الحمد لله رب
العالمين جعل الأخلاق قوام المجتمع الراقي وأساس الإنسان الفاضل.. فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له... ربط بين الأخلاق وبين الدين فقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ
إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ(45)}[ العنكبوت]
وأشهد أن سيدنا
محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد الغاية الأولي من بعثته والمنهاج المبين
في دعوته فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ){إنما بُعِثْتُ
لأتممَ مكارم الأخلاق}[مسند البزار ]
فاللهم صل على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما..
أما بعـد.... فيا
أيها المؤمنون:
فالإنسان جسد وروح،
ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة، والتي محلُّها القلب،
وهذه الصورة الباطنة هي قوام شخصية الإنسان المسلم، فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه،
أو لونه وجماله، أو فقره وغناه، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق،
يقول تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13)} [الحجرات].
ويقول (ﷺ){إنَّ الله لا ينظر
إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}
وحاجة الناس إلى
الأخلاق أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب لانه بفقد الطعام والشراب يضعف البدن
الظاهر، أما بفقد الأخلاق هلاك الباطن وهو عبارة عن الروح والقلب وشتان بين هلاك
الظاهر وهلاك الباطن فلابد من الاهتمام بالتربية الأخلاقية للمجتمع منذ البداية
وحديثنا عن هذا الموضوع من خلال هذه العناصر...
1ـ المقصود من
التربية الأخلاقية.
2ـ أهمية التربية الأخلاقية.
3ـ علاقة الأخلاق
بالإيمان.
4ـ أثر التربية
الأخلاقية على الفرد والمجتمع.
----------------------------
العنصر الأول :ـ
المقصود من التربية الأخلاقية :ــ
مجموعة المبادئ
الخلقية والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الإنسان، ويكتسبها
ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلي أن يصبح مكلفا إلى أن يتدرج شابا إلى أن يخوض
خضم الحياة.
ومما لا شك فيه أن
الفضائل الخلقية والسلوكية والوجدانية هي ثمرة الإيمان الراسخ والتنشئة الدينية
الصحيحة.
العنصر الثاني :ــ
أهمية التربية الإخلاقية :ــ
تظهر لنا أهمية
التربية الأخلاقية في الإسلام من عدة أمور، منها:ـــ
1ـ أنها الغاية الأولي
من بِعثته النبي (ﷺ)
فقد صحَّ عنه (ﷺ) ((إنما بُعِثْتُ
لأتممَ مكارم الأخلاق)). [مسند البزار عن أبي هريرة]
والقرآن الكريم
والسنة المطهرة يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق :ـ
فقال تعالى عن
الصلاة ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ (45) العنكبوت].
وقال تعالى عن
الزكاة ﴿ خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ
إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ (103) التوبة].
وقال صلى الله عليه
وسلم عن الصيام (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه
وشرابه
)).
وقال تعالى عن الحج
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾
(197) البقرة].
وقال (ﷺ): (من حج فلم يرفث
ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
لقد بين رسولُ الله
- (ﷺ)- بهذا الأسلوب
أهمية الخُلق، بالرغم من أنه ليس أهمَّ شيء بُعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
من أجله؛ فالعقيدة أهم منه، والعبادة أهم منه، ولكن هذا أسلوب نبوي لبيان أهمية
الشيء، وإن كان غيرُه أهمَّ منه، فإن قال قائل: ما وجه أهمية الخُلق حتى يقدَّم على العقيدة والعبادة؟
فالجواب: إن الخُلق هو أبرز
ما يراه الناسُ، ويُدركونه من سائر أعمال الإسلام؛ فالناس لا يرون عقيدةَ الشخص؛
لأن محلَّها القلبُ، كما لا يرون كلَّ عباداته، لكنهم يرَوْن أخلاقه، ويتعاملون
معه من خلالها؛ لذا فإنهم سيُقيِّمون دِينَه بِناءً على تعامله، فيحكُمون على
صحتِه من عدمه عن طريق خُلقه وسلوكه، لا عن طريق دعواه وقوله، وقد حدَّثَنا
التاريخ أن الشرق الأقصى ممثَّلاً اليوم في إندونيسيا والملايو والفلبين وماليزيا،
لم يعتنقْ أهلُها الإسلام بفصاحة الدعاة، ولا بسيف الغزاة، بل بأخلاقِ التجَّار
وسلوكِهم، من أهل حضرموت وعمان؛ وذلك لما تعاملوا معهم بالصدق والأمانة والعدل
والسماحة.
وإن مما يؤسَفُ له
اليوم أن الوسيلةَ التي جذبت كثيرًا من الناس إلى الإسلام هي نفسها التي غدَت
تصرِفُ الناس عنه؛ وذلك لما فسَدت الأخلاق والسلوك، فرأى الناس تباينًا - بل
تناقضًا - بين الادِّعاء والواقع!
2 ـ تعظيم الإسلام
لحُسن الخُلق:ــ
لم يعُدِ الإسلام
الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان، ومجالاً للتنافس بين
العباد؛ فقد جعله النبيُّ (ﷺ)أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال(ﷺ): ((إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا،
أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا،
الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون)).
وكذلك جعَل أجر حُسن
الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه، فقال(ﷺ): ((ما من شيءِ أثقلَ في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن حُسن
الخُلق)).
وجعَل كذلك أجرَ
حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال: ((إن المؤمنَ
لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم))، بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن
الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الحنة؛ فقد سُئل (ﷺ)عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟ فقال: (ﷺ) ((تقوى اللهِ وحُسن الخُلق))، وفي حديث آخرَ ضمِن لصاحب الخُلق دخولَ
الجنة، بل أعلى درجاتها، فقال: ((أنا زعيمٌ ببيت في ربَضِ - أطراف - الجنَّةِ
لِمَن ترَك المِراءَ وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسَط الجنة لِمَن ترَك الكذبَ وإن
كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمن حسُن خلُقه)
فصاحب الأخلاق
الفاضلة في مستوى الصائم القائم، بصيام وقيام مستمرين، بل إن العبد كما قال عليه
الصلاة والسلام: (( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ
دَرَجَاتِ الآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفٌ فِي الْعِبَادَةِ )) [الطبراني عن أنس
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]
هذه كلها أحاديث
شريفة تبين أن الخلق الحسن هو كل شيء في الدين، بل يكاد يكون الدينُ خلقاً حسناً.
3ـ أنها أساس بقاء
الأمم:ــ
فالأخلاق هي
المؤشِّر على استمرار أمَّة ما أو انهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن
ينهارَ كيانُها، كما قال أحمد شوقي رحمه الله تعالى:
وإذا أُصيب القومُ
في أخلاقِهم فأقِمْ عليهم مأتَمًا وعويلا
ويدلُّ على هذه
القضية قولُه - تعالى ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
ويقول الإمام ابن
تيمية رحمه الله تعالى : إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم
الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة.
4 ـ أنها من أسبابِ
المودة، وإنهاء العداوة:ــ
يقول الله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34].
والواقع يشهد بذلك،
فكم من عداوةٍ انتهت لحُسن الخُلق؛ كعداوة عمرَ وعكرمة، بل عداوة قريش له - صلى
الله عليه وسلم.
ومن هنا قال(ﷺ): "إنكم لن
تسَعُوا الناسَ بأموالكم، ولكن تسعونهم بأخلاقكم"،
يقول أبو حاتم -
رحمه الله -: "الواجب على العاقل أن يتحبَّب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق،
وتَرْكِ سوء الخُلق؛ لأن الخُلق الحسَن يُذيب الخطايا كما تذيب الشمسُ الجليد، وإن
الخُلق السيِّئ لَيُفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ".
5 ـ إن الخُلق أفضلُ
الجمالينِ:ــ
الجمال جمالان؛ جمال
حسي، يتمثل في الشَّكل والهيئة والزينة والمركَب والجاه والمنصب، وجمال معنوي،
يتمثل في النفس والسلوك والذكاء والفطنة والعلم والأدب، كما قال القائل:
ليس الجمالُ بأثواب
تُزيِّنُنا إن الجمالَ جمالُ العلم والأدبِ
وقال الشاعر:
ليس الجمالُ بمئزرٍ
فاعلم وإن رُدِّيت بردا
إن الجمالَ مناقب
ومعادن أورثن حمدا
وقد ذكر اللهُ أن
للإنسان عورتينِ؛ عورة الجسم، وعورة النفس، ولكل منهما ستر؛ فستر الأولى بالملابس،
وستر الثانية بالخُلق، وقد أمر الله بالسترين، ونبَّه أن الستر المعنوي أهمُّ من
الستر الحسي فقال:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ
قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ
التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26]؛
فطهارةُ الباطن أعظمُ من طهارة الظاهر.
العنصر الثالث :ــ
علاقة الأخلاق بالإيمان :ــ
هناك علاقة طردية
بين الإيمان والأخلاق:ـ فكلما كان الإيمان صحيحاً قوياً أثمر أخلاقاً حميدة،والإيمان
القوي يلد الخلق القوي حتما،وأن انهيار الأخلاق مرده إلي ضعف الإيمان، أو فقدانه
بحسب تفاقم الشر أو تفاهته.
لذلك قال عليه
الصلاة والسلام : " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" (رواه أبوداود
والترمذي وصححه الألباني).
وفي آيات وفيرة
وأحاديث كثيرة ربط الإسلام بين الإيمان وحسن الخلق، ومن أمثلة ذلك: ـ
1ـ اقتضاء الإيمان
للعدل:ـ
قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة:8).
2ـ اقتضاء الإيمان
للصدق :ـ
قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ (التوبة:119).
3ـ اقتضاء الإيمان
للحياء :ـ
قال عليه الصلاة
والسلام:" الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياءُ شعبة من الإيمان" (رواه
مسلم وعند البخاري: بضع وستون)
4ـ اقتضـاء الإيمان
للكرم والبذل:ــ
قال صلى الله عليه
وآله وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه...الحديث" (متفق
عليه).
5ـ اقتضـاء الإيمان
للحب في الله :ـ
قال عليه الصلاة
والسلام:" لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على
شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" رواه مسلم.
6ـ اقتضـاء الإيمان
للصبر والشكر :
قال عليه الصلاة
والسلام: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن
أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له." رواه
مسلم.
منافاة الأخلاق
السيئة للإيمان الكامل ومن ذلك:ـ
1ـ منافاة السخرية
والاستهزاء للإيمان:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ (الحجرات:11).
2ـ منافاة سوء الظن
والتجسس والغيبة للإيمان:ـ
قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ (الحجرات:12).
3ـ منافاة الكذب
والإخلاف والخيانة للإيمان:ـ
قال عليه الصلاة
والسلام: "آية المنافق ثلاثٌ؛ إذا حدّث كذب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذ ائتمن
خان" متفق عليه.
4ـ
منافاة إيذاء الجار
للإيمان:ـ
قال (ﷺ):" من كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره." رواه البخاري، ويقول عليه الصلاة
والسلام: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن،والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟
قال الذي لا يأمن جارُه بوائقه." رواه البخاري.
فإذا نمت الرذائل في
النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه
وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا فما قيمة دين بلا خلق، وما معنى الإفساد مع الانتساب
لله تعالى، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين.
أيها المؤمنون من
هنا ندرك الغاية من وراء الأمر بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل ألا وهي :
نزكية نفوسنا وتطهيرها لكي نفوز برضا الرحمن، وننجو بإذن ربنا من النيران، وقد
أقسم سبحانه أحد عشر قسما متوالياً على أنه لا يستحق الفوز بالجنة والنجاة من
النار إلا من زكت نفسه وصفت، فقال سبحانه: ﴿ وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا
تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا
جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا
بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا
طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا
سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس:1- 10].
ومن هنا تكون فضائل
الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركناً أساساً من أركان العبادة.
ورد في الحديث
" الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان " فالإيمان شعب، ويزيد بالطاعات وينقص
بالمعاصي، وإذا كان الحياء شعبة من الإيمان فسلب الحياء شعبة من شعب الكفر، وقس
على ذلك الكذب والغدر، والسرقة، وغيرها.
فانهيار الأخلاق
مرده إلى ضعف الإيمان، أو فقدانه، بحسب تفاقم الشر أو تفاهته..
فالرجل الصفيق
الوجه، المعوج السلوك الذى يقترف الرذائل غير آبه لأحد. يقول رسول الإسلام في وصف
حاله: "الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"!.
والرجل الذى ينكب
جيرانه ويرميهم بالسوء، يحكم الدين عليه حكما قاسيا، فيقول فيه الرسول (ﷺ): "والله لا
يؤمن؟ والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله، قال : الذى لا يأمن
جاره بوائقه
"!!.
وفى هذا ورد عن
النبي أن رجلا قال له: يا رسول الله، إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها
وصدقتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها. فقال: "هي في النار". ثم قال:
يا رسول الله فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها!
وأنها تتصدق
"بالأثوار من الأقط " بالقطع من العجين ولا تؤذى جيرانها. قال: "هي
في الجنة"
!.
فى هذه الإجابة
تقدير لقيمة الخلق العالي وفيها كذلك تنويه بأن الصدقة عبادة اجتماعية!
يتعدى نفعها إلى
الغير؟
ولذلك لم يفترض
التقلل منها كما افترض التقلل من الصلاة والصيام، وهى عبادات شخصية فى
ظاهرها.
إن رسول الإسلام لم
يكتف بإجابة على سؤال عارض، في الإبانة عن ارتباط الخلق بالإيمان الحق، وارتباطه
بالعبادة الصحيحة، وجعله أساس الصلاح فى الدنيا والنجاة فى الأخرى.
إن أمر الخلق أهم من
ذلك ولا بد من إرشاد متصل، ونصائح متتابعة ليرسخ فى الأفئدة والأفكار.
أن الإيمان والصلاح
والأخلاق، عناصر متلازمة متماسكة، لا يستطيع أحد تمزيق عراها.
لقد سأل أصحابه يوما
: "أتدرون من المفلس؟! قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال:
المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف
هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته،
فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه،ثم طرح فى النار".
ذلك هو المفلس: إنه كتاجر يملك فى
محله بضائع بألف، وعليه ديون قدرها ألفان، كيف يُعد هذا المسكين غنيا، والمتدين
الذى يباشر بعض العبادات، ويبقى بعدها بادى الشر كالح الوجه، قريب العدوان كيف
يحسب امرءا تقيا، وقد روى أن النبي ضرب لهذه الحالات مثلا قريبا.
قال: "الخلق
الحسن يُذيب الخطايا كما يُذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العقل كما يُفسد
الخل العسل".
فإذا نمت الرذائل فى
النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه
وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا.
فما قيمة دين بلا
خلق؟!!
وما معنى الانتساب
لله والظهور فى صورة
الحريص على أداء العبادات على إقامتها وفى الوقت نفسه ترتكب أعمال يأباها الخلق
الكريم والإيمان الحق.؟!!
وتقريرا لهذه
المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم، يقول النبى الكريم (ﷺ): " ثلاث من
كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر؟ وقال إني مسلم : إذا حدث كذب، وإذا وعد
أخلف، وإذا أؤتمن خان ".
وقال فى رواية أخرى:
"آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإن صلى وصام
وزعم أنه مسلم
"!.
وقال كذلك:
"أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من
النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
العنصر االرابع :ـ
أثر التربية الأخلاقية علي الفرد والمجتمع :ــ
كلما ازداد تمسك
المسلم بمكارم الاخلاق وفضائلها زادت قيمته وزاد رضا الله عنه وأحبه الناس وتعلقوا
به وأصبح موضع ثقتهم واحترامهم.
ولنا في رسول الله (ﷺ)أسوة حسنة في
التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع
والأمة.
1ـ نشر الأمن
والأمان بين الأفراد والمجتمع:ــ
إن أي مجتمع لا يمكن
أن يعيش أفراده بأمان وانسجام ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة.
فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛
لأن بها يتم إصلاح الفرد الذي هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع كله،
وصدق القائل:
وإنما الأمم الأخلاق
ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إذ كيف يكون هناك
ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع لولا فضيلة الصدق التي أساس الإسلام، وعقد الحياة
في حياة الإسلام الاجتماعية.
وكيف يكون تعايش بين
الناس في أمن وسلام لولا فضيلة الأمانة. وكيف نتصور مجتمعا مثاليا، قادرا على
قيادة العالم نحو الأفضل بدون مكارم الأخلاق؟
إذا فمكارم الأخلاق
ضرورة اجتماعية في كل عصر من العصور حتى تصير أفراد المجتمع أفرادا مسئولا وواعيا.
2ـ سيادة التعاون
والتكافل الاجتماعي بين المجتمع؛ فالمسلمون أمة واحده، يعطف غنيُّهم على فقيرهم :ـ
فالفرد المتخلق
بمكارم الأخلاق لابد أن يؤدي ما عليه من حقوق اللّه عز وجل، وحقوق الناس، فإن كان
موظفا أو مسؤولا فلا بد أن يتقي اللّه في رعيته وفي أسرته، وأن يؤدي لكل ذي حق
حقه. فكل إنسان مكلف ومأمور بالتخلق بأخلاق النبي (ﷺ) وإحياء سنته الشريفة.
3ـ نبذ الفُرقة
والخلاف وما يمزق المجتمعَ، والالتزام بالقِيَم والمبادئ :ـ
نري أن نبينا محمد (ﷺ)الذي يجسد أخلاق
القرآن العالية ما أثر في أصحابه ومجتمعه إلا بأخلاقه السامية. فقد استطاع -
بخلقه العالية أن يغير قبائل العرب من أخلاق البداوة والتوحش إلى أخلاق
السيادة والقيادة، حتى صاروا أعظم خَلق في العالم.
ألا ترى هذه الأقوام
المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة المتعصبين لعاداتهم المعاندين في
عصبيتهم وخصامهم كيف رفع هذا الشخص جميع أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان
قليل دفعة واحدة؟ وجهزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيرهم معلمي العالم الإنساني وأساتيذ
الأمم المتمدنة؟!
وبأخلاقه السامية أيضا
غلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع وقلع من أعماق قلوبهم
العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة.
4ـ المساهمة في خدمة
المجتمع، ورفع معاناته، وتقديم ما يفيد للأمة والبشرية؛ فالمؤمن مثل الغيثِ أينما
حلَّ نفَع:ــ
أنه لا نجاة ولا
سعادة إلا التمسك بحقائق الإسلام التي تتمثل في التحلي بمكارم الأخلاق واتباع
شريعته، يقول أحد العلماء: "... لا سعادة لأمة الإسلام إلا بتحقيق حقائق
الإسلام وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا أو تعيش حياة
اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، إلا فلا عدالة قطعا ولا أمان مطلقا
إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقا بيد الكذابين
والمرائين.
كما أن التزام الناس
بمكارم الأخلاق يؤدي إلى تقدم المجتمع وسعادته، وأن الغرب ما تفوقوا علينا إلا
باتخاذهم ببعض المكارم التي يأمر به ديننا الحنيف.
5ـ وجود الأُلفة
والمحبة بين الناس..
6ـ الإيجابية في
المجتمع، وتفعيل الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، مشتملاً على أسسه وقواعده دون تنفير للناس، أو تغييب
للشريعة وتعاليمها.
7ـ بذل الخير للناس
بحب وسعادة غامرة، وتفعيل الإنتاج، وثقافة البذل والعطاء بين المجتمع.
8ـ بث روح التسامح
ونشرها بين الناس، تحت شعار: "وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ"، ونحو مجتمع راقٍ
تسودُه الألفة والمحبة.
وليعلم أن أسلافنا
لم ينجحوا في مهمتهم الدعوية إلا بأخلاقهم السامية، وأن المسلمين اليوم لو تشبعوا
بأخلاق القرآن لساد الإسلام في العالم ولدخل الناس في دين اللّه أفواجا.
ولو أننا أظهرنا
بأفعالنا وسلوكنا مكارم الأخلاق في الإسلام وكمال حقائق الإيمان لدخل أتباع
الأديان الأخرى في الإسلام جماعات وأفواجا. بل لربما رضخت دول العالم وقاراته
للإسلام.
وما ذكرنا بعض
الأمور والتي تقوي بعضها بعضا كالبنيان المرصوص تؤكد أن الأخلاق لها أثر بالغ على
الفرد وعلى المجتمع، وهي ضرورة اجتماعية، وأنه لا يمكن لأي مجتمع يريد التوازن في
حياته أن يعيش بدونها، وأن التحلي بمكارم الأخلاق يؤدي إلى سعادة المجتمع وتقدمه
وانسجامه والاعتزاز بالنفس والتواضع، وأن أي خلل فيها، يؤدي إلى خلل في المجتمع
وفساده وأن الأمة الإسلامية لو التزموا بمكارم الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام
لأصبحوا سادة العالم، ولما بقي أحد على وجه الأرض إلا وتبنى هذا الدين.
وأن هذه الخصال
الحميدة تبقى حصنا حصينا للمسلم في هذا الوقت الذي يتسم بالدمار، أخلاقيا وروحيا،
وبإثارة هوى النفس الأمارة بالسوء وبإطلاق الهوى من عقالها.
تمت بفضل الله تعالى
--------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق