وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له من علينا بتزكية نفوسنا وتهذيب أخلاقنا فقال تعالي }وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21){ ]النور[.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله )ﷺ) سيد المحبين وإمام المرسلين . }كان إذا دخل العشر شد مئزره، وجدَّ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله{[رواه البخاري].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
ها نحن قد وصلنا إلي المحطة الأخيرة في سباق رمضان وهي العشر الأواخر، حيث فيها الخير العظيم، فحري بنا أن نُحي الهمم في نهاية السباق حتي لا تضعف ، ويصيبها الفتور والكسل ويُحرم الإنسان الأجر العظيم في رمضان ،فلا تكن الخيل أفطن منا ، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع".
وقال ابن تيمية رحمه الله: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
وقال الحسن البصري: "أحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى".
ويقول الحسن البصري أيضا :}إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذى يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون {.
وها هو سيدنا على رضى الله عنه وعى هذا المعنى فكان يخرج قرب نهاية السباق من شهر رمضان يستحث المتسابقين ويحفزهم وينادى بأعلى صوته: ليت شعرى !
من هذا المقبول فنهنيه ؟؟ ومن هذا المحروم فنعزيه ؟؟
هيا أيها المتسابقون فلنجتهد لنكون من المقبولين، ولنلحق بركب الصالحين فما بقى إلا القليل، والعبرة بالخواتيم.
فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تدرك رحمة الله، ربما تكون في أواخر رمضان.
لذلك كان حديثنا عن } الهمة العالية في اغتنام العشر الأواخر من رمضان{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ إدراك الخسارة الحقيقية .
2ـ إدراك فضل العشر الأواخر من رمضان .
3ـ الهمة العالية في اغتنام العشر الأواخر من رمضان.
4ـ الخاتمة.
العنصر الأول : إدراك الخسارة الحقيقية:
الكارثة العظيمة أن يُحرم الإنسان الخير في رمضان ، والنبي)ﷺ) ذكر أحاديث في بيان خُسْران من أدرك رمضان ولم يُغَفر له كثيرة، منها:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله )ﷺ):}رغِمَ أَنفُ (خاب وخسِر) رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبل أن يُغفَرَ له، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَه أبواهُ الكِبَر فلم يُدْخِلاهُ الجنة ]{رواه الترمذي[
2 ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: }ارْتَقى النبيُّ )ﷺ) على المنبر درجةً فقال: آمين، ثم ارتقى الثانيةَ فقال: آمين، ثم ارتقى الثالثةَ فقال: آمين، ثم استوى فجلس، فقال أصحابُه: على ما أمَّنْتَ؟ قال: "أتاني جبريلُ فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك، فقلتُ آمين، فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك أبوَيه فلم يَدخُلِ الجنة، فقلتُ: آمين، فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغْفَرْ له، فقلتُ، آمِين"{ ]رواه البزار وصححه الألباني[.
3 ـ وعن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه أن النبي )ﷺ) قال: }أتاني جبريل فقال: يا مُحمَّد! من أدركَ أحدَ والديْهِ فماتَ فدخلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: يا محمَّد، مَن أدرك شهرَ رمضانَ فماتَ فلم يُغْفَرْ لهُ فأُدْخِلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: ومن ذُكِرْتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليكَ فماتَ فدخلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمينَ، فقلتُ: آمين{ ]رواه الطبراني وصححه الألباني[.
وحتى نكون من الفائزين برمضان علينا أن نُحي الهمة في العشر الأواخر من رمضان ، من الاجتهاد في العبادة .
العنصر الثاني : إدراك فضل العشر الأواخر من رمضان :
لقد خص الله تعالى العشر الأواخر من رمضان بمزايا لا توجد في غيرها، من أعظمها ليلة القدر التي خصها الله تعالى بنزول القرآن الكريم ، وقد خصها النبي )ﷺ) بأعمال لم يكن يفعلها في غيرها ، فكان النبي )ﷺ) يجتهد في العبادة العشر الأواخر من رمضان لما لهذه الأيام من مكانة عظيمة عند الله تعالى ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: }كان النبي )ﷺ) إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ.{ ]رواه مسلم[
ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات، وقيل: كناية عن اعتزال النساء. وعنها رضي الله عنها قالت: }كان رسول الله )ﷺ) يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره{.] رواه مسلم[
وهذا الإحياء شامل لجميع أنواع العبادات: من صلاة، وقرآنٍ، وذكرٍ، ودعاء، وصدقة، وغيرها. ومما يدل على فضل العشر: إيقاظ الأهل للصلاة والذكر،
العنصر الثالث : الهمة العالية في اغتنام العشر الأواخر من رمضان:
هيا بنا أيها الأكارم نُحيي همتنا في العشر الأواخر من رمضان حتى نفوز برمضان وإحيائها يكون بهذه الوسائل التي كان يفعلها النبي )ﷺ) والصحابة الكرام رضي الله عنهم والصالحين من بعدهم ، والنجاة الحقيقية في الاقتداء برسول الله )ﷺ)والصحب الكرام رضي الله عنهم جميعاً
تشبهوا بالرجال إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاحُ
من هذه الوسائل :
أولا : الاعتكاف في العشر الأواخر:
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾Ÿ [البقرة].
لأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية) .
وقال حذيفة رضي الله عنه:}أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً{.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي )ﷺ) كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: }كان النبي )ﷺ) يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً{ ] البخاري[
وفي لفظ: "كان يعرضُ على النبي )ﷺ) القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: } كان رسولُ اللهِ )ﷺ) أجودَ الناسِ بالخيرِ ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ{ ]البخاري ومسلم[
والمقصود بالاعتكاف انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله تعالى في مسجد من مساجد الله طلباً لفضل ثواب الاعتكاف من الله تعالى، وطلباً لإدراك ليلة القدر.
وحقيقته : " قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق "
ثانيا : تحري ليلة القدر والتخلص من الأحقاد، وطلب العفو من الله تعالى:
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالاً من أصحاب النبي)ﷺ) أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله )ﷺ) أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر .
وعن ابن عمر رضي الله عنه }من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، وقال: تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر { [ أخرجه الإمام أحمد].
وقال الله تعالى: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {.] القدر[
وقال عز وجل: } إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ(3){ [الدخان]. والقول الأقوى أنّها في الوتر من العشر الأواخر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: }التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة{ [رواه البخاري].
و سميت ليلة القدر بهذا الاسم للآتي :
أ- لأن الله يقدر فيها الأرزاق وأمور العباد وتأخذ الملائكة صحائف الأقدار عاماً كاملاً من ليلة القدر إلى ليلة قدر أخرى، فلا يبقى جليل ولا حقير إلا كتب الله أمره عاماً كاملاً، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)} [الدخان] .
ب - لأن الله أنزل فيها القرآن وهو أعظم ما يكون من الكتب قدراً.
ج - لأن الإنسان يعظم قدره فيها إذا أحياها، لذلك قد تكتب السعادة لإنسان بعد إحيائها قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)} [القدر]
إحياؤها أفضل من عبادة 84 عاما.
د - لأن الأرض تضيق والقدر هو التضييق كما قال تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ(7)} [الطلاق]، أي ضيق عليه لأن الأرض تضيق من كثرة الملائكة التي نزلت من السماء.
والصحيح أن كل ذلك واقع في ليلة القدر كما ثبت في النصوص.
والحكمة من إخفاء ليلة القدر وعدم معرفتها :
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله )ﷺ) وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر فتلاحا رجلان فقال: } إني خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحا فلان وفلان لعل ذلك أن يكون خيرا، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة{ [مصنف بن أبي شيبة] .
وقد أوصانا النبي )ﷺ) بالاجتهاد في ليلة القدر بالقيام والدعاء لقد حض النبي )ﷺ) علي قيام ليلة القدر:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى {[ أخرجه والإمام أحمد وابن خزيمة]
لقول عائشة رضي الله عنه:}قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة: ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني{ [رواه الترمذي].
ثالثا : حب المكث في المسجد:
فالمسجد سفارة الله في الأرض فكما أن سفارة كل دولة تعتبر ملكاً لها و تابعة لسلطانها مع أنها مقامة على أرض دولة أخرى، فكذلك المسجد الذي يقع على الأرض لكنه بقعة انتزعت من السماء.
والمسجد يُعتبر حياة المسلم، ولأن المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، والمنافق في المسجد كالطير في القفص، فإن القلوب كثيرةُ التقلبات والتحولات، فلِلْقَلبِ من اسِمْه حظٌّ ونصيب، ونستطيع أن نُشَبِّهها بالإناء، فيمكن أن يُغرَف به ماءٌ عذبٌ، ويمكن أن يُغرَف به ماءٌ أُجَاجٌ، وهكذا القلب، يمكن أن يتقبل الخير، ويمكن أن يتقبل الشر، ويمكن أن يتقبل الخير والشر، وهو إلى ما غلب أقرب، ولذلك فقد جاء الثناء والمدح لأصحاب القلوب الخيرة نسأل الله أن يجعلنا منهم - فقد ذكر النبي )ﷺ) أن من سبعة الأصناف الذين يمتَنُّ الله عليهم بالإظلال تحت ظل عرشه يومَ لا ظل إلا ظله؛}ورجل قلبه معلَّقٌ في المساجد {
قال ابن رجب رحمه الله، في وصف الرجل المعلَّق قلبُه بالمساجد: فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فيه، فإذا خرج منه تعلَّق قلبه به حتى يرجع إليه، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه، وقادها إلى طاعة الله، فانقادت له؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مَواضِع الهوى، واللعب المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يَقْصُر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدَّم عليه محبةَ مولاه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم: }رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37){ [النور].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله )ﷺ):}لا يتوضأ أحدكم، فيُحْسِن وضوءه فيُسْبِغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته{.] صحيح الترغيب والترهيب[
وقد روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله، قال:}من جلس في المسجد؛ فإنما يُجَالِس ربه عز وجل{
فبالله عليك، هل من يجالس ربه في بيته، بالذكر، وتدبُّرِ القرآن، وتعلُّمِ العلم وتعليمه، كمن يجلس أمام تفاهات التمثيل، وسفاسف اللهو واللعب، وخُزَعْبِلات الصحف والمجلات ؟!
رجل تعلق قلبه بالمساجد، كلما نُودي للصلاة فيها سارع إليها وإليه بشوقٍ وشديدِ رغبة؛ لينال القلب ارتياحه الذي لا يتهيأ بمتاع الدنيا وإنْ عَظُم، فسبيله في ذلك سبيل من كان يأمر بلالاً رضي الله عنه:(أَرِحنا بها يا بلال) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا قُضِيَت الصلاة ظلَّ القلب معلَّقًا بالمسجد، وإن خرج منه الجسد، حتى يعود إليه مرة أخرى. وما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله سبحانه وتعالى، محبةً وإنابةً ورغبة ورهبة وخوفًا ورجاءً وإخلاصًا وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّدًا، فالتعلق بالله عز وجل وحده هو الغاية العظمى والنجاة الحقة.
ومن تعلَّق بغير الله عز وجل، شأنه خَسِر خسرانًا مبينًا؛ كما قال تعالى: }مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ (41){ [العنكبوت].
ولقد أعطي المولي عز وجل للمسلم المتعلق بالمسجد فضائل كثيرة منها :
1ـ الاتصاف بصفة من يُظِلُّهم الله في ظله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي )ﷺ) قال:}سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلُّه) فذكر منهم: (ورجل قلبه معلَّق بالمساجد{؛ ]رواه البخاري ومسلم[، وفي رواية الإمام مالك: (ورجل قلبه معلَّق بالمسجد حتى يعود إليه).
2ـ زيادة الحسنات ومحو السيئات:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله )ﷺ):}من راح إلى مسجد الجماعة فخطوةٌ تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهبًا وراجعًا{.
3ـ إعداد النُّزل له في الجنة:
فعن أبى هريرة رضى الله عنه: عن النبي )ﷺ)، قال:}من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نُزُلاً في الجنة، كلما غدا أو راح{. [متفق عليه]
4ـ البشارة بالنور التام يوم القيامة:
عن بُرَيْدَة رضي الله عنه :عن النبي )ﷺ) قال: }بَشِّرِ الْمَشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة{.] أبو داود[
5ـ ومنها أنه ضامن على الله عز وجل:
عن أبى أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله )ﷺ) قال:}ثلاثٌ كلُّهم ضامن على الله، إن عاشَ رُزِقَ وكُفِي، وإن مات دخل الجنة: من دخل بيته فسَلَّم فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله{ ] أخرجه البخاري وأبو داود وابن حبان[
6ـ أن الله عز وجل يباهى به الملائكة:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "صلَّيْنا مع رسول الله )ﷺ) المغرب، فرَجَع من رجع، وعقب مَنْ عقب، فجاء رسول الله )ﷺ) مُسْرِعًا، قد حفره النَّفَس، قد حسر عن ركبتيه، قال:} أبشِروا، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قَضَوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى{ ]ابن ماجة وأحمد[
7ـ حصول الرحمة، والجوازُ على الصراط:
عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله )ﷺ) يقول:}المسجد بيت كل تقِيٍّ، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالرَّوح والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة{ ] صحيح الترغيب والترهيب[
8ـ علاقة خاصة بالملائكة:
عن عبدالله بن سلام رضي الله عنه أن النبي )ﷺ) قال: }إن للمساجد أوتادًا هم أوتادها، لَهُم جُلَسَاء من الملائكة، فإن غابوا سَأَلُوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم{.] حسنه الألباني[
فلنربط قلوبنا بالمساجد، ولنجعلْها بيوتنا، ولنكُنْ كصحابة رسول الله) ﷺ)في تعلُّقهم بالمساجد، وشعورهم بالأمان فيها، فقد كانوا إذا فَزِعوا من شيء أتوا إلى المساجد، ولنحجز أماكننا في الصف الأول لننال المنزلة العظيمة الْمُعَدَّة لأهله.
قال )ﷺ): }إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول{؛ ]صحيح ابن ماجه [ .
وعن أُبَيِّ بنِ كعْبٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ )ﷺ):}الصَّفُّ المُقدَّمُ على مثْلِ صَفِّ الملائكةِ، ولو تَعلمونَ فَضيلتَه لَابْتدرتُموه{، أي: فيه مِن الفضْلِ والأجْرِ ما يَحثُّكُم على المُسارعةِ إليه؛ لأنَّه يُشْبِهُ اصطفافَ الملائكةِ عندَ اللهِ سُبحانَه.
9ـ أجر المرابط في سبيل الله :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله )ﷺ) قال:} ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّبَاط{ كررها ثلاث مرات؛ ]أخرجه مسلم[.
10ـ علامات صدق الإيمان:
يقول الرسول )ﷺ): }إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)، فإن الله تعالى قال: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ(18) ﴾{ [التوبة].
رابعا: إحياء الليل:
لقد علم العارفون أنَّ قيام الليل مدرسة المخلصين، ومضمار السابقين، وأنّ الله تعالى إنما يوزّع عطاياه، ويقسم خزائن فضله في جوف الليل، فيصيب بها من تعرض لها بالقيام، ويحرم منها الغافلون والنيام، وما بلغ عبدٌ الدرجات الرفيعة، ولا نوَّر الله قلبًا بحكمة، إلاّ بحظٍّ من قيام الليل.
ويكون حال المؤمن كما قال أحد الصالحين مخاطبا نفسه ...
ألا يا نفس ويحك ساعديني بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة ان تفوزي بطيب العيش في تلك العلالي
فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر".
ومعنى (إحياء الليل): أي استغرقه بالسهر في الصلاة والذكر وغيرهما.
وقد جاء عند النسائي عنها أنها قالت: (لا أعلم رسول الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرًا كاملاً قط غير رمضان).
فعلى هذا يكون إحياء الليل المقصود به أنه يقوم أغلب الليل، ويحتمل أنه كان يحيي الليل كله، كما جاء في بعض طرق الحديث.
وقيام الليل في هذا الشهر الكريم وهذه الليالي الفاضلة لا شك أنه عمل عظيم جديربالحرص والاعتناء؛ حتى نتعرض لرحمات الله جل شأنه.
وكان النبي )ﷺ) يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي.
قال سفيان الثوري: أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وقد صح عن النبي)ﷺ) أنه كان يطرق فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان } [رواه البخاري ومسلم].
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يُوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه.
وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة : الصلاة، ويتلو هذه الآية: }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(132){ [طه].
وكانت امرأة أبي محمد حبيب الفارسي تقول له بالليل: ( قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا ).
يا نائماً بالليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخُذ من الليل وأوقاته ورِداً إذا ما هجع الرّقد
من نام حتى ينقضي ليله ثم يبلغ المنزل أو يجهد
فضل قيام الليل :
لقد حثَّ النبي )ﷺ) قيام الليل، فجاء في فضله من الأحاديث جملة مباركة، منها:
- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله )ﷺ): }أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل{[ رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة في صحيحه.].
- وعن عبد الله بن سلام قال: "أول ما قدم رسول الله )ﷺ) المدينة، انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلمّا تأمّلت وجهه، واستبنته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما سمعت من كلامه، أن قال: أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"[ رواه الترمذي].
- عن معاذ بن جبل عن النبي )ﷺ) قال:}ما من مسلم يبيت طاهرًا، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلاَّ أعطاه الله إياه{ [ رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجه.].
- وعن المغيرة بن شعبة قال:} قام النبي )ﷺ) حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا{[ رواه البخاري، ومسلم، والنسائي].
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله )ﷺ) قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا"[ رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.].
- وعن جابر قال سمعت رسول الله )ﷺ) يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة"[ رواه مسلم].
- وعن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله )ﷺ) قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"[ رواه الترمذي].
- وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله )ﷺ): "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا، أو صلّى ركعتين جميعًا، كتبا في الذاكرين والذاكرات "[ رواه أبو داود].
- وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: "جاء جبريل إلى النبي فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"[ رواه الطبراني في الأوسط].
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله )ﷺ): "أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل"[ رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي].
- وعن أبي الدرداء عن النبي )ﷺ) قال: }ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم، ويستبشر بهم، الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله ، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد. والذي إذا كان في سفر، وكان معه ركب، فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء{[ رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن].
حال السلف مع الليل :
كان الليل في حياة السلف مختلف تماما عن الليل في حياتنا كما قال الإمام ابن الجوزي: واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات:
• الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء.
• الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل.
• الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، قال النبي )ﷺ): {أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ،
وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَوْمُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا ، وَيُفْطِرُ يَوْمًا} [متفق عليه].
• الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه.
• الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام.
• الطبقة السادسة: قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين.
•الطبقة السابعة: قوم يُحيون ما بين العشاءين، ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون بين الطرفين. انتهي كلام ابن الجوزي.
وقد ورد في صحيح مسلم أن النبي )ﷺ) قال:{إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا آتاه، وذلك كل ليلة }.
ولقد صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
وأخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله ، فقال له : يا حسين : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب : كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ؟!!
أليس كل حبيب يخلو بحبيبه ؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل ،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي .
• قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي.
• كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة !! وتلذذت به عشرين سنة .
• كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة .
• كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
• قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
• كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل، ثم دافع ثم دافع ، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب .
• قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة !! إنما هو على الجنب ، فإذا تحرك ( أي أفاق من نومه ) قال : ليس هذا لك !! قومي خذي حظك من الآخرة !!
• دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأة بللاً في موضع سجود الأوزاعي ، فقالت لزوجة الأوزاعي : ثكلتك أمك !! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ ( أي مكان صلاته بالليل ) فقالت لها زوجة الأوزاعي : ويحك هذا يُصبح كل ليلة !! من أثر دموع الشيخ في سجوده .
ومن أقوال الأوزاعي: من أطال قيام الليل، هوَّن الله عليه وقوف يوم القيامة.
• كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه : أيظن أصحاب محمد )ﷺ) أن يسبقونا عليه ، والله لأزاحمنهم عليه ، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا !! ثم يصلي إلى الفجر .
• كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!!
ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم !! ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
• قال الفضيل بن عياض رحمه الله : إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي ( أي ما شبعت من القرآن والصلاة ) .
• لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له : ما يبكيك !! فقال : إني لم أشتفِ من قيام الليل !!
• قال الفضيل بن عياض رحمه الله : كان يقال : من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم ، خلائق ثلاثة : الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل .
• كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب ، فإذا تعب صلى وهو جالس .
• قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم ، فيراه من لم يره قط فيقول : إن لأحبُ هذا الرجل !!
• قيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
• كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول :ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها !!! ( أي لأجل قيام الليل ) .
• قال ثابت البناني رحمه الله : لا يسمى عابد أبداً عابدا ، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ، لأنهما من لحمه ودمه !!
• قال طاووس بن كيسان رحمه الله : ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل ، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك.
• قال سليمان بن طرخان رحمه الله : إن العين إذا عودتها النوم اعتادت ، وإذا عودتها السهر اعتادت .
• قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله : إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني .
• قال ابن الجوزي رحمه : لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [ كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ] حلفت أجفانهم على جفاء النوم .
• وقد عرف السلف الدواء الناجع للقيام ، فقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال :" لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف" .
• قال سفيان الثوري رحمه الله : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته
• قال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد : إني أبيت معافى وأحب قيام الليل ، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟!! فقال الحسن : ذنوبك قيدتك !!
• كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا ، وبادروا قوتكم ، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا ، فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية !!
• قال محمد بن يوسف : كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول : قوموا يا شباب ، صلوا ما دمتم شبابا ،إذا لم تصلوا اليوم فمتى ؟!!
• قال أبو عثمان النهدي:( تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا)
• كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: لولا ثلاثة ما وددت أن أعيش في الدنيا ساعة: "الظمأ بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما تنتقى أطايب الثمر".
وفي الختام ...
علينا أن نحرص أيها المسلمون أن ننتفع بالعشر الأواخر من رمضان لكي نكون من سكان القمم ،فسكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه، ومن كل أمر إلا أتمه وأجمله، وقد قيل قديمًا: 'قدر الرجل على قدر همته'.
فمن كان عالي الهمة؛ كان عالي القدر، فبادر ولا يقعد بك العجز عن المكرمات، حاول أن تكون من سكان القمم، وابذل في تحصيله كل غال ورخيص، ولا تدخر في ذلك أي نفيس ، لكل مُجِدٍّ مكافأة تليق بمقامه.
فإياك أن تخرج منها خاسرًا، قبل أن تبنى لك بيتًا في الجنة.. قال تعالى:{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}[ الحديد] .
كان ربيعة بن كعب، له همة فوق الشمس.. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ )ﷺ) فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ{ ]رواه مسلم[.
أين كانت تحلق همة ربيعة؟ كانت تحلق في سماء رفيعة، وقمم شاهقة .
فنسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا بكرمه، ويرزقنا ليلة القدر ويعيننا علي إحيائها، ويفتح لنا أبواب الخير.. آمين.
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله )ﷺ) سيد المحبين وإمام المرسلين . }كان إذا دخل العشر شد مئزره، وجدَّ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله{[رواه البخاري].
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد .. فيا أيها المؤمنون
ها نحن قد وصلنا إلي المحطة الأخيرة في سباق رمضان وهي العشر الأواخر، حيث فيها الخير العظيم، فحري بنا أن نُحي الهمم في نهاية السباق حتي لا تضعف ، ويصيبها الفتور والكسل ويُحرم الإنسان الأجر العظيم في رمضان ،فلا تكن الخيل أفطن منا ، كما قال ابن الجوزي رحمه الله: "إن الخيل إذا شارفت نهاية المضمار بذلت قصارى جهدها لتفوز بالسباق، فلا تكن الخيل أفطن منك! فإنما الأعمال بالخواتيم، فإنك إذا لم تحسن الاستقبال لعلك تحسن الوداع".
وقال ابن تيمية رحمه الله: "العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات".
وقال الحسن البصري: "أحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى".
ويقول الحسن البصري أيضا :}إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته فسبق قوم ففازوا وتخلف آخرون فخابوا فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذى يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون {.
وها هو سيدنا على رضى الله عنه وعى هذا المعنى فكان يخرج قرب نهاية السباق من شهر رمضان يستحث المتسابقين ويحفزهم وينادى بأعلى صوته: ليت شعرى !
من هذا المقبول فنهنيه ؟؟ ومن هذا المحروم فنعزيه ؟؟
هيا أيها المتسابقون فلنجتهد لنكون من المقبولين، ولنلحق بركب الصالحين فما بقى إلا القليل، والعبرة بالخواتيم.
فاغتنم ما بقي فلا تدري متى تدرك رحمة الله، ربما تكون في أواخر رمضان.
لذلك كان حديثنا عن } الهمة العالية في اغتنام العشر الأواخر من رمضان{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..
1ـ إدراك الخسارة الحقيقية .
2ـ إدراك فضل العشر الأواخر من رمضان .
3ـ الهمة العالية في اغتنام العشر الأواخر من رمضان.
4ـ الخاتمة.
العنصر الأول : إدراك الخسارة الحقيقية:
الكارثة العظيمة أن يُحرم الإنسان الخير في رمضان ، والنبي)ﷺ) ذكر أحاديث في بيان خُسْران من أدرك رمضان ولم يُغَفر له كثيرة، منها:
1 ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله )ﷺ):}رغِمَ أَنفُ (خاب وخسِر) رجلٍ ذُكِرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبل أن يُغفَرَ له، ورغمَ أنفُ رجلٍ أدرَكَ عندَه أبواهُ الكِبَر فلم يُدْخِلاهُ الجنة ]{رواه الترمذي[
2 ـ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: }ارْتَقى النبيُّ )ﷺ) على المنبر درجةً فقال: آمين، ثم ارتقى الثانيةَ فقال: آمين، ثم ارتقى الثالثةَ فقال: آمين، ثم استوى فجلس، فقال أصحابُه: على ما أمَّنْتَ؟ قال: "أتاني جبريلُ فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ ذُكِرْتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك، فقلتُ آمين، فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك أبوَيه فلم يَدخُلِ الجنة، فقلتُ: آمين، فقال: رَغِمَ أنفُ امرئٍ أدرك رمضانَ فلم يُغْفَرْ له، فقلتُ، آمِين"{ ]رواه البزار وصححه الألباني[.
3 ـ وعن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه أن النبي )ﷺ) قال: }أتاني جبريل فقال: يا مُحمَّد! من أدركَ أحدَ والديْهِ فماتَ فدخلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: يا محمَّد، مَن أدرك شهرَ رمضانَ فماتَ فلم يُغْفَرْ لهُ فأُدْخِلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمين، فقلتُ: آمين، قال: ومن ذُكِرْتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليكَ فماتَ فدخلَ النَّارَ فأبعدَه الله، قُل: آمينَ، فقلتُ: آمين{ ]رواه الطبراني وصححه الألباني[.
وحتى نكون من الفائزين برمضان علينا أن نُحي الهمة في العشر الأواخر من رمضان ، من الاجتهاد في العبادة .
العنصر الثاني : إدراك فضل العشر الأواخر من رمضان :
لقد خص الله تعالى العشر الأواخر من رمضان بمزايا لا توجد في غيرها، من أعظمها ليلة القدر التي خصها الله تعالى بنزول القرآن الكريم ، وقد خصها النبي )ﷺ) بأعمال لم يكن يفعلها في غيرها ، فكان النبي )ﷺ) يجتهد في العبادة العشر الأواخر من رمضان لما لهذه الأيام من مكانة عظيمة عند الله تعالى ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: }كان النبي )ﷺ) إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ.{ ]رواه مسلم[
ومعنى شد المئزر: أي شمر واجتهد في العبادات، وقيل: كناية عن اعتزال النساء. وعنها رضي الله عنها قالت: }كان رسول الله )ﷺ) يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره{.] رواه مسلم[
وهذا الإحياء شامل لجميع أنواع العبادات: من صلاة، وقرآنٍ، وذكرٍ، ودعاء، وصدقة، وغيرها. ومما يدل على فضل العشر: إيقاظ الأهل للصلاة والذكر،
العنصر الثالث : الهمة العالية في اغتنام العشر الأواخر من رمضان:
هيا بنا أيها الأكارم نُحيي همتنا في العشر الأواخر من رمضان حتى نفوز برمضان وإحيائها يكون بهذه الوسائل التي كان يفعلها النبي )ﷺ) والصحابة الكرام رضي الله عنهم والصالحين من بعدهم ، والنجاة الحقيقية في الاقتداء برسول الله )ﷺ)والصحب الكرام رضي الله عنهم جميعاً
تشبهوا بالرجال إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاحُ
من هذه الوسائل :
أولا : الاعتكاف في العشر الأواخر:
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو ثابت بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾Ÿ [البقرة].
لأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية) .
وقال حذيفة رضي الله عنه:}أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً{.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي )ﷺ) كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: }كان النبي )ﷺ) يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً{ ] البخاري[
وفي لفظ: "كان يعرضُ على النبي )ﷺ) القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً فاعتكف عشرين في العام الذي قُبض فيه".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: } كان رسولُ اللهِ )ﷺ) أجودَ الناسِ بالخيرِ ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرِّيحِ الْمُرسَلَةِ{ ]البخاري ومسلم[
والمقصود بالاعتكاف انقطاع الإنسان عن الناس ليتفرغ لطاعة الله تعالى في مسجد من مساجد الله طلباً لفضل ثواب الاعتكاف من الله تعالى، وطلباً لإدراك ليلة القدر.
وحقيقته : " قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق "
ثانيا : تحري ليلة القدر والتخلص من الأحقاد، وطلب العفو من الله تعالى:
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالاً من أصحاب النبي)ﷺ) أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله )ﷺ) أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر .
وعن ابن عمر رضي الله عنه }من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين، وقال: تحروها ليلة سبع وعشرين يعني ليلة القدر { [ أخرجه الإمام أحمد].
وقال الله تعالى: }إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {.] القدر[
وقال عز وجل: } إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ(3){ [الدخان]. والقول الأقوى أنّها في الوتر من العشر الأواخر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: }التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة{ [رواه البخاري].
و سميت ليلة القدر بهذا الاسم للآتي :
أ- لأن الله يقدر فيها الأرزاق وأمور العباد وتأخذ الملائكة صحائف الأقدار عاماً كاملاً من ليلة القدر إلى ليلة قدر أخرى، فلا يبقى جليل ولا حقير إلا كتب الله أمره عاماً كاملاً، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)} [الدخان] .
ب - لأن الله أنزل فيها القرآن وهو أعظم ما يكون من الكتب قدراً.
ج - لأن الإنسان يعظم قدره فيها إذا أحياها، لذلك قد تكتب السعادة لإنسان بعد إحيائها قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3)} [القدر]
إحياؤها أفضل من عبادة 84 عاما.
د - لأن الأرض تضيق والقدر هو التضييق كما قال تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ(7)} [الطلاق]، أي ضيق عليه لأن الأرض تضيق من كثرة الملائكة التي نزلت من السماء.
والصحيح أن كل ذلك واقع في ليلة القدر كما ثبت في النصوص.
والحكمة من إخفاء ليلة القدر وعدم معرفتها :
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله )ﷺ) وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر فتلاحا رجلان فقال: } إني خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحا فلان وفلان لعل ذلك أن يكون خيرا، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة{ [مصنف بن أبي شيبة] .
وقد أوصانا النبي )ﷺ) بالاجتهاد في ليلة القدر بالقيام والدعاء لقد حض النبي )ﷺ) علي قيام ليلة القدر:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه ليلة القدر ليلة السابعة أو التاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى {[ أخرجه والإمام أحمد وابن خزيمة]
لقول عائشة رضي الله عنه:}قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة: ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني{ [رواه الترمذي].
ثالثا : حب المكث في المسجد:
فالمسجد سفارة الله في الأرض فكما أن سفارة كل دولة تعتبر ملكاً لها و تابعة لسلطانها مع أنها مقامة على أرض دولة أخرى، فكذلك المسجد الذي يقع على الأرض لكنه بقعة انتزعت من السماء.
والمسجد يُعتبر حياة المسلم، ولأن المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، والمنافق في المسجد كالطير في القفص، فإن القلوب كثيرةُ التقلبات والتحولات، فلِلْقَلبِ من اسِمْه حظٌّ ونصيب، ونستطيع أن نُشَبِّهها بالإناء، فيمكن أن يُغرَف به ماءٌ عذبٌ، ويمكن أن يُغرَف به ماءٌ أُجَاجٌ، وهكذا القلب، يمكن أن يتقبل الخير، ويمكن أن يتقبل الشر، ويمكن أن يتقبل الخير والشر، وهو إلى ما غلب أقرب، ولذلك فقد جاء الثناء والمدح لأصحاب القلوب الخيرة نسأل الله أن يجعلنا منهم - فقد ذكر النبي )ﷺ) أن من سبعة الأصناف الذين يمتَنُّ الله عليهم بالإظلال تحت ظل عرشه يومَ لا ظل إلا ظله؛}ورجل قلبه معلَّقٌ في المساجد {
قال ابن رجب رحمه الله، في وصف الرجل المعلَّق قلبُه بالمساجد: فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فيه، فإذا خرج منه تعلَّق قلبه به حتى يرجع إليه، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه، وقادها إلى طاعة الله، فانقادت له؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مَواضِع الهوى، واللعب المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يَقْصُر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدَّم عليه محبةَ مولاه، فهو ممن قال الله تعالى فيهم: }رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ(37){ [النور].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله )ﷺ):}لا يتوضأ أحدكم، فيُحْسِن وضوءه فيُسْبِغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته{.] صحيح الترغيب والترهيب[
وقد روي عن سعيد بن المسيب رحمه الله، قال:}من جلس في المسجد؛ فإنما يُجَالِس ربه عز وجل{
فبالله عليك، هل من يجالس ربه في بيته، بالذكر، وتدبُّرِ القرآن، وتعلُّمِ العلم وتعليمه، كمن يجلس أمام تفاهات التمثيل، وسفاسف اللهو واللعب، وخُزَعْبِلات الصحف والمجلات ؟!
رجل تعلق قلبه بالمساجد، كلما نُودي للصلاة فيها سارع إليها وإليه بشوقٍ وشديدِ رغبة؛ لينال القلب ارتياحه الذي لا يتهيأ بمتاع الدنيا وإنْ عَظُم، فسبيله في ذلك سبيل من كان يأمر بلالاً رضي الله عنه:(أَرِحنا بها يا بلال) صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وإذا قُضِيَت الصلاة ظلَّ القلب معلَّقًا بالمسجد، وإن خرج منه الجسد، حتى يعود إليه مرة أخرى. وما كان هذا التعلُّق أن يأتِيَ من فراغ، ولكنه ثمرة التعلق بالله سبحانه وتعالى، محبةً وإنابةً ورغبة ورهبة وخوفًا ورجاءً وإخلاصًا وتوكُّلاً وذلاً وتعبُّدًا، فالتعلق بالله عز وجل وحده هو الغاية العظمى والنجاة الحقة.
ومن تعلَّق بغير الله عز وجل، شأنه خَسِر خسرانًا مبينًا؛ كما قال تعالى: }مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ (41){ [العنكبوت].
ولقد أعطي المولي عز وجل للمسلم المتعلق بالمسجد فضائل كثيرة منها :
1ـ الاتصاف بصفة من يُظِلُّهم الله في ظله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي )ﷺ) قال:}سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلُّه) فذكر منهم: (ورجل قلبه معلَّق بالمساجد{؛ ]رواه البخاري ومسلم[، وفي رواية الإمام مالك: (ورجل قلبه معلَّق بالمسجد حتى يعود إليه).
2ـ زيادة الحسنات ومحو السيئات:
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله )ﷺ):}من راح إلى مسجد الجماعة فخطوةٌ تمحو سيئة، وخطوة تكتب له حسنة، ذاهبًا وراجعًا{.
3ـ إعداد النُّزل له في الجنة:
فعن أبى هريرة رضى الله عنه: عن النبي )ﷺ)، قال:}من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نُزُلاً في الجنة، كلما غدا أو راح{. [متفق عليه]
4ـ البشارة بالنور التام يوم القيامة:
عن بُرَيْدَة رضي الله عنه :عن النبي )ﷺ) قال: }بَشِّرِ الْمَشَّائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة{.] أبو داود[
5ـ ومنها أنه ضامن على الله عز وجل:
عن أبى أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله )ﷺ) قال:}ثلاثٌ كلُّهم ضامن على الله، إن عاشَ رُزِقَ وكُفِي، وإن مات دخل الجنة: من دخل بيته فسَلَّم فهو ضامن على الله، ومن خرج إلى المسجد فهو ضامن على الله، ومن خرج في سبيل الله فهو ضامن على الله{ ] أخرجه البخاري وأبو داود وابن حبان[
6ـ أن الله عز وجل يباهى به الملائكة:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "صلَّيْنا مع رسول الله )ﷺ) المغرب، فرَجَع من رجع، وعقب مَنْ عقب، فجاء رسول الله )ﷺ) مُسْرِعًا، قد حفره النَّفَس، قد حسر عن ركبتيه، قال:} أبشِروا، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي، قد قَضَوا فريضة، وهم ينتظرون أخرى{ ]ابن ماجة وأحمد[
7ـ حصول الرحمة، والجوازُ على الصراط:
عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله )ﷺ) يقول:}المسجد بيت كل تقِيٍّ، وتكفَّل الله لمن كان المسجد بيته بالرَّوح والرحمة، والجواز على الصراط إلى رضوان الله إلى الجنة{ ] صحيح الترغيب والترهيب[
8ـ علاقة خاصة بالملائكة:
عن عبدالله بن سلام رضي الله عنه أن النبي )ﷺ) قال: }إن للمساجد أوتادًا هم أوتادها، لَهُم جُلَسَاء من الملائكة، فإن غابوا سَأَلُوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم{.] حسنه الألباني[
فلنربط قلوبنا بالمساجد، ولنجعلْها بيوتنا، ولنكُنْ كصحابة رسول الله) ﷺ)في تعلُّقهم بالمساجد، وشعورهم بالأمان فيها، فقد كانوا إذا فَزِعوا من شيء أتوا إلى المساجد، ولنحجز أماكننا في الصف الأول لننال المنزلة العظيمة الْمُعَدَّة لأهله.
قال )ﷺ): }إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول{؛ ]صحيح ابن ماجه [ .
وعن أُبَيِّ بنِ كعْبٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ )ﷺ):}الصَّفُّ المُقدَّمُ على مثْلِ صَفِّ الملائكةِ، ولو تَعلمونَ فَضيلتَه لَابْتدرتُموه{، أي: فيه مِن الفضْلِ والأجْرِ ما يَحثُّكُم على المُسارعةِ إليه؛ لأنَّه يُشْبِهُ اصطفافَ الملائكةِ عندَ اللهِ سُبحانَه.
9ـ أجر المرابط في سبيل الله :
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله )ﷺ) قال:} ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّبَاط{ كررها ثلاث مرات؛ ]أخرجه مسلم[.
10ـ علامات صدق الإيمان:
يقول الرسول )ﷺ): }إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)، فإن الله تعالى قال: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ(18) ﴾{ [التوبة].
رابعا: إحياء الليل:
لقد علم العارفون أنَّ قيام الليل مدرسة المخلصين، ومضمار السابقين، وأنّ الله تعالى إنما يوزّع عطاياه، ويقسم خزائن فضله في جوف الليل، فيصيب بها من تعرض لها بالقيام، ويحرم منها الغافلون والنيام، وما بلغ عبدٌ الدرجات الرفيعة، ولا نوَّر الله قلبًا بحكمة، إلاّ بحظٍّ من قيام الليل.
ويكون حال المؤمن كما قال أحد الصالحين مخاطبا نفسه ...
ألا يا نفس ويحك ساعديني بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة ان تفوزي بطيب العيش في تلك العلالي
فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر".
ومعنى (إحياء الليل): أي استغرقه بالسهر في الصلاة والذكر وغيرهما.
وقد جاء عند النسائي عنها أنها قالت: (لا أعلم رسول الله قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرًا كاملاً قط غير رمضان).
فعلى هذا يكون إحياء الليل المقصود به أنه يقوم أغلب الليل، ويحتمل أنه كان يحيي الليل كله، كما جاء في بعض طرق الحديث.
وقيام الليل في هذا الشهر الكريم وهذه الليالي الفاضلة لا شك أنه عمل عظيم جديربالحرص والاعتناء؛ حتى نتعرض لرحمات الله جل شأنه.
وكان النبي )ﷺ) يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي.
قال سفيان الثوري: أحب إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وقد صح عن النبي)ﷺ) أنه كان يطرق فاطمة وعلياً ليلاً فيقول لهما: { ألا تقومان فُتصليان } [رواه البخاري ومسلم].
وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجده وأراد أن يُوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصلاة، ونضح الماء في وجهه.
وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصلاة، يقول لهم: الصلاة : الصلاة، ويتلو هذه الآية: }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا(132){ [طه].
وكانت امرأة أبي محمد حبيب الفارسي تقول له بالليل: ( قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا ).
يا نائماً بالليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد
وخُذ من الليل وأوقاته ورِداً إذا ما هجع الرّقد
من نام حتى ينقضي ليله ثم يبلغ المنزل أو يجهد
فضل قيام الليل :
لقد حثَّ النبي )ﷺ) قيام الليل، فجاء في فضله من الأحاديث جملة مباركة، منها:
- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله )ﷺ): }أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل{[ رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة في صحيحه.].
- وعن عبد الله بن سلام قال: "أول ما قدم رسول الله )ﷺ) المدينة، انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلمّا تأمّلت وجهه، واستبنته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: فكان أول ما سمعت من كلامه، أن قال: أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"[ رواه الترمذي].
- عن معاذ بن جبل عن النبي )ﷺ) قال:}ما من مسلم يبيت طاهرًا، فيتعار من الليل، فيسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلاَّ أعطاه الله إياه{ [ رواه أبو داود، ورواه النسائي، وابن ماجه.].
- وعن المغيرة بن شعبة قال:} قام النبي )ﷺ) حتى تورمت قدماه، فقيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا{[ رواه البخاري، ومسلم، والنسائي].
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله )ﷺ) قال: "أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا"[ رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه.].
- وعن جابر قال سمعت رسول الله )ﷺ) يقول: "إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة"[ رواه مسلم].
- وعن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله )ﷺ) قال: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم"[ رواه الترمذي].
- وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله )ﷺ): "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصلّيا، أو صلّى ركعتين جميعًا، كتبا في الذاكرين والذاكرات "[ رواه أبو داود].
- وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: "جاء جبريل إلى النبي فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"[ رواه الطبراني في الأوسط].
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله )ﷺ): "أشراف أمتي حملة القرآن، وأصحاب الليل"[ رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي].
- وعن أبي الدرداء عن النبي )ﷺ) قال: }ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم، ويستبشر بهم، الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله ، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبر لي بنفسه؟ والذي له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد. والذي إذا كان في سفر، وكان معه ركب، فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء{[ رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن].
حال السلف مع الليل :
كان الليل في حياة السلف مختلف تماما عن الليل في حياتنا كما قال الإمام ابن الجوزي: واعلم أن السلف كانوا في قيام الليل على سبع طبقات:
• الطبقة الأولى: كانوا يحيون كل الليل، وفيهم من كان يصلي الصبح بوضوء العشاء.
• الطبقة الثانية: كانوا يقومون شطر الليل.
• الطبقة الثالثة: كانوا يقومون ثلث الليل، قال النبي )ﷺ): {أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ ،
وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَوْمُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا ، وَيُفْطِرُ يَوْمًا} [متفق عليه].
• الطبقة الرابعة: كانوا يقومون سدس الليل أو خمسه.
• الطبقة الخامسة: كانوا لا يراعون التقدير، وإنما كان أحدهم يقوم إلى أن يغلبه النوم فينام، فإذا انتبه قام.
• الطبقة السادسة: قوم كانوا يصلون من الليل أربع ركعات أو ركعتين.
•الطبقة السابعة: قوم يُحيون ما بين العشاءين، ويُعسِّـلون في السحر، فيجمعون بين الطرفين. انتهي كلام ابن الجوزي.
وقد ورد في صحيح مسلم أن النبي )ﷺ) قال:{إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا آتاه، وذلك كل ليلة }.
ولقد صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب رحمه الله الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
وأخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله ، فقال له : يا حسين : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب : كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ؟!!
أليس كل حبيب يخلو بحبيبه ؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل ،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي .
• قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي.
• كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة !! وتلذذت به عشرين سنة .
• كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة .
• كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
• قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
• كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل، ثم دافع ثم دافع ، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب .
• قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة !! إنما هو على الجنب ، فإذا تحرك ( أي أفاق من نومه ) قال : ليس هذا لك !! قومي خذي حظك من الآخرة !!
• دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأة بللاً في موضع سجود الأوزاعي ، فقالت لزوجة الأوزاعي : ثكلتك أمك !! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ ( أي مكان صلاته بالليل ) فقالت لها زوجة الأوزاعي : ويحك هذا يُصبح كل ليلة !! من أثر دموع الشيخ في سجوده .
ومن أقوال الأوزاعي: من أطال قيام الليل، هوَّن الله عليه وقوف يوم القيامة.
• كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه : أيظن أصحاب محمد )ﷺ) أن يسبقونا عليه ، والله لأزاحمنهم عليه ، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا !! ثم يصلي إلى الفجر .
• كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!!
ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم !! ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
• قال الفضيل بن عياض رحمه الله : إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي ( أي ما شبعت من القرآن والصلاة ) .
• لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له : ما يبكيك !! فقال : إني لم أشتفِ من قيام الليل !!
• قال الفضيل بن عياض رحمه الله : كان يقال : من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم ، خلائق ثلاثة : الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل .
• كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب ، فإذا تعب صلى وهو جالس .
• قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم ، فيراه من لم يره قط فيقول : إن لأحبُ هذا الرجل !!
• قيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
• كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول :ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها !!! ( أي لأجل قيام الليل ) .
• قال ثابت البناني رحمه الله : لا يسمى عابد أبداً عابدا ، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ، لأنهما من لحمه ودمه !!
• قال طاووس بن كيسان رحمه الله : ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل ، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك.
• قال سليمان بن طرخان رحمه الله : إن العين إذا عودتها النوم اعتادت ، وإذا عودتها السهر اعتادت .
• قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله : إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني .
• قال ابن الجوزي رحمه : لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [ كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ] حلفت أجفانهم على جفاء النوم .
• وقد عرف السلف الدواء الناجع للقيام ، فقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال :" لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف" .
• قال سفيان الثوري رحمه الله : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته
• قال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد : إني أبيت معافى وأحب قيام الليل ، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟!! فقال الحسن : ذنوبك قيدتك !!
• كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا ، وبادروا قوتكم ، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا ، فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية !!
• قال محمد بن يوسف : كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول : قوموا يا شباب ، صلوا ما دمتم شبابا ،إذا لم تصلوا اليوم فمتى ؟!!
• قال أبو عثمان النهدي:( تضيّفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا)
• كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: لولا ثلاثة ما وددت أن أعيش في الدنيا ساعة: "الظمأ بالهواجر، والسجود في جوف الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما تنتقى أطايب الثمر".
وفي الختام ...
علينا أن نحرص أيها المسلمون أن ننتفع بالعشر الأواخر من رمضان لكي نكون من سكان القمم ،فسكان القمم لا يرضون لأنفسهم من كل شيء إلا أحسنه، ومن كل أمر إلا أتمه وأجمله، وقد قيل قديمًا: 'قدر الرجل على قدر همته'.
فمن كان عالي الهمة؛ كان عالي القدر، فبادر ولا يقعد بك العجز عن المكرمات، حاول أن تكون من سكان القمم، وابذل في تحصيله كل غال ورخيص، ولا تدخر في ذلك أي نفيس ، لكل مُجِدٍّ مكافأة تليق بمقامه.
فإياك أن تخرج منها خاسرًا، قبل أن تبنى لك بيتًا في الجنة.. قال تعالى:{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(21)}[ الحديد] .
كان ربيعة بن كعب، له همة فوق الشمس.. قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ )ﷺ) فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ فَقُلْتُ أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ قَالَ: أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُ هُوَ ذَاكَ قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ{ ]رواه مسلم[.
أين كانت تحلق همة ربيعة؟ كانت تحلق في سماء رفيعة، وقمم شاهقة .
فنسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا بكرمه، ويرزقنا ليلة القدر ويعيننا علي إحيائها، ويفتح لنا أبواب الخير.. آمين.
=============
رابط pdf
https://www.raed.net/file?id=704691
رابط doc
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق