطائر الأعمى الكسيح .. سأرجع إلى بيتي وسط أولادي وارجع لأهلي وبلدي وربي
سيرزقني.
هنا قال له إبراهيم
بن ادهم:سبحان الله يا شقيق!. ولماذا رضيت لنفسك أن تكون الطائر الأعمى العاجز الذي
ينتظر عون غيره ،ولا تكون أنت الطائر الآخر
الذي يسعى ويكدح ويعود بثمرة ذلك على من حوله ؟!
أما علمت أن النبي
صل الله عليه وسلم قال: اليد العليا خير من اليد السفلى فقبَّل يده شقيق وقال: أنت
أستاذنا يا أبا إسحاق!
وتركه وغدا يسعى كما
تسعى الطير التي تغدو خماصاً وتعود بطاناً.
يقول عمر بن الخطاب
رضي الله تعالى عنه : لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني فقد علمتم أن
السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة .
وما أصدقَ قول الشَّاعر:
تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ وَلا تَرْغَبَنْ فِي العَجْزِ يَوْمًا عَنِ
الطَّلَبْ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمٍ وَهُزِّي إِلَيْكِ الجِذْعَ
يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ
وَلَوْ
شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزَّةٍ جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ
سَبَبْ.
إذا فالأخذ بالأسباب فرض وترك الأسباب معصية والإعتماد علي
الأسباب شرك .
ومن أروع ما يدل على حرص الرسول(ﷺ) على تعلم أصحابه وأمته إدراك السنن الإلهية قوله لزياد
بن لبيد: بعد أن ذكر شيئا وقال وذلك عند ذهاب العلم، قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب
العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرؤه أبناءنا، وأبناؤنا يقرءونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟
فقال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود
والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء} (رواه احمد ).
وهذا الحديث الشريف يوضح إرشاد الرسول (ﷺ) لأصحابه إلى أمر السنن التي تعم الجميع وتمضي بلا استثناء،
وفي هذا إجابة عن السؤال الحائر على شفاه المسلمين كيف يكونون مسلمين وتظل أحوالهم
بهذا التخلف والتأخر والجمود؟
فليس المراد من قوله (ﷺ): «وذلك عند
ذهاب العلم» ارتفاع المعارف والثقافة من الكتب والرؤوس؛ بل ارتفاع الارتباط بينها وبين
السنن الكونية وإحسان التعامل بهذا العلم مع تلك السنن.
والصحابة الكرام بدورهم كانوا على علم ووعي بهذه السنن، ومن
أبرز الذين ظهرت في حياتهم وأقوالهم هذه السنن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال
عنه ابن مسعود رضي الله عنه عندما مات: «مات تسعة أعشار العلم،
فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة؟! فقال: لم أرد علم الفتيا والأحكام، إنما أريد
العلم بالله تعالى﴾ .
وفي علم الصحابة بعلم السنن الإلهية يقول صاحب المنار: (وإنني
لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها.
يعني أنهم بما لهم
من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب الغربية منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب
و غيرها بما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله
تعالى، ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسبب سبقهم للأمم التي استولوا عليها.
العنصر الخامس : أهمية التوكل و منزلته من العقيدة والإيمان والسلوك:ـ
1ـ التوكل من أعظم أخلاق الإسلام :ـ
التوكل على الله خلق عظيم من أخلاق الإسلام ودليل صحة الإسلام
،وهو من أعلى مقامات اليقين وأشرف أحوال المقربين وهو نظام التوحيد وجماع الأمر كما
أنه نصف الدين والإنابة نصفه الثاني ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها وهو مفتاح كل خير
لأنه أعلى مقامات التوحيد وعبادة من أفضل العبادات ، وهو مقترن بمراتب الدين الثلاث
(الإيمان والإسلام والإحسان) وشعائره العظام.
2ـ شرط الإيمان :ـ
إن التوكل شرط من شروط الإيمان ولازم من لوازمه ومقتضياته
؛ فكلما قوي إيمان العبد كان توكله أكبر وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل قال الله عز وجل
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}[التغابن]
.
وقال تعالي {وَقَالَ مُوسَىٰ
يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ(84)}[ يونس] وهو من سمات المؤمنين الصادقين قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)}[الأنفال].
3ـ سبب لنيل محبة الله تعالي ودخول الجنة :ـ
جعله الله سبباً لنيل محبته قال تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}[آل عمران] .
والمتوكل هو أول من يدخل الجنة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله
(ﷺ) يقول: {يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر
ليلة البدر ...}[ رواه البخاري ومسلم].
4ـ من أصول العبادة :ـ
التوكل أصل من أصول العبادة التي لا يتم توحيد العبد إلا
به جاء الأمر به في كثير من الآيات مثل قوله تعالى (فاعبده وتوكل عليه ) وقوله عز وجل
(وتوكل على الحي الذي لا يموت ) ،
وفي حديث ( أربع لا يعطيهن الله إلا من أحب: الصمت وهو أول
العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا) رواه الطبراني وهو في اتحاف السادة.
وقال علي: يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي
مما سواه .
5ـ شدة حاجة المسلم
إليه :ـ
مما يدل على أهمية التوكل حاجة المسلم إليه حاجة شديدة وخصوصاً
في قضية الرزق أو كان صاحب دعوة وحامل رسالة وطالب إصلاح ، و مما يدل على أهميته أيضاً
ضرورته للعبد وعدم
استغنائه عنه طرفة عين من عدة جهات:ـ
1- من جهة فقر العبد
وعدم ملكه شيئاً لنفسه فضلاً عن غيره من المخلوقين.
2- من جهة كون الأمر كله بيد الله تعالى.
3- من جهة أن تعلق العبد الزائد بما سوى الله مضرة عليه.
4- من جهة أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب
له الضرر من جهته عكس ما أمًله منه.
إننا في الدنيا دارابتلاء
واختبار ودار ممر لا دار مقر فليس فيها سعادة مطلقة وليس فيها غني مطلق وليست فيها
صحة دائمة أو شباب متواصل أو طمأنينة على حال ..
إذن فليس لنا إلا اللجوء إلى الله قال تعالي {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ
كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) }[الانشقاق].
لذلك قيل : إن المتوكل على الله هو الذي يعلم أن الله كافل
رزقه وأمره ، فانك في الحقيقة لا تتوكل علي ضعيف أو جاهل .. فإذا توكلت على الله حق
التوكل فقد عرفت أنه العليم القادر الحكيم ، فقد عرفت الله حقا .
والله تعالى هو الوكيل المطلق قال تعالى {ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}[الأنعام].
والوكيل في الدنيا يمكن أن ينجح في مهمته التي وكلته بها
أو لا ينجح يقدر أو لا يقدر ...
أما إذا وكلت الله رب العالمين فهو الوكيل الحق الذي يغنيك
ويرضيك ويكفيك.
العنصر
السادس : أثار التوكل علي الله تعالي :ـ
التوكل على الله سبحانه وتعالى له آثار عظيمة في حياة الفرد
والمجتمع، وفي حياة الأمم، من هذه الآثار: ـ
1ـ إمداد المتوكل بالقوة:ـ
التوكل على الله سبحانه وتعالى يعطي الإنسان القوة والعزة
بالله وحده لا شريك له، فعن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال {مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ
اللَّهَ ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكْتَفِ بِرِزْقِ اللَّهِ}[رواه
أحمد] .
لأن الإنسان إذا توكل على الله وحده لا يخاف أحداً مهما كان،
لو اجتمعت الدنيا كلها بعروشها وجيوشها على أن يكيدوك -أيها الإنسان- لا يملكون، كما
قال النبي (ﷺ) لابن عباس وهو غلام صغير: (واعلم
أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا
على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). رواه الترمذي .
إذاً التوكل على الله سبحانه وتعالى يجعل الإنسان قوياً في
إيمانه، قوياً في حياته، قوياً في صبره على البلاء، قوياً في مواجهته للمحن والابتلاء،
قوياً حينما تدلهم الفتن وتضطرب الأمور ويحيص الناس. ويحار الحليم، يقف قوياً لأنه
يتوكل على الله وحده لا شريك له، ويعتصم به، ويعتمد عليه وحده لا شريك له.
والتوكل يكسب المسلم القوَّة الروحيَّة التي تضعف أمامها
القوَّة المادِّيَّة، ويبدو ذلك جليًّا في موقفِه (ﷺ) وهو يَحفِر الخندق، والمشركون اجتمعوا عليْه يحاصرون
المدينة، فإذا به يَعِدُ أصحابَه بفتح اليَمَن، وفتح مَمْلكتَي كسرى وقيصر.
ويجعل المسلم قويا أمام مغريات ووساوس الشيطان. قال تعالى{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)}[النحل] .
وقال رسول الله (ﷺ) {إذا خرج الرجل من باب بيته كان معه ملكان موكلان به فإذا قال: بسم
الله قالا: هديت فإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله قالا: وقيت فإذا قال: توكلت على
الله قالا: كفيت قال: فيلقاه قريناه فيقولان: ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي}.[رواه
الترمذي وابن ماجه] .
2ـ التوكل يورث صاحبه العزَّة :ـ
العزة التي يشعر بها المتوكِّل على الله، ويستمِدُّها من
عزَّة الله، وتُعْطِيه مكانة كبيرة؛ قال تعالى: {وَمَن
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} [الأنفال].
قال الخليفة سليمان ابن عبدالملك للإمام أبو حازم أحد علماء
السلف في أحد مواسم الحج :
ارفْع إليْنا حوائج دُنياك نقضِها لك، قال: "إني لم
أطْلُبْها من الخالق فكيف أطلُبها من المخلوق؟!"، يُريد أنَّ الدنيا أهونُ عنده
من أن يَسْأَلها من الله تعالى، فهو إذا سأل ربَّه يسأله ما هو أعظمُ وهو الآخرة والجنَّة،
ورضوان الله تبارك وتعالى، إنَّ العزَّة لا تطلب إلاَّ من باب واحد؛ قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً
(10)}[فاطر].
ولله در الإمام الشافعي حين قال :
أمطري لؤلؤاًجبالَ
سرنديـ ـبَ وَفِيضي آبارَ تكرورَ تِبْرَا
أَنَا إنْ
عِشْتُ لَسْتُ أعْدَمُ قُوتاً وَإذا متّ لَسْتُ أعْدَمُ قَبْرَا
همتي همَّة الملوكِ ونفسي نَفْسُ
حُرٍّ تَرَى الْمَذَلَّة كُفْرَا
وإذا ما
قنعتُ بالقوتِ عمري فَلِمَاذَا أزورُ زَيْداً وَعَمْرَا
3ـ التوكل على الله يكسب الإنسان الرضا بما قسم
الله له:ـ
فإذا توكل العبد على الله في أموره كلها رضي بالله سبحانه
وتعالى وبما قسم له ، وقد علمنا رسول الله (ﷺ) دعاء الاستخارة، الذي يقول فيه: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين، ثم يقول: اللهم! إني أستخيرك
بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر..).
ثم في آخر هذا الحديث
يوصي النبي (ﷺ) أن الإنسان بعد
ما يسمي حاجته يقول: (وإلا فاصرفه عني) .
يعني: إن لم يكن خيراً لي (واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني
به)، فيرضى الإنسان بما قسم الله سبحانه وتعالى له، ولا شك أن الإنسان إذا توكل على
الله وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى لا يغضب من أي أمر قد قدره الله سبحانه وتعالى
عليه.
ومن أروع القصص في ذلك ، يحكى عن رجل خرج في سفر مع ابنه
إلى مدينة تبعد عنه قرابة اليومين، وكان معهما حمار وضعا عليه الأمتعة، وكان الرجل
دائما ما يردد قول: ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
وبينما هما يسيران في طريقهما؛ كُسرت ساق الحمار في منتصف
الطريق، فقال الرجل: ما حجبه الله عنا كان أعظم!! فأخذ كل منهما متاعه على ظهره، وتابعا
الطريق، وبعد مدة كُسرت قدم الرجل، فما عاد يقدر على حمل شيء، وأصبح يجر رجله جرًّا،
فقال: ما حجبه الله عنا كان أعظم!!
فقام الابن وحمل متاعه ومتاع أبيه على ظهره وانطلقا يكملان
مسيره! ما، وفي الطريق لدغت أفعى الابن، فوقع على الأرض وهو يتألم، فقال الرجل: ما
حجبه الله عنا كان أعظم!!
وهنا غضب الابن وقال لأبيه: أهناك ما هو أعظم مما أصابنا؟؟
وعندما شفي الابن أكملا سيرهما ووصلا إلى المدينة، فإذا بها
قد أزيلت عن بكرة أبيها، فقد جاءها زلزال أبادها بمن فيها. فنظر الرجل لابنه وقال له:
انظر يا بني، لو لم يُصبنا ما أصابنا في رحلتنا لكنا وصلنا في ذلك اليوم ولأصابنا ما
هو أعظم، وكنا مع من هلك..
قال بعضهم: "متى رضِيتَ بالله وكيلاً وجدتَ إلى كلِّ
خيرٍ سبيلاً".
4ـ التوكل
يورث الإنسان سكينة النَّفس وطمأنينة القلب:ـ
يشعر بها المتوكِّل على ربِّه، فيشعر بالأمن إذا خاف النَّاس،
واليقين عند شكِّ النَّاس، والثبات إذا قلق النَّاس، والأمل إذا يئِس النَّاس، والرضا
إذا سخط النَّاس.
حال المتوكلين كما جاء في الآية الكريمة قال تعالي{وَمَا لَنَا
أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ
مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}[إبراهيم]
فهذا سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام توكل علي الله يوم اجتمع عليه الناس جميعا ليحرقوه. منتهي التوكل والتسليم ،ففي صحيح البُخاري عن ابن
عباس رضِي الله عنْهما قال (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيمُ عليْه السَّلام
حين أُلْقِي في النَّار، وقالها محمَّد (ﷺ) حين قالوا
له:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ
سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}[آل عمران].
وهذا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قمة التوكل على
الله ومنتهى التسليم له سبحانه وتعالى.
في يوم الأحزاب ونحن نعرف ما يوم الأحزاب حين تجمعت الجزيرة
العربية بأكملها بكافة قبائلها إلا القليل وحتى اليهود الذين كانوا في عهد مع المسلمين
وحاصروا المدينة من كل جانب ويصفه الله تعالى في كتابه
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ
وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ
ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)}[الأحزاب].
وكان موقف المؤمنين كما قال الله تعالي{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا
مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ
إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)}[الأحزاب].
وماذا كان رد الله على ذلك الإيمان الصادق {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا
لَمْ تَطَئُوهَا ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}[الأحزاب]
.
قال تعالي {وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)}[الأحزاب]
.
وقال تعالي{رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)}[المزمل].
أخي المسلم : توكل على الله ولا تقل كيف الحل؟ والطرق كلها
مسدودة !!
فالطرق بيده والحلول هو من يملكها والأسباب هو واضعها توكل
لو اجتمع كل الناس عليك فهو الوحيد القادر علي الدفاع عنك .
5ـ التوكل يورث الغني : ــ
التوكل على الله سبحانه وتعالى ينجي الإنسان مما يخافه من
الفقر.
ومن يتوكل علي الله تعالي يكفيه جميع شئونه قال تعالي {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ (3)}[الطلاق].
فلو توكل العبد على
الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه ونصره
.
ولذلك يروى أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما
كان في عهد خلافته جاءه رجل من الأعراب ممن يطلب الرزق فجلس عند بابه، وصار عمر يعطيه
لأنه خليفة المسلمين وأمير المؤمنين، فمكث عند بابه لينال رزقه، فجاء إليه رجل وقال
له: يا هذا! أنت هاجرت إلى عمر أو إلى رب عمر ؟
قال: وما ذاك؟ قال: اذهب فاقرأ القرآن، فإن الله يغنيك عن
عمر فاستيقظ الرجل وذهب لقرآة القرآن وعبادة الله وطلب العلم فأغناه الله، ولكن عمر
الذي كان يرعى رعيته سأل عن الرجل؛ لأنه انقطع عنه أياماً، فبحث عنه في المدينة حتى
لقيه، فقال له: يا فلان! كنت عندنا فإلى أين ذهبت؟
فقال: يا أمير المؤمنين! جاءني رجل فقال لي هذا الكلام: اقرأ
القرآن واعتمد على الله لا على عمر فقرأت القرآن فأغناني الله سبحانه وتعالى فقال له
عمر : يا أخي! وماذا وجدت في القرآن يعني ما الذي لفت انتباهك في القرآن؟
قال: قول الله تبارك وتعالى:{وَفِي
السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ(22)} [الذاريات].
ذكر الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة في ترجمة القاضي
أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المتوفى في سنة (535 هـ):
(قال الشيخ الصالح أبو القاسم الخزاز البغدادي: سمعت القاضي
أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز الأنصاري يقول: كنت مجاورا بمكة حرسها الله
تعالى فأصابني يوما من الأيام جوع شديد لم أجد شيئا أدفع به عني الجوع، فوجدت كيسا
من إبريسم مشدودا بشُرّابة من إبريسم أيضا، فأخذته وجئت به إلى بيتي، فحللته فوجدت
فيه عقدا من لؤلؤ لم أر مثله.
فخرجت فإذا بشيخ ينادي عليه، ومعه خرقة فيها خمس مئة دينار
وهو يقول: هذا لمن يردّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ، فقلت: أنا محتاج، وأنا جائع،
فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأردّ عليه الكيس. فقلت له: تعال إليّ فأخذته وجئت به إلى
بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرّابة، وعلامة اللؤلؤ وعدده، والخيط الذي هو
مشدود به، فأخرجته ودفعته إليه، فسلّم إليّ خمس مئة دينار، فما أخذتها، وقلت: يجب علي
أن أعيده إليك، ولا آخذ له جزاء، فقال لي: لا بدّ أن تأخذ وألحّ عليّ كثيرا، فلم أقبل
ذلك منه، فتركني ومضى.
وأما ما كان مني،
فإني خرجت من مكة وركبت البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكت أموالهم، وسلمت أنا
على قطعة من المركب، فبقيت مدة في البحر لا أدري أين أذهب، فوصلت إلى جزيرة فيها قوم،
فقعدت في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال:
علمني القرآن، فحصل لي من أولئك القوم الشيء الكثير من المال.
ثم إني رأيت في ذلك
المسجد أوراقا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها، فقالوا لي: تحسن تكتب؟ فقلت: نعم. فقالوا:
علمنا الخط، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنت أعلمهم، فحصل لي أيضا من ذلك
شيء كثير، فقالوا لي بعد ذلك: عندنا صبية يتيمة ولها شيء من الدنيا نريد أن تتزوج بها،
فامتنعت، فقالوا: لابدّ وألزموني فأجبتهم إلى ذلك.
فلما زفوها إليّ
مددت عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل
إلا النظر إليه، فقالوا: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة من نظرك إلى هذا العقد، ولم
تنظر إليها، فقصصت عليهم قصة العقد، فصاحوا وصرّخوا بالتهليل والتكبير حتى بلغ إلى
جميع أهل الجزيرة، فقلت: ما بكم؟ فقالوا: ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية،
وكان يقول: ما وجدت في الدنيا مسلما[ المراد أمينا وعفيفا يعرف أحكام اللقطة] إلا هذا
الذي ردّ عليّ هذا العقد، وكان يدعو ويقول: اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي،
والآن قد حصلتْ، فبقيت معها مدة ورزقت منها بولدين، ثم إنها ماتت فورثت العقد أنا وولداي،
ثم مات الولدان، فحصل العقد لي، فبعته بمئة ألف دينار، وهذا المال الذي ترونه معي من
بقايا ذلك المال.
أخي المسلم : التوكل عند المسلم هو إذًا عملٌ وأملٌ، مع هدوء
قلب، وطُمَأنينة نفس، واعتقاد جازم بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الله
لا يضيع أجْر من أحسن عملاً.فاللهم إنا نسألك صدق التوكل عليك
وحسن اللجوء إليك ولا تحوجنا إلا إليك واجعل اعتمادنا عليك وحدك إنك نعم المولي ونعم
النصير ..
رابط doc
رابط pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق