الحمد لله رب العالمين، الذي شرف أهل العلم ورفع منزلتهم على سائر الخلق، فقال تعالي }يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ (11){ [المجادلة].
وأشهد أن لا إله إلا الله .. وحده لا شريك له ..قرن أهل العلم بذاته العلية وملائكته في الشهادة بوحدانيته والإقرار بعدالته فقال تعالي }شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ(18){[آل عمران].
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله (ﷺ) حث علي طلب العلم فقال صلي الله عليه وسلم ، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ):}مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن في السَّمواتِ ومن في الأرضِ ، حتَّى الحيتانِ في الماءِ ، وفضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ ، وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ{ ] أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وأحمد[
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أما بعد : فيا أيها المؤمنون..
لقد اهتم الإسلام بقضية العلم والمعرفة ،وإعمال العقل وأولاها اهتماماً كبيراَ ، لأنه سر نهضة الأمم وتقدم الشعوب، وقد بدا ذلك واضحا مع أول آيات القرآن نزولاً في سورة العلق فقال تعالي }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5){ ]العلق[ .
لذلك كان حديثنا عن "العلم سر نهضـة الأمم وتقدم الشعوب" وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ حاجة الناس إلي العلم والمعرفة .
2ـ منزلة العلم والعلماء في الإسلام.
3ـ اهتمام السلف بأولادهم وتشجيعهم على طلب العلم.
4 ـ صور رائعة من توقير الخلفاء لأهل العلم.
5ـ الاهتمام بالتخصصات العلمية.
6 ـ العلم سر نهضة الأمم وتقدم الشعوب .
7ـ الخاتمة .
العنصر الأول : حاجة الناس إلى العلم والمعرقة:
إن قضية التعليم من أهم وأخطر القضايا في حياتنا ؛ وذلك لأمرين :
أولهما : أن صلاح الحياة وإصلاح الأحياء يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإصلاح التعليم لذا فقد قيل : اثنان إذا صلحا صلح أمر الناس وإذا فسدا فسد أمر الناس : الأمراء والعلماء .
وعن هلال بن خباب قال: قلت لسعيد بن جبير: يا أبا عبد الله ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك فقهاؤهم هلكوا ".
قال الخطيب البغدادي : الفقيه والمتفقة . أي العالم والمتعلم .
ودخل محمد بن زياد مؤدِّب الواثق على الواثق ، فأظهر إكرامه ، وأكثر إعظامَه ، فقيل له : مَنْ هذا أيا أمير المؤمنين ؟ قال هذا أولُ من فَتق لساني بِذِكْرِ اللَهِ ، وأدْناني من رحمة اللّه .
وقيلَ للإسكندر : ما بالُ تعظيمك لمؤدِّبك أكثر من تعظيمك لأبيك ؟ قال : لأنَ أبي سبَبُ حياتي الفانية ومؤدِّبي سببُ حياتي الباقية .
وثانيهما : أن قضية إصلاح التعليم من القضايا الشائكة والمتشابكة لأنها لا تهم ولا تخص فرداً بعينه ولا طائفة بشخصها فقضايا الاقتصاد تخص أهل الاقتصاد وقضايا الطب تخص أهل الطب، وقضايا أرباب الحرف تخصهم ،وهم أولى الناس بحل مشاكلها وهكذا ؛ أما قضية التعليم فهي قضية تخص المجتمع كله بل والأمة بأسرها
قال الإمام أحمد : الناس مُحْتَاجُون إلى العِلْم أكثر مِن حاجتهم إلى الطعام والشراب ؛ لأن الطعام والشراب يُحْتَاج إليه في اليوم مرة أو مرتين ، والعِلْم يُحْتَاج إليه بِعَدَد الأنفاس .
وقال ابن القيم : "حَاجة الناس إلى الشَّريعة ضَرورية فَوق حَاجتهم إلى كل شيء ، والْحَاجَة إلى الشريعة أشدّ مِن الحاجة إلى الـتَّنَفُّس فَضْلا عَن الطعام والشَّراب لأن غاية ما يُقَدَّر في عدم الـتَّنَفُّس والطعام والشَّرَاب مَوْت البَدن وتَعَطُّل الرُّوح عنه ، وأما ما يُقَدَّر عند عَدَم الشَريعة فَفَسَاد الرُّوح والقَلب جُمْلة ، وهَلاك الأبدان .
وشتان بَين هذا وهلاك البَدن بالموت " اهـ .
والعِلْم الذي يحتاجه الناس هو العِلْم الْمُوصِل إلى الله وإلى رِضوانه وإلى دار كرامته ولَمَّا كان العِلْم الشَّرْعِيّ بهذه المثابة كان ولا بُدّ أن تكون العُلوم الأخرى خادِمة لهذا العِلْم ، وسالِكة طَرِيقَه ، ومُوصِلة إلى ما يُوصِل إليه ..
فلا تكون علوما آلية جامدة ، بل تكون علوما تربط المسلم بِربِّـه ،وتُوصِله إليه ، وتَزيد في إيمانه.
ورحم الله الشاعر :
لولا العلم ما سعدت نفوس ولا عرف الحلال من الحرام
فبالعلم النجاة من المخازي وبالجهل المذلة والرغام
هو الهادي الدليل إلي المعالي ومصباح يضئ به الظلام
ورحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي :
تَـرْكُ النُّفُـوسِ بِلا عِلْمٍ وَلا أَدَبٍ تَرْكُ الْمَرِيضِ بِلا طِـبٍّ وَلا آسِ
العنصر الثاني : منزلة العلم والعلماء في الإسلام.
إن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب وأفضل ما طلب وجدَّ فيه الطالب وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب لأن شرفه يثمر علي صاحبه وفضله ينمي علي طالبه .
فمن هذا الفضل ما يلي :
1ـ أول ما نزل من القرآن :
لأهمية العلم في حياة الناس كانت بداية الوحي الإلهي توصي بالقراءة ،لأننا أمة اقرأ ،فقال تعالي }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5){ ]العلق[.
2ـ قسم الله تعالي :
لمكانة العلم ومنزلته في الإسلام أقسم الله عز وجل بأدوات العلم والتعلم فقال تعالي }ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) { ]القلم[
وقال تعالي }وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3){ ]الطور[.
3ـ العلماء شهداء علي وحدانية الله عز وجل :
يقول الله عز وجل في أعظم شهادة في القرآن: }شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (18){ [آل عمران].
ذكر الإمام ابن القيم أن في هذه الآية عشرة أوجه تدل على شرف العلم وفضل العلماء ومنها:ـ
1ـ أن الله عز وجل استشهدهم من بين سائر الخلق.
2ـ وضمَّ شهادتهم إلى شهادته تعالى.
3ـ وضم شهادتهم إلى شهادة ملائكته.
4ـ وكونه تعالى استشهدهم فمعناه أنه عدَّلهم؛ لأنه لا يمكن أن يستشهد بقولهم إلا وأنهم عدول.
وفي هذا جاء الأثر: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ".
5ـ جعلهم الله تعالى هم والأنبياء في وصف واحد، فلم يفرد الأنبياء عن العلماء، فأشهد نفسه، ثم أشهد ملائكته ثم أشهد أولي العلم، الذين على رأسهم الأنبياء، ومن ضمنهم العلماء.
6ـ أنه أشهدهم على أعظم مشهود به، وهذه أجلُّ وأعظم شهادة في القرآن؛ لأن المشهود به هو: شهادة: أن لا إله إلا الله. التي لا يعدلها شيء.
4ـ المكانة العالية الرفيعة :
يقول سبحانه: }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(11){[المجادلة].
رفع الله درجاتهم في الدنيا والآخرة، في الدنيا رفع ذكرهم عند الخلق، ورفع مكانتهم ومنزلتهم.
وأما في الآخرة فلهم الدرجات العلى، وأي شرف وأي منزلة أعظم من ذلك.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ { . ]سنن الدارمي[ .
ويؤكد هذه المكانة العالية تقديم العلماء على غيرهم بصرف النظر عن مناصبهم ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو أن نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى. قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى!
قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تعالى، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ (ﷺ) قَدْ قَالَ:}إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ{. ]رواه مسلم[
5 ـ الطريق إلي معرفة الله عز وجل ومعرفة آيات الله تعالي :
يقول سبحانه: }وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ(6){ [سبأ].
ويقول جل وعز: }وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ(43){ [العنكبوت].
ولهذا قال بعض السلف: "إذا استعصى عليَّ فَهم مَثَلٍ في القرآن حزنت لذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: }وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ(43){ [ العنكبوت].
لذلك وصفهم الله عز وجل بأنهم أشد الناس خشية من الله تعالي ، يقول الله عز وجل: }إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ(28){ [فاطر].
والسبب في ذلك أنهم أعلم الخلق بالله عز وجل وكلما ازداد الإنسان معرفةً بربه وخالقه ومعبوده ازدادت خشيته.
6ـ الخيرية عند الله تعالي :
قال تعالي }قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(9){ [الزمر].
وهذا أيضًا يدل على غاية فضلهم وشرفهم، كما أنه لم يساو بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، فكذلك لم يساو بين مَن يعلم ومن لا يعلم.
ويقول جل وعز }أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ(19){ [الرعد]
ولهذا وصف سائر الخلق بالعمى إلا من أوتي العلم.
ولهذا لاحظوا يرعاكم الله كم مرَّ عبر التاريخ من الملوك والأمراء والعظماء والتجار والمخترعون انتهوا بمماتهم، فانتهى ذكرهم، فقد يأتي ذكرهم عابرًا في صفحات التاريخ، ولكن أهل العلم، ذِكرهم يتجدد مع الزمان، لا يُذكَرون إلا ويُترحَّم عليهم، أجسادهم مفقودة، لكن آثارهم باقية بين أيدينا.
قبل مئات السنين جاء الإمام أحمد، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، والإمام البخاري، والإمام مسلم، أعلام ما زال ذكرهم عاليًا بين الخلق، منهم من مات في مقتبل عمره مثل الإمام النووي رحمه الله فقد مات في العِقد الرابع من عمره، ومع ذلك ما زال ذِكره يطبق مشارق الأرض ومغاربها.
هذه مؤلفاته بين أيدينا تقرأ صباحَ مساءَ، وكلما ذُكر ترحم عليه، فأي شرف وأي منزلة هذه، هذا ذكرهم في الدنيا، وقد أعد الله عز وجل لهم من الأجر في الآخرة أضعافَ أضعافَ ذلك.
وفي صحيح مسلم: }إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثَةٍ{.وذكر: }أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ{ ]أخرجه مسلم[.
ويقول سبحانه: }أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا(122){ [الأنعام].
فأهل العلم هم حياة القلوب، وما معهم من العلم هو النور الذي يهتدون به في ظلمات البر والبحر.
ولما هلك صاحب الشجة، الذي سأل أصحاب النبي (ﷺ) حين أصابته شجة في رأسه وكانوا في البرد هل له رخصة في التيمم ؟ ، فقالوا: لا نجد لك رخصة عن الغسل. فاغتسل فمات، فذُكِر ذلك للنبي (ﷺ) فقال: }قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، ألَّا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ{
لذلك روي ابن عباس رضي الله عنهما ،أن النبي (ﷺ) قال: }فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد { ]أخرجه ابن ماجه[
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ):}فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ{ ] صحيح الترمذي[
الله أكبر، فضل العالم على العابد وليس على سائر الناس، العابد الذي لزم المسجد في الصلاة والصيام والقيام والاستغفار والتوبة، كفضل النبي (ﷺ)على أدنى واحد من أمته.
وهل هناك أدنى تقارب بين الفضلين؟ كذلك العالم مع سائر الخلق.
وما ثبت في الصحيحين، عن معاوية بن ألي سفيان رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ) أنه قال: }مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ{ ] البخاري ومسلم[
منطوق الحديث أن من أراد الله به خيرًا وَفَّقه لهذا العلم.
وهذا ما ذهب إليه كثيرٌ من أهل العلم. وكما في الصحيحين: عن أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:}مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلاَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلاَ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ{ .
وهذه الطائفة هم أهل العلم، هم الذين تلقوا عن النبي (ﷺ) أقواله وأفعاله، فحفظوها للناس، فانتفع الخلق جميعًا من هذا العلم بفضل حفظ هؤلاء، ونقل هؤلاء ، ونشر هؤلاء.
ويقول سبحانه:}وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا(83){ [النساء].
قال المفسرون: إن أولي الأمر هنا هم العلماء، كما أن أولي الأمر في قوله سبحانه: }أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ(59){ [النساء].
على قول ابن عباس وغيره أنهم العلماء، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : أن هذه الآية تشمل أولي الأمر أولي السلطان، وأيضًا أولي الأمر تشمل العلماء.
ومما أثر عن سيدنا علي رضي الله عنه :
وما الفخــــر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهـلون لأهل العـلم أعداء
فـفـز بعلم تعش حيـا ً به أبــدا الناس موتى وأهل العلم أحياء
وقال أيضا لكميل بن زياد "يا كميل العلم خير من المال العلم يحرسك و أنت تحرس المال و العلم حاكم و المال محكوم عليه و المال تنقصه النفقة و المال يزكوا بالإنفاق، مات خزان الأموال ،وبقي خزان العلم ،أعيانهم مفقودة ، وأشخاصهم في القلوب موجودة " .
وقال أبو الأسود الدؤلي : ليس شيء أعز من العلم ، الملوك حكام علي الناس والعلماء حكام علي الملوك .
وهذا الشافعي رحمه الله يقول: "إن لم يكن الفقهاء أولياء لله في الآخرة فما لله ولي".
ويقول سفيان الثوري: "اطلبوا العلم؛ فإنه شرف في الدنيا، وشرف في الآخرة"
يقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو من علماء الصحابة الأفذاذ: "والذي نفسي بيده، ليودَّنَّ رجالٌ قُتلوا في سبيل الله شهداء، أن يبعثهم الله علماء؛ لما يرون من كرامتهم" أي من كرامة العلماء".
وقال الحسن البصري رضي الله عنه :" يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء بدم الشهداء" .
7 ـ العلم طريق إلي الجنة :
عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي (ﷺ) قال :}مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا ،سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ { ]أبو داود وابن ماجه والترمذي بسند صحيح[
8 ـ طلب العلم فريضة وجهاد :
أخبر الرسول (ﷺ) في قوله: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" [أخرجه ابن ماجه في سننه وصحّحه الألباني]
ما أخرج ابن عبد البر من حديث معاذ بن جبل رضى الله عنه الذي يقول فيه }تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام .
يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمة يقتص آثارهم، ويحتذى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في ظلهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه {
وفي الحديث: }مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَنَا هَذَا لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا، أَوْ لِيُعَلِّمَهُ، كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ{. رواه أحمد بسند صحيح.
وفي الحديث الآخر: قال رسول الله (ﷺ) }مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ{ ]أخرجه الطبراني[.
9ـ العلم ميراث النبوة :
عن أبي هريرة أنه مر بسوق المدينة ، فوقف عليها ، فقال : "يا أهل السوق ، ما أعجزكم ” قالوا : وما ذاك يا أبا هريرة ؟ قال : ذاك ميراث رسول الله (ﷺ) يقسم ، وأنتم هاهنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه ” قالوا : وأين هو ؟ قال : في المسجد ” فخرجوا سراعا إلى المسجد ، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا ، فقال لهم : ما لكم ؟ قالوا : يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد ، فدخلنا ، فلم نر فيه شيئا يقسم . فقال لهم أبو هريرة : أما رأيتم في المسجد أحدا ؟ قالوا : بلى ، رأينا قوما يصلون ، وقوما يقرءون القرآن ، وقوما يتذاكرون الحلال والحرام ، فقال لهم أبو هريرة : ويحكم ،
فذاك ميراث (ﷺ)".
أيها الأخوة: لو وجد عندنا أثر من آثار النبي (ﷺ) لو ثبت عندنا أن هذه صحفة النبي (ﷺ) التي كان يأكل فيها، أو هذا الحصير الذي كان يجلس عليه، لَتقاتل الناس على هذا الأثر، فكيف لو كان هذا الأثر ملتصقًا بجسمه كشعَره لربما بذل فيه الغالي والنفيس، فما ظنكم بشيء موجود عندنا من أعظم آثار النبي (ﷺ) ألا وهو شرعه، ووحيه عليه الصلاة والسلام بين أيدينا أعظم وأرفع من آثاره المادية، مبذول كلٌّ يستطيع الأخذ به، وهذا هو ميراث النبوة، ليس ميراث النبوة المال والعقار، بل ميراث النبوة هذا العلم وهذا الوحي، وهو مشاع، ليس خاصًّا لفئة بعينها.
ميراثه عليه الصلاة والسلام ليس خاصًّا لذريته، أو لبني هاشم، أو لبني عبد المطلب، بل لكل من أراد أن ينال هذا الميراث، ألا وهو العلم.
يقول ابن القيم: وقوله: }العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ{
دليل على أنهم أقرب الناس إلى الأنبياء؛ في الفضل والمكانة والمنزلة؛ لأن أقرب الناس إلى المورث ورثته، ولهذا كانوا أحقَّ بالميراث من غيرهم، كذلك العلماء أحق الناس بالنبي (ﷺ) وأقرب الناس بالنبي (ﷺ) هم أهل العلم" ]مفتاح السعادة لابن القيم[.
10ـ استغفار الله والملائكة وأهل السماوات وأهل الأرض لأهل العلم :ـ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) }إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ {
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
لو قيل لأحدنا: إن من في هذا المسجد يدعون لك، لما وسعته ثيابه من الفرح والسرور، وربما بقي الأيام والليالي وهو يتذكر هذه المنزلة العظيمة، أن أهل المسجد يستغفرون له، أو يدعون الله عز وجل له.
كيف يا أخي! هذا العالم يصلي عليه الله عز وجل من فوق سبع سماوات، يثني عليه، وتصلي عليه الملائكة، تدعو له، ويصلي عليه سائر الخلق، حتى البهائم، حتى النملة في جحرها، حتى الحوت في قعر البحر، يدعو ويصلي على هذا العالم. أي منزلة أعظم من هذه المنزلة؟ أي شرف أعظم من هذا الشرف؟
11ـ نضارة الوجه :
روي الترمذي بسند صحيح، أن النبي (ﷺ) قال:}نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا{.
«نَضَّرُ اللهُ» دعاءٌ من النبي (ﷺ) لهذا العالم، ولطالب العلم الذي تلقى عن النبي (ﷺ) كلامه ووحيه، فوعاه فَقِهه وبَلَّغه إلى الآخرين.
12 ـ صمام الأمان للأمة بعد الله عز وجل :
إن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فذهاب العلماء هلاك الناس، فهم صمام الأمان بعد الله عز وجل ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه: }إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا{ ]أخرجه أحمد ،والبخاري ، ومسلم[
ويقول الحسن: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء، ما طرد الليلُ النهارَ". وبهلاك العلماء يهلك الناس، كما سمعنا قول سعيد بن جبير، قيل: ما علامة هلاك الناس؟ قال: "هلاك علمائهم ".
ويقول عكرمة رضي الله عنه :"الدنيا كلها ظلمة إلا مجالس العلماء".
لا شك أن القرآن وحده لا يكفي، لا بد من أهل العلم؛ ليبينوا للأمة العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم.
وإلا إذا أخذ الإنسان النصوص بنفسه بعيدًا عن أهل العلم ضل وأضل، وما ضل أكثر الفرق وأكثر الطوائف إلا لأنهم اعتمدوا على عقولهم، وعلى أنفسهم، وأخذوا شطرًا وجزءًا من هذه النصوص.
فالخوارج أخذوا بنصوص الوعيد، وتركوا نصوص الوعد، والمرجئة أخذوا نصوص الوعد، وتركوا نصوص الوعيد، والمعتزلة النفاة أخذوا النصوص التي فيها إثبات فعل العبد، والجهمية والمعطلة أخذوا النصوص التي فيها تنزيه الرب.
أما أهل العلم، الذين أنار الله عز وجل بصائرهم وأبصارهم، فأخذوا كلام الله عز وجل متكاملاً، وعرفوا الخاص والعام، والمقيد والمطلق، والناسخ والمنسوخ، وجمعوا بين كلام الله عز وجل ولهذا سلموا، وسلم من اقتفى أثرهم.
ولذلك قال القائل:
الأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا وَإِنْ يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا وَإِنْ أَبَى حَلَّ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
13 ـ النيل منهم نيل من رسول الله (ﷺ):
حذر الإسلام من إيذاء العلماء فيقول عكرمة رحمه الله: "إياكم أن تؤذوا أحدًا من العلماء، فإن مَن آذى عالمًا فقد آذى رسول الله (ﷺ) لأنهم حملة كلام الرسول (ﷺ) الذائدون عن حياضه، المنافحون عن كلامه، رحمهم الله.
العنصر الثالث : اهتمام السلف بأولادهم وتشجيعهم على طلب العلم :
لقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة على تشجيع أولادهم وحثهم على طلب العلم وإنفاق الغالي والنفيس في ذلك ،فعن وكيع بن الجراح، قال: قالت أم سفيان الثوري لسفيان: "يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي".
هشام ابن عمار :
قال هشام بن عمار رحمه الله: "باع أبي بيتاً بعشرين ديناراً وجهزني للحج فلما وصلت المدينة أتيت مجلس الإمام مالك رحمه الله وهو جالس في مجلسه في هيئة الملوك والناس يسألونه وهو يجيبهم فلما حان دوري قلت له: حدثني فقال لا، بل اقرأ أنت فقلت لا بل حدثني ، فلما راددته وجادلته غضب وقال: يا غلام تعال أذهب بهذا فاضربه خمسة عشر، قال: فذهب بي فضربني ثم ردني إلى مالك فقلت :قد ظلمتني فإن أبي باع منزله وأرسلني إليك أتشرف بالسماع منك وطلب العلم على يديك ، فضربتني خمسة عشر دُرّة بغير جرم ، لا أجعلك في حل، فقال مالك، فما كفارة هذا الظلم؟ فقلت كفارته أن تُحدثني بخمسة عشر حديثاً ،فقال هشام: فحدثني مالك بخمسة عشر حديثاً فلما انتهى منها قلت له: زد في الضرب وزد في الحديث، فضحك مالك وقال لي: اذهب وانصرف". (معرفة القراء الكبار للذهبي).
ربيعة الراي :
قال عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: حدثني مشايخ أهل المدينة أن فروخاً أبا ربيعة الرأي خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله، أتهجم على منزلي فقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي، فتؤاثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان وأنت مع امرأتي؛ وكثر الضجيج، فلما أبصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه فخرجت وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا.
فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني فقالت: نعم، قال: أخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام، ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن بن زيد وابن أبي علي اللهبي والمساحقي وأشراف أهل المدينة وأحدق الناس به، فقالت امرأته لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله (ﷺ) ، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة فأتاها فوقف عليها فأفرجوا له قليلاً فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه يره، وعليه دنية طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال: فقد رفع الله ابني !، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه فقال: لا والله بل هذا، فقالت: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فو الله ما ضيعته".(ابن خلكان : وفيات الأعيان) .
ولا شك أن الارتقاء بمستوى المتعلم هدف أساسي, وذلك يكون بالاستغلال الأمثل لتكنولوجيا المعلومات, كما أن المتعلم يحتاج إلى تشجيع وتحفيز دائمين ؛ حتى يشعر بأنه شريك أساسي في العملية التعليمية ولا يكتفي بدور المتفرج .
حينما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز، وفدت الوفود من كل بلد لبيان حاجاتها وللتهنئة، فوفد عليه الحجازيون، فتقدم غلام هاشمي للكلام، وكان حديث السن، فقال عمر لينطلق من هو أسن منك.
فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين، إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فإذا منح الله عبداً لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام وعرف فضله من سمع خطابه، ولو أن الأمر يا أمير المؤمنين بالسن لكان في الأمة من هو أحق بمجلسك هذا منك.
فقال عمر: صدقت، قل ما بدا لك.
فقال الغلام: أصلح الله أمير المؤمنين، نحن وفد تهنئة لا وفد مرزئة، وقد أتيناك لمنَّ الله الذي منَّ علينا بك، ولم يقدمنا إليك رغبة أو رهبة، أما الرغبة فقد أتيناك من بلادنا، وأما الرغبة فقد أمنا جورك بعدلك. فقال عمر: عظني يا غلام، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، إن ناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم وطول أملهم وكثرة ثناء الناس عليهم فزلت بهم الأقدام فهووا في النار، فلا يغرنك حلم الله عنك وطول أملك وكثرة ثناء الناس عليك، فتزل قدمك، فتلحق بالقوم، فلا جعلك الله منهم، وألحقك بصالحي هذه الأمة، ثم سكت.
فقال عمر: كم عمر الغلام، فقيل له: ابن إحدى عشرة سنة، ثم سأل عنه فإذا هو من ولد سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهم، فأثنى عليه خيراً، ودعا له، وتمثَّل قائلاً:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهلُ
فإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذ التفت عليه المحافلُ
العنصر الرابع : صور رائعة من توقير الخلفاء لأهل العلم:
لقد بلغت مكانة العلماء مبلغا كبيرا ماديا ومعنويا ، حتى كانوا في المقدمة من الناس لذلك استطاعوا أن يؤدوا رسالتهم كما ينبغي مثلاً...
ـ قدم هارون الرشيد إلى الرقة في غرب بغداد فاستقبله أفراد من الحرس والشرطة، وعندما قدم عبد الله بن المبارك من نفس المكان خرج الناس عن بكرة أبيهم لاستقباله فنظرت جارية في قصر الخليفة إلى المنظر فقالت ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلى بشرط وأعوان.
ـ وهذا نموذج آخر … كان العالم المسلم (الكسائي) يربي ويؤدب ابني خليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد، وهما الأمين والمأمون وبعد انتهاء الدرس في أحد الأيام ، قام الإمام الكسائي فذهب الأمين والمأمون ليقدما نعلي المعلم له ، فاختلفا
فيمن يفعل ذلك ، وأخيراً اتفقا على أن يقدم كلاً منهما واحدة ..
ورفع الخبر إلى الرشيد ، فاستدعى الكسائي وقال له :من أعز الناس ؟ قال: لا أعلم أعز من أمير المؤمنين قال : بلى ،إن أعز الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل على تقديم نعليه وليا عهد المسلمين ، حتى يرضى كل منهما أن يقدم له واحدة فظن الكسائي أن ذلك أغضب الخليفة فاعتذر الكسائي ،فقال الرشيد : لو منعتهما لعاتبتك ، فإن ذلك رفع من قدرهما.
ـ وهذا موقف ثالث .. للإمام مالك ابن أنس رحمه الله تعالي: جاء هارون الرشيد ونزل في بيت الإمارة فطلب الإمام مالك بن أنس , ليأتي بموطئه ليقرأه عليه وعلى الأمين والمأمون ابني هارون الرشيد فنظر إليه مالك وقال: يا أمير المؤمنين إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي إلى أحد, فجاء هارون ووقف على باب مالك واستأذن, فأخبرت الجارية مالك بأن هارون أمير المؤمنين على باب البيت, فذهب واغتسل وارتدى خير ثيابه وتطيب, كل هذا وهارون على الباب, أذن له, فلما دخل قال : ما هذا يا مالك؟ طلبناك فامتنعت علينا, جئناك حبستنا على بابك؛ قال: أفدتك أن العلم يؤتى إليه ولا يأتي, أما أني حبستك على الباب فصحيح, لأني حينما أخبرت أنك تأتي ولم أكن أعلم في أي وقت, علمت أنك لا تأتي لمالك, لا لمال ولا لجاه ولا لشيء إلا للعلم, فأردت أن أكون على أحسن هيئة وأنا أدارسك العلم.
العنصر الخامس : الاهتمام بالتخصصات العلمية :
الاهتمام بالتخصص والعناية به والسعي لبلوغ الذروة فيه هو ما ينبغي أن يكون لمن يتصدُّون لتعليم الناس، فلا بدَّ من العناية به .
وقد اهتم الإسلام بالتخصصات حتى يبرع كلٌّ في مجاله ،و يفيد حتى قال تعالى: } فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43){ [النحل].
وقال (ﷺ):}أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكلِّ أمَّة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح{.]
رواه الترمذي[.
العنصر السادس: العلم سر نهضة الأمم وتقدم الشعوب:
العلم أساس نهضتنا ،ففي ظل تعاليم الإسلام السمحة وحضارته الوارفة وترغيبه في طلب العلم وتكريمه للعلماء نبغ المسلمون في العلوم كلها والتمسوا المعرفة من الشرق والغرب فترجموا كتب العلوم الفارسية واليونانية وغيرها، وشجع الخلفاء على هذه الحركة العلمية ، حتى كان الخليفة المتوكل يعطي حنين بن إسحاق أشهر المترجمين وزن ما يترجمه ذهباً، ولم يقتصر المسلمون على الترجمة، بل تابعوا البحث والدراسة، والتعديل والتطوير ، حتى ابتكروا وطوروا وسبقوا غيرهم .
ففي ظل إدراك المسلمين لحقيقة العلم وقيمته ، برز أبو بكر الرازي أول من عمل عملية إزالة الماء من العين، وفي مجال الطب نجد الأوربيون اعتمدوا على كتب الحاوي للطبري، والقانون لابن سينا، والموجز في الطب لابن النفيس، حيث درست الجامعات الأوربية هذه الكتب لسنوات عديدة.
وبرع جابر بن حيان في علم الجبر، واكتشف كثيرا من أسرار الكيمياء، وكتب جابر بن حيان الذي يُعد مؤسس علم الكيمياء ظلت تدرس في الجامعات الأوربية حتى القرن الثامن عشر
ولم تقتصر إضافات البحث العلمي في الإسلام على مجال الكيمياء والطب، بل إن البحث العلمي في الإسلام شمل مجالات أخرى، ففي علم البصريات نجد ابن الهيثم الذي قدم قياسات صحيحة في علم البحث البصريات.
وفي علم الجبر نجد العالم الكبير الخوارزمي، ويعد كتاب الجبر والمقابلة الذي قدمه هذا الكاتب من أهم وأفضل الكتب في هذا المجال.
وبرع العرب في علم الاجتماع، وتعد مقدمة ابن خلدون من أهم الكتب في هذا المجال، حيث قدم من خلاله الباحث العربي معلومات حول نشوء الدول وكيفية سقوطها وزوالها.
وسبر العرب علم الفلك ، فكانوا أول بناة للمراصد الفلكية في العالم، وأول صانعي المناظير [التليسكوبات] فضلا عن تقدمهم في فنون الهندسة المختلفة.
ومحاولة الطيران في السماء التي كان أول من فكر فيها عباس بن فرناس.
ولقد أشاد العلماء الأوربيون بفضل الأبحاث العلمية التي قدمها المسلمون والتي كانت من أهم وأبرز أسباب تطورهم وتقدمهم.
لقد ذكر مؤرخوا الغرب غوستاف لوبون وجورج سارتون وبيري فولت وغيرهم ، أن المسلمين هم من علموا الغرب المنهج التجريبي والمنهج الاستقرائي الذي قامت على أساسه نهضة أوروبا الحديثة، فنحن تخلفنا وهم تقدموا اقتبسوا منا ونموا ما اقتبسوه وأصبح شيئا هائلا .
وفي الختام:
إن العلم الذي تنهض به أمتنا هو كل علم نافع ، سواء كان من علوم الشريعة أو من علوم الطبيعة أقصد كل العلوم التي يحتاجها الناس في حياتهم كالطب والهندسة والزراعة والكيمياء وعلم الأحياء وعلم الفيزياء وعلم الإحصاء وسائر العلوم التي تعد من المقومات الأساسية للنهضة الحضارية ، العلوم التي توجَّه الإنسان وتأخذ بيده وتيسر له القيام بمهمته في الوجود.
ولله القائل :
إذَا مَـا الْجَهْـلُ خَيَّـمَ فِي بِـلادٍ *** رَأَيْتَ أُسُودَهَا مُسِخَـتْ قُـرُودَا
ولله در القائل أيضا :
الْعِلْـمُ يَرْفَـعُ بَيْتًـا لا عِمَـادَ لَهُ *** وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ وَالشَّرَفِ
ولله در أحمد شوقي أمير الشعراء :
إنِّي نَظَرْتُ إِلَـى الشُّعُوبِ فَلْمْ أَجِدْ *** كَالْجَهْلِ دَاءً لِلشُّـعُـوبِ مُبِيـدًا.
نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا إلي أحسن حال ، وأن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا ، وأن يجعلنا من " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب" إنه ولي ذلك والقادر عليه .تمت بفضل الله وتوفيقه.
-----------------------------
رابط pdf
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق