المقدمـــــة
الحمد لله رب العالمين .. فرض
الصيام تزكية للنفوس وتطهيرا للأرواح وتقوية للأخلاق فقال تعالي}يا أيها الذين
آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون(183)] {البقرة [
وأشهـد أن لا
إله إلا الله … وحده لا شريك له … له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيء
قدير …ميز الأمة الإسلامية وجعلها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر
وتؤمن بالله فقال تعالي }كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (110) ]آل عمران[ .
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله
(ﷺ) …بين الأسس التي بُنِيَ عليها الإسلام ، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله (ﷺ) "بني
الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان"..
فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
أما بعـد : فيا أيها المؤمنون….
لقد أنعم الله علينا بنعم عظيمة، ومن نعمته أيضاً سبحانه وتعالى أنه ألقى محبة شهر رمضان في قلوب
المؤمنين جميعاً ، حتى في قلوب الأطفال مع أنهم لا يعرفون صياماً ولا قياماً ولا
ثواباً ولا حسنات، إنه حقاً الحدث الذي
ينتظره الكبير والصغير ، وينتظره الرجل والمرأة ، وينتظره الغني والفقير، إنه أعظم
شهر في الميزان الإسلامي..
كيف وصف رسول الله (ﷺ) هذا الحدث الجليل؟..
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لما حضر رمضان قال رسول الله (ﷺ): قد جاءكم شهر مبارك
افترض الله عليكم صيامه, تفتح فيه أبواب الجنة, وتغلق فيه أبواب الجحيم, وتغل فيه
الشياطين, فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم".
فرمضان ليس مجرد شهر كباقي
الشهور وإنما رمضان له دور كبير في بناء الأمة الإسلامية .
ولكن كيف يبني رمضان أمة الإسلام؟
هذا البناء الضخم يحتاج إلى مجهود عظيم وتفكير عميق وإمكانيات
هائلة ، كما أنه يحتاج إلى أساس متين قوي يستطيع أن يحمل فوقه البناء الهائل ،
والله عز وجل وضح لنا في شرعه كل شئ.. وضح لنا كيف يكون الأساس لهذا الصرح العظيم.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله
بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "بني
الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة،
وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان".
ها هو البناء يُبنى على أعمدة خمس ، منها صوم رمضان ، وهذا أمر
في غاية الأهمية.
أبواب الإسلام واسعة جداً جداً،
فهو دين شامل كامل متكامل.. لكن من كل هذه الأبواب الضخمة اختار الله عز وجل خمسة
أمور فقط جعلها أعمدة الإسلام, والتي يبني عليها كل هذا الصرح الضخم..
من هذه الأعمدة : "رمضان"
تخيل أن هذا العمود غير موجود.. أو أن به خللاً في التصميم أو
خللاً في التطبيق ، ماذا ستكون النتيجة ؟
لا شك أن البناء سينهار
بالكلية!!..
تخيل لو أن صيام رمضان لم يكن بالطريقة التي أرادها الله عز وجل
فقد ينهار البناء الضخم لأمة الإسلام بالكلية!!..
إذن الأمر في غاية الأهمية..
فنحن إذا كنا نريد بناءاً قوياً صلباً لهذه الأمة فلابد أن يكون
أساسه متيناً، ومن ثم لابد أن يكون صيام رمضان على أعلى درجات الإتقان حتى يحمل
فوقه الصرح المهول: ألا وهو الإسلام.. بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطق
نريد أن ندخل إلى رمضان كما نريد أن ينتهي رمضان وقد أصبحنا مؤهلين لحمل الصرح
العظيم والأمانة الكبيرة.
فالقضية ليست فقط قضية صيام ، إنما
القضية قضية بناء.. "بناء خير أمة".
ولكن كيف يبني رمضان أمة الإسلام ؟
رمضان سيقوم بتنقية المجتمع المؤمن من الشوائب!.
والذي سيفشل في الامتحان لا تبني عليه حساباتك ، والذي يثبت في
رمضان سيثبت إن شاء الله في غيره.
ولكي يكون الاختبار حقيقياً
لابد أن يكون صعباً..
فما هي صعوبة رمضان؟ !صعوبة رمضان ترجع إلى أمور عدة:ـ
1ـ أنه فرض، وطبيعة الناس تنفر من الفروض والتكليفات..
2ـ وأنه شهر كامل متصل ، والأعذار فيه محدودة ، وليس لك بديل عن الصيام إلا بعذر مقبول
شرعاً ، وقد يأتي رمضان في الحر، أو قد
يأتي في وقت تزدحم فيه الأعمال عليك ، أو قد يأتي في وقت تكثر فيه مشاغلك وهمومك ،
وفي كل هذا هو شهر كامل متصل لا يصلح الذي قبله ولا الذي بعده.
3ـ و أنه خروج على المألوف ، فشهوة الطعام والشراب
والجماع شهوات مزروعة في داخل كل إنسان، وفي رمضان ستخرج خروجاً تاماً عن المألوف
، ستجوع ، ستعطش، ستتعب ، ستنهك ، ولكن يجب أن تصبر.
4ـ ولكن أصعب من كل ذلك أن
تصوم صياماً حقيقياً كما أراد الله عز وجل. فليست المسألة مسألة طعام وشراب وشهوة فقط.
ولكن الأمر أكبر من ذلك ،
والاختبار أصعب من ذلك ، فعلى سبيل المثال ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "من لم يدع قول الزور
العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه شرابه".
وفي رواية أيضاً في البخاري
وأبي داود واحمد.. "من لم يدع قول الزور والعمل به
والجهل (أي الجهل على الناس أو صفات الجهل بصورة عامة) فليس لله حاجة في أن يدع
طعامه وشرابه."
إذن لابد أن تدرك أنك في رمضان
ستدخل في اختبار صعب إن نجحت فيه كنت مؤهلاً لحمل الأمانة ولبناء الأمة ، وإن فشلت
فليس لك مكان في الصرح العظيم
ومن هنا فليس من المعقول أيها
المسلمون لفرد مسلم مؤمن يدخل في اختبار عظيم كاختبار رمضان ثم هو يقضي الساعات
الطوال أمام التليفزيون مثلاً!!
ليس من المعقول أن يقضي المسلم الواعي الأوقات الطويلة فيما ليس
منه فائدة بحجة أنه يسلي صيامه !
اعلم أخي المسلم أن رمضان اختبار لتنقية المجتمع المسلم..
ومن الذي يختبرك ؟!
إنه الله عز وجل ! قال تعالى }وَمَا
قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ
ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ
عَمَّا يُشۡرِكُونَ (67){ ]الزمر[
إذن رمضان اختبار يراقب الله
عز وجل فيه أفعال العباد، فينتقي الصالحين ويطرد الفاسدين وبذلك تحدث التنقية للصف
المسلم ، والأمة التي تُبني على أكتاف عناصر صالحة ستكون أمة قوية إن شاء الله.
فرمضان يربي فينا قيم إيمانية
غالية !!
ماذا يربي رمضان فينا ؟
رمضان يربي
فينا سلوكيات وأخلاق كثيرة نلخصها في هذه النقاط ...
1ـ رمضان يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر.
فالله عز وجل يُحب من عبده أن ينصاع له دون جدل,
وأن يطيعه دون تردد.. والله يظهر لنا في أحيان الحكمة من وراء الأمر, ولكنه في
أحيان أخرى يخفيها, ومع ذلك فإنه في كل الحالات على المؤمنين أن يطيعوا..
قال تعالى } وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى
ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن
يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا (36){ ] الأحزاب[
ـ لماذا فرض الصيام في رمضان بالذات وليس في رجب أو شعبان
مثلاً؟
ـ لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب, وليس من الفجر إلى العصر أو
إلى العشاء, أو من الشروق إلى الغروب؟
ـ لماذا كفارة
الجماع في نهار رمضان ستين يوماً متصلة، وليست ثلاثين أو خمسين أو تسعين ؟
وهكذا أسئلة بلا إجابات ، ومقصود أن لا يكون لها إجابات.
والغرض: تربية المؤمنين على الطاعة لله عز وجل, ولرسوله الكريم صلى
الله عليه وسلم ، وحتى وإن ظهر لعيوننا القاصرة طرف من الحكمة فهي ليست كامل
الحكمة , أو قد لا تكون الحكمة مطلقاً..
وربما يقول قائل : إنما شرع الصيام للشعور باحتياج الفقراء
وجوعهم, وأنا أشعر باحتياجهم وأعطيهم فما الداعي لصيامي؟
ولذلك فأنا لا أصوم!.
فهذا قصور كبير
في الفهم, فهذا القائل لم يستفد بتربية رمضان،
وربما يقول قائل : الصيام يضعف الأفراد, ويقلل
من الإنتاج!!
فهذا لم يدرك البعد التربوي العميق في صيام رمضان.
هذه واحدة من تربويات رمضان، ومعنى ذلك أنه لا يستقيم بعد رمضان أن تسمع أمراً من أوامر الله ثم تجادل، أو تسمع أمراً من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تجادل، قال تعالى} فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا (65)]{النساء[ هذا التسليم هو الذي نتعلمه في رمضان..
2ـ رمضان يربي المسلمين على ضبط الشهوات
رمضان يربي المسلمين على ضبط
شهواتهم ، أو قل على "التحكم" في الشهوات إلى أن تصرف في المكان الصحيح،
إنه تدريب عظيم على عمل نبيل..
يقول الرسول (ﷺ) في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن سهل بن
سعد رضي الله عنه : "من يضمن لي ما بين لحييه، وما
بين رجليه اضمن له الجنة"..
ما دور رمضان في هذا الأمر ؟
رمضان يدرب المؤمن تدريباً
عظيماً على حفظ هذه الأشياء..
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله (ﷺ): "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم
القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول
القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان"] رواه الإمام احمد بسند صحيح[
تدريب عظيم على التحكم في الشهوات..
ونجد أن المؤمن يمتنع في رمضان عن أمور هي في أصلها حلال،
ولكنها حرمت في نهار رمضان فقط , وهي حلال طوال العام, بل هي حلال حتى في ليل
رمضان، وذلك مثل الطعام بأنواعه, والشراب بأنواعه, والجماع مع الزوجة، فالذي يستطيع أن يمنع نفسه من أمور حلال اعتاد
عليها سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام والشراب الحرام والعلاقات المحرمة
وهكذا..
ويبقى سؤال هام: ما هو دور التحكم في
الشهوات في بناء الأمة المجاهدة؟
وما هو دور التحكم في الشهوات
في بناء الفرد الصالح للانتصار وللتمكين؟
ستأتي على الأمة المجاهدة
أوقات لا تجد فيها طعاماً ولا شراباً ولا زوجة, ومن كان معتاداً على الصيام فهو
على الجهاد أقدر من غيره..
مثلاً في غزوة تبوك كان الطعام كل يوم لا يعدو حفنة تمر، وانقطع
عنهم الماء فترة طويلة جداً حتى كادوا أن يهلكوا..
وفي غزوة ذات
الرقاع تقطعت أحذيتهم من السير الطويل, وبدأوا يسيرون على الرمال الملتهبة, حتى
اضطروا إلى ربط رقاع من الأقمشة على أقدامهم..
وفي غزوة خيبر
قل الطعام جداً في أيديهم حتى ذبحوا الحمر الأهلية, وطبخوها, وهموا بأكلها فعلاً,
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك, وحرمها عليهم..
وهذه فتنة
كبيرة لا يثبت فيها إلا الصائمون الذين اعتادوا الصيام في أيام الرخاء, فمنَّ الله
عليهم بالثبات في أيام الشدة..
ـ وكانوا يغيبون في الثغور بعيداً عن الزوجات مدداً طويلة تصل
أحياناً إلى شهور بل وسنوات، وبالرغم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حددها بعد ذلك
بأربعة أشهر, إلا أن ذلك لا يتحقق إلا عندما يكون هناك جيش بديل، فيستطيع أن يرسل
هذا ويأتي بذاك.
وقد يحتاج الجهاد كل طاقة الجيش, فيمكثون في
الثغور إلى ما شاء الله، وقد حاصر المسلمون مدينة "تستر" الفارسية في
عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مدة ثمانية عشر شهراً متصلة!!!..
ولا شك أن كل هذا يحتاج إلى تدريب.
المؤمن في رمضان والذي يشعر
بهموم أمته يستشعر هذه الأمور وهو صائم, فيصبح صيامه تدريباً عملياً على الجهاد,
ويكون صادقاً في إعداد نفسه ليوم يعز الله فيه الإسلام، وأيضاً الجهاد سيفتح
بلاداً كثيرة، وستقع السلطة في أيدي المؤمنين وسيباشرون أمور الناس، وإن لم يكن
المؤمن مؤهلاً تربوياً للتحكم في شهوته فسيقع في كثير من المحظورات لكون السلطة في
يده , والغلبة في صفه.
فقد يعتدي على حرمات الغير في
الطعام والشراب، وقد يعتدي عل حرماتهم في النساء، وهذا كثير الحدوث في الجيوش
الغير مسلمة .
لكن المسلم
المدرب في مدرسة الصيام على التحكم في شهوته يسيطر على هذه الأمور كما كان يسيطر
عليها وهو صائم وباختياره، وهذا يساعد على أن يسير الفتح الإسلامي والتمكين
الإسلامي في الطريق المشرق الذي رسمه رب العالمين سبحانه وتعالى، فنعطي القدوة
الحسنة، ولا نظلم الناس شيئاً،
والصيام بصفة عامة سواء في
رمضان أو في غير رمضان يقوم بهذا الدور التربوي..
دور التدريب على التحكم في الشهوات، ومن هنا نستطيع أن نفهم
النصيحة النبوية الغالية من رسول الله (ﷺ) إلى عامة الشباب.. وذلك ما رواه البخاري
ومسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الرسول (ﷺ) قال: "يا
معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له
وجاء"..
ومن أجل ذلك أيضاً حث الله
سبحانه وتعالى المؤمنين على كثرة الصيام طوال العام، ولكن من رحمته لم يجعل ذلك فرضاً عليهم..
ومن ذلك: صيام الاثنين والخميس..
ـ صيام الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من
الشهر العربي.. ، صيام عاشوراء وتاسوعاء..
ـ صيام التسع الأوائل من ذي الحجة وبالذات يوم عرفة..
ـ صيام ستة
أيام من شوال..
وهكذا يصبح المؤمن مدرباً طوال العام على التحكم في شهوته,
والتحكم في فطرته تحكماً سليماً ، وما أنفع ذلك في بناء الأمة الإسلامية.
3ـ رمضان يربي المؤمنين على التحكم في الأعصاب,
والقدرة على كظم الغيظ
وهذا أمر من أعظم الأمور في
بناء الأمة بناءاً سليماً ، لأن الفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء
الأمم.
ما هو دور رمضان في هذا الموضوع؟
روى البخاري ومسلم عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ) "قال
الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة..
(أي الصيام وقاية وحماية للإنسان), فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا
يجهل, فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم, إني صائم".
إذن الصيام يربي على التحكم في الأعصاب, وعلى عدم انفلات
اللسان, وعلى كظم الغيظ , وعلى العفو عن الناس, وكلها صفات أساسية للأمة المجاهدة,
ففي مجال
الحروب مثلاً.. كم من الأسرى سيأسرون ؟. الكثير..
ومع ذلك فإن المسلمين يجب أن يتعاملوا
مع أسراهم بالسمت الإسلامي وذلك على الرغم من العداوة بينهم، لا سباب ولا تعذيب
ولا إيذاء. قال تعالى }وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا
وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا (8){ ] الإنسان[
بل إنهم في الحرب ذاتها لا يجب أن يتجاوزوا في قتالهم إلى قتال
المدنيين والنساء والأطفال والمعاقين وغير ذلك.
كل هذا مع أنه لا شك أن في قلوبهم غضباً شديداً
منهم, وحنقاً شديداً عليهم, فهم يحاربون دولة محاربة لهم، ولكن الحرب في الإسلام
لها ضوابط شرعية معروفة, ولن يقدر على هذه الضوابط إلا هادئ الأعصاب, الذي لا
يتسرع في قرار, ولا ينتصر لشهوة داخلية.
فالإسلام دين راق جداً، يدرب جنوده على حسن معاملة الآخرين حتى في حال
العداوة والكراهية، قال تعالى }يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ
لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ
أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ
إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ (8){ ] المائدة[. هذا مع العدو فما بالكم بالقريب والمشترك معي الملة الواحدة.
والصيام يقوم بهذا التدريب
بصفة مستمرة ، فتستفيد الأمة من هذا حتى
في أوقات السلم , وتخيل معي أمة أو شعباً يغلب عليه هدوء الأعصاب, والتحكم في
اللسان , وكظم الغيظ، وكل هذا من تربية الصيام.
4ـ رمضان يربي في المسلمين الشعور بآلام الغير ومشاكل الآخرين..
المؤمن الذي يشعر بألم الجوع والعطش
لفترة معينة في نهار رمضان سيدرك أن هناك إخواناً له في الدين سواء في قطره ، أو في أي قطر من أقطار الدنيا الذين يعانون آلام
الجوع والمرض .
المسلم الذي يشعر بهذا الشعور لابد
وأن يتحرك قلبه إخوانه في أي مكان ، وهذه بداية أمل ولا شك..
إذا شعر المسلمون بآلام غيرهم من
المسلمين في الأقطار الأخرى فسيحدث التكافل, وسيحدث التعاون, وستحدث النصرة..
روى البخاري عن أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): "المؤمن للمؤمن
كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه"..
هل تتخيل يد الرسول (ﷺ) وهي تتشابك
في بعضها ؟!
هذه هي العلاقة التي ربنا يريدها
الله عز وجل منا..
رمضان يربينا على هذه العلاقة..
وبدونها لن يكون هناك نصر أو تمكين أو سيادة..
5ـ رمضان أيضاً يربي المسلمين على شعور عظيم وهو شعور الوحدة والاخوة والألفة..
فكل المسلمين في كل بقاع الأرض
سيصومون في يوم واحد, ويفطرون في يوم واحد، وسيصومون في وقت واحد وهو الفجر, ويفطرون
في وقت واحد وهو المغرب..
المسلمون في كل مكان من أرض
الله عز وجل يصومون في وقت واحد, وبكيفية واحدة, وبفرحة واحدة..
أي وحدة ! وأي ألفة ! وأي اخوة !
لا فرق بين غني ولا فقير, ولا بين
حاكم ومحكوم, ولا بين عربي ولا أعجمي..
روح اجتماعية راقية جداً تسري في
قلوب المسلمين في شهر رمضان ،
جو عام جميل يربي المسلمين على
أن يكونوا يداً واحدة..
ثم صلاة القيام "التراويح"..
تجد أنه في كل مساجد العالم يصطف المسلمون بأعداد كبيرة ، الواحد يلتصق بأخيه، يشعر
بدفء الأخوة , ودفء المسجد, ودفء الإسلام..
وتخيل أمة يرتبط أفرادها بمثل هذا
الشعور، هل يمكن أن تسقط ؟ هل يمكن أن تنهار؟
أبداً.. فإنه من سنن الله عز وجل
أن المسلمين إذا اجتمعوا انتصروا, وإذا تفرقوا انهزموا وتشتتوا..
قال تعالى }إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ
ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ
(4){ ] الصف [.
وهذه تربية رمضانية.
وهذا أمر هام جداً جداً..
فالتقوى هي لب الصيام ، وهي الغاية الرئيسية منه. قال تعالي }يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ
ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ
لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ(183) ]{البقرة[
وما هي التقوى؟!
التقوى هي وصية الله عز وجل
إلى خلقه، قال تعالى }وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ
مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ ..(131){
]
النساء[
التقوى هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأمته، فيما رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : "اتق
الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن".
التقوى هي أن تتقي غضب الله عز
وجل في السر والعلن، إذا كنت في بيتك وقد غلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد، وأنت
صائم، وبجوارك الطعام الشهي والماء العذب, وأنت جائع عطش, فلا تقرب الطعام ولا
الشراب مخافة الله عز وجل, فهذه هي التقوى.
التقوى كما قال عمر بن العزيز
رضي الله عنه ليست بقيام الليل أو بصيام النهار, ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله
وأداء ما افترض الله..
عندماً تكون راجعاً من عملك وأنت متعب منهك, فتسمع آذان العصر
فتنزل لتصلي في المسجد من أجل الحسنات المضاعفة, فهذه هي التقوى.
عندما يجهل عليك أو يسبك بل
يقاتلك أحد في شغلك أو في بيتك أو في الشارع فتقابل جهله بالحلم, وتقابل أذاه
بالعفو, وتقول إني صائم، فهذه هي التقوى..
عندما تضبط المنبه قبل الفجر بساعة أو ساعتين لكي تقوم لتناجي
ربك في جوف الليل حيث لا يراك أحد إلا الله ولا يسمع بك أحد إلا الله. فهذه هي التقوى.
عندما تشعر بالفقراء والمساكين
والمحتاجين فتخرج من جيبك إلى هذا وإلى ذاك وتخفي صدقتك , فلا تعلم شمالك ما أنفقت
يمينك، تفعل ذلك رغبة في الجنة, وخوفاً من النار، فهذه هي التقوى.
عندما تكون حريصاً كل الحرص
على أن تعرف رأي الدين في أمر من الأمور, وتتبع كلام الله عز وجل وكلام رسوله
الكريم (ﷺ) دونما جدل لا تردد، فهذه هي التقوى.
التقوى هي كما قال أبو الدرداء
رضي الله عنه: "تمام التقوى أن يتقي العبد الله عز وجل حتى يتقيه من مثقال
ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً".
وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال
لسائله: هل أخذت طريقاً ذا شوك؟
قال: نعم, قال: فكيف صنعت؟
قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه
(تجنبته) أو جاوزته (قفزت من فوقه)
أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر),
قال أبو هريرة: ذاك التقوى.. الشوك هو الذنوب والمعاصي، وهو كل ما حرم الله عز وجل..
خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
ترى ماذا يحدث لو أن الأمة
أصبحت أمة تقية؟!..
ينجو الفرد وينجو المجتمع! قال
تعالى }وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجۡعَل لَّهُۥ مَخۡرَجٗا
(2) وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ
حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ
قَدۡرٗا (3){ ]
الطلاق[
.
هذا ليس للأفراد فقط بل للأمة
جميعاً ، يجعل الله عز وجل للأمة مخرجاً من همومها ومشاكلها ومصاعبها ، يرزق الله
الأمة من حيث لا تحتسب،
تُرفع عنها الأزمات الاقتصادية ، ويكثر الخير في
أيدي الناس، ويهابها أهل الأرض جميعاً.. قال تعالى }
وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ
شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ (120) { ]
آل عمران[ .
وقال تعالى }
إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ
هُم مُّحۡسِنُونَ (128){
] النحل[
وتخيل أمة يكون الله معها ، فمن يكون عليها ؟! لا أحد!..
التقوى ..ثمرة من ثمرات رمضان..
الخاتمة ..
أيها المؤمنون .. يجب أن نعلم
أن رمضان فرصة حقيقية..
فرصة للأمة أن تبني نفسها من
جديد، فرصة للصالحين أن يزدادوا قرباً من الله..
فرصة للعصاة أن يعودوا إلى
ربهم ، فرصة لرفع البلاء،
رمضان تربية.. وأي تربية !!
أيها المسلمون .. هيا نقبل على
شهر رمضان بنية تربية النفس, وإصلاح القلب, فصلاح الأفراد والأمم بصلاح قلوبها,
ففي الحديث."أَلَا
وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ
فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ") متفق عليه)
وإن الله تعالى كتب علينا الصيام للوصول بالنفس إلى تقوى الله,
والخوف منه سبحانه, وتعديل سلوك الناس إلى الأحسن, والتحلي بمكارم الأخلاق, قال
تعالى }يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183){ ]البقرة[
فالصوم جُنة
وحصانة للصائم من الشرور والفتن, والصوم فيه مجاهدة لرغبات النفس والجسد, ويكسب
صاحبه فضيلة الصبر والحلم, كما أنه يعود المسلم على الاهتمام بالأوقات والدقة في
المواعيد, ويربي الجوارح ويهذبها شهرا كاملا حتى تخرج من رمضان شخصية إيمانية
أخلاقية, تتعامل بمعاملات الإسلام وأحكامه هيا نغير من أنفسنا حتى يغير الله
حالنا, قال تعالى }إِنَّ اللَّهَ
لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم(11 {( ]الرعد[
هيا نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب ونعلن توبتنا إلى الله قبل أن
نموت،
هيا نرد
المظالم إلى أهلها, ونتصافى مع الخلق, قبل أن لا يكون, ونسعى لإصلاح ذات بيننا.
هيا نعلق قلوبنا بالمساجد, حتى يظلنا الله بظل عرشه يوم لا ظل
إلا ظله، نتواصى بالقصد والاعتدال, والبعد عن مظاهر الإسراف, والتبذير في كل شئون
الحياة .
نسأل الله
العظيم أن يتقبل منا الصيام ويجعل رمضان هذا تربية لنا وتزكية لنفوسنا وتهذيبا
لأخلاقنا ونصرا لأمتنا وعزا لديننا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق