الحمد لله رب العالمين، خلق الكون ووضع كل شيء في موضعه بنظام دقيق، واستأمن الإنسان على هذا الكون وحمله الأمانة العظمى بعدما عرضها على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فقال تعالى: } إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72){[الأحزاب].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.. جعل الأمانة من أخلاقه العظيمة، فهو القائل:} فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(64){[يوسف].
وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ربَّى أتباعه على الصدق والأمانة فربط بين الإيمان والأمانة، فقال (ﷺ) }لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له{ ]رواه أحمد[.
فاللهم صل على سينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.
أمَّا بعدُ: فيا أيها المؤمنون..
لقد علمتنا الهجرة المباركة درسًا عظيمًا في التمسك بالأخلاق العالية في أحلك المواقف ومع أعدى الأعداء، وهي أنَّ المبادئ لا تتجزَّأ، وأنَّ الالتزامَ بها ضرورةٌ لأهل العقيدة، رغمَ كلِّ الظروف القاسية، فالنبيُّ (ﷺ) كان حريصًا على أداءِ الأمانات التي كانتْ مودعةً لديه إلى أهلها، ففي بيت رسول الله (ﷺ) أمانات كان القوم يحفظونها عنده، وسبحان الله كان أهل مكة المشركون لا يجدون من هو أكثر أمانة من رسول الله (ﷺ) حتى يحفظوا عنده أماناتهم، وذلك مع شدة عدائهم لرسول الله (ﷺ) ، وقد كان الرسول (ﷺ) على درجة هائلة من الأمانة بحيث إنه في هذا الموقف الخطير مازال مشغولًا برد الأمانات، ولم يقل إنها أموال الأعداء، يجوز الاستيلاء عليها، بل ظل محافظًا على العهد الذي بينه وبينهم.
حيث قرر (ﷺ) أن يجعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينام في فراشه لأداء الأمانات إلى أصحابها ، حتى لا تضيع حقوق أحدٍ من المشركين.
وهذا أمرٌ عجيب، هؤلاءِ الناس استباحوا دمَه، وأرادوا قتْلَه، بل أدْمَوه، وآذوه ، وطاردوه، لكنَّه لم يشأْ قتلَهم، ولم يستبِحْ أموالهم، ولو كلَّفه ذلك بالمخاطرةِ بابن عمِّه.
أراد النبي (ﷺ) أن يعلمنا أن قيم الإسلام ثابتة لا تتجزأ ولا تتغير حتى مع الأعداء، وأن المبادئ مقدمة على المصالح ، فوضع كل رجل في مكانه اللائق به.
وهذا ما علمتنا إياه الهجرة المباركة وهو حفظ الأمانات وتقديم الكفاءات، وهذا ما نتناوله في هذا الموضوع ،وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية وهي:
1- تعريف الأمانة.
2- مكانة الأمانة في الإسلام.
3- حاجة الأمة إلى الأمانة.
4- حفظ الأمانات وتقديم الكفاءات.
5- أثر الأمانة على الفرد والمجتمع.
6- كيفية اكتساب خلق الأمانة.
العنصر الأول: تعريف الأمانة:
الأمانةُ :ضد الخيانة وهي صفة جميلة، وهي : وضع كل شيء في موضعه، وهي أداء الحقوق، والمحافظة عليها، فالمسلم يعطي كل ذي حق حقه.
ورأينا في القرآن الكريم مخايل الأمانة على نبي الله موسى عليه السلام، حين سقى لابنتي الشيخ الكبير ورفق بهما، واحترم أنوثتهما وكان معهما شريفًا عفيفًا، قال تعالى: }فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰٓ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلۡتَ إِلَيَّ مِنۡ خَيۡرٖ فَقِيرٞ (24) فَجَآءَتۡهُ إِحۡدَىٰهُمَا تَمۡشِي عَلَى ٱسۡتِحۡيَآءٖ قَالَتۡ إِنَّ أَبِي يَدۡعُوكَ لِيَجۡزِيَكَ أَجۡرَ مَا سَقَيۡتَ لَنَاۚ فَلَمَّا جَآءَهُۥ وَقَصَّ عَلَيۡهِ ٱلۡقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفۡۖ نَجَوۡتَ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (25) قَالَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا يَٰٓأَبَتِ ٱسۡتَـٔۡجِرۡهُۖ إِنَّ خَيۡرَ مَنِ ٱسۡتَـٔۡجَرۡتَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡأَمِينُ (26)){ ]القصص[.
وهنا يظهر لنا في تعريف الأمانة أنها:
1- عفة الأمين عما ليس له به حق.
2- تأدية الأمين ما يجب من حق لغيره.
3- اهتمام الأمين بحفظ ما استؤمن عليه من حقوق وعدم التفريط بها والتهاون بشأنها.
العنصر الثاني: مكانة الأمانة في الإسلام:
الأمانة : خلق جليل من أخلاق الإسلام، وأساس من أسسه، فهي فريضة عظيمة حملها الإنسان، بينما رفضت السموات والأرض والجبال أن يحملنها لعظمها وثقلها، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]
1- الأمانة خلق من أخلاق الله عز وجل: فإنه إذا استودع شيئًا حفظه، وإذا أئتمن على شيء رعاه حق الرعاية؛ حيث يقول } فَٱللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ (64){ ]يوسف[.
وثبت عن النبي (ﷺ) أنه قال: }إن الله إذا استودع شيئا حفظه{. رواه ابن حبان وصححه الألباني.
وكان (ﷺ) يستودع الله بقوله: }أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه{. رواه ابن السني وقال العراقي والألباني: إسناده حسن.
2- الأمانة خلق الرسول (ﷺ): ، فقد كان يلقب قبل البعثة بالصادق الأمين.
3- من أخص خصائص المجتمع الإيماني: ولقد أثنى الله على عباده المؤمنين بحفظهم للأمانة، فقال تعالى: }وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8){ [المؤمنون[
فالأمانة هي الصفة المميزة للمجتمع الإسلامي بل هي أخص خصائصه ،وسبب فلاحه في الدنيا حيث تصان حقوق الناس ،وتحفظ أموالهم وسبب فلاحه في الدنيا والآخرة، إذ جعل الله رعاية الأمانة وحفظها وأدائها ضمن الصفات الإيمانية التي تثمر الفلاح للمؤمنين والفوز بجنة الفردوس؛ قال تعالى في بداية المؤمنون } قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ{ وبعد أن عدد صفاتهم وجعل منها الأمانة: } وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8){ [المؤمنون]، وقال في النهاية: }أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11){[المؤمنون].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (ﷺ): }أدِّ الأمانةَ لمَن ائتمنَك، ولا تَخُن مَن خانك{ ] أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وصححه الحاكم [.
4- الأمانة دليل على إيمان العبد بالله تعالى، والخيانة دليل نفاقه، يقول النبي (ﷺ) }آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان{ ]البخاري[.
ويقول (ﷺ): }لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له{ ]حديث صحيح رواه أحمد في مسنده[.
5- إنها من أغلى ما يرزقه الله للعبد، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا، كما جاء في الحديث }أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم{ صحيح الترغيب.
6- سر السعادة في الدنيا والآخرة:
ولما كانت السعادة القصوى أن يوقى الإنسان شقاء العيش في الدنيا وسوء المنقلب في الآخرة، فإن رسول الله (ﷺ) جمع في استعاذته بين الحالين معا ، فعن أبي هُرَيْرةَ قالَ : كانَ رسولُ اللَّهِ (ﷺ) يقولُ : }اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الجوعِ ، فإنَّهُ بئسَ الضَّجيعُ ، وأعوذُ بِكَ منَ الخيانةِ ، فإنَّها بئستِ البِطانةُ ]{صحيح أبو داود[
7- تؤدي للبر والفاجر:
قال ميمون بن مهران: }ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر: الأمانة ،والعهد، وصلة الرحم {
8- لا يحملها إلا الرجال أصحاب الهمم العالية والعزائم الصادقة، وهي فضيلة ضخمة لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، بل إنها تُثقِل كاهل الوجود كله، ومن ثَم فلا ينبغي لإنسان أن يستهين بها، أو يُفْرِط في حقِّها، قال تعالى }إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السموات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ (72){ [الأحزاب].
9- سبب من أسباب نيل محبة الله عز وجل لمحبة الله قال (ﷺ): }من سرَّه أن يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدَّث، وليؤد أمانته إذا ائتمن{؛ ]رواه البيهقي وحسنه الألباني[.
10- الأمانة يعلو بها شأن الرجال وصف بها النبي (ﷺ) شأن أبي عبيدة رضي الله عنه، فيقول: }إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ{ ]رواه البخاري[.
العنصر الثالث: حاجة الأمة إلى الأمانة:
إن الأمة في أمس الحاجة إلى الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والوفاء؛ لأن الأخلاق تعكس ثقافة الأمة وحضارتها، وبقدر ما تعلو أخلاق الأمة تعلو حضارتها ، وتلفت الأنظار لها، ويتحير أعداؤها فيها، وبقدر ما تنحط أخلاقها، وتضيع قيمها تنحط حضارتها وتذهب هيبتها بين الأمم، وكم سادت أمة ولو كانت كافرة وعلت على غيرها بتمسكها بمحاسن الأخلاق كالعدل وحفظ الحقوق وغيره، وكم ذلت أمة ولو كانت مسلمة وضاعت وقهرت بتضييعها لتلكم الأخلاق، فإذا شاعت في المجتمع الأخلاق الحسنة من الصدق والأمانة والعدل والنصح أمِن الناس، وحُفِظت الحقوق، وقويت أواصر المحبة بين أفراد المجتمع، وقلت الرذيلة، وزادت الفضيلة ، وقويت شوكة الإسلام، وإذا شاعت الأخلاق السيئة من الكذب، والخيانة، والظلم، والغش، فسد المجتمع واختل الأمن، وضاعت الحقوق، وانتشرت القطيعة بين أفراد المجتمع، وضعفت الشريعة في نفوس أهلها، وانقلبت الموازين، قال رسول الله (ﷺ): }سيأتي على الناس سنوات خداعة؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: ومن الرويبضة يا رسول الله؟! قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة{؛ ]رواه أحمد[.
العنصر الرابع: حفظ الأمانات وتقديم الكفاءات :
1ـ حفظ الأمانات:
من الأمانات التي نُسأل عنها أمام الله تعالى ، الودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حينًا ثم نردها إلى ذويها حين يطلبونها، ولقد استخلف رسول الله (ﷺ) عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها، مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إلى ترك وطنه في سبيل عقيدته، لكن الشريف لا يتضع مع الصغار، وقد رد النبي (ﷺ) مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة عن ابن جريج؛ امتثالاً لقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58){ [النساء].
قال: نزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي (ﷺ) مفتاحَ الكعبة، ودخلَ به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، واعتبار الوديعة غنيمة باردة هو ضرب من السرقة الفاجرة؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "القتل في سبيل الله يُكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يُؤتي بالعبد يوم القيامة وإن قُتل في سبيل الله، فيُقال: أدِّ أمانتك! فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟ فيُقال: انطلقوا به إلى الهاوية وتُمثل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يُدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظنه أنه خارج زلَّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الأبدين، ثم قال: الصلاة أمانة والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة، وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع"، قال راوي الحديث: فأتيتُ البراء بن عازب، فقلتُ: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟ قال: كذا! قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
وقد أُلْحِق بالودائع الديون؛ لأن المدين بقرض أو سلم أو بيع لأجَلٍ؛ إما أن يكون قد أخذ أموال الناس يريد أداءها، وإما أن يكون قد أخذها يريد إتلافها، وآخذها يريد أداءها فقد أدى الأمانة، وإلا فقد خان الأمانة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ (ﷺ) قَالَ: }مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ{؛ ]البخاري، ابن ماجه، أحمد[، وقال تعالى: } فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ (283){ ]البقرة[.
وقد جاء في الحديث الصحيح نموذجًا لمن يؤدي الأمانة ويوفي ما عليه؛ روي البخاري رحمه الله تعالى بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (ﷺ) أَنَّهُ قال: (إن رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا. قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا. قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَانًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلَا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إلى بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا).
2- تقديم الكفاءات:
لم يكن عبدالله بن اريقط دليل الهجرة على دين الإسلام ، لكن الرسول العظيم (ﷺ) اختاره لأخطر عملية في تاريخ دين الله العزيز الحكيم وأكثرها سرية!
ولم يكن عامر بن فهيرة أيضا علي دين الإسلام ، لكن اختير للتعامل مع الأثر علي رمال الحجاز ما بين مكة ويثرب، وهي ثاني أخطر مهمة في أهم عملية في تاريخ الإسلام!
كلاهما على دين آخر معادٍ للدين الجديد.. لكن الاختيار وقع عليهما ربما لحكمة علينا استخلاصها اليوم!!
فكلاهما اشتهر بالصدق والأمانة لكن مع ذلك وقبله اشتهر بالكفاءة كلُّ في تخصصه! هو ما نحتاجه اليوم ونطلق عليه اختصارا الرجل المناسب في المكان المناسب!
لا مجاملات.. لا توصيات.. لا عواطف أو مشاعر خاصة أو ضعف إنساني من أي نوع!
فلو خاب الظن في جانب واحد في أي من الرجلين لفشلت أهم وأعظم مهمة في تاريخنا، هذه المهمة كانت فارقا في انتصار الإسلام وانتهاء الشرك .
الأمر نفسه كرره الرسول (ﷺ) عند اختيار قائد الجيش فلم يختر الأكثر علما بأمور الدين مثل معاذ بن جبل، ولا أكثرهم قدرة على تلاوة القرآن كعبدالله بن مسعود، ولا أكثرهم وعيا بالرسالة كلها كعلي بن أبي طالب، ولا أكثرهم قربا إليه كأبي بكر الصديق، ولا من كان إسلامه فارقا بين الحق والباطل كعمر بن الخطاب، بل اختار الأكفأ.. والأصلح. فكان خالد بن الوليد!
وأيضاً اختار النبي (ﷺ) بلال بن رباح.. حبشي الأصل للأذان علي عبد الله بن زيد صاحب الرؤيا.. قائلا: "إنه أندى منك صوتا"!
وأيضاً اختار النبي (ﷺ) معاذ رضي الله عنه إلى اليمن داعياً إلى الله تعالى، لأن له صفات تؤهله لأن يكون داعية، فلو جاء أعرابي إلى النبي (ﷺ) من أعراب بني تميم، وأسلم في ذلك اليوم، فإن النبي (ﷺ) لن يقول له: اذهب إلى اليمن وادع الناس، لأن هذا المدعو يحتاج أولاً إلى أن يتعلم ويتفقه.
وأيضاً: لم يختر النبي (ﷺ) مثلاً: خالد بن الوليد أو عمرو بن العاص، أو غيرهم من قواد الجيوش، الذين دكوا حصون الضلال والكفر والإلحاد، لإرساله للدعوة إلى الله في اليمن؛ لأن المسألة ليست مسألة جهاد أو سيف إنما هي مسألة علم وفقه بالدين ، ومعرفة الحلال والحرام، فلا شك أن يختار النبي (ﷺ) معاذاً رضي الله عنه، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً في اليمن، كما نفع به في الشام بعد عودته، وفيها توفي رضي الله عنه.
إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح النفس قد يكون الرجل رضي السيرة حسن الإيمان ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ما يجعله منتجا في وظيفة معينة .
ألا ترى إلى سيدنا يوسف الصديق إنه لم يرشح نفسه لإدارة شئون المال بنبوته وتقواه فحسب بل بحفظه وعلمه أيضا } قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ(55){ [يوسف].
ولقد أخبَرَنا القرآن أنَّ يوسف عليه السَّلام كان أمينًا على مال العزيز وعِرْضِه، واشتهر بينهم بالعلم والعفة والأمانة والخبرة فرَشَّحه الملك لِيَكون من خاصته المُقرَّبين، قال سبحانه وتعالى في ذلك:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)}[يوسف].
أي: ائْتُوني به أجعَلْه خالصًا ليِّنًا، وموضِعَ ثقتي ومشورتي، ولَمَّا كلَّمه ووقَفَ على رَجَاحة عقله وحسن تَصرُّفه، قال له: إنَّك اليوم عندنا ذو مَكَانة سامية، ومَنْزلة رفيعة، وأمانة تامَّة.
ولما سمِع يوسف عليه السَّلام هذا، رشَّح نفسَه للولاية، فقال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}[يوسف].
لا تتعجَّبْ من طلب يوسف عليه السَّلام للولاية؛ فقد قدَّم مسوِّغات الترشيح: ﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾.
أنا شديد المُحافَظة على الأموال العامَّة، فلن أُبدِّدها ولن أختَلِسَها، ولا أُعطيها لمن لا يستحِقُّها، ولن أهمل فيها، عليمٌ بشؤون هذه الأموال وبإدارتها، وعليمٌ بالسِّياسة الماليَّة والاقتصادية، وأنا واثقٌ من ذلك، وأعلم أنَّ في هذا صلاحَ الأمة، وخروجها من المِحْنة.
ولهذا اختار الله تعالي طالوت عليه السلام لتميزه بصفتي العلم والقوة ، قال تعالي {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)} [البقرة].
فبعلمه وقوته استطاع بفضل الله تعال أن يقود الأمة إلي النجاة والنصر علي الأعداء والقضاء علي المفسدين في الأرض قال تعالي {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ (251)} [البقرة].
فمن الأمانات التي يجب أن نوليها اهتماماً كبيراً وضع كل شيء في المكان الجدير به واللائق له فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها ، واسمع إلى ما قاله النبي (ﷺ) لأبي ذر رضي الله عنه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: }يا رسول الله، ألا تستعملني؟ معنى الاستعمال هنا أن يجعله عاملًا، واليًا، حاكمًا، موظفا كبيرًا، رجل مسؤولية ، قال: فضرب بيده على منكبي تحببًا، وترفقًا، وتلطفًا- ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف أي القيادة تحتاج إلى خصائص وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها{ [أخرجه مسلم في الصحيح، وأبو داود والنسائي في سننهما].
فأبو ذر لما طلب الولاية لم يره الرسول (ﷺ) جلدا لها فحذره منها والأمانة تقتضي بأن نصطفي للأعمال أحسن الناس قياما بها فإذا ملنا إلى غيره بهوي أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ):}مَنِ اسْتَعْمَلَ رَجُلا مِنْ عِصَابَةٍ وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وخانَ رَسُولَهُ وخانَ الْمُؤْمِنِينَ{ ]حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسْنَادِ[.
وعن يزيد بن أبي سفيان: قال لي أبو بكر الصديق حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك أكثر ما أخاف عليك بعد ما قال رسول الله (ﷺ) (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة، فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا حتى يدخله جهنم)؛ ]رواه مسلم[.
والأُمَة التي لا أمانة فيها هي الأُمَة التي تعبث فيها الشفاعاتُ بالمصالح المقرَّرة، وتطيش بأقدار الرجال الأكْفَاء؛ لتهملهم وتُقَدم مَنْ دونهم، وقد أرشدت السنة إلى أن هذا من مظاهر الفساد الذي يقع آخر الزمان؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل يسأل رسول الله (ﷺ): متى الساعة؟ قال رسول الله (ﷺ) له: }إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة! فقال: وكيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: (إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة{ ]رواه البخاري[.
ولقد حذرنا النبي (ﷺ) من الحرص عليها فعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه: }يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها{. [رواه البخاري]
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي (ﷺ) أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحدهما: يا رسول الله، أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال النبي (ﷺ) {إنا والله لا نولِّي هذا العمل أحداً سأله، أو أحداً حرص عليه}[متفق عليه].
فالوالي راع على الناس بمنزلة راعي الغنم، كما قال النبي (ﷺ): }كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، وهي مسؤولة عن رعيتها، والولد راع في مال أبيه، وهو مسؤول عن رعيته، والعبد راع في مال سيده، وهو مسؤول عن رعيته، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته{؛ ]أخرجاه في الصحيحين[.
وقال النبي (ﷺ): }ما من راع يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت، وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه رائحة الجنة{ ]رواه مسلم[
وفي رواية : ( فلم يحُطها بنصحه لم يجد رائحة الجنة) .
وفي رواية لمسلم:{ما من أمير يلي أمور المسلمين ، ثم لا يجهد لهم، وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة}.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله (ﷺ) يقول في بيتي هذا : {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفُق به}[رواه مسلم].
دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: السلام عليك: أيها الأمير، فقال السلام أيها الأجير، فقالوا: قل: أيها الأمير، فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا: قل: الأمير، فقال معاوية: دعوا أبا مسلم، فإنه أعلم بما يقول، فقال: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها ، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وفاك سيدها أجرك، وإن أنت لم تهنأ جرباها ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها، عاقبك سيدها.
وعلى هذا ظاهر الاعتبار، فإن الخلق عباد الله، الولاة نواب الله على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ففيهم معنى الولاية والوكالة ، ثم الولي والوكيل متى استناب في أموره رجلاً، وترك من هو أصلح للتجارة أو المقارب منه، وباع السلعة بثمن، وهو يجد من يشتريها بخير من ذلك الثمن ، فقد خان صاحبه، لا سيما إن كان بين من حاباه وبينه مودة أو قربة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، أنه قد خان وداهن قريبه أو صديقه.
فها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه عندما سمع العجوز وابنتها وهي تقول لقد كان أبو بكر يحلب لنا شاتنا وقد تولى أمر الخلافة فمن يحلب لنا من بعده؟ وكان على مقربة فسمع كلامهما فاقترب منهما وقال أنا أحلب لكما شاتكما حتى يتوفاني الله.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سمع بكاء صبية صغار لا يجدون عشاء فهرول إلى بيت المال هو وخادمه وحمل على ظهره الدقيق والسمن وقام بطبخ الطعام لهما ، وكان الخليفة عمر رضي الله عنه يخاطب الرعية ويبصرهم بحقوقهم قبل أن يطلب منهم واجباتهم .
إنه الشعور بالمسئولية ،وهو طريق النجاح والفلاح ، والارتقاء حيال أية خطوةٍ أو مهمةٍ يقوم بها الانسان في كافة مجالات الحياة .
ومن غير الشعور بالمسئولية تتعطل الأعمال ، وتفشل الخطوات ، ويتراجع العطاء والانتاج .
والمعنى أن المسئولية تنطلق في الدين الإسلامي من منطلقٍ شرعيٍ يقول فيه الحق سبحانه :{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)}[المدثر].
العنصر الخامس: أثر الأمانة على الفرد والمجتمع:
1- إن الله يحب الأمناء ويحبهم رسول الله (ﷺ)، ثم يحبهم الناس لذلك.
2- شيوع الثقة والتعاون بين أفراد المجتمع.
3- وجود الطمأنينة وراحة البال وسهولة التعامل بين الناس.
4- تورث الذكر الجميل بين الناس.
فبالأمانة يسعد المجتمع، فتعم المودة والمحبة والإيثار، ونبذ الأنانية وحب الذات، ويتنافس كل فرد في المجتمع في التفاني في إسعاد الجميع، وهذه بعض النماذج العالية التي تبيِّن أثر الأمانة على الفرد والمجتمع؛ قال (ﷺ) وهو يحكي لأصحابه رضي الله عنهم:}اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريت منك الأرض، ولم ابتع منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض- (أي: الذي باعها): إنما بعتك الأرض وما فيها، قال: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ فقال أحدهما: لي غلام، وقال الآخر: لي جارية، قال: أنكحوا الغلام بالجارية ، وأنفقوا على أنفسكما منه، وتصدَّقا{.
إن الأُمَّة لا تَحْيَا الحياة الكريمة إلاَّ بأداء الأمانة المحملة بها والمسئولية الملقاة علي عاتقها ولن تسعد إلا بتقديم الكفاءات في كل مجالات الحياة ، فعلى الأمَّة أن تتَّقي الله، وأن تقول القول السديد؛ قال سبحانه وتعالى{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا (70) يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَيۡنَ أَن يَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا (72) }[الأحزاب].
أيها المؤمنون: لن نصل إلى ما نريد حتى نضبط كل شئون حياتنا وَفق شرع الله عز وجل.
العنصر السادس: كيفية اكتساب خلق الأمانة:
1- تذكر المسؤولية والموقف أمام الله يوم القيامة، والأمانة التي تدعو إلى رعاية الحقوق وتعصم عن الدنايا لا تكون بهذه المثابة، إلا إذا استقرت في وجدان المرء ورست في أعماقه وهيمنت على الداني والقاصي من مشاعره!
وذلك معنى حديث حذيفة بن اليمان عن رسول الله(ﷺ): (إن الأمانة نزلت في جذرقُلُوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة).
والعلم بالشريعة لا يغني عن العمل بها، والأمانة ضمير حي إلى جانب الفهم الصحيح للقرآن والسنة، فإذا مات الضمير انتزعت الأمانة، فما يغني عن المرء ترديد للآيات، ولا دراسة السنن؟
وأدعياء الإسلام يزعمون للناس وقد يزعمون لأنفسهم أنهم أُمناء، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكر للحق!
ومن ثم يستطرد حذيفة في وصفه لتسرُّب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين ، فيروى عن الرسول(ﷺ): (ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال: ينامُ الرجل النومة، فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت- وهو الأثر المغاير كالنقطة على الصحيفة- ثم ينام الرجل النومة، فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل- كالثبور التي تظهر في اليد مثلاً في استخدام الأدوات الخشنة- ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يُقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، وحتى يُقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان).
والحديث يصوِّر انتزاع الأمانة من القلوب الخائنة تصويرًا محرجًا، فهي كذكريات الخير في النفوس الشريرة، تمر بها وليست منها، وقد تترك من مرها أثرًا لاذعًا، بيد أنها لا تحيي ضميرًا مات، وأصبح صاحبه يزن الناس على أساس أثرته وشهوته ، غير مكترث بكفر أو إيمان!
2- التعود والتنشئة، وتعظيم مكانتها في نفس المسلم منذ الصغر.
3- السعي لحسن الذكر في الدنيا، وعظيم الأجر في الآخرة بفضل الله، ثم بالتحلي بالأخلاق الحميدة، ومنها الأمانة.
4- تذكر عاقبة الخيانة وأنها دليل على النفاق.
5- الاستفادة من سيرة السلف الصالح وحالهم مع الأمانة.
وفي الختام:
أيها المؤمنون، إن الأمانة بهذا المعنى شاملة لكل ما استحفظ عليه العبد من حقوق؛ سواء كانت لله أو لخلقه، وخيانتها من صفات أهل الكفر والنفاق، فهيَّا معًا لنحيي خُلقًا عظيمًا من أخلاق الإسلام، ولنجاهد أنفسنا عليه؛ لننال عظيم الأجر من الله جل وعز، ونسعد في الدنيا والآخرة ،والله الموفق والمستعان.
انتهت بفضل الله وبتوفيقه
===================
رابط pdf
https://www.raed.net/file?id=897351
رابط doc
https://www.raed.net/file?id=897353
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق