الحمد لله رب العالمين .. جعل الإيثار شعار الصالحين وأعلي مراتب المؤمنين فأثنى على المتصفين به، وبيّن أنهم المفلحون في الدنيا والآخرة؛ فقال سبحانه وتعالى:}وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9){ [الحشر].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... له الملك وله الحمد وهو علي كل شيء قدير.. أرشدنا إلي الطريق الموصل إلي الجنة فقال تعالي }لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ(92){[آل عمران].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) ربي أصحابه علي أخلاق الكبار، وبين أن العطاء حال النفوس الكريمة ، وأن البخل سلوك النفوس الشحيحة، فعن عبدالله ابن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ):}إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح ، أمرهم بالبخل فبخلوا ،وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا { ]أخرجه أبو داود في سننه[.
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين.
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
ما أجمل أن يتصف المرء والمجتمع بالإيثار والعطاء وحب الخير للآخرين، وما أقبح أن يتصف بالأثرة ، والأنانية وحب النفس.
والإيثار والعطاء والإحساس بالآخرين من أسمى المراتب العالية والأخلاق الكريمة التي حث عليها الإسلام الحنيف ، حرصا على العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية بين الأفراد ولضمان تماسك المجتمعات وسعادة البشرية.
لذلك يعيش المؤمن بين الإيثار والأثرة ، فنجده يتردد بين ذلك ، فتجد إنسانا يعيش لنفسه فقط ، وآخر يعيش لنفسه ولغيره ، وآخر يعيش يؤثر غيره على نفسه وذلك أعلى المراتب والدرجات لذلك كان موضوعنا }المؤمن بين الأثرة والإيثار { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ تعرف الأثرة والإيثار.
2ـ ذم الأثرة والأنانية والتحذير منهما .
3ـ الآثار السيئة للأثرة والأنانية .
4ـ مراتب الأثرة .
5ـ دوافع الإيثار.
6ـ فضل الإيثار ومكانته في الإسلام .
7ـ أنواع الإيثار .
8ـ الوسائل المعينة على اكتساب خلق الإيثار.
=====================
العنصر الأول : تعريف الأثَرةُ والإيثار:
الأثَرةُ مِن: آثَر يُؤثِرُ إيثارًا، وفي الآيةِ:آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا(91){ [يوسف] ، أي: فضَّلك.
والأثَرةُ: الاستِئثارُ، والاستِئثارُ: هي أن يؤثر الإنسان نفسه على من حوله، ويخص نفسه أو أتباعه بالمنافع والمكاسب والمصالح الدنيوية، ويستأثر بذلك ويحجبها عمن له فيها نصيب، أو من هو أولى بها منه.
وهي من الأنانيَّةُ، والأنانية: مِن (أنا)، يدُلُّ على أثَرةِ وحُبِّ الذَّاتِ معَ عَدمِ التَّفكيرِ في الآخَرينَ، وهي ضدُّ الإيثارِ.
والإيثار معناه : التقديم والتفضيل.
والإيثار في أيسر معانيه: هو أن تُقدِّم منافع غيرك على منافعك، وأن تحبَّ لأخيك ما تحب لنفسك، بل وأكثر مما تحبُّ لنفسك، أن تعطي لأخيك مثلَ أو أكثر مما تعطي لنفسك، أن تَخدم غيرك عند الحاجة والاقتضاء أكثر مما تَخدم نفسك، وذلك رغبة في رضا الله تعالى، فقد يجوع المؤثِر ليُشبع غيره، ويَعطش ليَروي سواه، بل قد يموت في سبيل حياة الآخرين.
والفرق بينهما : أنَّ الإيثارَ هو البَذلُ، وتخصيصُك لمَن تُؤثِرُه على نَفسِك.
وأمَّا الأثَرةُ فهي: استِئثارُ صاحِبِ الشَّيءِ به عليك، فحقيقةُ الإيثارِ بَذلُ صاحِبِه وإعطاؤُه، والأثَرةُ: استِبدادُه هو بالمُؤثَرِ به.
ربما يقول قائل: إنَّ الإنسان مجبول على حُبِّ ذاته، وحرْيص على جلْب الخير لها، ودفْع الضر عنها، وهذا أمرٌ عادي فلماذا تلومونا عليه؟
والجواب: إن هناك فرق بين الأنانية وبين حب الذات؛ فالأناني تجده منكمشاً على نفسه، مقتصراً على شهواته ولذائذه وتفكيره، لا يتعدى تفكيره التفكير في نفسه فقط، وتزين له نفسه فعل ما يريد طالما أن فيه مصلحة له، حتى لو كان فيه مفاسد على الآخرين، فهذه هي الأنانية المذمومة.
أما المحب لنفسه فهو الذي يتحكم في نفسه وانفعالاته، ويرى فضل الله تعالى عليه في كل شيء، ويفكر في الآخرين ويحب لهم ما يحبه لنفسه، ويزن الأمور كلها بميزان الشرع الحنيف.
العنصر الثاني : ذم الأثرة والأنانية والتحذير منهما :
لقد ذم الله تعالى الأثرة والأنانية في أكثر من موضع في القرآن الكريم لأنه مرض خطير ، وسبب كبير من أسباب الظلم والفساد ، ومزيل عظيم لكثير من النعم ، ومُحلٌ للعقوبات والنقم، ومعول هدم ، يهدم بنيان الأسر والمجتمعات والدول..
فقال تعالى في وصف أصحاب الجنة في سورة القلم الذين أرادوا أن يستأثروا بما وهب الله تعالى ويمنعوا حق الفقراء فقال تعالى:} إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلَا يَسۡتَثۡنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيۡهَا طَآئِفٞ مِّن رَّبِّكَ وَهُمۡ نَآئِمُونَ (19) فَأَصۡبَحَتۡ كَٱلصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوۡاْ مُصۡبِحِينَ (21) أَنِ ٱغۡدُواْ عَلَىٰ حَرۡثِكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰرِمِينَ (22) فَٱنطَلَقُواْ وَهُمۡ يَتَخَٰفَتُونَ (23) أَن لَّا يَدۡخُلَنَّهَا ٱلۡيَوۡمَ عَلَيۡكُم مِّسۡكِينٞ (24)......... كَذَٰلِكَ ٱلۡعَذَابُۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ (33){ [القلم] ،
قَالُوا: اغْدُوا سِرًّا إِلَى جَنَّتِكُمْ فَاصْرِمُوهَا وَلَا تُؤْذِنُوا الْمَسَاكِينَ، وظاهِرُ النَّصِّ أنَّ خطيئتَهم التي أُخِذوا بها هي التَّصميمُ على صَرمِ جنَّتِهم خُفيةً، والاستِئثارُ بكُلِّ خَيرِها، لا يُؤدُّونَ حقَّ مسكينٍ فيه.
إنه مرض الأنانية وحب الذات ، والاستئثار بالأمور للنفس دون الآخرين.
ولقد حذرنا ربنا سبحانه وتعالى من هذا الشر المستطير فقال تعالى: }فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39){ [النازعات]، ويقول جلّ وعلا حول هذا المعنى قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17){ [الأعلى].
يحذرنا الله في هذه الآيات العظيمة من الأثرة بالدنيا وإيثارها على الآخرة، وإعطاء النفوس هواها ومُناها، فتغتر بالدنيا، وتنسى الآخرة، وتغفل عنها.
وحذر النبي (ﷺ) من الأثرة والأنانية في سنته (ﷺ) فمن ذلك ...
1- عن ابنِ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ (ﷺ) قال:}ستكونُ أثَرةٌ وأمورٌ تُنكِرونَها، قالوا: يا رسولَ اللهِ، فما تأمُرُنا؟ قال: تُؤدُّونَ الحقَّ الذي عليكم، وتسألونَ اللهَ الذي لكم{ . أثَرةٌ: (أي: استِبدادٌ واختِصاصٌ بالأموالِ فيما حقُّه الاشتِراكُ) .
2- وقال رسولُ اللهِ (ﷺ) للأنصارِ:}إنَّكم ستَرونَ بعدي أثَرةً شديدةً، فاصبِروا حتَّى تلقَوا اللهَ ورسولَه (ﷺ) على الحَوضِ{[البخاري، مسلم].
(المُرادُ بالأثَرةِ هنا: استِئثارُ الأمراءِ بأموالِ بيتِ المالِ) .
3- وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضِي اللهُ عنه قال: }بايَعْنا رسولَ اللهِ (ﷺ) على السَّمعِ والطَّاعةِ في العُسرِ واليُسرِ، والمَنشَطِ والمَكرَهِ، وعلى أثَـرةٍ علينا، وعلى ألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، وعلى أن نقولَ بالحقِّ أينما كنَّا، لا نخافُ في اللهِ لومةَ لائِمٍ{ (الأثَرةُ أي: يُستأثَرُ عليكم، فيفضِّلُ غَيرُكم نَفسَه عليكم). أي: اسمَعوا وأطيعوا، وإن اختصَّ الأمراءُ بالدُّنيا عليكم، ولم يُوصِلوكم حقَّكم ممَّا عندَهم .
وكذلك حال السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يذمون الأثرة والأنانية ويقدمون غيرهم على غيرهم...
قال بعضُهم: إذا استقضَيتَ أخاك حاجةً فلم يَقضِها، فذكِّرْه ثانيةً، فلعلَّه أن يكونَ قد نسِي، فإن لم يقضِها فكبِّر عليه، واقرَأْ هذه الآيةَ: }وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ (36){ [الأنعام] .
وقضى ابنُ شُبرُمةَ حاجةً لبعضِ إخوانِه كبيرةً، فجاء بهديَّةٍ، فقال: ما هذا؟ قال: لِما أسدَيتَه إليَّ، فقال: خذْ مالَك عافاك اللهُ، إذا سألْتَ أخاك حاجةً فلم يُجهِدْ نَفسَه في قضائِها فتوضَّأْ للصَّلاةِ، وكبِّر عليه أربعَ تكبيراتٍ، وعُدَّه في الموتى) .
وقال ابنُ القيِّمِ رحمه الله تعالى : "فإذا رأَيتَ النَّاسَ يستأثِرونَ عليك معَ كونِك مِن أهلِ الإيثارِ، فاعلَمْ إنَّه لخَيرٌ يُرادُ بك" .
وقال الشيخ عليٌّ الطَّنطاويُّ رحمه الله تعالى : "نحن في حاجةٍ إلى الإيمانِ بأنَّ مصلحةَ الفردِ في مصلحةِ المجموعِ، وأنَّ رِفعتَه في رِفعةِ الأمَّةِ" .
العنصر الثالث :الآثار السيئة للأثرة والأنانية :
للأثَرةِ آثارٌ سيِّئةٌ؛ فكم من حقوق ضاعت على أصحابها بسبب الأثرة؟!
وكم من أموال استأثر بها أناس وأخذوها لأنفسهم دون أن يكون لهم فيها شيء، أو أخذوا منها أكثر مما يستحقون؟!
وكم من مميزات وخصائص اختص بها أناس وهي ليست لهم، وحَرموا منها غيرهم ممن هو أولى وأحق منهم؟!!.
بل تجد بعض النفوس أعاذنا الله وإياكم امتلأت بالأنانية، والطمع، وحب الذات، فتجده لا يعرف إلا نفسه، ويهتم بنفسه على حساب الآخرين، ولا يهتم بالآخرين، ولا يبالي بمشاعر الناس وأحاسيسهم، ولا يهمه شيء إلا نفسه، ولا يحب أحداً إلا ذاته، ولو خُيّر له لتمنى أن يموت الناس ويهلكوا ويبقى هو ومن يريدهم فقط.
إن الأنانية والأثرة دفعت بقارون إلى أن يقول كما قال الله تعالى: }إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي(78){ [القصص]،
ودفعت بفرعون إلى أن يقول كما قال الله تعالى : }أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24){[النازعات]
ودفعت بالنمرود إلى أن يقول كما أخبرنا الله تعالى :}أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ(258){ [البقرة]
ودفعت بإبليس إلى أن يقول: }أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ(12){ [الأعراف].
ودفعت بقابيل ابن آدم إلى قتل أخيه هابيل، عندما قدّم كل واحد منهما قربة يتقرب بها إلى الله، فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ، فقال الذي لم يتقبل منه للآخر أنانية وأثرة (لأقْتُلَنَّكَ)، فقال له الآخر مترفقا له في ذلك: }إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27){.
فالشاهد أنه يحب نفسه أكثر من اللازم، وإلا فلِمَ يريد أن يقتل أخاه على أمر ليس له فيه شيء؟
فالقبول من الله، والله سبحانه وتعالى لا يتقبل إلا من المتقين؛ فلماذا دفعت به نفسه إلى قتل أخيه ؟ بدلاً من أن يلوم نفسه ويعاتبها على عدم قبول عمله ، قام بقتل من تقبل الله عمله، فهذ يدل على أنه مصاب بالأنانية والأثرة قال تعالى :}وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30){ [المائدة].
وكذلك إخوة يوسف دفعت بهم الأثرة وحب الذات إلى إلقاء يوسف عليه السلام في البئر، ورميه فيها، وتعرضه للمذلة والإهانة والبيع كما يباع الأرقاء والعبيد؛ فما الذي دفع بهم إلى هذا كله؟
إنها الأثرة لأنفسهم دون أخيهم، حتى يستأثروا بمحبة أبيهم قال تعالى }إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9){ [يوسف].
لذلك نرى أي مجتمع تسود أفراده الأنانية والأثرة يتفشى فيه هذه الصفات منها ..
1- الصَّدُّ عن الحقِّ؛ فعن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: (قدِم مُسيلِمةُ الكذَّابُ على عهدِ رسولِ اللهِ (ﷺ)، فجعَل يقولُ: إن جعَل لي مُحمَّدٌ الأمرَ مِن بَعدِه تبِعْتُه).
2- انعداِمُ الرَّحمةُ، فيأكلُ القويُّ الضَّعيفَ، ويسودُ قانونُ الغابِ ، فيقع الظُّلمِ بين الناس ، وأكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، وقَطعُ الأرحامِ.
3- نقصان الإيمانِ ودناءةِ النَّفسِ وخِسَّتِها، حيث نفي النبي (ﷺ) الإيمان عن الشخص الأناني ،فقال رسول الله (ﷺ):}لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه{ [متفق عليه].
4- انعدام التكافل والتراحم : فحينما تسودُ الأنانيَّةُ ينعدِمُ التَّكافُلُ، فإن شرّ ما يصيب المجتمع هو التفكك وضعف الروابط بين أبنائه، وذلك بغلبة الأنانية على أنفسهم، عندما يذكر المرء نفسه، وينسى أخاه، عندما يقول كل واحد: نفسي نفسي ،عندما تعظُم الأنانية في نفسه على حساب غيره، فليعلم كل منا أنه مسئول عن غيره كما قال (ﷺ)عن أصحاب الأنانية والأثرة }كم من جارٍ متعلّق بجاره يقول: يا ربّ، سل هذا: لِمَ أغْلق عنّي بابَه، ومنعني فضله؟{ ]الألباني في السلْسلة الصحيحة[.
فيجُرُّ ذلك إلى عَدمِ الاهتمامِ بأمرِ المُسلمينَ ، فيكون سببٌ لحُلولِ العداءِ والكراهيَةِ محَلَّ المحبَّةِ والمودَّةِ في القُلوبِ.
العنصر الرابع : مراتب الأثَرةِ:
تنقَسِمُ الأثَرةُ إلى مراتِبَ:
الأولى: العُبوسُ والانقِباضُ وتركُ البِشرِ والبَسطةِ، فلا يسَعُ الأنانيُّ أحدًا لا بمالٍ ولا بخُلقٍ بسببِ ما به مِن أثَرةٍ.
الثَّانيةُ: الانتِقامُ وعَدمُ الإغضاءِ، فيحمِلُه حُبُّ ذاتِه على الانتِصارِ لها، وتَركِ التَّغافُلِ والعَفوِ.
الثَّالثةُ: الاستِئثارُ بقُوَّتِه البدنيَّةِ، فيخصُّ بها نَفسَه، ولا ينفعُ بها غَيرَه.
الرَّابعةُ: التَّفرُّدُ بنعمةِ الجاهِ، فلا يشفَعُ لأحدٍ، ولا يمشي معَ غَيرِه إلى ذي سُلطانٍ، ونَحوُ ذلك.
الخامِسةُ: الضَّنُّ بالعِلمِ، فهو يُحبُّ ألَّا يشرَكَه فيه أحدٌ، وإذا سُئِل أجاب باختِصارٍ بقَدرِ ما يدفعُ به الضَّرورةَ، كما كان بعضُهم يكتبُ في جوابِ الفُتيا: نعم أو لا، مُقتصِرًا عليها.
السَّادسةُ: أن يكونَ ضنينًا براحتِه ورفاهِيتِه وإجمامِ نَفسِه، فلا يسعى تعبًا وكدًّا إلَّا في مصلحةِ نَفسِه.
السَّابعةُ: التَّطلُّعُ إلى ما في أيدي غَيرِه، وتمنِّي زوالِ النَّعمةِ عنه، وتحوُّلِها إليه.
الثَّامنةُ: أن يبخلَ بنَفسِه عن نصرِ المُستضعَفينَ؛ قال تعالى: }أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ(19){ [الأحزاب] ، أي: بُخلًا بالنُّصرةِ والمُوافَقةِ في القتالِ .
العنصر الخامس : دوافع الإيثار:
إن الدافع والباعث إلي الإيثار أمران :
الأمر الأول : فطري وغريزي : كالذي يكون عند الآباء والأمَّهات ، وهذا ينتج عنه حبٌّ شديدٌ عارم، والحبُّ مِن أقوى البواعث الذَّاتية الدَّافعة إلى التَّضْحية بالنَّفس وكلُّ ما يتَّصل بها مِن مصالح وحاجات مِن أجل سلامة المحبوب أو تحقيق رضاه، أو جلب السَّعادة أو المسرَّة إليه .
تجد الأب يعمل ويتعب من أجل تحقيق راحة أبنائه وتوفير الحياة الكريمة لهم وكذلك الأم تشعر بالسعادة الحقيقة عندما تجد أبنائها سعداء فهذا إيثار فطري لذلك تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كلَّ واحدة منهما تمرة ، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التَّمرة، التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها، فذكرت الذي صنعت لرسول الله (ﷺ)، فقال: إنَّ الله قد أوجب لها بها الجنَّة، أو أعتقها بها مِن النَّار"
فهذا الإيثَار دافعه حبُّ الأم لابنتيها ورحمتها بهما.
الأمر الثاني: يكون الدَّافع هو الإيمان: الإيمان هو المحرك للمسلم أن يكون نافعا لغيرة طمعا في الأجر والثواب كما حدث مع الصحابة الكرام في المدينة ، فامر يعتمد على عاطفة إيمانيَّة عاقلة { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9){ [الحشر].
فالإيثار ليس ادِّعاءً ولا شعارًا فارغًا، يُعلنه الإنسان في السرَّاء وأوقات الفراغ، وربما يُؤثِر على نفسه في المواقف اليسيرة ، والأشياء الصغيرة، أمَّا إذا جدَّت ساعة الجد وحان وقت الفصل، يُؤثِر نفسه، وهذا غالب حال البشر، فالإنسان لا يُقدِّم غيرَه على نفسه إلاَّ لحبٍّ شديد له، أو لإيمان بأجر هو أعظم من هذه المَنفعة التي يقدمها لأخيه.
العنصر السادس: فضل الإيثار ومكانته في الإسلام :
للإيثار فضل عظيم ومكانة كبيرة في الإسلام منها ..
1ـ تحقيق الكمال الإيماني في النفس البشرية :
فللإيثار منزلة رفيعة القدر لا يتخلَّق به إلاَّ أصحاب القلوب التي وعَت إنسانيَّتها ، وفَهِمت دينها، وتحقَّق لها القرب من الله، قال تعالى: }عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا(9){ [الإنسان].
يطعمون الطعام للفقراء والمساكين ويقدمون لهم ما يحتاجون إليه من عون ومساعدة، ولا ينتظرون منهم أي مردود، وهذا هو المعنى الصحيح للتطوع.
وجعل الله تعالي الإيثار من أخص خصائص المجتمع الإيماني، حيث قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (9)} ]الحشر[.
فهذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة يؤثر مصلحة الأمة علي مصلحته الخاصة حينما أشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة وقالوا له تبيعنا و نزيدك الدرهم درهمين ؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها بأكثر من هذا .
فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة : فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة تجار غيرنا ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ولرسوله فهي لفقراء المسلمين ..
الله أكبر!! ... ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه الفرصة لا تعوض ليربح أموال طائلة ولو كانت على حساب البطون الجوعى والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات. إنه مهما خوف الناس وبعث في قلوبهم الرعب برقابة البشر فهي تسقط أمام رقابة الذات ورقابة الله وما تغيرت الحياة وحدث البلاء ووجدت الخيانة وانتشر الظلم إلا يوم ضعفت رقابة الله في قلوب البشر.
2ـ الإيثار من موجبات رحمة الله تعالي :
هو رحمةٌ أسكنها الله قلوبَ المؤمنين، فبذلت وضحّت لوجه الله رب العالمين، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسغبة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، قلوبُ أهلها رقيقة لينة حليمة رحيمة، لا تحتمل فواجع المسلمين، بل تهتز لدعاء المصابين والمنكوبين.
الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! أن تسعى في بذل الخير والمعروف والإحسان، طمعا في رحمة الله الرحيم الرحمن، بإجابة دعوةٍ مِن أرملة، أو دعوةٍ مِن بائسة، أو دعوةٍ مِن مكروب، أو دعوةٍ مِن مهموم أو مغموم، أو كربة تفرِّجها على مَدين مُعسِر.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (ﷺ) قال:}من لا يرحم لا يرحم { ]متفق عليه[.
3ـ الإيثار هو الطريق الموصل إلي الجنان ومحبة الرحمن :
إنه الإيثار؛ الذي يحمل صاحبه على البذل والعطاء، والكرم والسخاء، مما تحبه النفس من الكنوز والأموال، قال الله تعالى: }لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92){ [آل عمران].
يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر، الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنات، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها فإن النفقة من الطيّب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدَلّ الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال، التي جُبِلت النفوس على قوّة التعلق بها).
فهذا أبو طلحة الأنصاري؛ جاء إلى النبي (ﷺ) فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه }لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ(92){[آل عمران] وإنّ أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي (ﷺ) ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله (ﷺ) أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال (ﷺ): }بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه{[البخاري ومسلم].
4ـ الإيثار سبب في نقاء النفس من الصفات السلبية المشينة :
الإيثار ذلِكُم الخلقُ الذي يدل على صفاء النفس ونقائها من البخل والشح والأنانية. فلصاحب الإيثار نفس تواقة إلى الخير، مسرعة إلى الإحسان.
ورد في الصحيحين عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (ﷺ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ:}أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا، وَلِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ{.
روى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) قَالَ:}اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَاتَّقُوا الشُّحَّ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ {.
وهذا عبدالله ابن عباس يؤثر مصلحة أخيه المسلم علي اعتكافه في المسجد النبوي ، عندما كان معتكفا في مسجد رسول الله (ﷺ), فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس , فقال له ابن عباس : يا فلان أراك مكتئبا حزينا ؟! قال : نعم يا ابن عم رسول الله لفلان علي حق ولاء , وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه , قال ابن عباس : أفلا أكلمه فيك , فقال : إن أحببت قال : فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل : أنسيت ما كنت فيه ؟؟!! قال : لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر (ﷺ) والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول}من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين , ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين { ]رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي واللفظ له والحاكم مختصرا وقال صحيح الإسناد[
لم يترك ابن عباس رضي الله عنه اعتكافه في أي مسجد , بل ترك الاعتكاف في مسجد رسول الله (ﷺ), مع ما له من أجر مضاعف وعظيم , ولم يتركه لينقذ مسلما من الموت جوعا أو بردا أو خوفا وذعرا , بل خرج ليكلم له دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب , وهي حاجة ربما يستصغرها بعض المسلمين اليوم , إلا أنها كانت كافية لإخراج ابن عم الرسول (ﷺ) من معتكفه وعبادته .
أفلا تستحق آلام المسلمين المنكوبين اليوم في غزة وغيرها من بلاد الإسلام, بأن نخرج من شح النفوس وهواها إلى كرمها وتقواها , ومن قسوة القلوب وغفلتها إلى لينها وذكرها لخالقها ومولاها , ومن إغلال الأيدي إلى الأعناق إلى بسطها بعض البسط في الإنفاق .
إنه الإيثار؛ الذي يزرع في النفوس المودة والمحبة، والرأفة والرحمة، وينزع من القلوب الكراهية والبغضاء، فإن القلوب مجبولة على تعظيم صاحب الإيثار ومحبته، كما أنها مجبولة على بغض البخيل المستأثر ومقته.
5ـ الإيثار يحقق التضامن والتكافل في المجتمع :
إنه الإيثار؛ الذي به تحصل الكفاية الاقتصادية والمادية في المجتمع، فطعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة، والبيت الكبير الذي تستأثر به أسرة واحدة مع سعته يكفي أكثر من أسرة ليست لها بيوت تؤويها. وهكذا..
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَةِ، وَطَعَامُ الثَّلاَثَةِ كَافِي الأَرْبَعَةِ{.
وفي صحيح مسلم عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ﷺ) يَقُولُ: }طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ{.
قال الله سبحانه وتعالي : }وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2){ [المائدة].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فِعل الخيرات وهو البر، وترك المنكرات وهو التقوى، وينهاهم عن التناصر على الباطل، والتعاون على المآثم والمحارم.
وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه قَالَ: "فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (ﷺ) إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):}مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ، قَالَ: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ { [ مسلم]. فالإيثار جالبٌ للبركة في الطَّعام والمال والممتلكات
6ـ الإيثار هو أعلي مراتب الأخوة الإيمانية:
الإيثار أعلي مراتب الأخوة الإسلامية ، فهو الخُلق الذي وصَف به الحقُّ سبحانه وتعالى أنصار رسوله عليه الصلاة والسلام الذين جسَّدوا تجربة الأخوَّة الإيمانيَّة في صورة لا عهدَ لتاريخ البشرية بها، صورة من الإيثار يعجز عن وصفها اللسان، ويضعف عن التعبير عنها البيان، كيف لا، وقد قال الله تعالى في حقهم:
} وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9) {[الحشر].
أي: يقدمون خدمة الآخرين ومصلحتهم العامة على المصلحة الشخصية الخاصة.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ (ﷺ)، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ، قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ...
إنها الأخوة في الله ،إن التمسك بحبل الله تعالى ينقي القلوب، ويجعلها تتطلع إلى السماء، يجعلها تنظر للآخرة، يجعلها تسير في درب الإيثار وطريق التضحية وسبيل الوفاء والبذل والعطاء دونما كلل أو تعب ،نفوس عفيفة نقية طاهرة لا تحمل في قلبها حقدا ولا حسدا.
العنصر السابع : أنواع الإيثار:
1ـ الإيثار مع الخالق سبحانه:
أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدراً؛ الإيثار مع الله، إيثار رضاه على رضا غيره، وإيثار حُبّه على حبّ غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه.
الإيثار مع الله: أن يفعل المرء كلّ ما يحبه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهاً إلى نفسه، ثقيلاً عليه.
الإيثار مع الله: أن يترك المرء ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبوباً إلى النفس، تشتهيه، وترغب فيه.
فتُؤثر رضا الله وتقدمه على رضا نفسك وهواك، وعلى رضا الناس أجمعين، إذ لا رضا يقدم على رضاه، ولا طاعة فوق طاعته، ولا محبة تفوق محبته...
الإيثار مع الله يقتضي من العبد أن يداوم على طاعة الله، وألا ينشغل بدنياه عن أخراه، إذ كيف لعاقل أن يقدم الدنيا وهي دار الفناء، على الآخرة وهي دار البقاء.
قال سبحانه: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(17)}[الأعلى].
وهذا نموذج في غاية في العظمة يبين لنا قيمة الإيثار مع الخالق جل وعلا ..
تُمثِّلُ قصة سَحَرة فرعون نموذجًا رائعًا في الإيثار بمعناه الإيماني الرفيع، فما إن تأكَّد لهم صدقُ موسى عليه السلام حتى تنصَّلوا من زَيفهم، وأقبلوا على الإيمان إقبالاً فوريًّا رائعًا، فغاظَ ذلك فرعون، فهدَّدهم بالموت، وتوعَّدهم بالتنكيل؛ ليُبعدهم عن سبيل الهدى الذي أدركوه لتَوِّهم، فما لانَتْ لهم قناة، ولا أَلْقَوا بالاً للتهديد والوعيد، وبَقَوْا متمسكين بإيمانهم واثقين بربِّهم عزَّ وجلَّ مُؤثِرين الانخراط في موكب الشهداء على البقاء أحياءً في ظلِّ العبودية لغير الله؛ قال تعالى:}قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73){ [طه].
لقد آثَروا الله عزَّ وجلَّ على فرعون المتجبِّر الذي ادَّعى الألوهيَّة، واستعبَد عقول الناس وأرواحهم وأفكارهم، آثَروا الله على تاريخ فرعوني طويل أَلِفوه واعتادوه، ولَمَّا هدَّدهم فرعون وأمرَهم بالتراجع، آثَروا الله على النجاة من العذاب، وعلى أيديهم وأرجلهم التي هدَّدهم بقطعها من خلاف، ثم آثَروا الله أخيرًا على أرواحهم وحياتهم، واسْتَسْهلوا صَلْبهم في سبيل الله تعالى، فكأنَّهم قالوا له: نحن أحرارٌ من عبوديَّتك يا فرعون، فماذا تصنع بنا؟
إن كلَّ ما تَملكه أن تقضي في حدود هذه الدنيا، لكنَّك لا تَملك أمرَ خلودنا وحياتنا الآخرة، لا تَملك لنا نعيمًا أبديًّا ولا تعاسة أبديَّة، }فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ(72) { [طه]. هذه عبارة تُشعر بمدى إيثار السَّحرة لله عزَّ وجلَّ على كلِّ ما سيَصنعه فرعون، ولَم يَزيدوا عن التضرُّع إلى الله يستمدُّون منه الثباتَ على البلاء العظيم، ويطلبون ليس النجاة في الدنيا، ولكن حُسن الخاتمة؛ }رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126){ [الأعراف].
وهذه صورة مشرقة، ولوحة رائعة يزيّنها مسارعة الصحابة، ومبادرتهم إلى فعل الخيرات، وتقديم مصلحة الأمة على مصالحهم الشخصية ، يوم أن عَظُم الخطب واشتد الأمر علي رسول الله (ﷺ) في يوم تبوك الذي سماه الله تعالي يوم العُسْرة كما قال الله تعالي{لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ(117)} [التوبة]
لقد فتح الرسول (ﷺ) باب التبرع علانية؛ حتى يحفز المسلمون بعضُهم بعضًا..
وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه.. !!
لقد قام فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، فَسُرَّ رسول الله (ﷺ) بذلك سروراً عظيماً؛ فهذا عطاء كثير، ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانيةً يزايد علي نفسه ، قال: "علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، فسعد به رسول الله (ﷺ) سعادة عظيمة.. حتى إنه قال (ﷺ) : "ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم!"
ولكن هل سكن عثمان أو اطمأن؟ انظر إليه ، لقد أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلي ثلاثمائة بعير (وفي رواية: تسعمائة بعير، ومائة فرس)، ثم ذهب إلي بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله (ﷺ)، ورسول الله (ﷺ) يقلِّبها متعجبًا!.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، أتى بأربعة آلاف درهم، وقد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان.. لكنها تُعتبر أكثر نسبيًّا من عطاء عثمان (سبحان الله) لأنها كل مال أبي بكر الصديق.. حتى إن رسول الله (ﷺ) سأله: "وماذا أبقيت لأهلك؟" قال له في يقين: "أبقيت لهم الله ورسوله".
وأتى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله، وهو كثير.. بل كثير جداً..
2- الإيثار مع الخلق:
بحب الخير للآخَرين، وتطهير النفس من كل أنانية وكراهية وشحناء، حين يستشعر العبد معنى الأخوة التي تربطه بكل مسلم مِن حَوله.
تعالوا بنا نري الإيثار حقيقة مجسدة وليس مجرد شعارات رنانة ، فتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله (ﷺ) ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا.
وعن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه قال: قام رسولُ اللهِ (ﷺ) في صلاةٍ، وقُمْنا معَه، فقال أعرابيٌّ وهو في الصَّلاةِ: اللَّهمَّ ارحَمْني ومُحمَّدًا، ولا ترحَمْ معَنا أحدًا، فلمَّا سلَّم النَّبيُّ (ﷺ) قال للأعرابيِّ: "لقد حجَّرْتَ واسِعًا" .
فالنَّبيُّ (ﷺ) لم يُعجِبْه دُعاؤُه لنَفسِه وحدَه، فلأنَّه بخِل برحمةِ اللهِ على خَلقِه، وقد أثنى اللهُ على مَن فعَل خلافَ ذلك بقولِه تعالى: }وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(10){ [الحشر].
وقال عُمرُ رضِي اللهُ عنه يصِفُ النَّبيَّ (ﷺ): }إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد خصَّ رسولَ اللهِ (ﷺ) في هذا الفيءِ بشيءٍ لم يُعطِه أحدًا غَيرَه، ثُمَّ قرأ: "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِه مِنْهُمْ" إلى قولِه قَدِيرٌ فكانت هذه خالِصةً لرسولِ اللهِ (ﷺ) ،وواللهِ ما احتازها دونَكم، ولا استأثَر بها عليكم، لقد أعطاكموها، وبثَّها فيكم{
قولُه: (ما احتازها)، أي: ما جمَعها دونَكم، (ولا استأثَر بها)، أي: ولا استبدَّ بها وتخصَّص بها عليكم. قولُه: (وبثَّها فيكم)، أي: فرَّقها عليكم .
وهذا مشهد لأصحاب رسول الله (ﷺ) في قمة الإيثار، أخذ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أربعمائة دينار، فجعلها في صرَّة، ثمَّ قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجرَّاح، ثمَّ تلكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: وصله الله ورحمه.
ثمَّ قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السَّبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان. حتى أنفدها، فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدَّ مثلها لمعاذ بن جبل. وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل، وتلكَّأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع. فذهب بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا. فاطَّلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلَّا ديناران فنحا بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك عمر، وقال: "إنَّهم إخوة بعضهم مِن بعض"
وهذا عبدالله ابن المبارك يُقدم حاجة اليتامي علي حجة النافلة ، كان عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج ، خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره ، وفي الطريق وجد منظراً ارتعدت له أوصاله. واهتزت له أعصابه!!. القصة ذكرها ابن كثير بلا اسناد في البداية والنهاية وملخصها ، أنه لما كان في طريق الحج مات لهم طائر فامر غلمانه بإلقائه في مزبلة الطريق ثم أنه رأى فتاة جاءت وأخذت الطائر الميت فسألها عن شانها فأخبرته أنها وأخاها من الفقراء وأن أباها قد قتل وأخذ ماله وأن الميتة تحل لهم فقال لخادمه كم معنا من المال فقال ألف دينار فقال ابق منها عشرين نرجع فيها إلى بيوتنا واعط الباقي لهذه الفتاة فهذا أفضل من حجنا لهذا العام ثم رجع .
وهذا مشهد فاق الخيال: عن أبي الجهم بن حذيفة العدويّ، قال: "انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمّ لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليّ أن نعم. فإذا رجل يقول آه. فأشار ابن عمّي إليّ أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر فقال: آه. فأشار هشام: انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات" ] ذكره البيهقي في شعب الإيمان، والغزالي في إحياء علوم الدين، وابن كثير في تفسيره[
فانظروا إلى إيثار هؤلاء الأفاضل الكرام، لقد بلغ الإيثار والسخاء بأحدهم أن يقول: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له.
العنصر الثامن :الوسائل المعينة على اكتساب الإيثار:
للإيثار أسباب ووسائل تعين عليه:
1ـ الإيمان بالله تعالي والسعي إلى مرضاته عز وجل، واستشعار أن الله هو المعطي جل وعلا, وعطاءه فيض لا ينقطع فإن الله يمد بعطائه في الدنيا جميع خلقه ، قال تعالي}كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً(20){ ]الإسراء[
وفي الحديث القدسي الذي يرويه أبي ذر رضي الله عنه- عن رسول الله (ﷺ) }.... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم. ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه { ]رواه مسلم[
وحينما يسعى العبد إلى الله حثيثاً، مُجِدّاً ومسرعا لا بطيئا ومتريثاً، حين يتعلق قلبه بالدار الآخرة، فلا يفتُر عن حسنة يبذلها، أو قُرْبَة بإذن الله يكسب بها أجرا وثوابا ، فيكون إيمان العبد قويا، ويقينه في الله عظيما، وحسن ظنه بربه حاضرا حينئذ يهون على النفس الإيثار، ويُحبَّبُ إليها البذل والعطاء.
2ـ استشعار عظيم الأجر والثواب والجزاء المترتب على الإيثار:
رغبة العبد فيما عند الله عز وجل من خير وعطاء، الطمع في الفوز والفلاح، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فمن رغب في النجاة فليكن من أهل الإيثار، ومن رغب في الفلاح فليكن من أهل الإيثار؛ قال سبحانه: }فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنفِقُواْ خَيۡرٗا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (16) إِن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (18){ ] التغابن [ .
فإذا استشعر الإنسان هذا الأجر وهذا الجزاء فإن ذلك يدفعه إلى الازدياد في الإيثار رجاء ما عند الله سبحانه وتعالى
3- الاقتداء بالنبي (ﷺ) في عظيم عطائه وجزيل سخائه.
4- التأسي بسلف هذه الأمة وخير القرون في بذلهم وعطائهم.
5- تدريب النفس على البذل والعطاء مرة بعد مرة قال تعالى }ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً(29){ ]الإسراء[.
6ـ مصاحبة أهل الكرم والجود ، فالصحبة متى كانت سيئة فهي من أهم العوائق التي تعيق الإنسان عن القربات والأعمال الصالحات، لما لها من تأثير كبير على الإنسان، والصحبة الصالحة من أهم المعينات علي التحلي بالأخلاق الفاضلة ، فالطباع يسرق بعضها بعضا .
7ـ تذكرُ الموت والبِلَى، وقربِ المصير إلى الله جلَّ وعلا، أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مغموم بين الْجَنادل والْحَفائر، فما ذُكِر الموت في كثيرٍ إلا قلله، ولا في جليلٍ إلا حقَّره.
فيا من تشكو من مرض الأنانية وحب الذات، تَذكّر الموتَ وسكرتَه!
تذكر القبرَ وضجعته! تذكر القبر وضمّته! يومَ يصير الإنسان وحيداً فريداً، قد سار إلى الله ذليلاً حقيراً، يومئذٍ تهون عليه تجارته، وتهون عليه أمواله، ويهون عليه أولاده، وربما صاح بأعلى صوته: }يَٰلَيۡتَهَا كَانَتِ ٱلۡقَاضِيَةَ (27) مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ (29){. ]الحاقة[
فما الذي يأخذه الإنسان من تجارته؟!
وما الذي يجنيه من سوقه وعمارته؟! وما الذي يأخذه من الدنيا غيرُ زادِه وكفنِه؟! إنا إلى الله صائرون، وإنا إليه راجعون، وبين يديه مختصمون ، قال تعالى }إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31){ [الزمر].
يا جامعَ المالِ في الدنيا لوارثه هل أنتَ بالمالِ بعد الموتِ منتفعُ؟
قدِّمْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ في مَهَل فإِن حظكَ بعد الموتِ منقطعُ
فما أعظمَ نجاتك وفرحتك إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين!
يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة، يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل، يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة !..
فالله أكبر! ما أعظم فوز أهل الإيثار! يوم خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، واستقبلوا الآخرة أمام عيونِهم!..
نسأل الله تعالى أن يطهر قلوبنا من كل سوء وداء، وأن ينور قلوبنا بكل خلق كريم ووصف حميد، وأن يؤلف بين قلوبنا وأن يصلح فساد قلوبنا ، وأن يحقن دماء المسلمين في كل أرض الإسلام ، وأن ينصر الإسلام ويعز المسلمين ،
إنه ولي ذلك ومولاه .
تمت بحمد الله
=====================================
رابط pdf
https://www.raed.net/file?id=466494
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق