الأربعاء، 22 فبراير 2023

تحويل القبلة دروس وعبر

 


المقدمـــة

الحمدُ لله رب العالمين....  خصنا بخير كتاب أنزل وأكرمنا بخير نبي أرسل ، وأتم علينا النعمة ، فهدانا إلي ما فيه صلاحنا وفلاحنا فقال تعالي }وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151){ ]البقرة[
فنحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضلَّ له ومَن يُضلل فلن تجدَ له وليًا مرشدًا.
وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له.... أولٌ بلا بداية، وآخرٌ بلا نهاية، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم......ميز أمة الإسلام وجعل لها الخيرية والوسطية فقال تعالي }وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ .. (143){ ]البقرة [
وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا وقدوتنا وأسوتنا محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله... أكمل الله به البناء وأتم به النعمة فقال صلي الله عليه وسلم }مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا ، فَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا وَأَكْمَلَهَا ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ ، فَيَقُولُونَ : أَلا وُضِعَتْ هَاهُنَا لَبِنَةٌ فَتَمَّ بِنَاؤُهُ ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَنَا اللَّبِنَةُ {
]رواه البخاري[ .
 فاللهم صلي علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ...
أما بعد: فيا أيها المؤمنون
إن الأمة تعيش اليوم حدث من أعظم الأحداث التي غيرت في تاريخ الدعوة الإسلامية وجعلت للأمة السيادة والريادة علي الدنيا كلها  ألا وهو حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلي البيت الحرام ، وسيظلُّ تحويلُ القِبلة حدثًا فارقًا في تاريخ الدَّعوة الإسلاميَّة، ومسيرةِ بناء الدولة المسلِمة كذلك.
لقد كان الرسول  متشوِّقًا لتحويل القِبلة من المسجد الأقصى إلى بيت أبيه إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في مكَّةَ، ويقول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(144)} [البقرة].
وهكذا بعدَ ستة عشر، أو سبعة عشر شهرًا من الهِجرة يتمُّ تحويل القِبلة؛ أي: بعد ثلاث سنوات ونصف تقريبًا من فَرْض الصلاة في الإسراء والمعراج.
فعن البراء بن عازب قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا حتى نزلت الآية التي في البقرة وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره فنزلت بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق رجل من القوم فمر بناس من الأنصار وهم يصلون فحدثهم فولوا وجوههم قبل البيت".]رواه البخاري مسلم [.
ولعل في تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام (الكعبة) حِكَمًا تربويةً عظيمةً، فحين اتجه المسلمون إلى المسجد الأقصى مستجيبين لأمر ربهم، لعلهم يَصِلُوا إلى هذه الحِكَم، ومنها....
1 ـ خلع كل شيء من القلب إلا الله:
لقد كان العرب يُعظِّمون البيت الحرام في الجاهلية، فأراد الله لهم أن يتجهوا إلى المسجد الأقصى (قبلة اليهود والنصارى) تاركين بيت الله؛ ليكون سبحانه هو العظيم المستحق ذلك، فلا نخضع لعظيمٍ سواه، والبيت بيته وعظمته مستمدة من الله.
فلا يتعلق القلب إلا بالله، لا بيت ولا ولد ولا زوجة ولا مال ولا وظيفة ولا كرسي (كل ذلك)، لا قيمةَ له أمام مراد الله فيصير المسلم عبدًا يُقدِّم حكمَ الله على ما يحب طالما أنه لا يوافق شرعه.
إن التجرد يجعل المسلم مستسلمًا لله في كل شئون حياته، يقبل أحكامه بالسمع والطاعة والحب والاستسلام.
 فحال المسلم التجرد دائما في الطواف حول بيت الله الحرام، فهو لا يُقدِّس البناء لذاته، ولا يقدس حجرًا، لا يسمع ولا يعقل، وإنما يعبد ويعظِّم صاحب البناء ورب البيت، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)} [قريش].
ولقد كان الصحابة الكرام عندهم سرعة في الاستجابة .. انظر في صحيح البخاري عن البراء : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت،  وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم  قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت"
لقد تحولوا وهو في هيئة الركوع من قبلة بيت المقدس إلى اتجاه البيت الحرام .. لقد علمونا رضي الله عنهم كيف نستقبل أوامر وتعاليم الإسلام.
إن المسلم الصادق يتبع تعاليم دينه، دون جدلٍ أو اعتراض، وأما المنافق يحاول اختلاق المشكلات، ويكثر من السؤال، لا بقصد الفهم، وإنما بقصد التشكيك والجدل.
لقد اعترض اليهود على تحويل القبلة، وشككوا في صلاة المسلمين السابقة، خاصةً مَن مات قبل تحويل القبلة، فأنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ
 اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(143)} [البقرة].
2ـ تمايز شخصية الأمة المسلمة وتحديد وظيفتها :
جاء تحويل القبلة يؤسِّس لمبدأ (التمايز)؛ أي: تمايز الأمَّة المسلِمة عن غيرها في كلِّ شيء: في الرِّسالة، والتشريع والمنهج، والأخلاق والسلوك، وقبلَ كلِّ ذلك التمايز في التصوُّر والاعتقاد.
لقد تخطَّى الحدثُ حدودَ الزمان؛ ليُلقي بظلاله على أيَّامنا؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال الرسول :}لتَتبعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم شِبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع؛ حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال: "فمن؟!"؛ أي: فمَن غيرهم؟!{ ]رواه الشيخان [
عَلِم الله تعالى وأخبر رسوله  أنَّ كثيرًا من أبناء الأمَّة الإسلاميَّة في فترات ضَعْفهم، وسقوط حضارتهم، سيذوبون في الحضارات المنتصرة عليهم، مهما كانت ماديَّة وغير مُسلِمة؛ لذا أخبرنا الرسول  بذلك الحال المستقبلي لنتجنَّبَه.
إنَّ مظاهر الذوبان، وعدم التمايُز كثيرةٌ اليومَ بين صفوف المسلمين؛ تُشاهِدُها في ابتعادهم عن لُغة القرآن، وتعلُّقهم باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، وليست المشكلة في الحرص على تعلُّم الإنجليزية وغيرها؛ ففي زمان الضَّعْف هذا صارتْ هي لغةَ العِلْم والحضارة، ولكن المشكلة في ابتعادنا عن لُغتنا الأم، حتى صارتْ أسماء المحالِّ أجنبيَّة، وصارتْ لُغة الحياة اليوميَّة مشحونة بالألفاظ الأجنبيَّة، وصار مَقامُ الفرد في عين مُحدِّثيه يُقَيَّم بعدد المصطلحات الأجنبيَّة التي يستخدمها.
وكذلك نرى مظاهرَ الذوبان في شكل الملابس، وأنماطِها؛ فالظواهر الشاذَّة كالبِنطال الساقط وغيرِه انتقلتْ إلينا بسرعة من الغرْب، ولم تجد من كثير من الشباب إلاَّ الترحيب، بينما خفتتِ الأصواتُ المستنكرة لها شيئًا فشيئًا، كعادتنا في زمن الضَّعْف، وغير ذلك من المظاهر كثير.
ولم يكن بد من تمييز المكان الذي يتجه إليه المسلم بالصلاة والعبادة وتخصيصه كي يتميز هو ويتخصص بتصوره ومنهجه واتجاهه . .
فهذا التميز تلبية للشعور بالامتياز والتفرد ; كما أنه بدوره ينشىء شعورا بالامتياز والتفرد .
ومن هنا كذلك كان النهي عن التشبه بمن دون المسلمين في خصائصهم , التي هي تعبير ظاهر عن مشاعر باطنة كالنهي عن طريقتهم في الشعور والسلوك
 سواء .
ولم يكن هذا تعصبا ولا تمسكا بمجرد شكليات ، وإنما كان نظرة أعمق إلى ما وراء الشكليات ، كان نظرة إلى البواعث الكامنة  وراء الأشكال الظاهرة ، وهذه البواعث هي التي تفرق قوما عن قوم , وعقلية عن عقلية , وتصورا عن تصور , وضميرا عن ضمير , وخلقا عن خلق , واتجاها في الحياة كلها عن اتجاه .
عن أبي هريرة  رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:}إن اليهود والنصارى لا يصبغون , فخالفوهم {.  ]رواه البخاري ومسلم [
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم  وقد خرج على جماعة فقاموا له: }لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها { . ]رواه الترمذي[ .
وقال  صلوات الله وسلامه عليه: }لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله { . ]أخرجه البخاري[ .
و عَنْ  شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :}خَالِفُوا الْيَهُودَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ وَلَا خِفَافِهِمْ{  ]أخرجه أبو داود[
نهى عن التشبه في المظهر أو اللباس ، ونهى عن التشبه في الحركة أو السلوك ، ونهى عن التشبه في القول أو الأدب ، لأن وراء هذا كله ذلك الشعور الباطن الذي يميز تصورا عن تصور , ومنهجا في الحياة عن منهج , وسمة للجماعة عن سمة.
إنَّ الأمم التي تُريد أن تنهض لا بدَّ أن يكون التمايز مكوِّنًا أساسيًّا من مكوِّنات مشروعها الحضاري النهضوي.
أكد هذا الحدث لهذه الأمة حقيقتَها الكبرى، ووظيفتها الضخمة في هذه الأرض، وبيَّن مكانتَها العظيمة في حياة البشرية ، وحدَّد دورَها الأساسي في حياة الناس، بدءًا باتخاذ قبلةٍ خاصةٍ لها، لا تتبع غيرها ولا تنقاد لسواها، فهذه القبلة هي أوسطُ القِبَل وأفضلُها، وهم أوسطُ الأمم وخيارُهم، فاختار أفضلَ القِبَل لأفضل الأمم، كما اختَار لهم أفضلَ الرسل وأفضلَ الكتب وأخرجهم في خير القُرُون، فقال تعالى: }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا (143){ ]البقرة[
وما دامت هذه مكانةَ الأمة، وما دام هذا دورَها، وما دامت هي الأمة التي تشهد على الناس جميعًا، وتضع لهم الموازين والقِيَم ويُعتَمد رأيُها فيهم، وتَفصِل في أمر قِيَمهم وتصوراتِهم وشعاراتِهم، فتميِّز الحقَّ من الباطل، في الوقت الذي لا يشهد عَليها، ولا يحكم على أعمالها، ولا يزن قيَمَها إلا رسولُها صلى الله عليه وسلم؛ ما دام الأمر كذلك فإن لها قبلتَها الخاصةَ التي أرادها الله لهَا، وبخاصةٍ أن المعنى المقصودَ من توجيه المسلمين إلى بيت المقدس قد تحقَّق، واستسلم المسلمون تمامًا لأمر الله، في الوقت الذي بدأ اليهود يتخذون من هذا الوضع حجةً لهم على أن دينهم هو الدين، وقبلتهم هي القبلة، وأنهم هم الأصل ، فأولى بمحمد ومَن معه أن يفيئوا إلى دينهم؛ لا أن يدعوهم إلى الدخول في الإسلام.
أما كونها ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ فمعناه: أنها الأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي، فهي أمة وسط في التصوُّر والاعتقاد، وفي التفكير والشعور، وفي التنظيم والتنسيق، وفي الارتباطات والعلاقات، لا تلغي شخصية الفرد ومقوِّماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فردًا أثِرًا جَشِعًا لا هَمَّ له إلا ذاته ، إنما تُطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وَتطلق من النوازع والخصائص ما يحقِّق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلوِّ، ومن المنشِّطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرِّر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفردَ خادمًا للجماعة، والجماعةَ كافلةً للفرد في تناسقٍ واتساق.
وهي أمة وسط في الزمان، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدُّها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السويِّ بين هذا وذاك.  
وأمة تلك وظيفتها، وذلك دورها، خليقةٌ بأن تتحمَّل التَّبِعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفُها، وللقِوامة تبعاتُها.
ولم يعوِّق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها إلا أنها تخلَّت عن مرجعيتها الإسلامية وعن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة، ليست هي التي اختارها الله لها.
وجديرٌ بالأمة أن تبصر الكنز الذي بين يديها، وأن تفاخر بالمنهج القويم الذي تضمَّنه القرآن والسنة، والذي يحقِّق لها السبق والريادة في العالمين. 
وإن هذه الأمة الإسلامية أمة "مصطفاة" "مرحومة" "منصورة" مهما نـزل بها من المصائب وحل بها من الضعف والهوان.
أما الاصطفاء فقد أورثها الله تعالى الكتاب والحكمة، وجعلها شهيدة على الناس، وحسبك أن يكون ظالمها من جملة المصطفين مع أنه مأخوذ بظلمه محاسب على تفريطه} ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ(32){[فاطر].
فكل خير لدى أية أمة من الأمم ففي المسلمين أكثر منه، وكل شر في هذه الأمة ففي غيرها أكثر منه، وحضارتها هي حضارة العدل والرحمة والتسامح، وصدق من قال من فلاسفة الغرب: 'ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من المسلمين'!
3ـ تحديد مصدر التلقي للأمة المسلمة  :
لقد حدد الله تعالي للأمة مصدر التلقي وهو الكتاب والسنة  فقال تعالي}وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(6){ ]النمل[ .
واختار الله عز وجل للأمة أن يكونَ مصدَرُ ثقافتها ، وفهمِها، ومصدر منهجها وعقيدتها، وعبادتها ، وأخلاقها ؛ هو الكتابَ والسُّنة، فلا نتلقَّف ثقافة مخالِفةً لشريعتنا من شرق أو غرب، ولا نتلقف ثقافة مشوبة بالبدع والأهواء، من فِرَق وأحزاب مختلفة، كما قال تعالى:}فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى(126){ [طه].
وقال تعالى: }وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ (7){[الحشر].
وقال تعالى: }وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100){[التوبة].
وقد روى البخاريُّ عن ابن مسعود رضي الله عنه  قال: }أحسَنُ الحديث كتاب الله، وأحسن الهَدْي هدي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم  وشر الأمور مُحْدثاتها، وإنَّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بِمُعجزين{
وروى التِّرمذي عن المقدام بن معد يكرب، رفعَه: }ألاَ هل عسى رجل يَبْلُغه الحديث عنِّي، وهو متَّكئٌ على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله؛ فما وجدنا فيه حلالاً استحلَلْناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإن ما حرَّم رسول الله كما حرَّم الله{.
ولأبي داود: }ألاَ وإنِّي أُوتِيتُ الكتاب ومثله معه، ألاَ يوشك رجل شبعان على أريكته...{؛ الحديث.
وفي خُطبة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم  في "حجَّة الوداع" حثٌّ على التمسك بالكتاب والسنة؛ حيث قال: }وقد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلُّوا أبدًا أمرًا بيِّنًا: كتاب الله، وسُنَّة نبيِّه{؛ رواه مالك.
بل إن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم غضب من أحد أصحابه يومًا، وقال له كلامًا شديدًا؛ لأنَّه قرأ مصدرًا آخر غير القرآن الهادي، والسُّنة الراشدة، ففي الحديث عن جابر، عن النبِيِّ  صلَّى الله عليه وسلَّم  حين أتاه عمر فقال: إنا نسمع أحاديث مِن يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال:} أمتهوِّكون أنتم كما تهوَّكَت اليهود والنصارى؟! لقد جئتُكم بها بيضاء نقيَّة، ولو كان موسى حيًّا ما وَسِعَه إلا اتِّباعي{ ]رواه أحمد والبيهقيُّ في كتاب "شُعَب الإيمان"، وحسَّنَه الألباني[
وفي رواية أخرى عن جابر بن عبدالله؛ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبِيَّ  صلَّى الله عليه وسلَّم  بكتابٍ أصابه من بعض الكتب، قال: فغضِب وقال: }أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطَّاب؟! والذي نفسي بيده لقد جئتُكم بها بيضاء نقيَّة{
فقد أوجب القرآنُ اتِّباعَ الصحابة رضوان الله عليهم  ولزومَ طريقتهم، وتوعَّد مَن يخالف سبيلهم بالعذاب الأليم، قال الله تعالى: }وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (117){[النساء].
 فهل كان المؤمنون عند نزول هذه الآية الكريمة إلاَّ هم؟ وقد دلَّت الآية على وجوب متابعة سبيل المؤمنين، والحذر من الوقوع في الوعيد لمخالفة هذا السبيل الذي سلَكوه.
وقال تعالى: }فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137){ [البقرة].
وقد أوصي النبي صلي الله عليه وسلم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده عند  تشعب الآراء والأهواء فعن العرباض بن سارية ، قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون ، فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ، قال : }أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة وإن أمر عليكم عبد حبشي ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة { . ]رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح[.
فهذه الأمةُ لا تتلقَّى دينَها وقِيَمَها وتصوراتِها وشعائرَها من أهل الكتاب ولا من غيرهم، وإنما تتلقَّى من الله وحده }الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْممْتَرِينَ (147){ ]البقرة[ .
وذلك أمر تكرر التأكيد عليه في القرآن الكريم، فقد قال تعالى:} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفي بِالله وَكِيلاً (3)﴾ (الأحزاب)، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وَكَفي بِالله وَكِيلاً (48){ ]الأحزاب[.
ولهذا فإن الأمة ينبغي ألاَّ تنخدع بحِيَل أعدائها على اختلاف أصنافهم، وألا تلتفت إلى إرجاف اليهود والمنافقين، وألا تفتتن بدسائسهم، وألا تستجيب لتحليلاتهم الزائفة، فهم قد عزموا أمرَهم على معارضة الإسلام ومحاربة رسالة الحق والصدِّ عن دين الله ودعوته، والتشويه لكل ما فيه من جمال وجلال، ولا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة أن يتبعوا أهواءهم بعد ما جاءهم العلم }وَلئنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145){ ]البقرة[
إن الأمة التي كتب الله لها قيادةَ البشرية، وريادةَ الدنيا؛ ينبغي لها أن تستمد تقاليدَها وأفكارَها ومنهاجها مثلما تستمد عقيدتَها من المصدر الذي اختارها للقيادة، ومن ثَمَّ فإن عليها أن تعطي غيرها، لا أن تأخذ من غيرها، فالأمة التي تأخذ من غيرها تبدأ بأخذ الأشياء المادية، ثم تتدرَّج إلى أخذ العادات المادية، ثم المظاهر الثقافية، ثم القِيَم والمقاييس، ثم العقائد في نهاية المطاف.
ولا يمكن للأمة الوسط القائدة أن تكون كذلك ، لا يجوز لها أن تقلِّد الأممَ الأخرى التي جاءت لتقودَها وترفعَها، وإنما تستمدّ وتتلقَّى التعاليمَ والتوجيهاتِ والتصوراتِ من الله تبارك وتعالى ، لتقود البشرية إلى ما فيه سعادتها، وتنتشلها من التردِّي الأخلاقي الذي انحدرت إليه.
4 ـ تحويل القبلة وكشف كل الأوراق :
أ. موقف المؤمنين:
إذن كان المناخ في المدينة مهيّأً لإجراء الاختبار الكاشف لأوراق كل فريق، وجاء الأمر بتحويل القبلة ليعلن بدء الاختبار فعليًّا؛ قال تعالى: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ... (143)} [البقرة].
وبدأ كل فريق في كشف أوراقه.. كانت البداية من المؤمنين المخلصين الذين صبروا مع رسول الله ، وثبتوا أمام كل ما مضى من محن الإيذاء، والتكذيب والتعذيب، والتضحية بالجاه والمال والرياسة، بل والتضحية بالأهل والوطن، وهؤلاء لم يكن الاختبار الجديد عسيرًا عليهم؛ لذا فإنهم كشأنهم منذ أسلموا سلموا لأمر الله عز وجل، ونفذوه موقنين أنه الحق، فصلوا مع رسول الله العصر -وهي أول صلاة يصليها متوجهًا إلى الكعبة- ثم داوموا على القبلة الجديدة، ثابتين على عقيدتهم.
بل كان من هؤلاء المؤمنين الصادقين من ضرب المثل في التصديق والاتّباع، مع الأخذ في الاعتبار أن الأمر جاء فجأةً، ودون تمهيد مسبق؛ فلم تؤثر فيهم المفاجأة، ولم يصدمهم الحدث، وهم بنو حارثة الذين وصلهم الخبر وهم يصلون عصر نفس اليوم؛ إذ مر أحد المسلمين الذين صلَّوا مع رسول الله ، فوجدهم يصلون إلى بيت المقدس، فقال: "إن رسول الله  قد أُنزِل عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمِرَ أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا إلى الكعبة"
فسمِّي مسجدهم من يومها (مسجد القبلتَيْن).  وكان عندهم سرعة في الاستجابة
 وهكذا يكون حال المؤمن سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا ، ليس عنده وقت للجدال وتضييع الوقت ، يبحث دائما عن ميدان العمل وليس عنده  وقت يضيعه في الكلام
ب . موقف المنافقين ومذبذبي الإيمان :
فهكذا كان شأن المؤمنين الصادقين، فكيف كانت حال من لم يستقر الإيمان في قلوبهم بعدُ، أو كانوا مذبذبي الإيمان؟
لقد قلق هؤلاء من مصير من مات من المسلمين قبل تحويل القبلة، هل تُقبل صلاتهم أم لا؟ كما تساءلوا عن جزاء صلاتهم السابقة نحو بيت المقدس، وكأنهم ظنوا أن الصلاة إلى القبلة السابقة كانت اجتهادًا من رسول الله  بغير وحي من الله؛ لذا لن يُثابوا عليه بل قد يعاقبون.
وهذه الفئة تظهر دائمًا في المجتمع المسلم وقت المحن، إذ تزيغ الأبصار، وتبلغ القلوب الحناجر؛ فيبدأ هؤلاء في التشكُّك والظن في الثوابت. 
ج . موقف قريش:
أما قريش التي كانت متربصة بالمسلمين، فقد قالت: رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله. ولكن الله سبحانه وتعالى ردَّ عليهم: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(150)} [البقرة].
فنعتهم الله عز وجل بالظلم؛ ليكشف مكنون قلوبهم. وانكشف باطن الكافرين، ومُحِّص المذبذبون، ومَرَّ الاختبار بعد أن تعلم منه المسلمون واستفادوا ما ينبغي لنا الاستفادة به؛ من أهمية اليقين والتسليم لأمر الله عز وجل، والانقياد لأوامره، وأهمية الثبات أمام الشبهات التي يلقيها أعداء الأمة دون انقطاع، وعدم التأثر بها، بل الرد عليها؛ لنحمي ضعاف الإيمان من التأثر بها.
د . موقف اليهود:
أما اليهود، فهؤلاء الذين كانوا فرحين مبتهجين عندما اتخذ الرسول  بيت المقدس قبلة عقب الهجرة؛ لأنها قبلتهم، فظنوا أن الرسول  سيتبعهم في دينهم بعد فترة، فلما جاء الأمر بتحويل القبلة أصيبوا بالإحباط واليأس من غرضهم؛ فأطلقوا لسانهم ليشككوا المسلمين في دينهم، قائلين: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (142)} [البقرة].
فجاء الرد الإلهي {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} [البقرة]، وأنزل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ..(177)} [البقرة].
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: "أي الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما وجَّهنا توجهنا، فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يومٍ مراتٍ إلى جهات
 متعددة؛ فنحن عبيده وفي تصريفه وخُدَّامُه .
إن موقف اليهود من الإسلام واضحٌ بيِّنٌ منذ أول يومٍ صدع فيه رسول الله بدعوته، فنرى حسدهم وبغضهم ومكرهم وتدبيرهم وتأليب القبائل على المسلمين والحُكَّام الموالين لهم على الحركات الإسلامية وكلِّ قوة إسلامية تظهر في أي مكان، وصدق ربنا حيث قال:} لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا (82){ ]المائدة[
 ونرى ذلك في الحديث الجامع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يُظْهِرُ بعض مواطن حسدهم، روى الإمام أحمد في مسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أهل الكتاب:} إِنَّهُمْ لاَ يَحْسُدُونَنَا عَلَى شَيءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمَعةِ التَّي هَدَانَا اللهُ إِلَيْهَا وَضَلُّوا عَنَّهَا، وَعَلَى الْقِبْلَة التَّي هدَانَا اللهُ إِلَيْهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الإِمَامِ آمِين{
ولقد شكك اليهود في صدق النبي صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية في طور الإنشاء والتأسيس فقالوا :}مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا(142){ [البقرة]
لقد اشتاق الرجل إلى مولده ! ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا ، ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركها ، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل ".
وهنا ندرك أصالة العدوان اليهود ي للإسلام والمسلمين ..
فقد شنوا حرباً إعلامية ضارية في أعقاب حدث تحويل القبلة . ولقد فُتن ضعاف الإيمان كما فُتن إخوانهم في حادث الإسراء والمعراج .. وإن المتأمل لآيات تحويل القبلة؛ وهي ترد شبهات اليهود؛ يتبين له مدى ضراوة الحرب الإعلامية والفكرية التي شنها اليهود ..
قال تعالى: }سَيَقُولُ السّفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ(142){ [البقرة]
حتى إنهم شككوا في صلاة المسلمين القديمة نحو بيت المقدس ، ومن ثم أعلنوا أن المسلمين الذين ماتوا قبل تحويل القبلة دخلوا النار؛ لأنهم صلوا إلى القبلة الفاسدة ! فيرد الله قائلاً :} وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ(143){ [البقرة] .
وهكذا خاب وخسر من جرى يلهث في عصرنا خلف اليهود . وخاب وخسر من تمسح باليهود في تطبيع .
وأنهم لن يرضوا أبدا عن المسلمين إلا بأن يتبعوهم ويكونوا مثلهم، قال الله تعالى: { وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(120) }]البقرة[
فالله تعالي يسوق الأزمات والشدائد ليعرف الأمة بأعدائها  وتعرف كيف تتعامل معهم ، فقديما وقف اليهود ضد  رسول الله صلي الله عليه وسلم مع مشركي مكة كما قال القرآن الكريم }أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ۖ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52){ ]النساء[ .
وقد أمرنا الله تعالي بعدم الأمن لهم وعدم الولاء لهم فقال تعالي }وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ  قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73){ ]آل عمران[.
5 ـ أدب النبي صلي الله عليه وسلم مع الله تعالي :
انظر كيف يتأدَّب المخلوقُ مع خالقِه، والمرزوق مع رازقِه، والعبد مع سيِّده، والحبيب مع حبيبه، إنَّه درْسٌ عظيم في التأدُّب مع الله؛}قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء (144){ [البقرة].
بدون طلَب، بدون اقتراح، بدون إلْحاح، أيقترح على ربِّه؟! أيُغيِّر في الدِّين؟! كلاَّ؛ لذلك كانت الإجابةُ على وجه السُّرعة له ولأمَّته، هل أنتَ منهم؟!
}فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ (144){ [البقرة].
فما بالُ الذين يُغيِّرون الشرائع، ويحرِّفون الشعائر، ويتحايلون على الدين؛ يُعطِّلون الحدود، ويَنقُضون العهود؟! كيف بهم إذا وقَفوا أمامَ الله؟! 
طريق موصول بيْن الأنبياء والمرسَلين والدعاة؛ الأدب مع الله ربِّ العالمين:ـ 
• أيُّوب  عليه السلام: }وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83){ [الأنبياء]، النتيجة: }فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ(84) {[الأنبياء].
 • موسَى عليه السلام: مُطارَد ومجهَد ومهدَّد، ومع ذلك لربِّه يتودَّد؛ } فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24){ [القصص
]، النتيجة: }أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(39){[طه].
• يوسف عليه السلام: }رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(101){[يوسف]، النتيجة: }وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(21){ [يوسف].
 • سليمان عليه السلام:} فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ(19){ [النمل]، النتيجة مع مزيدٍ من التواضع لله، والأدب معه: }قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40){[النمل].
كانتْ في حياته آيات: الطير تخدمه، والرِّيح تحمله، والجِن تغوص له في الأرْض؛ تستخرج له من الكنوز ما يشاء، وتبني له مِن الصروح ما يُريد، وكان مماته أيضًا آية؛ } فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14){ [سبأ].
 • عيسى عليه السلام: }وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116){[المائدة]، النتيجة: }وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57){ [مريم].
• إبراهيم عليه السلام: في الأثر يُوضَع في النار، فيأتيه آتٍ: هل لك حاجةٌ؟
فيرد: "كيف أحتاج إليك، وأنسَى الذي أرْسلك إليَّ؟!
عِلْمُه بحالي يُغني عن سؤالي"، الرد والنتيجة: }قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69){ [الأنبياء]، }وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130){ [البقرة].
• محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: } قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء (144){ [البقرة]، النتيجة: }فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ (144){ [البقرة].
هذا طريقُ الأنبياء والمرسَلين، وهذا سبيلُ المؤمنين، وهذا مسلَكُ الصالحين إلى يومِ الدين، الأدب مع الله ربِّ العالمين، التودُّد إليه، والتوجُّه إليه، وإرْجاع الأمْر له، الإصْرار على الإعْراض والعِناد.
 أمَّا الآخرون، فيعلمون الصِّدق ويكذبون، يعلمون العدلَ ويظلمون، يعلمون الإيمان ويَكْفرون، يعلمون الإخلاصَ ويُشرِكون، يعرفون الحقَّ ويُنكرون، لكن هل يغفُل الله عنهم؟! 
قال تعالى :}وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ(144){ [البقرة]، ويُصرُّون على الكفر والعِناد، وعلى الصدِّ والإعْراض، فاحذْرهم، ولا تتبِّع أهواءَهم؛ }وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ(145){[البقرة].
هذا لمحمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم  أحب خلْق الله إلى الله، فما بالك بالذين اتَّبعوا أهواءَهم، أو طُبِعوا معهم، أو سارُوا في رِكابهم؟!
ماذا تكون النتيجة عندهم؟ إنَّها جليَّة واضِحة وضوحَ الشمس في كبدِ السماء، والحال أبلغُ مِن المقال.
6ـ مكانة النبي صلي الله عليه وسلم عند الله تعالي:
 كانت الرغبة في تحويل القبلة تشغل عقل النبي وتفكيره، لكنه لم يُصرِّح بها في دعائه، ولم يُحرِّك بها لسانه، وقد استجاب الله له، وحقق له أمنيته، وهذا يدل على مكانة النبي ومنزلته عند لله، فمن منزلة العبد عند ربه أن يحقق الله له مقصده، دون أن يتلفظ به، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144)} [البقرة].
7ـ الإعجاز القرآني في الحدث :
قال الله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا (142)} [البقرة: 142]. 
هذه الآية القرآنية من إعجاز القرآن الكريم، حيث تحدثت عن المقولة قبل وقوعها، ولم يستطع اليهود أن يكذبوا القرآن، فقالوا ما قالوا.. إنها كانت اختبارًا لليهود فرسبوا، وكانت اختبارًا للصحابة فنجحوا، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كنت عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ (143)} [البقرة].
ونتعلم عدم المبالاة بالخصوم، ما دام الإنسان على صواب وعلى الحق المبين، فلم يلتفت النبي والصحابة لما قاله اليهود؛ لأن الذي أمر بالتوجه إلى كلتا القبلتين إنما هو الله سبحانه وتعالى، وهذا يزيد المسلم ثقةً في هذا الدين وتعاليمه؛ فالهداية من الله وحده، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(142)} [البقرة].
8 ــ قِيمة القِبْلة، ومكانة المتوجِّهين إليها:ــ
القِبلة ليستْ شيئًا بسيطًا، ولا أمرًا تافهًا، كلاَّ، إنَّها بُؤرة الأرْض، وسرَّة الدنيا، مهْد الأنبياء، ومهبط وحْي السماء، مسقط رأس المرسَلين، وإشعاع يُضيء للعالَمين، إنها وِجهة لأمَّة الخيرية، ومجْمع للنفوس الزكية، ومأوى للقلوب السليمة، ومجبًى للثمرات الطيِّبة، } أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (57){ [القصص]،
}فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(37){ [إبراهيم].
إنها ملتقَى المؤمنين من شتَّى بِقاع الدنيا، على مختلف ألْوانهم ولُغاتهم وبلدانهم، الذين اختارَهم الله لهذا الدِّين، واختار هذا الدِّينَ لهم، يجب أن نَعيش لحظاتٍ مع هذا التغيُّر، لماذا؟ ومع هذا التحوُّل سبُبه وكيفيته ونتائجه؛ علَّنا نُفيق من غفْلتنا، علَّنا نعود إلى ربِّنا، علَّنا نعتزُّ بدِيننا، علَّنا نتحوَّل مِن عبيدٍ إلى سادة، مِن مَقودِين إلى قادة، مِن تابعين إلى متبوعين، نحن عبيدٌ لله فقط، لكنَّنا سادة الدنيا، وقادَة الأرْض، كما أراد الله لنا.
كيف لا ومعَنا الإسلام؟! كيف لا ومعنا المنهجُ القويم، والدستور الحكيم؟!
كيف لا ومعنا الحَبْل المتين، والنور المبين؛ }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103){ [آل عمران].
قال تعالى:}يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}]النساء[
وقال تعالى :} قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15){ [المائدة]؟!
كيف لا ومَعَنا القُدوة المُثلَى، والأُسوة الحَسنة، والقائِد العظيم بسُنته وسيرته، قال تعالى: }لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164){ [آل عمران]
 وقال تعالى : }لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21){ [الأحزاب]؟!
عن أبي هُريرة رضي الله عنه  قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:} تركتُ فيكم شيئَيْن لن تضلُّوا بعدَهما: كتاب الله وسُنتي، ولن يتفرقَّا حتى يردَا علَى الحوْض{؛ ]صحيح الجامع[.
هل نُقدِّر ما نحن فيه مِن مكانةٍ أعدَّها الله لنا؟
هل نستشعِرُ ما نحن فيه مِن منْزلة هيَّأها الله لنا؟!
هل نكون كما أراد الله لنا؟
قال تعالى : }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23){ [الأحزاب]،
هذه نتيجةُ المفروض طبيعية لهذا العطاء، وهذه المِنح، رُشْد وعزَّة، وعزوة.
قال الفاروقُ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه  يوما "لقد كنَّا أذلَّة  أي: قبل الإسلام  فأعزَّنا الله بالإسلام، ولو ابتغَيْنا العِزَّة في غيْر الإسلام أذلَّنا الله".
قالها وهو في طريقه لفتح القدس أولى القِبلتين وثالث الحرمين، ليس معه طائراتٌ عملاقة، ولا سيَّارات فارهة، ولا علامات لامِعة، ولا جُند مدرَّبة، ولا ملابس فاخِرة، كلا، فالفاتحونَ الحقيقيُّون لا يهتمُّون بهذه الأمور كثيرًا، أو قليلاً، فهم لا يحبُّونها، ولا يدرونها، ولا يقفون كثيرًا عندها، وإنَّما يفرحون بإسلامهم ويعتزُّون بإيمانهم، لم يكن معه إلاَّ أبو عبيدة بن الجرَّاح، أمين الأمَّة.
رحِم الله سلمانَ الذي قال:
أَبِي الإِسْلاَمُ لاُ أَبَ لِي سِوَاهُ         إِنِ افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ
ورحِم الله رِبعيًّ ابن عامر رضي الله عنه ، الذي دخل على ملِك الروم في سلطانه وصولجانه، رِبْعِيّ بن عامر  رضي الله عنه كان رُمْحه قصيرًا، وترسه قصيرًا، وحصانه قصيرًا، لكنه كان قويًّا بإيمانه، عزيزًا بإسلامه، دخَل على رُستم يقول له: جِئنا لنُخرجَ الناس مِن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، ومِن جور الأديان إلى عدْل الإسلام، ومِن ضيق الدنيا إلى سَعة الدنيا والآخِرة.
القِبلة مشعلُ النور، ومكان الخشوع، ومسكب العَبَرات:ـ 
القبلة؛ الكعبة، وما أدراكم ما الكعبة؟!
مكان الأمن والأمان، مشعل النور والإيمان، مهوَى القلوب، ومطهر الذنوب، ومسكب العَبَرات، ومنبت الرِّسالات مكان وُلِد فيه المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم درَجت عليه قدماه، وبدأ فيه مسعاه، واستقبل فيه وحي الله، اختار الله لأوليائه وأصفيائه خيرَ مكان، واصطفى لهم خيرَ قِبلة، وأنزل عليهم خيرَ كتاب، وأرسل إليهم خيرَ رسول، فكانوا خيرَ أمَّة أُخرِجت للناس؛ }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ(110){ [آل عمران].
أيها الأخوة الأكارم :
ونحن مقبلون علي شهر رمضان نحتاج إلي أن نأخذ أعظم درس من تحويل القبلة وهو خلع كل شيئ من القلب إلا الله تعالي ، ونحول قلوبنا من حب الدنيا والتعلق بها إلي حب الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم . حتي يقبلنا الله تعالي عنده من الفائزين . نسأل الله تعالي أن يقبلنا عنده وأن يبلغنا رمضان ويجعلنا من الفائزين فيه إنه ولي ذلك والقادر عليه .

 ========================

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=650060

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=650062

ليست هناك تعليقات:

المشاركة المميزة

شؤم المعصية

الحمد لله رب العالمين ..أنار الطريق لعباده الصالحين فجعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته ، فالعز كل العز في طاعته والذل كل الذل ف...