الأربعاء، 12 أبريل 2023

ليلة القدر ومظاهر العفو الإلهي

 


المقدمة
الحمد لله رب العالمين ..أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا فقال تعالى } ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ (3){ ] المائدة[.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. أكرمنا بليلة نزول القرآن فقال تعالى } إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ (1) وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ (2) لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ (3) تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ (4) سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ (5){ ] القدر
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) أوصانا بإحياء ليلية القدر فعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي (ﷺ) }من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه{ ]رواه البخاري ومسلم[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
لقد شرَّف الله تعالى هذه الأمة بأعظم الأحداث، وأكمل الأيام، وأتم الليالي.
ومما أنعم الله تعالى به علينا ، ليلة وصفها الله عز وجل بأنها مباركة، لكثرة خيرها وبركتها وفضلها، إنها ليلة القدر، عظيمة القدر، ولها أعظم الشرف وأوفى الأجر. لذلك كان حديثنا عن ليلة القدر ليلة العفو وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ فضل ليلة القدر.
2ـ علامات ليلة القدر .
3ـ الحكمة من إخفاء ليلة القدر .
4ـ الواجب على المسلم في ليلة القدر .
5ـ الحكمة في تخصيص ليلة القدر بسؤال الله تعالى العفو:
6ـ من مظاهر العفو الإلهي.
7ـ موجبات العفو الإلهي .
خطورة اتكال العبد على العفو وقعوده عن المسابقة إلى الخيرات.
 9ـ الخاتمة .
العنصر الأول : فضل ليلة القدر :
تميزت ليلة القدر عن باقي الليالي بفضائل كثيرة مقطوع بصحتها من القرآن والسنة، ومن ذلك:
1ـ ليلة ذات قدر وشرف: 
وسميت ليلة القدر بهذا الاسم للآتي :
أـ لأن الله يقدر فيها الأرزاق وأمور العباد وتأخذ الملائكة صحائف الأقدار عاماً كاملاً من ليلة القدر إلى ليلة قدر أخرى، فلا يبقى جليل ولا حقير إلا كتب الله أمره عاماً كاملاً، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)} [الدخان] . 
ب - ولأن الله أنزل فيها القرآن وهو أعظم ما يكون من الكتب قدراً ، نزل إما كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم منجما على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، أو بداية النزول كما هو الصريح في نزوله في رمضان. قال تعالى }شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ (185){ ] البقرة[
2ـ البركة والثواب العظيم للقائمين والعاكفين والداعين:
لقد عَظَّمَ القرآنُ شأنَ هذه الليلة، فأضافها إلى (القدر) أي المقام والشرف، وأي مقام وشرف أكثر من أن تكون خيرًا وأفضل من ألف شهر.
إذ العمل فيها خير من ألف شهر،  فتغفر فيها الذنوب، ويكثر العتقاء لله تعالى، كما قال المصطفى (ﷺ):}مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ{ [البخاري]
ولأن الإنسان يَعْظم قدره فيها إذا أحياها، لذلك قد تكتب السعادة لإنسان بعد إحيائها قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)} [القدر]
إحياؤها أفضل من عبادة 84 عاما.
3ـ شيوع السكينة  والطمأنينة حتى طلوع شمسها:
لأن الأرض تضيق والقدر هو التضييق كما قال تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ (7)} [الطلاق]، أي ضيق عليه لأن الأرض تضيق من كثرة الملائكة التي نزلت من السماء، تتنزل الملائكة بالرحمة والسلام لأهل الإسلام والأمان لأهل الإيمان، ويأمن أهل الأرض فلا يُرمى فيها بنجم ولا شهاب، كما قال تعالى:}تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ(5){ [القدر].
وعدد الملائكة في الأرض أكثر من عدد الحصى ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى {[ أخرجه والإمام أحمد وابن خزيمة]
العنصر الثاني : علامات ليلة القدر :
1ـ أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع ، صافية ليست كعادتها في بقية الأيام ، فعن أُبي بن كعب رضي الله عنه : }أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ، لا شعاع لها {[مسلم] .
وفي حديث ابن عباس: }ليلة القدر ليلةٌ سمحة طَلْقة، لا حارَّة ولا باردة، تصبح الشمس صبيحتها حمراءَ ضعيفة{[ابن خزيمة] وربما مرجع ذلك لغلبة أنوار الملائكة عليها.
2ـ ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ، وتكثر فيها السلامة من العذاب ، فهي سلام كلها ، قال تعالى { سلام هي حتى مطلع الفجر } وقال مجاهد في قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيء، وعن الضحاك عن ابن عباس قال: في تلك الليلة تصفد مردة الجن، وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها، ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب.
العنصر الثالث:  الحكمة من إخفاء ليلة القدر:
والحكمة من إخفائها وعدم تعيينها للمنافسة والمسابقة والاستكثار من الطاعة واللجأ في الدعاء والضراعة، كما أخفى  الله تعالى أشياء كثيرة مثل ، أخفى ساعة الإجابة في الجمعة لنعمر اليوم بالدعاء، وأخفى الرضا في الطاعات حتى نأتيها كلها، وأخفى السخط في المعصية حتى لا نتجرأ على كبيرها أو صغيرها، وربّ كلمة لا يلقي لها العبد بالا تهوي به في جهنم سبعين خريفا. 
إلا أنه من رحمة الله أنه قرّب الموعد في العشر الأواخر، في الليالي الوترية من العشر الأواخر .
العنصر الرابع :الواجب على المسلم في ليلة القدر :
لقد أوصانا النبي (ﷺ) بالاجتهاد في العبادة في ليلة القدر وتحريها في العشر الأواخر من رمضان ، إذ الوقت ضيق محصور، والثواب عظيم، فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالاً من أصحاب النبي (ﷺ) أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله (ﷺ) }أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر{ ] البخاري[ .
وعن ابن عمر رضي الله عنه }من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، وقال: تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر{ [ أخرجه الإمام أحمد].
والقول الأقوى أنّها في الوتر من العشر الأواخر لقول الرسول (ﷺ):}التمسوها في العشر الآواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة{ [رواه البخاري].
وقد كان السلف يخصون ليلة القدر بمزيد من الاهتمام؛ فكان ثابت البُناني يلبس أحسن ثيابه ،ويتطيب، ويطيِّب المسجد بالنُّضُوح والدُخْنَة في الليلة التي يُرجى فيها ليلة القدر.
وكان لتميم الداري رضي الله عنه  حُلَّهٌ اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.
وكما كانوا يستعدون لها بالتزين الظاهر؛ فإنهم علموا أنه لا يكمل تزيين الظاهر إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئًا.
فلا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلا من زيَّن ظاهره وباطنه، وطهرهما؛ خصوصًا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى.
روي عن مالك بن أنس أنه إذا كانت ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب، ولبس حلة وإزارًا ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلا مثلها من قابل.
فعلى المسلم إذًا أن يتحرى هذ الليلة، فهي فرصة عمره وحياته، ومعلوم من السنة أن معرفتها رُفعت؛ لأن الناس تخاصموا: فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي  (ﷺ) بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما)، فقال: }إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة{[مصنف بن أبي شيبة].
العنصر الخامس :الحكمة في تخصيص ليلة القدر بسؤال الله تعالى العفو:
أوصانا النبي (ﷺ) بكثرة الدعاء وطلب العفو من الله تعالى فعن أمنا عائشة رضي الله عنه:}قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني{ [رواه الترمذي].
سؤال الله عز وجل العفو في كل وقت وحين أمر مرغوب وردت به نصوص كثيرة، حتى إِنَّ العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله (ﷺ) أكثر مِنْ مَرَّةٍ أَنْ يرشده الى شيء يدعو الله به فأجابه الرسول (ﷺ) في كل مَرَّةٍ بقوله: }سَلِ اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ{.
فما الحكمة إِذًا مِنْ تخصيص هذه الليلة بسؤال العفو؟
أبان الحافظ ابن رجب عن هذه الحكمة في قوله: "وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا ولا حالا ولا مقالا، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصر".
وقد صدق رحمه الله تعالى؛ وذلك لأَنَّ العبد يسير إلى الله سبحانه بين مشاهدة منته عليه ونعمه وحقوقه، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته، فهو يعلم أَنَّ ربه لو عذبه أشد العذاب لكان قد عدل فيه، وأَنَّ أقضيته كلها عدل فيه، وأَنَّ ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنته وصدقته عليه ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار "أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي"، فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ولا يرى ربه إلا محسنا.
وحاجة العبد وفقره الى عفو الله تعالى.
عائشة رضي الله عنها  وهي من هي  تحرص على سؤال النبي(ﷺ)  عن ماذا تقول في ليلة القدر فيجيبها النبي الكريم بسؤال الله العفو، فإذا كان هذا شأن الصديقة بنت الصديق فكيف بمن دونها.
أليس في ذلك دلالة قاطعة على أَنَّ العبد فقير إلى الله من كل وجه وبكل اعتبار؟
من هذه الوجوه: أَنَّه " فقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء؛ فإنه إن لم يعافه منها هلك ببعضها، وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له فإن لم يعف عن العبد ويغفر له فلا سبيل إلى النجاة فما نجى أحد إلا بعفو الله ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.
العنصر السادس : من مظاهر العَفو الإلهي :
تأمل في كتاب الله تعالى وأحاديث النبي (ﷺ) التي تتحدث عن عفو الله الكريم، وتأمل حركة الكون تجد كرما عظيما من الله تعالي ليس له نظير:
فمن مظاهر العفو الإلهي :
1ـ رحمة الله تعالي بالعصاة والمذنبين :
ورد في الأثر :}أوحى الله لداود : يا داود لو يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم ورغبتي في توبتهم ، لذابوا شوقاً إليَّ ، يا داود هذه رغبتي في المدبرين عني فكيف محبتي في المقبلين عليَّ ؟{ ]احياء علوم الدين[
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }للهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه المؤمن من رجُلٍ في أرضٍ دوِّيَّةٍ مهلِكة، معه راحلَتُه عليها طعامُه وشرابُه، فنامَ فاستيقظَ وقد ذهبَت، فطلبَها حتى أدركَه العطش، ثم قال: أرجعُ إلى مكاني الذي كنتُ فيه فأنامُ حتى أموت، فوضعَ رأسَه على ساعِدِه ليموت، فاستيقظَ وعنده راحِلتُه وعليها زادُه وطعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فرحًا بتوبة العبدِ المؤمن من هذا براحلتِه وزادِه{. ]رواه مسلم[.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله (ﷺ)يقول: قال الله تبارك وتعالى:}يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة{ ]رواه الترمذي وصححه ابن القيم وحسنه الألباني[.
وتأمل في كرم الله وعفوه وهو يقول لسيدنا موسي وأخيه هارون عليهما السلام :}اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44){  ] طه[
إذا كانت رحمتك بمن قال أنا ربكم الأعلى هكذا فكيف رحمتك بمن قال سبحان ربي الأعلى ؟
إذا كانت رحمتك بمن قال ما علمت لكم من إله غيري فكيف رحمتك بمن قال لا إله إلا اله ؟
ومن سعَة عفوِ الله تعالي مُناداةُ الكافرين إلى التوبة: قال تعالي }قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ(38){[الأنفال].
فإذا كان يُغفَرُ للكفار ما قد سلَف؛ فكيف بعُصاة المؤمنين إذا تابُوا؟!
ويقول سبحانه في الحديث القدسي: }قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك{
فالكون كله ناقم على الكافرين، متمرد على العصاة، مغتاظ منهم، فماذا قال الحق  تبارك وتعالى  لهم؟ قال سبحانه: دعوني وخَلْقي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنْ تابوا إليَّ، فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم )
ـ وجاء رجل إلى النبي(ﷺ)، فقال: يا رسول الله، إني شديد الذنوب، أرأيتَ إن تبتُ إلى الله الليلة يعفو عني؟
فقال له النبي(ﷺ): نعم، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟
قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟ قال: يعفو عنك، وغدراتك وفجراتك، فمضى الرجل وهو يقول: الله أكبر! الذي يعفو عن الغدرات والفجرات{.
لذلك طمع السلف في عفو الله وكرمه ،حيث جاء أعرابي إلى النبي(ﷺ) فقال: (يا رسول الله، من سيحاسب الناس يوم القيامة؟
فقال النبي: الله، فقال: بنفسه؟
فقال النبي (ﷺ): بنفسه، فقال الأعرابي: الله أكبر! وابتسم، فقال النبي (ﷺ): لِمَ يبتسم الأعرابي؟
قال: يا رسول الله، إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح، فابتسم النبي وقال: فَقِهَ الأعرابي أي فهم ألا لا كريم أكرم من الله عز وجل.
وهذا سليمان الدارني أحد التابعين يقول: لئن سألني يوم القيامة عن ذنوبي لأسألنه عن عفوه، لأني لا أجد لي مخرَجاً إلا أن أسأله عن عفوه.
2ـ سَترُه سبحانه وتعالي للعبد:
قال الإمام القشيري: " العفوُّ هو الذي يمحو آثار الذنوب، ويُزيلها بريح المغفرة، فهو يمحو الذنوب من ديوان الحفظة حتى إنّه يُنسيها من قلوبهم ومن قلوب المذنبين ..
أو هو الذي يترك المؤاخذة على الذنوب ولا يُذكِّر بالعيوب ".
وَ العَفْو فِي حَدِيثِ أَبي بَكْرٍ : }سلوا اللهَ العفوَ والعافية؛ فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية... {[رواه الترمذي وصححه الألباني]
أن الله تعالي ينسيك الذنب، وينسيه للملائكة وملَك الشمال، ويُمحَى من صحيفة السيئات، وتأتي يوم القيامة لا يذكّرك به ولا يسألك عنه، أنت لم تخطئ، قال تعالي }وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21){ ]ق[.
أحياناً يكون للإنسان في جهة من الجهات صحيفة مسجلَّة فيها سيِّئاته وسلبياته فإذا أُحرِقت، أو شُطبت، أو طُويت، أو أهمِلت، انتهى الأمر وغدا أبيض الحائف، العفوُّ هو الذي يمحو السيِّئات لهذا قال عليه الصلاة والسلام: }إذا تاب العبدُ توبةً نصوحا، أنسى الله حافظيه، والملائكة، وبقاع الأرض كلُّها خطاياه وذنوبه{
وعن ابنُ عمرَ رضي الله عنه قال النبي(ﷺ): }يُدنى المؤمن من ربه حتى يضَع عليه كنَفَه، فيقرِّرُه بذنوبه: تَعْرِفُ ذَنّبَ كذا وكذا ؟ فيقول: أعرف ربِّ، أعرفُ، فيقول سَتَرْتُها عليك في الدنيا، وأغْفِرُها لك اليومَ، ثم تُطوى صحيفةُ حسناته.{[ البخاري]
لاحظوا أن الذنوب موجودة في الصحيفة  فيقول: نعم يا رب، فيظن العبد أنه هالك، فيقول له الله: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أغفرها لك اليوم (هذه مغفرة).
كل إنسان سيرى عمله يوم القيامة قال تعالي }مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) { ]الكهف [
لكن العفُوّ ماذا يقول لك يوم القيامة؟ } يا فلان، إني راضٍ عنك لما فعلت في الدنيا، قد رضيت عنك وعفوت عنك، اذهب فادخل جنتي{
أرأيت الفرق بين هذه وتلك؟ فأي منزلة تريد أنت؟
والعفُوّ تلقاه يوم القيامة فيقول لك: } تمنَّ يا عبدي واشتهي، فإني قد عفوت عنك، فلن تتمنى اليوم شيئاً إلا أعطيتك إياه{.
3ـ من سعَة عفوِ الله مُضاعفةُ الحسنات، والثوابُ على الهمِّ بها دون السيئات :
فعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ،عن النبي (ﷺ) فيما يروِي عن ربِّه عز وجل  قال: }إن الله كتبَ الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلها كتبَها الله له عندَه حسنةً كاملةً، فإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله له عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعمَلها كتبَها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله له سيئةً واحدةً{.] رواه البخاري[
4ـ من جميل عفوِ الله أن يُبدِّلُ السيئات حسنات:
فإذا أقلَع العبدُ عن الحرام، وباشَرَ أسبابَ التوبة والطاعة؛ ازدادَ إيمانًا مع إيمانِه؛ فتقوَى شواهِدُ الإيمان في قلبِه، فيُكرِمُه الله بجميلِ عفوِه، قال الله تعالى:}لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35){ [الزمر].
فما أوسعَ وأجملَ عفوه سبحانه، المرءُ يعصِي، ويُذنِب، ويسرِق، ومع ذلك يُبدِّل الله السيئات حسنات.. أيُّ كرمٍ هذا؟! وأيُّ فضلٍ أعظمُ من هذا الفضل؟!
قال تعالي }إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70){ [الفرقان].
5ـ من سعَة عفوِ الله أن رحمتَه تسبِقُ غضبَه، وعفوَه يسبِقُ عقابَه:
 عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: سمعتُ رسولَ الله (ﷺ) يقول: }إن الله لما قضَى الخلقَ، كتبَ عندَه فوقَ عرشِه: إن رحمتِي سبقَت غضبِي{ ]أخرجه البخاريُّ[
وعن أبي سعيدٍ الخُدري وذكرَ من يشفعُ بإذن الله في إخراجِ أقوامٍ من النار، فيقول الله عز وجل: }شفَعَت الملائكة، وشفَعَ النبيُّون، وشفَعَ المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين. فيقبِضُ قبضةً من النار، فيُخرِجُ منها قومًا لم يعمَلوا خيرًا قطُّ، قد عادُوا حممًا، فيُلقِيهم في نهرٍ في أفواهِ الجنَّة يُقال له: نهرُ الحياة، فيخرُجون كما تخرُج الحِبَّة في حَميل السَّيل{.]رواه مسلم[.
6ـ من سعَة عفوِ الله إمهالُ عبادِه قبل مُؤاخَذَتهم:
فالله سبحانه يُقابِلُ جهلَ العباد بالحِلمِ، والذنوبَ بالمغفرة، والمُجاهَرةَ بالسَّتر، والجُحودَ بالإنعام، كما في الحديث: }لا أحدَ أصبرُ على أذًى يسمعُه من الله عز وجل؛ إنه يُشرَكُ به، ويُجعلُ له الولد، ثم هو يُعافِيهم ويرزُقُهم{. ]رواه مسلم[.
قال تعالي }وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61){ ]النحل[ .
7ـ من سعَة عفوِ الله تنوُّع مُكفِّرات الذنوب:
من سعة عفو الله تعالي أن فتح للعبد أبواب كثيرة يدخل منها علي الله تعالي وتكون تكفيرا لذنوبه فمن مُكفِّرات الذنوب: إسباغُ الوضوء، وذِكرُ الله عقِبَ الفرائِض، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، وصيامُ رمضان، وصيامُ يوم عرفة، ويوم عاشُوراء، وقول: سبحان الله وبحمده مائة مرَّة، ودُعاء كفَّارة المجلِس، والعُمرةُ والحجُّ، وأداءُ الصلاة المفروضة، والصدقةُ، والصبرُ، وحضورُ مجالِس الذِّكر، والصلاةُ على النبي  (ﷺ)؛ كلُّها من مُكفِّرات الذنوب.
8ـ من سعَة عفوِ الله أن الشرَّ يخُصُّ صاحبَه، والخيرَ يعمُّ حاضِرَه:
قال الله تعالى:}فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40){ [العنكبوت].
العنصر السابع : موجبات العفو الإلهي:
من الأشياء التي يستوجب بها العبد عفو الله تعالي ......
1ـ كثرة الدعـــاء باسم الله العَفْوُّ وسؤال الله العفو والعافية :
عن أبي بكر قال: قام رسول الله (ﷺ)على المنبر ثم بكى، فقال }سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية{ [رواه الترمذي وصححه الألباني، مشكاة المصابيح]
2ـ الاستغفار والتوبـة والعمل الصالــح :
فمن كمال عفوه سبحانه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثمَّ تاب إليه ورجع، غفر له جميع جُرْمِهِ  كما قال تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر]
3ـ التجاوز عن المُعسِر والعفو عنه، وعدم مؤاخذته على عدم استطاعته سداد الدّين :
عليك أن تتجاوز، حتى يتجاوز الله تعالى عنك .. عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ "أُتِيَ اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا؟، قَالَ: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِي مَالَكَ فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ وَكَانَ مِنْ خُلُقِي الْجَوَازُ فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى الْمُوسِرِ وَأُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي". فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ . [صحيح مسلم].
4ـ عدم المجاهرة بالذنب :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ }كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ{[متفق عليه]
5ـ اعفُ يُعْفَ عنك :
وقد حثَّ الله تعالى عباده على العفو والصفح وقبول الأعذار، فاعفُ يُعْفَ الله عنك ،وقد كان أبو بكر الصديق يتصدَّق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، فلما شارك المنافقين في اتهام أم المؤمنين عائشة بالإفك وبرأها الله عزَّ وجلَّ، قال أبو بكر "وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَال لعَائِشَةَ"، فَأَنْزَل اللهُ سبحانه وتعالى {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور]، فَقَال أَبُو بَكْرٍ: "بَلى، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لي"، فَرَجَعَ إِلى مِسْطَحٍ الذِي كَانَ يُجْرِي عَليْهِ. [صحيح البخاري] .
وعاد إلى ما كان عليه وهذا شيء فوق طاقة البشر.. إنسان روَّج عن ابنته الخبر السيِّء وأرجف في المدينة، ثم يُعاتبه الله لماذا كفَّ عن مساعدته ؟
هكذا أخلاق المؤمنين... وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
وقال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} [الشورى]
فاعْفُ عن الظالمين، وأَعْرِض عن الجاهلين، ويَسِّر علي المعسرين طلبًا لعفو الله عند لقائه،،
وفي المستدرك للحاكم ،عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينا رسول الله (ﷺ) جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟
قال : رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما : يا رب خذلي مظلمتي من أخي فقال الله تبارك و تعالى للطالب: فكيف بأخيك و لم يبق من حسناته شيء ؟
قال : يا رب فليحمل من أوزاري قال : وفاضت عينا رسول الله (ﷺ) بالبكاء ثم قال : إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من ذهب و قصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن قال : يا رب و من يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه قال : بماذا قال : بعفوك عن أخيك قال : يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله عز و جل : فخد بيد أخيك فادخله الجنة فقال رسول الله (ﷺ)عند ذلك : اتقوا الله
وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المسلمين .
النبي (ﷺ) يعفو عن أهل مكة :
لقد صنع لنا النبي (ﷺ) نموذج عالي في العفو عند المقدرة وهذا من شيم الكرام ، نراه  وهو يدخل مكة فاتحاً والتي ائتمرت على قتله، والتي أخرجته، والتي عذبت أصحابه، والتي قاطعته وكذبته، والتي ألبت عليه العرب جميعاً.
لقد ألقى أهلها السلاح، ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيهم ما يرى، إنهم في قبضته، أمره نافذ في رقابهم، حياتهم جميعاً معلقة بين شفتيه، وهذه عشرة آلاف سيف تتوجه يوم الفتح فوق رُبي مكة، تأتمر بأمره، وتنتظر إشارةً منه، إنها تستطيع أن تهلكهم في لمح البصر.
لقد سار النبي (ﷺ) في موكب النصر يوم فتح مكة حانياً رأسه حتى تعذر على الناس رؤية وجهه، وحتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، مردداً بينه وبين نفسه ابتهالات الشكر المبللة بالدموع.
سأل أعداءه بعد أن استقر به المقام: يا معشر قريش، ويا أهل مكة فاشرأبت إليه الأعناق، وزاغت الأبصار، سألهم ما تظنون أني فاعل بكم؟
وصاحت الجموع الوجلة بكلمة واحدة، كأنما كانوا على اتفاق في ترديدها، قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٌ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
لقد غُمر المذنبون الذين كانوا ينتظرون القصاص، ويستحقونه بأنبل عفو، وأجمل صفح، حتى قال أبو سفيان الذي ناصب رسول الله (ﷺ) العداء أعواماً طويلة، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما أرحمك! وما أحلمك! وما أحكمك! وما أوصلك! وما أكرمك!
 يا سيدي يا رسول الله؛ ما أجمل عفوك عند المقدرة، وما أعظم نفسك التي سمت كل هذا السمو فارتفعت فوق الحقد، وفوق الانتقام، لقد ترفعت عن كل عاطفة دنيا، وبلغت من النبل فوق ما يبلغ الإنسان، لم تكن تعرف العداوات، بل لم تكن تريد أن تقوم بين الناس، لقد مكنك الله من عدوك فقدرت وعفوت، فضربت بذلك للعالم كله ولأجياله مثلاً أعلى في العفو والصفح، فلم تجعل من يوم فتح مكة يوم تشفٍ ولا انتقام بل جعلته يوم برٍّ ورحمة وعفو وسلام.
العنصر الثامن :خطورة اتكال العبد على العفو وقعوده عن المسابقة إلى الخيرات :
ومع هذا الفضل العظيم والعفو الجَزيل.. فلنحذر من الاغتِرار بعفوِ الله وعظيم كرمِه، قال الله تعالى:} يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6){ [الانفطار].
سُئِل الفُضيل بن عياض: يا فُضيل! لو وقفتَ بين يدَي مولاك سبحانه وسألَك: عبدي!
ما غرَّك بي؟ ماذا كنتَ تقول؟ قال: "أقولُ: غرَّتني سُتورُك المُرخاة"؛ أي: سترُك عليَّ غرَّني.
لذلك كان النبي (ﷺ) لا يغتر بعفو الله تعالي ويحذر من تحول العافية ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، كان عليه الصلاة والسلام يدعو ويقول: }اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ { [مسلم]
فيجب علي المسلم أن يكون علي حذر فالله تعالي عفو وكريم وشديد العقاب ،فكثير من الناس يقضي عمره يجمع المعاصي والسيئات، ومع ذلك يتعلق بحبال الأماني، وعنده أمل في أن يدخل الجنة بغير حساب، أو لا تمسه النار إلا أيامًا معدودة.
وتجد هؤلاء يتعلقون بأن الله عز وجل غفور رحيم، وأنه يتجاوز عن السيئات ويعفو ويصفح ويغفر، وينسون أن الله عز وجل كما أنه غفور رحيم لمن تاب وأناب، فهو سبحانه وتعالى منتقم جبار لمن عصى واستكبر. وقد قال تعالي }نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50){ ]الحجر[
الخاتمــة :
أيها المسلمون: إننا نعيش أيام عظيمة تُضاعف فيها الأجور، وتُغفر فيها الذنوب، فالاجتهادَ الاجتهادَ، والحذرَ الحذرَ من ضياعها، واسألوا الله العون في ذلك؛ فإن ذلك من أعظم أسباب تيسير العبادة كما في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: أتُحِبُّون أن تجتهِدوا في الدُّعاءِ قولوا اللهمَّ أعِنَّا على ذِكْرِك وشُكْرِك وحُسْنِ عِبادتِك.
أسأل الله سبحانه أن يبلغنا وإياكم فضل هذه الليلة، وأن يجعلنا من أهلها، وأن يكتب لنا أجرها ولا يجعلنا من المحرومين، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
نسألك يا ربنا يا من أظهرَ الجميل، وستَرَ القبيحَ .. يا من لا يُؤاخِذُ بالجَريرة، ولا يهتِكُ السِّتر، يا عظيمَ العفو ، يا حسنَ التجاوُز ، يا واسِع المغفرة ، يا باسِط اليدَين بالرحمة ، يا صاحِبَ كل نجوَى ، ومُنتهَى كل شكوَى ،  يا كريم الصفح ، يا عظيمَ المنِّ ،  يا مُبتدِئ النِّعَم قبل استِحقاقِها، نسألك العفوَ والعافيةَ في الدين والدُنيا، والآخرة .
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
~~~~~~~~~~~~~~~~~

 رابط pdf
رابط doc

ليست هناك تعليقات:

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...