المقدمــــــة
الحمد لله رب العالمين .. أنعم علينا بالنعم التي لا تعد ولا تحصي فقال تعالي : {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ(34)} [إبراهيم]
وأشهد أن لا إله إلا الله … وحده لا شريك له … من علينا بتزكية نفوسنا وتهذيب أخلاقنا فقال تعالي }وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21){ النور.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم سيد المحبين وإمام المرسلين . }كان إذا دخل العشر شد مئزره، وجدَّ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله{[رواه البخاري] .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعـد .. فيا أيها المؤمنون ..
ها هو الضيف الكريم يلوح بالرحيل , تمضى ايامه مسرعة وكأنها حلم جميل.
إن بلوغ رمضان من النعم العظيمة التي حرم منها خلق كثير قال تعالي } وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ (53){ ]النحل[
وهذه النعمة تستحق منا الشكر والشكر مرتبط بالمزيد قال تعالى: }وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7){ [إبراهيم].
وها نحن قد وصلنا إلي المحطة الأخيرة في سباق رمضان وهي العشر الأواخر حيث فيها الخير العظيم فيها ليلة خير من ألف شهر وهي ليلة القدر وفيها نزول القرآن الكريم فحري بنا أن نحي الهمم في نهاية السباق حتي لا تضعف ،ويصيبها الفتور والكسل ويُحرم الإنسان الأجر في رمضان قال صلي الله عليه
وسلم }من أدرك رمضان فلم يُغفر له، فأبعده الله، قلت: آمين{[رواه الطبراني في الأوسط{ .
كارثة عظيمة أن يُحرم الإنسان الخير في رمضان ، وخاصة إن كان حال النبي صلي الله عليه وسلم في العشر الأواخر الاجتهاد في العبادة ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: }كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وجدَّ وشدَّ المئزر{.
ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات، وقيل: كناية عن اعتزال النساء
وعنها رضي الله عنها قالت: }كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره{.
وهذا الإحياء شامل لجميع أنواع العبادات: من صلاة، وقرآنٍ، وذكرٍ، ودعاء، وصدقة، وغيرها، ومما يدل على فضل العشر الأواخر: إيقاظ الأهل للصلاة والذكر، فهيا بنا أيها الأكارم نوقظ الإيمان في العشر الأواخر من رمضان .
وذلك من خلال التعرف على العناصر الرئيسية التالية ….
1ـ لماذا الإيمان ؟
2ـ الإيمان الذي نعنيه .
3ـ آثار الإيمان.
4ـ نماذج لأهل الإيمان .
5ـ وسائل إيقاظ الإيمان .
6ـ الخاتمة .
===========================
العنصر الأول : لماذا الإيمان ؟؟
إن إيقاظ الإيمان يعني دخولَ نورِه القلبَ، واشتعالَ جذوته فيه؛ لينعكس ذلك على العبادات والمعاملات والاهتمامات، ومهما حاولنا تحسين هذه الأمور دون البدء بإيقاظ الإيمان بمفهومه الصحيح فإن الناتج سيكون ضعيفًا، ولايتناسب مع الجهد المبذول.
إذا أردنا سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقًا حسنة، فعلينا بالإيمان، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال.
وإذا قلنا لماذا إيقاظ الإيمان أولا ؟
لأن الإيمان وحده هو صانع العجائب، الإيمان هو الذي يهيئ النفوس لتقبل المبادئ الخيرة مهما يكمن وراءها من تكاليف وواجبات، وتضحيات ومشقات، وهو العنصر الوحيد الذي يغير النفوس تغييراً تاماً، وينشئها خلقاً آخر، ويصبها في قالب جديد، فيغير أهدافها ، وطرائقها، ووجهتها وسلوكها وأذواقها ، ومقاييسها، ولو عرفت شخصاً واحداً في عهدين عهد الكفر وعهد الإيمان لرأيت الثاني شخصاً غير الأول تماماً، لا يصل بينهما إلا الاسم، أو النسب أو الشكل.
كما حدث في حياة الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ، غيَّر الإيمان حياة عمر بن الخطَّاب، وحوَّلَها من حالةٍ كان يتَّصف فيها بأنَّه جبَّار قاسي القلب لا يعرِف الرَّأفة والرَّحمة، إلى حالة اتَّصف فيها بأنَّه رجل عطوف يشْفِق على رعيَّته رقيق القلب ؟ إنَّه الإيمان.
وفي صحيح الإمام مسلم: رُوي أنَّ رجلا كافرًا نزل ضيفًا على رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأمر له الرَّسول بِحلب شاةٍ، فشرب لبنَها ولم يشبع، فأمر له بحلب ثانية فلَم يشبع، وهكذا حلبت له ثالثةٌ ورابعة إلى سابعة، فشرب لبنها ولم يشبعْ، ثمَّ بات ليلته فلمَّا أصبح تفتَّحت نفسُه للإيمان فآمن، فقدّم له لبن شاة فشرِبه، وقدم له لبن شاة ثانية فلَم يستتمَّ شرْب لبنِها وشبع، فقال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم }إنَّ المؤمنَ ليشربُ في معًى واحد والكافر يشرب في سبعة أمعاء{ فما بين يومٍ وليلةٍ استحال الرَّجُل من إنسانٍ شرِه لا همَّ له إلاَّ بطنُه، إلى إنسانٍ قاصدٍ عفيفٍ، فما الَّذي تغيَّر فيه؟ تغيَّر قلبُه وعقيدته، كان كافِرًا يُسارع في إرْضاء شهواته، فأصبح مؤمنًا حسْبه من الطَّعام ما يُعينه على الحياة.
وهو الذي غير حياة العرب قبل الإسلام ، فالعربي كان راعيًا للأغْنام، وكان ذا طباع غليظة وقلبٍ قاسٍ، فبالإيمان تحوَّل من هذه الصفات المرْذولة إلى إنسانٍ راقٍ ذي أخلاق فاضلة وقلب رحيم، وأصبح رعاة الإبِل أساتذةَ العالم وقادةَ الأُمَم، عنْهُم تأخُذ أرْفَعَ أساليب التَّربية وأعظم نُظُم في التَّشْريع.
وكانت الحروب تقومُ بيْنهم لأتْفَه الأسباب، فأصبحوا بالإسلام خيرَ أمَّة أُخْرِجت للنَّاس، تأْمر بالمعروف وتنهَى عن المنكر وتؤمِن بالله، وكانوا لا يقيمون للعدالة وزْنَها ويقولون: }انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا{
بالمعنى السيء لا المعنى الذي ذكره النبي؛ فهذا القول حديث، ولا يعرِفون للحقِّ طريقًا، فأصبحوا يُقيمون العدالة بين النَّاس وينشرونَها وينادُون بها، وعنهم تؤخذ أساليب العدالة وموازين الحقِّ، وكانوا متنافِرين لا تَجمعهم كلمةٌ ولا ألفةٌ فصاروا بالإسلام }أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ(29) { [الفتح].
وكانوا يشنُّون غارات السَّلب والنَّهب فصاروا: }وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (9){ [الحشر].
ما الَّذي نقلهم من حالٍ إلى حال؟ إنَّه الإيمان.
ـ ولأن الإيمان الحق كما جاء به الإسلام هو الحل الفذ لعقد الحياة المعاصرة التي استعصت على العلم وعلى الفلسفة، وحار فيها المفكرون والمشرعون وطلاب الإصلاح.
ـ ولأن الإيمان عماد الحياة ومصدرُ كلِّ سعادة في الدنيا والآخرة، ومنبع كلِّ خيرٍ؛ لأنَّ الإنسان المؤمن هو الرَّاضي بالقضاء، الصَّابر على البلاء، الشَّاكر لله في الرَّخاء .
ـ ولأن الإيمان الكامل يَحول بيْن صاحبِه واقْتِراف المعاصي والآثام؛ لأنَّ المؤمِن يَخضع لِسلطان عقيدتِه ويَسير على مُقتضى ما تُوحيه إليْه فيما يفعل، فإذا كان كاملَ الإيمان أبى عليْه إيمانُه أن يفعل ما يُنافيه أو يترك ما يقتضيه، وهذا ما يُشيرُ إليْه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم }لا يزْني الزَّاني حين يزْني وهو مؤمِن، ولا يَسرِق السَّارق حين يَسْرِق وهو مؤمن، ولا يشْرب الخمْرَ حين يشربُها وهو مؤمن{.
ـ ولأن الإيمان بالله يُنير للمؤمن ظُلُمات هذه الحياة، فلا يَموت أسفًا ولا ينتحِر غيظًا إذا فاتَه شيءٌ من الدُّنيا مهما كان.
ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنا عليه لابد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة.
العنصر الثاني : الإيمان الذي نعنيه :ـ
الإيمان الذي نعنيه ليس مجرد عمل لساني ولا عمل بدني، ولا عمل ذهني ، وإنما عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها، كلها من إدراك وإرادة ووجدان. ويتمثل في ثلاثة أمور أساسية وهي :ـ
أ ـ وهو تمكُّن واستحكام اليقظة من القلب:
فلا نريد يقظة لحظية، بل نريدها يقظة حقيقية دائمة تتمكن من القلب لتبدأ معها الحياة تدب في جنباته .
ولقد أجمل آثارها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن علامات دخول النور القلب فقال: }الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله { الطبري والبيهقي .
ب ـ ولادة القلب الحي:
هذا الهدف لا يمكن الوصول إليه إلا باستمرار تزويد القلب بالإيمان بعد تمكُّن اليقظة منه، والمقصود بولادة القلب الحي : أي تحرره من أَسر الهوى وانفصاله عنه.
أو بمعنى آخر : انقطاع الحبل الذي يجمع العلائق التي كان القلب مُتعلقًا بها من دون الله كالمال والجاه والناس، التي تحول بينه وبين التعلق التام بالله عز وجل، والالتزام به، والتوجه الدائم نحوه .
هذه الولادة تتم عندما يعلو النور في القلب على الظلمة بصورة كبيرة،
ومن علامات حدوثها: رقة القلب وسرعة تأثره بالمواعظ، وهبوطه وخشوعه وسجوده لله، وسهولة استدعائه إذا أراد صاحبه استحضاره.
ومن آثارها كذلك : تحسن ملحوظ في علاقات المرء المختلفة، فيزداد قربه من ربه، وتعلقه به، وتنقص رغبته في الدنيا بصورة ملحوظة، ويقل طمعه في الناس، ويزداد تشميره نحو الجنة …
ج ـ الحضور القلبي الدائم مع الله والتعلق الشديد به سبحانه أو بمعنى آخر :
تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن الإحسان فقال:« أن تعبد الله كأنك تراه ». متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم.
وهذا يحدث إذا ما استمر الإمداد الإيماني للقلب، فيزداد فيه النور، حتى يصير قلبًا سليمًا أبيضًا.
العنصر الثالث :آثار الإيمان :
1ـ راحة البال والشعور بالسكينة والطمأنينة والسلام الداخلي .
2ـ خضوع المشاعر والسلوك في مجمله لله عز وجل :
قال صلى الله عليه وسلم:« من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان » ]أخرجه أبو داود ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع[.
وقال صلي الله عليه وسلم:« لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه » ]أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد وقال الهيثمي : إسناده حسن. وأخرجه أيضًا : أحمد ، قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات.
3ـ التعامل مع أحداث الحياة وتقلباتها المختلفة تعاملًا إيمانيًّا:ـ
قال صلى الله عليه وسلم : « عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ولا يكون هذا إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ».]رواه مسلم[ .
والقلب في هذه المرحلة العظيمة يعيش في سعادة عظيمة وعلاقة متينة مع ربه .. فهو شاكرٌ لأنعمه، صابرٌ على بلائه، راضٍ بقضائه، مطمئنٌ بذكره، في شوق دائم إليه وتوجه مستمر نحوه .
العنصر الرابع : نماذج لأهل الإيمان :
فعندما يتمكن الإيمان من القلب تزداد رغبة العبد في القيام بكل ما يحبه ربه ويرضاه فتجده يتحدى الصعاب ، ويتحمل الشدائد في سبيل ذلك .
وهذه نجوم مضيئة لأهل الإيمان لعنا نقتدي بها ونقتفي أثرها …..
عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه :
اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وكانوا قلة مستضعفين فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ، فمن رجل يُسمعهم إياه ؟
فقال عبد الله بن مسعود : أنا أُسمعهم إياه . فقالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة تحميه وتمنعه منهم إذا أرادوه بِشَر . فقال : دعوني فإن الله سيمنعني ويحميني .
ثم غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ، وقريش جلوس حول الكعبة ، فوقف عند المقام وقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم رافعًا بها صوته
} الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4){[الرحمن] .
ومضى يقرؤها ، فتأملته قريش وقالت : ماذا قال ابن أم عبد ؟!
تبًّا له ، إنه يتلو بعض ما جاء به محمد ، وقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه والدم يسيل منه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك ، فقال : والله ما كان أعداء الله أهون في عيني منهم الآن ، وإن شئتم لأُغَادينَّهم بمثلها غدًا ، قالوا : لا ،حسبك ، لقد أسمعتهم ما يكرهون.
عمرو ابن الجموح رضي الله عنه :
وهذا عمرو بن الجموح يرى أبناءه الثلاثة يتجهزون للقاء أعداء الله في أُحد ، فعزم على أن يغدو معهم إلى الجهاد ، لكن الفتية أجمعوا على منع أبيهم مما عزم عليه ، فهو شيخ كبير طاعن في السن ، وهو إلى ذلك أعرج شديد العرج ، وقد عذره الله فيمن عذرهم ، فقالوا له : يا أبانا ، إن الله عذرك ، فعلام تُكلف نفسك ما أعفاك الله منه ؟!
فغضب الشيخ من قولهم ، وانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوهم ، فقال : يا نبي الله ، إن أبنائي هؤلاء يريدون أن يحبسوني عن هذا الخير وهم يتذرعون بأني أعرج ، والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبنائه : « دعوه ؛ لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة » . فخلوا عنه إذعانًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما إن أزِف وقت الخروج ، حتى ودع عمرو بن الجموح زوجته ، ثم اتجه إلى القبلة ورفع كفيه إلى السماء وقال : « اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني إلى أهلي خائبًا » . ثم انطلق يُحيط به أبناءه الثلاثة .. ولما حمي وطيس المعركة ، وتفرق الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شوهد عمرو بن الجموح يمضي في الرعيل الأول ويثب على رجله الصحيحة وثبًا وهو يقول : إني لمَشتاق إلى الجنة ، إني لمَشتاق إلى الجنة ، وكان وراءه ابنه « خلَّاد » ومازال الشيخ وفتاه يجاهدان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرَّا صريعين شهيدين على أرض المعركة ، ليس بين الابن وأبيه إلا لحظات
عبدالله ابن أم مكتوم رضي الله عنه :
وإن تعجب من أثر الإيمان فعَجَبٌ إصرار عبد الله بن أم مكتوم على الجهاد وهو أعمى ، وسفره مع جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية لملاقاة الفرس ، وهو لابس درعه ، مستكمل عدته ، فيتقدم ليحمل راية المسلمين … وهو أعمى !! ويحافظ عليها إلى أن قُتل شهيدًا ، وهو يحتضن الراية !! .
فليت شعري أي قوة أخرجت هؤلاء من ثوب أعذارهم، وجعلتهم يقفزون على حواجز عاهاتهم، فسبقوا أصحاب العافية، وأذهلوا أرباب العزائم الواهية.
إنه الإيمان، تسربلوا به وتدرعوا، فواجهوا سهام الشدائد ورماح الصعاب.
العنصر الخامس : وسائل إيقاظ الإيمان :
لو قلنا ..كيف نوقظ الإيمان ونشعل جذوته في القلب؟..
جاء كالجواب بأن جيل الصحابة ظهرت على أفراده الآثار الكاملة ليقظة الإيمان، ويكفيك في هذا قول الإمام القرافي: "لو لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة إلا أصحابه لكفَوه في إثبات نبوته".
فما علينا إذن إلا أن نبحث عن الوسائل التي استخدموها حتى وصلوا إلى هذا المستوى فنستخدمها من هذه الوسائل :ـ
1ـ الارتباط بالمساجد وتعلق القلوب بها دائمًا:
أن يحرص المسلم علي التواجد في المسجد دائما وخاصة في الأيام العشر الأواخر من رمضان بإحياء هذه الأيام الفاضلة بإحياء سنة النبي صلي الله عليه وسلم ،وإحياء سنة الاعتكاف .
والاعتكاف هو:
لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [البقرة].
لأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية)، و قال حذيفة رضي الله عنه: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً).
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً".
وفي لفظ: "كان يعرضُ على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ الناس بالخير، وكان يلقاه في كل ليلةٍ في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرضُ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة".
والمقصود بالاعتكاف انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله تعالى في مسجد من مساجد الله طلباً لفضل ثواب الاعتكاف من الله تعالى، وطلباً لإدراك ليلة القدر،
وحقيقته : قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق ولماذا
الارتباط بالمسجد ؟
لأن المسجد سفارة الله في الأرض فكما أن سفارة كل دولة تعتبر ملكاً لها و تابعة لسلطانها مع أنها مقامة على أرض دولة أخرى، فكذلك المسجد الذي يقع على الأرض لكنه بقعة انتزعت من السماء. والمسجد يعتبر حياة المسلم، ولأن المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، والمنافق في المسجد كالطير في القفص، فإن القلوب كثيرةُ التقلبات والتحولات، فلِلْقَلبِ من اسِمْه حظٌّ ونصيب، ونستطيع أن نُشَبِّهها بالإناء، فيمكن أن يُغرَف به ماءٌ عذبٌ، ويمكن أن يُغرَف به ماءٌ أُجَاجٌ، وهكذا القلب، يمكن أن يتقبل الخير، ويمكن أن يتقبل الشر، ويمكن أن يتقبل الخير والشر، وهو إلى ما غلب أقرب، ولذلك فقد جاء الثناء والمدح لأصحاب القلوب الخيرة ، نسأل الله أن يجعلنا منهم .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبعة الأصناف الذين يمتَنُّ الله عليهم بالإظلال تحت ظل عرشه يومَ لا ظل إلا ظله؛ }ورجل قلبه معلَّقٌ في المساجد{
قال ابن رجب رحمه الله، في وصف الرجل المعلَّق قلبُه بالمساجد: فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فيه، فإذا خرج منه تعلَّق قلبه به حتى يرجع إليه، وهذا
إنما يحصل لمن ملك نفسه، وقادها إلى طاعة الله، فانقادت له؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مَواضِع الهوى، واللعب المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يَقْصُر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدَّم عليه محبةَ مولاه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم: } رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37){[النور].
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: }لا يُوَطِّنُ الرجلُ المساجدَ للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ اللهُ به مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ كما يتبشبش أَهْلُ الغائب بغائبهم إذا قَدِم عَلَيْهِمْ{
وقد روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله، قال:"من جلس في المسجد؛ فإنما يُجَالِس ربه عز وجل".
فبالله عليك، هل من يجالس ربه في بيته، بالذكر، وتدبُّرِ القرآن، وتعلُّمِ العلم وتعليمه، كمن يجلس أمام تفاهات التمثيل، وسفاسف اللهو واللعب، وخُزَعْبِلات الصحف والمجلات؟!.
رجل تعلق قلبه بالمساجد، كلما نودي للصلاة فيها سارع إليها وإليه بشوقٍ وشديدِ رغبة؛ لينال القلب ارتياحه الذي لا يتهيأ بمتاع الدنيا وإنْ عَظُم، فسبيله في ذلك سبيل من كان يأمر بلالاً رضي الله عنه:(أَرِحنا بها يا بلال) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا قُضِيَت الصلاة ظلَّ القلب معلَّقًا بالمسجد، وإن خرج منه الجسد، حتى يعود إليه مرة أخرى.
وما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله سبحانه وتعالى، محبةً وإنابةً ورغبة ورهبة وخوفًا ورجاءً وإخلاصًا وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّدًا، فالتعلق بالله عز وجل وحده هو الغاية العظمى والنجاة الحقة. ومن تعلَّق بغير الله عز وجل شأنه خَسِر خسرانًا مبينًا؛ كما قال تعالى: }مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ(41){ [العنكبوت].
2ـ إحياء الليل وإيقاظ الأهل في العشر الأواخر :
لقد علم العارفون أنَّ قيام الليل مدرسة المخلصين، ومضمار السابقين، وأنّ الله تعالى إنما يوزّع عطاياه، ويقسم خزائن فضله في جوف الليل، فيصيب بها من تعرض لها بالقيام، ويحرم منها الغافلون والنيام، وما بلغ عبدٌ الدرجات الرفيعة،
ولا نوَّر الله قلبًا بحكمة، إلاّ بحظٍّ من قيام الليل. ويكون حال المؤمن كما قال أحد الصالحين مخاطبا نفسه...
ومعنى (إحياء الليل): أي استغرقه بالسهر في الصلاة والذكر وغيرهما. وقد جاء عند النسائي عنها أنها قالت: (لا أعلم رسول الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرًا كاملاً قط غير رمضان).
فعلى هذا يكون إحياء الليل المقصود به أنه يقوم أغلب الليل، ويحتمل أنه كان يحيي الليل كله، كما جاء في بعض طرق الحديث.
وقيام الليل في هذا الشهر الكريم وهذه الليالي الفاضلة لا شك أنه عمل عظيم جدير بالحرص والاعتناء؛ حتى نتعرض لرحمات الله جل شأنه.
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي.
قال سفيان الثوري: أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي أنه كان يطرق باب فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان } [رواه البخاري ومسلم].
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يُوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية:} وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132){ [طه].
وكانت امرأة أبي محمد حبيب الفارسي تقول له بالليل: ( قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا ).
وعن معاذ بن جبل عن النبي قال: "ما من مسلم يبيت طاهرًا، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلاَّ أعطاه الله إياه"[ رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجه.].
وعن المغيرة بن شعبة قال: "قام النبي حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا"[ رواه البخاري، ومسلم، والنسائي].
وعن جابر قال سمعت رسول الله يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة"[ رواه مسلم].
وعن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"[ رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا، أو صلّى ركعتين جميعًا، كتبا في الذاكرين والذاكرات "[ رواه أبو داود].
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: "جاء جبريل إلى النبي فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" [ رواه الطبراني في الأوسط].
3ـ النظر في أحوال السلف الصالح رضي الله عنهم :
كان الليل في حياة السلف مختلف تماما عن الليل في حياتنا كما قال الإمام ابن الجوزي:
ـ واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات: •
الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء.
الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل.
الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، قال النبي : {أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَوْمُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا ، وَيُفْطِرُ يَوْمًا} [متفق عليه].
الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه.
الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام. •
الطبقة السادسة : قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين.
الطبقة السابعة : قوم يُحيون ما بين العشاءين، ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون
بين الطرفين. (انتهي كلام ابن الجوزي).
ولقد صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته} : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير{ حتى أتى على هذه الآية}فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا{
فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها }فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا {.
كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه : أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليها ، والله لأزاحمنهم عليها ، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا ، ثم يصلي إلى الفجر .
كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار، ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم ، ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا ، وبادروا قوتكم ، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا ، فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية !!
قال محمد بن يوسف : كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول : قوموا يا شباب ، صلوا ما دمتم شبابا ،إذا لم تصلوا اليوم فمتى ؟!!
قال أبو عثمان النهدي:( تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا) كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: لولا ثلاثة ما وددت أن أعيش في الدنيا ساعة: الظمأ بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما تنتقى أطايب الثمر.
4ـ النظر في كتاب الله عز وجل :
يقول الله تعالى : }أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ(24){محمد
وقال تعالي }وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17){ ]القمر[
وما أطال عبدٌ النظرَ في كتاب الله ، وأعملَ الفكرَ إلا سرَت أسراره ولطائفه في قلبه ؛ حتى يجد فيه صدى موجها وتناغم رنينها ..
وهنا فقط يعرف العبد معنى حياة القلوب ..
ولقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلَةً بآية يرددها، وهي }إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118){ ]المائدة[
وكان بعض الصحابة كان إذا فاته ورده يبكي.
وقد دخلوا على أحدهم ذات مرة فوجدوه يبكي بشدة، فسألوه: أتشتكي وجعا؟
قال: أشد، أشد، قالوا: وما ذاك؟ قال: نمت بالأمس ولم أقرأ وردي، وما ذلك إلا بذنب أذنبته!!
وكان حال النبي صلي الله عليه وسلم مع تدبر القرآن كما ورد في السنة ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى ، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". [مسلم].
وبكى صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء قوله تعالى}: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً(41){ ]النساء] . فهل تتوقع أن يكون ذلك من غير تدبر؟ وكان يدعو الأمة إلى التدبر
وفهم معاني القرآن، فحين نزل قوله تعالى: }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)] {آل عمران[.
قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم فسمع رجلا يقرأ قوله تعالى من سورة الطور:} إنّ عذاب ربك لواقع*ماله من دافع{.. .
فسقط مغشيّا عليه، فحمله الناس إلى بيته وظلوا يزرونه شهرا، يظنون أن به مرضا، وما به مرض بل شدة الخوف من الله تعالى واستحضار لمشهد يوم القيامة العظيم، وشدة عذاب الله تعالى للكافرين.
وهذا عبّاد بن بشر رضي الله عنه يقف على حراسة المسلمين ذات ليلة ومعه عمار بن ياسر؛ فقام عبّاد يصلي، فبينما هو كذلك أتى أحد الكفار فضربه بسهم في كتفه فلم يخرج من صلاته، بل نزع السهم واستغرق في صلاته وتلذذه بالقرآن المجيد، فرماه الكافر بسهم آخر فنزعه وعاد إلى صلاته وقراءته ، فرماه بثالث فلم يستطع أن يتحمل شدة الجروح وكثرة الدماء فركع وسجد ثم أيقظ عمارا رضي الله عنه، فسأله عمار: لما لم توقظني من أول سهم؟
فقال : كنت في سورة من القرآن، لخروج روحي أحب إلي من أن أدعها!! فهل شعر أحد منا بلذة القرآن وحلاوته؟
5ـ التفكر في سنن الله في خلقه :
التفكر في أحوال العباد وتقلُّب أحوالهم بين العطاء والمنع ، والتقدم والتأخر، والرفع والخفض، والعز والذل ،والقوة والضعف ،ومحاولة الوقوف على أسباب هذا ، كل هذا يحدث بأمر الله تعالي وهو القادر علي كل شيئ سبحانه وتعالي .
الخاتمة : علينا أن نحرص أيها المسلمون أن ننتفع بالعشر الأواخر من رمضان لكي نكون من سكان القمم فسكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه، ومن كل أمر إلا أتمه وأجمله.
وقد قيل قديمًا: "قدر الرجل على قدر همته".
فمن كان عالي الهمة كان عالي القدر..
فبادر ولا يقعد بك العجز عن المكرمات، حاول أن تكون من سكان القمم، وابذل في تحصيله كل غال ورخيص، ولا تدخر في ذلك أي نفيس. لكل مُجِدٍّ مكافأة تليق بمقامه.
فإياك أن تخرج منها خاسرًا، قبل أن تبنى لك بيتًا في الجنة.. قال تعالى:} سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21){
] الحديد].
كان ربيعة بن كعب، له همة فوق الشمس.. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" رواه مسلم.
أين كانت تحلق همة ربيعة ؟ كانت تحلق في سماء رفيعة، وقمم شاهقة
لأن المسجد سفارة الله في الأرض فكما أن سفارة كل دولة تعتبر ملكاً لها و تابعة لسلطانها مع أنها مقامة على أرض دولة أخرى، فكذلك المسجد الذي يقع على الأرض لكنه بقعة انتزعت من السماء. والمسجد يعتبر حياة المسلم، ولأن المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، والمنافق في المسجد كالطير في القفص، فإن القلوب كثيرةُ التقلبات والتحولات، فلِلْقَلبِ من اسِمْه حظٌّ ونصيب، ونستطيع أن نُشَبِّهها بالإناء، فيمكن أن يُغرَف به ماءٌ عذبٌ، ويمكن أن يُغرَف به ماءٌ أُجَاجٌ، وهكذا القلب، يمكن أن يتقبل الخير، ويمكن أن يتقبل الشر، ويمكن أن يتقبل الخير والشر، وهو إلى ما غلب أقرب، ولذلك فقد جاء الثناء والمدح لأصحاب القلوب الخيرة ، نسأل الله أن يجعلنا منهم .
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبعة الأصناف الذين يمتَنُّ الله عليهم بالإظلال تحت ظل عرشه يومَ لا ظل إلا ظله؛ }ورجل قلبه معلَّقٌ في المساجد{
قال ابن رجب رحمه الله، في وصف الرجل المعلَّق قلبُه بالمساجد: فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فيه، فإذا خرج منه تعلَّق قلبه به حتى يرجع إليه، وهذا
إنما يحصل لمن ملك نفسه، وقادها إلى طاعة الله، فانقادت له؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مَواضِع الهوى، واللعب المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يَقْصُر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدَّم عليه محبةَ مولاه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم: } رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37){[النور].
وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: }لا يُوَطِّنُ الرجلُ المساجدَ للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ اللهُ به مِنْ حِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ كما يتبشبش أَهْلُ الغائب بغائبهم إذا قَدِم عَلَيْهِمْ{
وقد روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله، قال:"من جلس في المسجد؛ فإنما يُجَالِس ربه عز وجل".
فبالله عليك، هل من يجالس ربه في بيته، بالذكر، وتدبُّرِ القرآن، وتعلُّمِ العلم وتعليمه، كمن يجلس أمام تفاهات التمثيل، وسفاسف اللهو واللعب، وخُزَعْبِلات الصحف والمجلات؟!.
رجل تعلق قلبه بالمساجد، كلما نودي للصلاة فيها سارع إليها وإليه بشوقٍ وشديدِ رغبة؛ لينال القلب ارتياحه الذي لا يتهيأ بمتاع الدنيا وإنْ عَظُم، فسبيله في ذلك سبيل من كان يأمر بلالاً رضي الله عنه:(أَرِحنا بها يا بلال) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا قُضِيَت الصلاة ظلَّ القلب معلَّقًا بالمسجد، وإن خرج منه الجسد، حتى يعود إليه مرة أخرى.
وما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله سبحانه وتعالى، محبةً وإنابةً ورغبة ورهبة وخوفًا ورجاءً وإخلاصًا وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّدًا، فالتعلق بالله عز وجل وحده هو الغاية العظمى والنجاة الحقة. ومن تعلَّق بغير الله عز وجل شأنه خَسِر خسرانًا مبينًا؛ كما قال تعالى: }مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ(41){ [العنكبوت].
2ـ إحياء الليل وإيقاظ الأهل في العشر الأواخر :
لقد علم العارفون أنَّ قيام الليل مدرسة المخلصين، ومضمار السابقين، وأنّ الله تعالى إنما يوزّع عطاياه، ويقسم خزائن فضله في جوف الليل، فيصيب بها من تعرض لها بالقيام، ويحرم منها الغافلون والنيام، وما بلغ عبدٌ الدرجات الرفيعة،
ولا نوَّر الله قلبًا بحكمة، إلاّ بحظٍّ من قيام الليل. ويكون حال المؤمن كما قال أحد الصالحين مخاطبا نفسه...
ألا يا نفس ويحك ساعديني بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة ان تفوزي بطيب العيش في تلك العلالي
فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل
العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر".ومعنى (إحياء الليل): أي استغرقه بالسهر في الصلاة والذكر وغيرهما. وقد جاء عند النسائي عنها أنها قالت: (لا أعلم رسول الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرًا كاملاً قط غير رمضان).
فعلى هذا يكون إحياء الليل المقصود به أنه يقوم أغلب الليل، ويحتمل أنه كان يحيي الليل كله، كما جاء في بعض طرق الحديث.
وقيام الليل في هذا الشهر الكريم وهذه الليالي الفاضلة لا شك أنه عمل عظيم جدير بالحرص والاعتناء؛ حتى نتعرض لرحمات الله جل شأنه.
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي.
قال سفيان الثوري: أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صح عن النبي أنه كان يطرق باب فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان } [رواه البخاري ومسلم].
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يُوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه. وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية:} وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132){ [طه].
وكانت امرأة أبي محمد حبيب الفارسي تقول له بالليل: ( قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا ).
يا نائماً بالليل كم ترقد *** قم يا حبيبي قد
دنا الموعد
وخُذ من الليل وأوقاته *** ورِداً إذا ما هجع
الرّقد
من نام حتى ينقضي ليله *** ثم يبلغ المنزل أو
يجهد.
وقد قام النبي صلي الله عليه وسلم بتحفيز الأمة لقيام الليل فقال صلي
عليه وسلم عن عبد الله بن سلام قال: "أول ما قدم رسول الله المدينة، انجفل
الناس إليه ، فكنت فيمن جاءه، فلمّا تأمّلت وجهه، واستبنته، عرفت أن وجهه ليس بوجه
كذاب، قال: فكان أول ما سمعت من كلامه، أن قال: أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا
الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"[ رواه
الترمذي].وعن معاذ بن جبل عن النبي قال: "ما من مسلم يبيت طاهرًا، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلاَّ أعطاه الله إياه"[ رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجه.].
وعن المغيرة بن شعبة قال: "قام النبي حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا"[ رواه البخاري، ومسلم، والنسائي].
وعن جابر قال سمعت رسول الله يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة"[ رواه مسلم].
وعن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"[ رواه الترمذي].
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا، أو صلّى ركعتين جميعًا، كتبا في الذاكرين والذاكرات "[ رواه أبو داود].
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: "جاء جبريل إلى النبي فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس" [ رواه الطبراني في الأوسط].
3ـ النظر في أحوال السلف الصالح رضي الله عنهم :
كان الليل في حياة السلف مختلف تماما عن الليل في حياتنا كما قال الإمام ابن الجوزي:
ـ واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات: •
الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء.
الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل.
الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، قال النبي : {أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَوْمُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا ، وَيُفْطِرُ يَوْمًا} [متفق عليه].
الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه.
الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام. •
الطبقة السادسة : قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين.
الطبقة السابعة : قوم يُحيون ما بين العشاءين، ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون
بين الطرفين. (انتهي كلام ابن الجوزي).
ولقد صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته} : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير{ حتى أتى على هذه الآية}فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا{
فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها }فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا {.
كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه : أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليها ، والله لأزاحمنهم عليها ، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا ، ثم يصلي إلى الفجر .
كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار، ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم ، ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا ، وبادروا قوتكم ، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا ، فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية !!
قال محمد بن يوسف : كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول : قوموا يا شباب ، صلوا ما دمتم شبابا ،إذا لم تصلوا اليوم فمتى ؟!!
قال أبو عثمان النهدي:( تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا) كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: لولا ثلاثة ما وددت أن أعيش في الدنيا ساعة: الظمأ بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما تنتقى أطايب الثمر.
4ـ النظر في كتاب الله عز وجل :
يقول الله تعالى : }أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ(24){محمد
وقال تعالي }وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ(17){ ]القمر[
وما أطال عبدٌ النظرَ في كتاب الله ، وأعملَ الفكرَ إلا سرَت أسراره ولطائفه في قلبه ؛ حتى يجد فيه صدى موجها وتناغم رنينها ..
وهنا فقط يعرف العبد معنى حياة القلوب ..
ولقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلَةً بآية يرددها، وهي }إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118){ ]المائدة[
وكان بعض الصحابة كان إذا فاته ورده يبكي.
وقد دخلوا على أحدهم ذات مرة فوجدوه يبكي بشدة، فسألوه: أتشتكي وجعا؟
قال: أشد، أشد، قالوا: وما ذاك؟ قال: نمت بالأمس ولم أقرأ وردي، وما ذلك إلا بذنب أذنبته!!
وكان حال النبي صلي الله عليه وسلم مع تدبر القرآن كما ورد في السنة ، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة؛ فمضى ، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها. يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ". [مسلم].
وبكى صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه ابن مسعود من سورة النساء قوله تعالى}: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً(41){ ]النساء] . فهل تتوقع أن يكون ذلك من غير تدبر؟ وكان يدعو الأمة إلى التدبر
وفهم معاني القرآن، فحين نزل قوله تعالى: }إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)] {آل عمران[.
قال صلى الله عليه وسلم: "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه كان يسير في الطريق ذات يوم فسمع رجلا يقرأ قوله تعالى من سورة الطور:} إنّ عذاب ربك لواقع*ماله من دافع{.. .
فسقط مغشيّا عليه، فحمله الناس إلى بيته وظلوا يزرونه شهرا، يظنون أن به مرضا، وما به مرض بل شدة الخوف من الله تعالى واستحضار لمشهد يوم القيامة العظيم، وشدة عذاب الله تعالى للكافرين.
وهذا عبّاد بن بشر رضي الله عنه يقف على حراسة المسلمين ذات ليلة ومعه عمار بن ياسر؛ فقام عبّاد يصلي، فبينما هو كذلك أتى أحد الكفار فضربه بسهم في كتفه فلم يخرج من صلاته، بل نزع السهم واستغرق في صلاته وتلذذه بالقرآن المجيد، فرماه الكافر بسهم آخر فنزعه وعاد إلى صلاته وقراءته ، فرماه بثالث فلم يستطع أن يتحمل شدة الجروح وكثرة الدماء فركع وسجد ثم أيقظ عمارا رضي الله عنه، فسأله عمار: لما لم توقظني من أول سهم؟
فقال : كنت في سورة من القرآن، لخروج روحي أحب إلي من أن أدعها!! فهل شعر أحد منا بلذة القرآن وحلاوته؟
5ـ التفكر في سنن الله في خلقه :
التفكر في أحوال العباد وتقلُّب أحوالهم بين العطاء والمنع ، والتقدم والتأخر، والرفع والخفض، والعز والذل ،والقوة والضعف ،ومحاولة الوقوف على أسباب هذا ، كل هذا يحدث بأمر الله تعالي وهو القادر علي كل شيئ سبحانه وتعالي .
الخاتمة : علينا أن نحرص أيها المسلمون أن ننتفع بالعشر الأواخر من رمضان لكي نكون من سكان القمم فسكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه، ومن كل أمر إلا أتمه وأجمله.
وقد قيل قديمًا: "قدر الرجل على قدر همته".
فمن كان عالي الهمة كان عالي القدر..
فبادر ولا يقعد بك العجز عن المكرمات، حاول أن تكون من سكان القمم، وابذل في تحصيله كل غال ورخيص، ولا تدخر في ذلك أي نفيس. لكل مُجِدٍّ مكافأة تليق بمقامه.
فإياك أن تخرج منها خاسرًا، قبل أن تبنى لك بيتًا في الجنة.. قال تعالى:} سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21){
] الحديد].
كان ربيعة بن كعب، له همة فوق الشمس.. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ" رواه مسلم.
أين كانت تحلق همة ربيعة ؟ كانت تحلق في سماء رفيعة، وقمم شاهقة
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عتقائك من النار
ومن المقبولين وتجعلنا من الفائزين برمضان…
آمين يارب العالمين .
=========
رابطpdf
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق