الثلاثاء، 29 أغسطس 2023

حال النبي (ﷺ) مع ربه تعالى



الحمد لله رب العالمين .. ربى نبيه (ﷺ)علي الإيمان الكامل فأمره بالعبادة الشاملة حتي آخر لحظات حياته فقال تعالي 
}وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99){ [الحجر].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له...  له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير .... ربي نبيه التربية الروحية قبل التربية الحركية فأمره بقيام الليل، والذكر، والقرآن فقال تعالي}يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ (1) قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا (2) نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا (3) أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا (7) وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا (8){ ]المزمل[.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ)... كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام فقالت له زوجته عائشة مشفقة عليه:}لِمَ تصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟{[متفق عليه]..
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...     
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون ...
إن الرسول (ﷺ) ترك لنا سيرة طاهرة عاطرة، وترك لنا رسالة عامة خالدة صالحة مصلحة لكل زمان ومكان.
إن السيرة النبوية هي من أنصع الأدلة على أن سيدنا محمدا (ﷺ) مرسل من ربه، لا يمثل نفسه، وإنما يمثل الإرادة العليا، إرادة الله عز وجل: قال تعالي }وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5){ [النجم].
ما أحوجنا اليوم إلى أن نتدبر سيرة رسولنا العظيم (ﷺ)، وأن نستجلي جوانب العظمة المحمدية في حياته (ﷺ) ،لنعرف كيف نقتدي به (ﷺ)،هذا الرسول العظيم الذي رفع الله ذكره فلا يذكر الله إلا ويذكر معه رسول الله (ﷺ).
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه    إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشـق له مـن اسمه كي يجله      فذو العرش محمود وهذا محمد
رسول الله (ﷺ) الذي لعن الله مؤذيه في الدنيا والآخرة فقال تعالي }إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57){ الأحزاب .
وقال تعالى } .. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61){ ]التوبة[ .
رسول الله (ﷺ) الذي عصمه الله من الناس وكفاه المستهزئين، فقال تعالي }إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ(95){ ]الحجر[.
وبتر شانئه ومبغضه فقال تعالي } إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3){ ]الكوثر[.
رسول الله (ﷺ) الذي اختصه الله من بين إخوانه المرسلين بخصائص تفوق العد ،فنحن أمام رجل عظيم ما عرف التاريخ مثله في العظمة .
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت        مثل الرسول نبي الأمة الهادي
هذا النبي (ﷺ) الذي صنعه الله علي عينه فقال تعالي }وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48){ ]الطور[ .
فمن جوانب العظمة في حياته (ﷺ) أولا : الجانب الرباني:
إن الجانب الرباني المرتبط بالله تعالى هو الذي يشكل الأساس الذي يُقَوِّم الشخصية الإسلامية، فكان (ﷺ) يهتم بالتربية الروحية، فقبل الإسلام كان (ﷺ) يختلي بنفسه إلى غار حراء، يمشي ما يقارب ثلاث كيلومترات في أوعر طريق، وأصعب مسلك. يصعد إلى قمة الجبل، ليجلس بين صخور، يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويفكر في الحقائق الكبرى.
كان سيدنا رسول الله (ﷺ) يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، ويعتكف فيه في كل سنة شهراً بأكمله، والسيدة خديجة كانت تأتيه بالطعام والشراب.
لقد اهتم النبي (ﷺ) ببناء الشخصية الإسلامية بالعبادة الباطنية من إيمان وإخلاص لله تعالى، ومجاهدة النفس، وبالعبادة الخارجية من صلاة وصيام ومعاملات.
 تأثير متبادل بين العبادة الباطنية والعبادة الداخلية.
إننا نستقرأ من سيرة المصطفى (ﷺ) جوانب مشرقة، وهمة عالية، وعقلية منفتحة، مبنية على طاعة الله تعالى، ومحبة الناس، ومعرفة عيوب النفس، ومداخل الشيطان ، واهتمامه (ﷺ) بما يرقق القلوب، ويذكر بالآخرة.
إن من يقرأ في هذا الجانب، جانب العبادة.. الصلاة.. الصيام.. الذكر.. التسبيح.. التهليل.. التكبير.. الدعاء.. الاستغفار، يجد قلباً نابضاً بحب الله تبارك وتعالى، يجد لساناً رطباً بذكر الله تعالى، لا ينساه على كل حال، يذكر الله في كل أحواله، وعلى كل أحيانه.
انظروا إلى الرسول (ﷺ) العابد الذي أمره الله تعالى بقوله: }وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99){ [الحجر].
فكان يعبده في ليله ونهاره، وصباحه ومساءه، في خلوته وجلوته، لا يفترعن عبادة ربه.
كان يعلم أن الإنسان ما خُلق إلا لعبادة الله، وأن عبادة الله هي المهمة الأولى لهذا المخلوق الذي خلقه الله بيده، وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في الأرض.
كان يعلم أن مهمته أن يعبد الله عبادة مبنية على معرفة به قال تعالي }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58) { [الذاريات].
 لهذا كان (ﷺ) أكثر الناس إقبالا على الله.
حال الرسول (ﷺ) مع الصلاة
شرع الله الصلوات الخمس لتربط المسلم بربه كل يوم خمس مرات، لا يوجد دين يربط الإنسان بمولاه هذا الربط الوثيق، ليكون دائما على موعد مع ربه، كلما شغلته الشواغل، كلما غرق في لجة الحياة، كلما أنسته مطالب الدنيا، كلما غرق مع التجارات، مع الدينار والدرهم، لكنه حين يسمع المنادي ينادي:
(الله أكبر الله أكبر.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح)
 يترك البيع والشراء، ويترك دنياه ودنيا الناس، ويهرع إلى بيت الله، هكذا علم محمد (ﷺ) الناس.
علمهم أن الحياة إنما تكون لله وبالله، وأن الإنسان يجب أن يتحرر لمولاه، هكذا علمه ربه: قال تعالي } قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163){ [الأنعام].
ولهذا كان (ﷺ) المسلم الأول في كل أمر، المسلم الأول في عبادته إذا تعبد، في ذكره إذا ذكر، في دعائه إذا دعا، في خُلقه إذا تخلق، في جهاده إذا جاهد.
- كان المسلم الأول في عبادته لله، ولم تكن عبادته مجرد تسديد خانة، أو امتثالا لأمر، بل كانت عبادته عبادة الحب والشوق إلى الله سبحانه وتعالى.
كان إذا قرب وقت الصلاة يتشوق إليها ويحن لها، ينتظر وقتها بفارغ الصبر، حتى إذا حان الوقت قال لمؤذنه: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة" [رواه أبو داود ، وأحمد].
وما أعظم الفرق بين من يقول: أرحنا بها، ومن يقول: أرحنا منها.
إنها صلاة الحب، لا مجرد صلاة الأمر، إنه كان يجد فيها نفسه، يجد فيها غذاء قلبه، وانشراح صدره، وحياة روحه، وقرة عينه، وقد قال (ﷺ): "... وجعلت قرة عيني في الصلاة" [رواه النسائي، وأحمد].
- كان يصلي الصلوات الخمس في ميقاتها، في جماعتها، بخشوعها، وركوعها، وسجودها، وإسباغ وضوئها، وما كان يكتفي بها، بل كان له صلوات.
حال الرسول (ﷺ) مع الليل
كان النبي (ﷺ) يصلي من الليل، ما كانت متاعبه لتشغله عن وقوفه بين يدي ربه، إذا جن الليل، وأرخى ستوره، وغارت النجوم، وهدأت العيون، وأوى كل ذي فراش إلى فراشه، كان يقوم من الليل، ويصف قدميه مصليا لله عز وجل، ويناجيه فعن ابن عباس رضي الله عنهما ،كان رسول الله (ﷺ) يقول: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وما أسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت" [متفق عليه].
هذا هو النبي العظيم(ﷺ) ، ما شغلته متاعب الحياة، ومتاعب الدعوة، وما شغلته حياته الخاصة، تسع نسوة لهن مطالب، ولهن حاجات، ولهن تطلعات، ومسلمون لهم حاجات، ولهم مطالب، وعليه توجيههم وهدايتهم، وجبهات تقف له بالمرصاد، تريد أن تقتلع جذوره، وأن تهدم دعوته من أساسها: الجبهة الوثنية، والجبهة اليهودية، والجبهة النصرانية البيزنطية، والجبهة المجوسية المتربصة، والطابور الخامس من المنافقين الذين يعلنون الإسلام ويبطنون الكفر قال تعالي }يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9){[البقرة].
متاعب الحياة، ومتاعب الدعوة وهمومها، ما كانت لتشغله أن يقف بالليل مع ربه.
يقف ويطيل الوقوف حتى تتورم قدماه، حتى تتفطر وتتشقق من طول القيام،
- حكى عنه حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي (ﷺ) ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبا من قيامه" [رواه مسلم].
إنها صلاة يشعر فيها بحلاوة العبادة، يجد حلاوتها في قلبه، فلا يمل ولا يضجر ولا يسأم، وأصحابه الذين كانوا أصغر منه سنا، وأقوى منه شبابا، ما كانوا يصبرون على هذه الصلاة الطويلة، حتى قال ابن مسعود، وهو من الصحابة: "صليت مع النبي (ﷺ) ليلة، فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قيل: ما هممت؟، قال: هممت أن أجلس وأدعه" [متفق عليه]، لم يصبر على طول القيام.
"كان النبي (ﷺ) يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام فقالت له زوجته عائشة مشفقة عليه: لِمَ تصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟" [متفق عليه].
أي أن هذه المغفرة تجعلني أزداد في الإقبال على الله؛ شكراً لنعمته، ووفاءً بحقه، وقياماً بحبه، هكذا كان (ﷺ).
كان متعبدا لله عز وجل عبادة الخشية، وعبادة المحبة، كان يصلي ويطيل السجود، ويطيل الركوع، ويطيل القيام، وله في سجوده وركوعه وما بين التكبيرات أدعية وأذكار تملأ القلب بالخشية والخشوع، وتهز كيان النفس هزا، ما أحوجنا أن نقرأها ونحفظها وندعو له!.
فعن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله (ﷺ) إذا ركع يقول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" [رواه مسلم وأبو داود، والنسائي].
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول (ﷺ): "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" [رواه مسلم].
وإذا قام من ركوعه يقول عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) : "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". [رواه مسلم ،وأبو داود، والنسائي].
وكان إذا سجد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين" [رواه مسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
وفيما بين السجدتين يقول عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ): "رب اغفر لي وارحمني، واجبرني وارفعني، وارزقني واهدني" [رواه البيهقي في سننه ، ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم].
هكذا كانت صلاته صلى الله عليه وسلم، صلاة الخشية.. صلاة الحب.
حال النبي (ﷺ) مع القرآن الكريم :
كان أكمل الأحوال، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه كثير المُدارسة له، وكان يتدارسه مع جبريل عليه السلام، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: }وكانَ جبْريل عليه السَّلَام يلقاه في كُلِّ ليْلةٍ مِن رمضان فيُدَارِسُه القُرْآن{ ]رواه البخاري[
قال الكرماني: "(فيدارسه القرآن) ومعناه أنهما يتناوبان في قراءة القرآن ، وكذلك كان (ﷺ) يتدارس القرآن مع أصحابه، ويستمع إليه منهم. وكان إذا قام بالليل يصلِّي يُكْثر القراءة منه، ويترسَّل فيها، ويدعُو عند آيات الرحمة والعذاب منها، ويُنَزِّه ربَّه عند آيات التسبيح، وكان (ﷺ) يقرأ القرآن الكريم على جميع أحواله حتى وهو يسير على دابَّته، فعن عبد الله بْن مُغَفَّلٍ رضي الله عنه أنه قال: "رَأَيْتُ النبيَّ (ﷺ)  يقرأ وهو على ناقَتِه أوْ جَمَلِه، وهي تسِير به، وهو يَقْرَأُ سُورةَ الفَتْح أوْ مِن سُورَةِ الفَتْحِ" ]رواه البخاري[.
قال ابن القيم في كتابه "زاد المعاد": كان له (ﷺ) حِزب يقرؤه ولا يُخِلُّ به، وكانت قراءتُه ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قِراءةً مفسَّرة حرفاً حرفاً، وكان يُقَطِّع قراءته آية آية، وكان يمدُّ عند حروف المد، فيمد (الرحمن)، ويمد (الرحيم)، وكان يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم في أول قراءته، فيقول: (أعُوذُ بِاللهِ من الشَّيطان الرجيم)، ورُبَّما كان يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم من هَمْزِهِ ونَفْخِهِ، ونَفثِهِ" وكان تعوّذُه قبلَ القراءة، وكان يُحبُّ أن يسمع القراَنَ مِن غيره، وأمر عبد اللّه بن مسعود فقرأ عليه وهو يسمع، وخَشَع (ﷺ) لسماع القرآن مِنه حتى ذرفت عيناه. وكان يقرأ القراَن قائماً، وقاعداً، ومضطجعاً، ومتوضئاً، ومُحْدِثاً، ولم يكن يمنعه من قِراءته إلا الجنابة، وكان (ﷺ) يتغنَّى به، ويُرجِّع صوتَه به أحياناً كما رجَّع يوم الفتح في قراءته: {إنَّا فتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً(1)}]الفتح[
بكاء النبي (ﷺ) عند سماعه للقرآن:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله (ﷺ): اقرأ عليَّ القرآن، فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك، وعليك أُنزِل؟ فقال: نعم، فإني أُحِبُّ أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فافتتحتُ سورة النساء فلما بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا(41)}]النساء[
قال: حسبُكَ الآن، فالتفتُ إليه فإذا عيناه تذْرِفان (تسيل دموعهما{ رواه البخاري. قال ابن بطال: "كان بكاء النبي لهذه الآية لأنه مثَّل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن".
ـ وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي (ﷺ) تلا قول الله عز وجل في إبراهيمَ عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(36)}]إبراهيم[،
وقال عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم(118)}]المائدة[
فرفعَ يديهِ وقال: اللهمَّ! أُمَّتي أُمَّتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد،  وربُّكَ أعلم ، فسَلهُ ما يُبكيكَ؟، فأتاهُ جبريل عليهِ الصلاة والسلام فسَأله، فأخبره رسول الله (ﷺ) بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهبْ إلى محمدٍ فقلْ: إنَّا سنُرضيكَ في أُمَّتكَ ولا نَسُوءُك{ ]رواه مسلم[.
وفي رواية لأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى رسول الله (ﷺ) ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم(118)} ]المائدة[، فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟! قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله عز وجل شيئا{.
ـ وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شِبْتَ!، قال (ﷺ): }شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت{ ]رواه الترمذي وصححه الألباني[.
وفي رواية: (شيبتني هود وأخواتها).
قال الطيبي: "قال العلماء: لعل ذلك لما فيهن من التخويف الفظيع، والوعيد الشديد لاشتمالهن مع قصرهن على حكاية أهوال الآخرة وعجائبها وفظائعها، وأحوال الهالكين والمعذبين، مع ما في بعضهن من الأمر بالاستقامة.."
لقد كان حال وهدي النبي (ﷺ) مع القرآن الكريم هو العمل به، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وتدبره والتفكر في آياته، والبكاء عند تلاوته أو الاستماع إليه، وقد أجملت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حال النبي (ﷺ)مع القرآن الكريم بقولها: (كان خلقه القرآن).
فليكن لنا في حال النبي (ﷺ) مع القرآن الكريم تلاوة واستماعاً، وتفكرا وتدبُّراً، وخُلُقا وعملا القدوة والأسوة، لنسعد في الدنيا والآخرة.
حال الرسول (ﷺ) مع الصيام :
أما صيامه، فكان يصوم رمضان، هذا الشهر الكريم الذي كان يعتبره موسما لطاعة الله والإقبال عليه، فإذا جاء رمضان كان مع جبريل يدارسه القرآن، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
"وكان إذا دخل العشر الأواخر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" [رواه الستة إلا الترمذي عن عائشة]، واعتكف في المسجد، اعتزل عزلة مؤقتة عن شواغل الحياة لعبادة الله عز وجل.
كان(ﷺ) قبل رمضان يقوم بعض الليل وينام بعضه، ولكن في هذه العشر الأواخر يحيي الليل كله لعبادة الله، ويوقظ أهله (نساءه)، ليشاركنه هذا المغنم، هذا الخير، ما كان يحب أن يكون وحده في طاعة الله، روت عنه أم سلمة: أنه استيقظ ليلة، فقال: "سبحان الله!، ما أنزل الليلة من الفتن؟، ماذا أنزل من الخزائن؟، من يوقظ صواحب الحجرات؟ -يعني نساءه- يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة". [رواه البخاري في كتاب التهجد من صحيحه].
هكذا كان (ﷺ) يصوم ويقوم، ولم يكن يكتفي بصيام رمضان، كما لم يكن يكتفي بالصلوات الخمس.
كان يصوم الأيام البيض من كل شهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر [من حديث جرير رضي الله عنه، رواه النسائي بإسناد جيد، والبيهقي]، وكان يصوم الاثنين والخميس، ولما سُئل في ذلك كما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه قال رسول الله (ﷺ): "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" [رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن غريب، وروى النسائي].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :كان يصوم حتى يقال لا يُفطر، ويُفطر حتى يُقال لا يصوم، وكان أحيانا يصوم ويُواصل الصيام، وينهى أصحابه عن الوصال رفقا بهم، فيقولون له: إنك تواصل يا رسول الله، فيقول: "وأيكم مثلي؟، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" [متفق عليه].
لا تظنوا أنه يطعمه اللحم والأرز، أو الفاكهة، أو يسقيه الماء، لا إنه غذاء آخر، وشراب من نوع آخر.
وكان (ﷺ) يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، واعتكف نساؤه معه ومن بعده، وكان يدخل المعتكف إذا صلى الغداة (الفجر) واستأذنته عائشة في أن تعتكف فأذن لها، فضربت فيه قبة خباء أو خيمة- فسمعت حفصة فضربت قبة، وسمعت زينب بها فضربت قبة أخرى، فلما انصرف رسول الله (ﷺ) بالغداة أبصر أربع قباب، فقال: «ما هذا؟» فأخبر خبرهن، فقال: «ما حملهن على هذا البر، انزعوهن فلا أراها»، فنزعت.
وهذا دليل على أن العمل ينبغي أن يبتغي به وجه الله، ولا يُفعل على وجه التقليد للغير، أو مجرد مصاحبته دون قصد البر والقربة، وكان يخرج من المعتكف لقضاء الحاجة.
وكان يحرص على إدراك ليلة القدر ويتحراها ويأمر بتحريها في العشر الأواخر، وربما كان اعتكافه لهذا الغرض، فإنه (ﷺ) كان يعتكف العشر الوسطى من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج في صبحها من اعتكافه  قال:}من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر{.
إنه غذاء القلب، وشراب الروح، إنه مشغول بمعرفة ربه وحبه وخشيته، لذلك شغله هذا عن الشراب والطعام والدنيا، كما قال القائل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلهـا              عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضــاء له                 ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها            روح القدوم فتحيا عند ميعاد
من في الناس يصل إلى هذه المرحلة؟!.
إن في الحديث عن عبادته (ﷺ) ، عن هذا الجانب الرباني من سيرته يطول،
ولا يمكن أن تتحقق هذه العبادة العظيمة إلا من إنسان عظيم يخمل بين جوانح قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وبدناً صابراً على طاعة الله وعبادته .
إن هذا القلب قلب النبي المحب لربه، الخائف من عذابه، الراجي لرحمته، المقبل عليه بكل همته، إنه دليل من أسطع الأدلة على أنه رسول الله (ﷺ) ،على أنه يتكلم عن الله، لا يتكلم عن هواه، ولا يصدر من عند نفسه }وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4){ [النجم].                    
صلى الله عليك وسلم يا رسول الله، وجعلنا الله من المهتدين بهديك، المقتدين
بسنتك:}لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21){ [الأحزاب].
الهدف من التربية الروحية :
الهدف من التربية الروحية في الإسلام أو تزكية النفس، أو السير إلى الله سبحانه وتعالى :هو الانتقال من نفس مضطربة إلى نفس مطمئنة، ومن عقل شارد، إلى عقل عارف بالله تعالى.
أثر التربية الروحية عند النبي (ﷺ)
قوة اليقين  بالله تعالى في قلب النبي (ﷺ)..
لقد تعرض سيدنا رسول الله (ﷺ) لشتى المواقف الصعبة، وبخاصة أثناء هجرته من مكة إلى المدينة عندما وقف المشركون على باب الغار الذي فيه النبي  صلى الله عليه وسلم وصحبه، وسمع أبو بكر الصديق أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له النبي (ﷺ):  }إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ (40){.
كانت شدة صلته (ﷺ) بالله تعالى، وقوة معنوياته الروحانية تسليةً لضغوطه النفسية، وتخفيفا لهمومه الاجتماعية.
بذلك كانت العناية الإلهية ترعاه (ﷺ) في باطنه وظاهره، وتزوده بقوة وجدانية خارقة، فكانت نفسه (ﷺ) بذلك غنية،  تعرض عليه الدنيا من قبل سفير قريش عتبة بن ربيعة فيرفضها رفضا، فيقول له: «يَا ابْنَ أَخِي ، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا ، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا» .
لكن قوته الروحانية تجعله (ﷺ) يرد على كل الإغراءات والتهديدات بقوله: « يَا عَمُّ ، وَاَللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ ، مَا تَرَكْتُهُ» 
يعلمنا سيدنا رسول الله (ﷺ) أن الفراغ الروحي لا يملؤه المال، ولا السلطة، ولا المكانة، ولا المتعة.
إن الفراغ الروحي  لا يملؤه إلا عبادة الله تعالى، وهذا ما يعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة الغنى بقوله: « لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» البخاري.
فما أحوجنا إلي الاهتمام بالجانب الروحي وتقوية الصلة بالله تعالي ...
ألك أيها المسلم وأيتها المسلمة مع الله خلوة ؟
ألك مع الله مناجاة ؟
هل خصصت وقتا تتأمل فيه وتفكر في هذا الكون المبدع؟
وماذا بعد هذه الحياة الدنيا؟
وماذا أعددت للحياة الآخرة؟
تأمل في قوله تعالى: }قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104){ ]الكهف[.

أسأل الله العظيم أن يأخذ بأيدينا إليه أخذ الكرام عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه .

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=347469 

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=347467

ليست هناك تعليقات:

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...