الحمد لله رب العالمين جعل الأخلاق قوام المجتمع الراقي وأساس الإنسان الفاضل .. فقال تعالي }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ(13){ [الحجرات] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . ربط بين الأخلاق وبين الدين فقال تعالي: }وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ(45){ [العنكبوت].
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم حدد الغاية الأولي من بعثته والمنهاج المبين في دعوته فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلي الله عليه وسلم :}إنما بُعِثْتُ لأتممَ مكارم الأخلاق{ [ مسند البزار].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما ..
أما بعـد :فيا أيها المؤمنون ..
فالإنسان جسد وروح، ظاهر وباطن، والأخلاق الإسلامية تمثل صورة الإنسان الباطنة ، والتي محلُّها القلب ، وهذه الصورة الباطنة هي قوام شخصية الإنسان المسلم ، فالإنسان لا يقاس بطوله وعرضه ، أو لونه وجماله ، أو فقره وغناه ، وإنما بأخلاقه وأعماله المعبرة عن هذه الأخلاق ، يقول تعالى:} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13){[الحجرات].
ويقول صلى الله عليه وسلم : }إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم{.
وحاجة الناس إلي الأخلاق أشد من حاجتهم إلي الطعام والشراب لأنه بفقد الطعام والشراب يضعف البدن الظاهر ، أما بفقد الأخلاق هلاك الباطن وهو عبارة عن الروح والقلب وشتان بين هلاك الظاهر وهلاك الباطن، لذاك أمر الإسلام بحسن معاشرة الناس فقال صلى الله عليه وسلم } وخالق الناس بخلق حسن { .لذلك كان موضوعنا } وخالق الناس بخلق حسن { وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ المقصود بالأخلاق.
2ـ مكانة الأخلاق في الإسلام.
3 علاقة الأخلاق بالإيمان.
4ـ ميادين حسن العشرة .
5ـ أثر الأخلاق علي الفرد والمجتمع .
العنصر الأول : المقصود بالأخلاق:
مجموعة المبادئ الخلقية ، والفضائل السلوكية والوجدانية التي يجب أن يتلقنها الإنسان ، ويكتسبها ويعتاد عليها منذ تمييزه وتعقله إلي أن يصبح مكلفا إلي أن يتدرج شابا إلي أن يخوض خضم الحياة .
العنصر الثاني : مكانة الأخلاق في الإسلام:
تظهر أهمية الأخلاق في الإسلام من عدة أمور، منها:
1ـ أنها الغاية الأولي من بِعثته النبي صلي الله عليه وسلم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلي الله عليه وسلم :}إنما بُعِثْتُ لأتممَ مكارم الأخلاق{ [ مسند البزار].
والقرآن الكريم والسنة المطهرة يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق : فقال تعالي عن الصلاة: }إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45){ ]العنكبوت[ .
وقال تعالي عن الزكاة :}خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103){ ]التوبة[ .
وقال تعالى عن الصيام } يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ (183){ ] البقرة [ .
وقال صلي الله عليه وسلم :}من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه {.
وقال تعال عن الحج :}الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ( 197){ ]البقرة[ .
وقال صلي الله عليه وسلم : }من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه { .
لقد بين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب أهمية الخُلق، بالرغم من أنه ليس أهمَّ شيء بُعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أجله؛ فالعقيدة أهم منه، والعبادة أهم منه ، ولكن هذا أسلوب نبوي لبيان أهمية الشيء، وإن كان غيرُه أهمَّ منه، فإن قال قائل: ما وجه أهمية الخُلق حتى يقدَّم على العقيدة والعبادة ؟ فالجواب: إن الخُلق هو أبرز ما يراه الناسُ، ويُدركونه من سائر أعمال الإسلام؛ فالناس لا يرون عقيدةَ الشخص؛ لأن محلَّها القلبُ، كما لا يرون كلَّ عباداته، لكنهم يرَوْن أخلاقه، ويتعاملون معه من خلالها؛ لذا فإنهم سيُقيِّمون دِينَه بِناءً على تعامله، فيحكُمون على صحتِه من عدمه عن طريق خُلقه وسلوكه ، لا عن
طريق دعواه وقوله، وقد حدَّثَنا التاريخ أن الشرق الأقصى ممثَّلاً اليوم في
إندونيسيا والملايو والفلبين وماليزيا، لم يعتنقْ أهلُها الإسلام بفصاحة الدعاة، ولا بسيف الغزاة، بل بأخلاقِ التجَّار وسلوكِهم، من أهل حضرموت وعمان؛ وذلك لما تعاملوا معهم بالصدق والأمانة والعدل والسماحة.
وإن مما يؤسَفُ له اليوم أن الوسيلةَ التي جذبت كثيرًا من الناس إلى الإسلام هي نفسها التي غدَت تصرِفُ الناس عنه؛ وذلك لما فسَدت الأخلاق والسلوك، فرأى الناس تباينًا بل تناقضًا بين الادِّعاء والواقع!
2 ـ تعظيم الإسلام لحُسن الخُلق:
لم يعُدِ الإسلام الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان ، ومجالاً للتنافس بين العباد؛ فقد جعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال صلى الله عليه وسلم :}إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا، أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا، الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون{.
وكذلك جعَل أجر حُسن الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه، فقال صلى الله عليه وسلم :}ما من شيءِ أثقلَ في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن حُسن الخُلق{.
وجعَل كذلك أجرَ حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال: }إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم{،
بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الحنة؛ فقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: }تقوى اللهِ وحُسن الخُلق{،
وفي حديث آخرَ ضمِن لصاحب الخُلق دخولَ الجنة، بل أعلى درجاتها، فقال: }أنا زعيمٌ ببيت في ربَضِ أطراف الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسَط الجنة لِمَن ترَك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمن حسُن خلُقه{.
فصاحب الأخلاق الفاضلة في مستوى الصائم القائم، بصيام وقيام مستمرين، فعن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:}إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ عَظِيمَ دَرَجَاتِ الآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ وَإِنَّهُ لَضَعِيفٌ فِي الْعِبَادَةِ {[الطبراني] .
هذه كلها أحاديث شريفة تبين أن الخلق الحسن هو كل شيء في الدين، بل يكاد يكون الدينُ خلقاً حسناً.
3ـ أنها أساس بقاء الأمم:
فالأخلاق هي المؤشِّر على استمرار أمَّة ما أو انهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها، كما قال أحمد شوقي رحمه الله تعالي:
وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم فأقِمْ عليهم مأتَمًا وعويلا
ويدلُّ على هذه القضية قولُه تعالى } وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16){ [الإسراء].
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالي : إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة .
4 ـ أنها من أسبابِ المودة وإنهاء العداوة:
يقول الله تعالى: }وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34){ [فصلت].
والواقع يشهد بذلك، فكم من عداوةٍ انتهت لحُسن الخُلق؛ كعداوة عمرَ وعكرمة، بل عداوة قريش له صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : "إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، ولكن تسعونهم بأخلاقكم".
يقول أبو حاتم رحمه الله: "الواجب على العاقل أن يتحبَّب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق، وتَرْكِ سوء الخُلق؛ لأن الخُلق الحسَن يُذيب الخطايا كما تذيب الشمسُ الجليد، وإن الخُلق السيِّئ لَيُفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ".
5 ـ إن الخُلق أفضلُ الجمالينِ:
الجمال جمالان؛ جمال حسي، يتمثل في الشَّكل والهيئة والزينة والمركَب والجاه والمنصب، وجمال معنوي، يتمثل في النفس والسلوك والذكاء والفطنة والعلم والأدب، كما قال القائل:
ليس الجمالُ بأثوابٍ تُزيِّنُنا إن الجمالَ جمالُ العلم والأدبِ .
وقد ذكر اللهُ أن للإنسان عورتينِ؛ عورة الجسم، وعورة النفس، ولكل منهما ستر؛ فستر الأولى بالملابس، وستر الثانية بالخُلق، وقد أمر الله بالسترين، ونبَّه أن الستر المعنوي أهمُّ من الستر الحسي فقال: } يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26){ [الأعراف]. فطهارةُ الباطن أعظمُ من طهارة الظاهر.
العنصر الثالث : علاقة الأخلاق بالإيمان :
هناك علاقة طردية بين الإيمان والأخلاق، فكلما كان الإيمان صحيحاً قوياً أثمر أخلاقاً حميدة ، والإيمان القوي يلد الخلق القوي حتما ،وأن انهيار الأخلاق مرده
إلي ضعف الإيمان ، أو فقدانه بحسب تفاقم الشر أو تفاهته .
لذلك قال عليه الصلاة والسلام :} أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً{ ]رواه أبوداود والترمذي وصححه الألباني[
وفي آيات وفيرة وأحاديث كثيرة ربط الإسلام بين الإيمان وحسن الخلق ،ومن أمثلة ذلك: ـ
1- اقتضاء الإيمان للعدل:
قال تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(8){ ]المائدة[
2- اقتضاء الإيمان للصدق :
قال تعالى} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119){ ]التوبة[
3- اقتضاء الإيمان للحياء :
قال عليه الصلاة والسلام:}الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياءُ شعبة من الإيمان{ ]رواه مسلم وعند البخاري: بضع وستون[
4- اقتضـاء الإيمان للكرم والبذل :
قال صلى الله عليه وآله وسلم: }من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه ...الحديث{ ]متفق عليه[ .
5- اقتضـاء الإيمان للحب في الله :
قال عليه الصلاة والسلام:} لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم { ]رواه مسلم[ .
6- اقتضـاء الإيمان للصبر والشكر :
قال عليه الصلاة والسلام: }عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.{ ]رواه مسلم[.
منافاة الأخلاق السيئة للإيمان الكامل ومن ذلك :
1- منافاة السخرية والاستهزاء للإيمان:
قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11){ ]الحجرات[.
2- منافاة سوء الظن والتجسس والغيبة للإيمان:
قال تعالى }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ(12){ ]الحجرات[
3- منافاة الكذب والإخلاف والخيانة للإيمان:
قال عليه الصلاة والسلام: }آية المنافق ثلاثٌ ؛ إذا حدّث كذب ، وإذا وعَدَ أخلف ، وإذ ائتمن خان{ ]متفق عليه[ .
4- منافاة إيذاء الجار للإيمان:
قال صلى الله عليه وآله وسلم:}من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره{ ]رواه البخاري[.
ويقول عليه الصلاة والسلام: }والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ،والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جارُه بوائقه{ ]رواه البخاري[.
فإذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا فما قيمة دين بلا خلق ، وما معني الإفساد مع الانتساب لله تعالي ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين .
أيها المؤمنون من هنا ندرك الغاية من وراء الأمر بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل ألا وهي نزكية نفوسنا وتطهيرها لكي نفوز برضا الرحمن، وننجو بإذن ربنا من النيران، وقد أقسم سبحانه أحد عشر قسما متوالياً على أنه لا يستحق الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا من زكت نفسه وصفت، فقال سبحانه: } وَٱلشَّمۡسِ وَضُحَىٰهَا (1) وَٱلۡقَمَرِ إِذَا تَلَىٰهَا (2) وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّىٰهَا (3) وَٱلَّيۡلِ إِذَا يَغۡشَىٰهَا (4) وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَىٰهَا (5) وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا طَحَىٰهَا (6) وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (7) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (8) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (9) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (10) { ]الشمس[
ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركناً أساساً من أركان العبادة. ورد في الحديث }الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان {.
فالإيمان شعب، ويزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا كان الحياء شعبة من الإيمان فسلب الحياء شعبة من شعب الكفر، وقس على ذلك الكذب والغدر، والسرقة، وغيرها.
فانهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان ? أو فقدانه ? بحسب تفاقم الشر أو تفاهته..
فالرجل الصفيق الوجه ? المعوج السلوك الذى يقترف الرذائل غير آبه لأحد ?
يقول رسول الإسلام في وصف حاله: "الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر"!.
والرجل الذى ينكب جيرانه ويرميهم بالسوء ? يحكم الدين عليه حكما قاسيا ? فيقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم : }والله لايؤمن ? والله لا يؤمن والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال : الذى لا يأمن جاره بوائقه {!!.
وفى هذا ورد عن النبي أن رجلا قال له: يا رسول الله ? إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذى جيرانها بلسانها. فقال: "هي في النار". ثم قال: يا رسول الله فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها ? وأنها تتصدق "بالأثوار من الأقط " بالقطع من العجين ولا تؤذى جيرانها. قال: "هي في الجنة" !
في هذه الإجابة تقدير لقيمة الخلق العالى وفيها كذلك تنويه بأن الصدقة عبادة اجتماعية يتعدى نفعها إلى الغير ولذلك لم يفترض التقلل منها كما افترض التقلل من الصلاة والصيام ،وهى عبادات شخصية في ظاهرها.
إن رسول الإسلام لم يكتف بإجابة على سؤال عارض في الإبانة عن ارتباط الخلق بالإيمان الحق ، وارتباطه بالعبادة الصحيحة ، وجعله أساس الصلاح في الدنيا والنجاة في الأخرى.
إن أمر الخلق أهم من ذلك ، ولابد من إرشاد متصل، ونصائح متتابعة ليرسخ في الأفئدة والأفكار.
أن الإيمان والصلاح والأخلاق عناصر متلازمة متماسكة ، لا يستطيع أحد تمزيق عراها. لقد سأل أصحابه يوما :}أتدرون من المفلس؟! قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال: المفلس من أمتى من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيُعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار{.
ذلك هو المفلس إنه كتاجر يملك في محله بضائع بألف ، وعليه ديون قدرها ألفان ، كيف يُعد هذا المسكين غنيا؟
والمتدين الذى يباشر بعض العبادات ، ويبقى بعدها بادى الشر ، كالح الوجه قريب العدوان كيف يحسب امرءا تقيا؟
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لهذه الحالات مثلا قريبا،
قال: }الخلق الحسن يُذيب الخطايا كما يُذيب الماء الجليد ? والخلق السوء ?
يُفسد العقل كما يُفسد الخل العسل{.
فإذا نمت الرذائل في النفس ، وفشا ضررها ، وتفاقم خطرها ، انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه ، وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا ، فما قيمة دين بلا خلق؟!!
وما معنى الإفساد مع الانتساب لله؟!!
وتقريرا لهذه المبادئ الواضحة في صلة الإيمان بالخلق القويم ?
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: } ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان {
وقال في رواية أخرى: }آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ،وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم {!
وقال كذلك: }أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان ? وإذا حدث كذب ? وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر{.
العنصر الرابع: ميادين حُسن العشرة:
1- حُسن العشرة مع النفس :
يكون بمجاهدتها والسعي إلى إقامتها على الطريق الصحيح , ويكون بعدم تكليفها مالا تطيق لأن في ذلك إهانة وإذلالاً لها , قال تعالي }لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ(286){ ]البقرة[ .
وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: }لاَ يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. قَالُوا : وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ ؟ قَالَ : يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلاَءِ لِمَا لاَ يُطِيقُهُ{. ]أخرجه أحمد . وابن ماجة والتِّرْمِذِيّ[.
وحُسن المعاشرة مع النفس يكون بنهيها عن الهوى والشهوات والشبهات , قال تعالى : } فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41){ ]النازعات[ .
2- حُسن العشرة مع الوالدين:
أمرنا الله تبارك وتعالى بالإحسان إلى الوالدين وجعل الرفق بهما بعد عبادته سبحانه , قال تعالى :}وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا
قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25){ ]الإسراء[ .
3- حُسن العشرة مع الزوجة :
حث الله تعالى الزوج على حسن معاشرة زوجته والرفق بها والحنو عليها , قال تعالى :} وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19){ ]النساء[ .
وقال سبحانه تعالى : }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132){ ]طه[.
وعنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه ؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال: }خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِى {. ]أخرجه ابن ماجة[.
وعن الأسود قال : سألت عائشة رضي الله عنها : ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله تعني خدمة أهله فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة { . ]رواه البخاري[ .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:} لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا، رَضِيَ منها آخَرَ{ ]رواه مسلم[.
قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ قالوا: ليست المعاشرة بالمعروف أن تمتنع عن إيقاع الأذى بها، بل أن تحتمل الأذى منها.
روت كتب الأدب والسيرة أن قاضياً شهيراً اسمه شريح لقيه صديقه الفضيل، فقال له: يا شريح، كيف حالك في بيتك ؟
قال: والله منذ عشرين عاماً لم أجد ما يعكِّر صفائي، قال: وكيف ذلك يا شريح ؟
قال خطبتُ امرأة من أسرة صالحة، فلما كان يوم الزفاف وجدتُ صلاحاً وكمالاً، يقصد صلاحاً في دينها، وكمالاً في خُلقها، فصليتُ ركعتين شكر على نعمة الزوجة الصالحة، فلما سلمت من صلاتي وجدت زوجتي تصلي بصلاتي،
وتسلم بسلامي، وتشكر شكري، فلما خلا البيت من الأهل والأحباب دنوتُ منها، فقالت لي: على رِسلك يا أبا أمية، ثم قامت فخطبت، وقالت: أما بعد، فيا أبا أمية، إنني امرأة غريبة، لا أعرف ما تحب، ولا ما تكره، فقل لي ما تحبه
حتى آتيه، وما تكره حتى أجتنبه، ويا أبا أمية، لقد كان لك من نساء قومك من هي كفء لك، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي، ولكن كنت لك زوجة
على كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ـ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فاتّقِ الله بي، وامتثل قوله تعالى: ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ ]البقرة[.
ثم قعدتُ ! قال: فألجأتني إلى أن أخطب، فوقفت وقلت: أما بعد: فقد قلتِ كلاماً إن تصدقي فيه، وتثبتي عليه يكن لكِ ذخراً وأجراً، وإن تَدَعيه يكن حجة عليك، أحِبُّ كذا وكذا، وأكره كذا وكذا، وما وجدتِ من حسنة فانشريها، وما وجدتِ من سيئة فاستريها.
4- حًسن العشرة مع الأولاد :
الولد نعمة وهبة من الله تعالى يجب رعايته والعمل على حسن تربيته , قال تعالى :} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6) { ]التحريم[
وتربية الأولاد تحتاج إلى الرفق والحنو ,عَنْ شُعَيْبٍ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْروٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: }لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا{. ]أخرجه أحمد و البُخَارِي[.
ولقد ذم النبي صلي الله عليه وسلم القاسي على أهله روى الطبراني عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال } شر الناس الضيق على أهله، فقالوا يا رسول الله (الصحابة) وكيف يكون ضيقا على أهله فقال :الرجل إذا دخل بيته خشعت امرأته وهرب ولده وفر عبده فإذا خرج ضحكت امرأته واستأنس أهل بيته {
وذم النبي صلي الله عليه وسلم فعل الأقرع بن حابس وهو ينكر علي النبي صلي الله عليه وسلم تقبيله للحسن والحسين فقال أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة (من لا يرحم لا يرحم ).
وقال عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: غَضِبَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى ابْنِهِ، فَهَجَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ رَحِمَهُ اللهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَوْلَادُنَا ثِمَارُ قُلُوبِنَا وَعِمَادُ ظُهُورِنَا، وَنَحْنُ لَهُمْ سَمَاءٌ ظَلِيلَةٌ وَأَرْضٌ ذَلِيلَةٌ، إِنْ غَضِبُوا؛ فَأَرْضِهِمْ، وَإِنْ سَأَلُوا؛ فَأَعْطِهِمْ، وَلَا تَكُنْ عَلَيْهِمْ قُفْلًا؛ فَيَمَلُّوا حَيَاتَكَ وَيَتَمَنُّوا مَوْتَكَ.
وعَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :} يَا غُلاَمُ سَمِّ اللهَ وَكُلْ بيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ {. ]أخرجه أحمد والدارِمِي والبُخَارِي ومسلم[
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: أَبْصَرَ الأَقْرَعَ بْنُ حَابِسٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ وِالْحُسَيْنَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ : }إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ قَطُّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّهُ لاَ يُرْحَمُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ{. ]أخرجه ،أحمد، والبُخاري ومسلم[
5- حُسن العشرة مع الأقارب :
صلة الرحم طريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة , فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: }مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ {. . ]مسند أحمد صحيح[.
وقطيعة الرحم لون من الإفساد في الأرض , قال تعالى :}فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23){ ]محمد[ .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:} إن الرحم شُجْنةُ متمِسكة بالعرش تكلم بلسان ذُلَق ، اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني ، فيقول ـ تبارك وتعالى: أنا الرحمن الرحيم ، وإني شققت للرحم من اسمي ، فمن وصلها وصلته، ومن نكثها نكثه{ ]البخاري[
6ـ حُسن العشرة مع الناس :
من حُسن العشرة مع الناس ستر العيوب :
فما من أحد من الناس إلا و له محاسن ومساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية ، والمؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والودّ و الاحترام ، وأما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ والعيوب
قال ابن المبارك : المؤمن يطلب المعاذير ، والمنافق يطلب العثرات
وقال الفضيل : الفتوة العفو عن زلات الإخوان ..
ومن حُسن العشرة أن يسكت عن إفشاء أسراره ، ولا إلى أخصّ أصدقائه ، و لو بعد القطيعة و الوحشة ، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث النفس ، قيل لبعض الأدباء : كيف حفظك للسر؟ قال : أنا قبره .
ومما ورد في ستر المسلم وعدم التشهير به قصة النبي صلي الله عليه وسلم مع خوات ابن جبير ..
( يحكي خوات بن جبير عن نفسه فيقول : نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران.
قال: فخرجت من خبائي فإذا أنا بنسوة يتحدثن فأعجبنني، فرجعت فاستخرجت حلة فلبستها، وجئت فجلست معهن، وخرج رسول الله (ﷺ) من قبة، فلما رأيت رسول الله (ﷺ) هبته واختلطت، وقلت: يا رسول الله، جمل لي شرد فأنا أبتغي له قيداً. ومضى فاتبعته فألقى إلي رداءه، ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، فأقبل والماء يسيل على صدره من لحيته. فقال: "أبا عبد الله، ما فعل ذلك الجمل"؟
وارتحلنا، فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال: "السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل"؟
فلما طال ذلك علي أتيت المسجد، فقمت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره. فجاء فصلى ركعتين، فطولت رجاء أن يذهب ويدعني. فقال: "أبا عبد الله، طول ما شئت أن تطول، فلست بمنصرف حتى تنصرف".
فقلت في نفسي: والله لأعتذرن إلى رسول الله (ﷺ) ولأبرئن صدره. فلما انصرفت قال: "السلام عليك أبا عبد الله، ما فعل شراد ذلك الجمل"؟
قلت: والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت. فقال: "يرحمك الله"،
ثلاثاً، ثم لم يعد لشيء مما كان.
7ـ حُسن العشرة مع الأعداء:
قال تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8){ ]المائدة[.
وقال تعالى : }لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ (8){ ]الممتحنة[
ولقد أعطي سلفنا الصالح نماذج رائعة في حُسن الخلق مع القريب والبعيد والصديق والعدو ،مما أثَّر في غيرهم فقدموا للعالم قدوات رائعة ، فكان الواحد منهم إسلاماً يمشي علي الأرض ، وقديما قالوا }عمل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل{، ومن هؤلاء القدوات..
1ـ التابعي الجليل إبراهيم بن أدهم: ها هو التابعي الجليل إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يمر عليه يهودي ومعه كلب واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شَرَ كهم يمر على إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله ذلكم المؤمن، فيقول له: ألحيتك يا إبراهيم أطهر من ذنب هذا الكلب، أم ذنب الكلب أطهر من لحيتك؟
فما كان منه إلا أن قال بهدوء المؤمن الواثق بموعود الله عز وجل إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار لذنب كلبك أطهر منها.
فما ملك هذا اليهودي إلا إن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء: } وَلَا تَسۡتَوِي ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ
بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيۡنَكَ وَبَيۡنَهُۥ عَدَٰوَةٞ كَأَنَّهُۥ وَلِيٌّ حَمِيمٞ (34){ ]فصلت[.
2ـ الإمام مالك بن دينار : يُروى أن مالك بن دينار رحمه الله تعالى كان له جار يهودي، فحول اليهودي مستحمه إلى جدار البيت الذي فيه مالك، وكان الجدار متهدِّمًا، فكانت تدخل منه
النجاسة، ومالك ينظف البيت كلَّ يوم، ولم يقل شيئًا، وأقام على ذلك مدة وهو صابر على الأذى، فضاق صدر اليهودي من كثرة صبره على هذه المشقة، فقال له: يا مالك، آذيتك كثيرًا وأنت صابر، ولم تُخبرني، فقال مالك: قال رسول الله (ﷺ) : }ما زال جبريل يوصيني بالجار؛ حتى ظننت أنه سيُورِّثه{، فندِم اليهودي وأسلم.
3ـ الإمام عبدالله بن المبارك : كان للإمام عبد الله بن المبارك جارٌ يهودي؛ فأراد أن يبيعَ داره, فقيل له: بكم تبيع ؟ قال بألفين؛ فقيل له: إنها لا تساوي إلا ألفاً؛ قال: صدقتم؛ ولكنْ ألفٌ للدار, وألفٌ لجوار عبد الله بن المبارك؛ فأُخبر ابنُ المبارك بذلك, فدعاهُ فأعطاه ثمن داره وقال: لا تبعها .
4ـ الإمام أبو حنيفة : كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكافي، يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنَّه الليل رجع إلى منزله وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فيشويها، ثم لا يزال يشرب، حتى إذا دبّ الشراب فيه غنى بصوت وهو يقول:
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ليوم كريهـةٍ وسـداد ثغـر
فلا يزال يشرب ويردّد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته، وأبو حنيفة كان يصلّي الليل كلّه، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، وهو محبوس، فصلّى أبو حنيفة صلاة الفجر من غد، وركب بغلته، واستأذن على الأمير، قال الأمير: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبًا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففُعل، ولم يزل الأمير يوسّع له من مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ قال: لي جار إسكافي، أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم وكلّ من أخذه بتلك الليلة إلى يومنا هذا، فأمر بتخليتهم جميعاً، فركب أبو حنيفة، والإسكافي يمشي وراءه، فلمّا نزل أبو حنيفة مضى إليه فقال: يا فتى أضعناك؟ قال: لا، بل حفظت ورعيت، جزاك الله خيرًا عن حرمة الجوار ورعاية الحقّ، وتاب الرجل ولم يعد إلى ما كان.
العنصر الخامس : أثر الأخلاق علي الفرد والمجتمع :
كلما ازداد تمسك المسلم بمكارم الاخلاق وفضائلها زادت قيمته وزاد رضا الله عنه وأحبه الناس وتعلقوا به وأصبح موضع ثقتهم واحترامهم .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة ، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة .
1- نشر الأمن والأمان بين الأفراد والمجتمع:
إن أي مجتمع لا يمكن أن يعيش أفراده بأمان وانسجام ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة ، فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ لأن بها يتم إصلاح الفرد الذي هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع كله، وصدق القائل:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إذ كيف يكون هناك ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع لولا فضيلة الصدق التي أساس الإسلام، وعقد الحياة في حياة الإسلام الاجتماعية ،وكيف يكون تعايش بين الناس في أمن وسلام لولا فضيلة الأمانة .
وكيف نتصور مجتمعاً مثالياً، قادراً على قيادة العالم نحو الأفضل بدون مكارم
الأخلاق؟ إذا فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية في كل عصر من العصور.
2- سيادة التعاون والتكافل الاجتماعي بين المجتمع:
فالمسلمون أمة واحده، يعطف غنيُّهم على فقيرهم ،فالفرد المتخلق بمكارم الأخلاق لابد أن يؤدي ما عليه من حقوق اللّه عز وجل، وحقوق الناس، فإن كان موظفاً أو مسؤولاً فلابد أن يتقي اللّه في رعيته وفي أسرته، وأن يؤدي لكل ذي حق حقه .
3- نبذ الفُرقة والخلاف وما يمزق المجتمعَ، والالتزام بالقِيَم والمبادئ :
نري أن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يجسد أخلاق القرآن العالية ما أثر في أصحابه ومجتمعه إلا بأخلاقه السامية ، فقد استطاع بخلقه
العالية أن يغير قبائل العرب من أخلاق البداوة والتوحش إلى أخلاق السيادة
والقيادة، حتى صاروا أعظم خَلق الله في العالم.
ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة المتعصبين لعاداتهم المعاندين في عصبيتهم وخصامهم كيف رفع هذا الشخص جميع أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة ، وجهزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيرهم معلمي العالم الإنساني وأساتيذ الأمم المتمدنة ؟! وبأخلاقه السامية أيضا
غلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع وقلع من أعماق قلوبهم العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة .
4- المساهمة في خدمة المجتمع، ورفع معاناته، وتقديم ما يفيد للأمة والبشرية
المؤمن مثل الغيثِ أينما حلَّ نفَع ، أنه لا نجاة ولا سعادة إلا التمسك بحقائق الإسلام التي تتمثل في التحلي بمكارم الأخلاق واتباع شريعته، يقول أحد العلماء:
"لا سعادة لأمة الإسلام إلا بتحقيق حقائق الإسلام وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا أو تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، إلا فلا عدالة قطعا ولا أمان مطلقا إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقا بيد الكذابين والمرائين".
كما أن التزام الناس بمكارم الأخلاق يؤدي إلى تقدم المجتمع وسعادته.
5- وجود الأُلفة والمحبة بين الناس..
6- الإيجابية في المجتمع وتفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مشتملاً على أسسه وقواعده دون تنفير للناس، أو تغييب للشريعة وتعاليمها.
7- بذل الخير للناس بحب وسعادة غامرة، وتفعيل الإنتاج، وثقافة البذل والعطاء بين المجتمع.
8- بث روح التسامح ونشرها بين الناس، تحت شعار: "وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ"، ونحو مجتمع راقٍ تسودُه الألفة والمحبة.
الخاتمة :
من خلال ما سبق يتأكد لنا أن الأخلاق لها أثر بالغ علي الفرد وعلى المجتمع، وهي ضرورة اجتماعية، وأنه لا يمكن لأي مجتمع يريد التوازن في حياته أن يعيش بدونها، وأن التحلي بمكارم الأخلاق يؤدي إلى سعادة المجتمع وتقدمه وانسجامه والاعتزاز بالنفس والتواضع، وأن أي خلل فيها، يؤدي إلى خلل في المجتمع وفساده وأن الأمة الإسلامية لو التزمت بمكارم الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام لأصبحوا سادة العالم، ولما بقي أحد على وجه الأرض إلا وتبنى هذا الدين ، وليعلم الجميع أن أسلافنا لم ينجحوا في مهمتهم الدعوية إلا بأخلاقهم السامية، وأن المسلمين اليوم لو تشبعوا بأخلاق القرآن لساد الإسلام في العالم ولدخل الناس في دين اللّه أفواجا.
تمت بفضل الله تعالي
رابط pdf
https://top4top.io/downloadf-25930ngu41-pdf.html
رابط doc
https://top4top.io/downloadf-2593tzugc2-docx.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق